
قصة: إيزابيل ألليندي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
في سن الحادية عشرة، كانت إلينا ميخياس لا تزال فتاة هزيلة ذات بشرة شاحبة كأطفال العزلة، وفم تظهر فيه فراغات لم تملأها بعد الأسنان الدائمة، وشعر بلون الفئران، وهيكل عظمي بارز يكاد يخرج من مرفقيها وركبتيها، وكأنه أكبر بكثير من بقية جسدها. لم يكن في مظهرها ما يدل على أحلامها الملتهبة، ولا ما يُنذر بالكائن الحسيّ الذي كانت ستصبحه لاحقًا. وسط أثاثٍ باهت وستائر ذابلة في منزل والدتها الذي كان يُستخدم كبيت ضيافة، كانت تمر دون أن يلاحظها أحد. بدت كطفلة حزينة تائهة تلعب بين نباتات الجيرانيوم المغبرة والسراخس الضخمة في الفناء، أو تتنقّل جيئةً وذهابًا بين الموقد وطاولات غرفة الطعام لتقديم وجبة المساء.
وعندما كان أحد النزلاء يلاحظ وجودها، نادرًا ما كان ذلك لأمر سوى أن يطلب منها رشّ مبيدٍ للصراصير، أو ملء خزان المياه في الحمّام حين تعجز المضخّة المزعجة عن رفع الماء إلى الطابق الثاني. كانت والدتها، المنهكة من الحرّ ومن أعباء إدارة بيت الضيافة، تفتقر إلى الطاقة اللازمة للعطف، أو إلى الوقت لتمنحه لابنتها، لذا لم تلاحظ حين بدأت إلينا تتحول إلى مخلوق مختلف.
لقد كانت دائمًا طفلة هادئة، خجولة، منغمسة في ألعاب غامضة، تحدث نفسها في الزوايا وتمصّ إبهامها. لم تكن تغادر المنزل إلا للذهاب إلى المدرسة أو السوق، ولم تُبدِ اهتمامًا يُذكر بالأطفال الصاخبين الذين من عمرها والذين كانوا يلعبون في الشارع.
التحوّل الذي طرأ على إلينا ميخياس تزامن مع وصول خوان خوسيه بيرنال، "العندليب"، كما كان يحب أن يُسمي نفسه، وكما أعلن ذلك الملصق الذي علّقه على جدار غرفته بصخب.
كان معظم نزلاء البيت من الطلاب أو من موظفي إحدى الدوائر الحكومية الغامضة. "ناس محترمون بحق"، كما كانت تقول أم إلينا دائمًا، فهي كانت تفخر بأنها لا تقبل في بيتها أيّ كان، بل فقط الأشخاص المحترمين، ممن لديهم مورد رزق ظاهر، ويتّسمون بحسن السلوك، ويملكون ما يكفي من المال لدفع أجرة الغرفة والطعام لشهر كامل مسبقًا، والأهم من ذلك: أن يكونوا على استعداد لاحترام أنظمة بيتها—والتي كانت أشبه بأنظمة معهد ديني أكثر منها بفندق.
" يجب أن تحافظ الأرملة على سمعتها وتحظى بالاحترام، لا أريد أن يتحوّل منزلي إلى ملاذ للمتشردين والمنحرفين"
كانت والدتها تردد ذلك دائمًا، حتى لا تنسى إلينا، ولا أحد غيرها.
وكان من بين مهام الفتاة أن تتجسس على الضيوف وتُبلغ أمها عن أي سلوك مريب. تلك المراقبة الدائمة أضفت على إلينا هالة خفيّة من الغموض، إذ كانت تتحرّك في صمت مطبق، فتختفي بين ظلال الغرف ثم تظهر فجأة كما لو عادت من بُعدٍ آخر.
كانت الأم والابنة تتقاسمان أعمال البيت الكثيرة، تغوص كل منهما في روتينها الصامت، دونما حاجة للكلام. وحقًا، كانتا نادرًا ما تتحدثان، وإن حدث، فخلال فترة القيلولة القصيرة، وكانت الأحاديث دومًا عن النزلاء. أحيانًا، كانت إلينا تحاول أن تلوّن حياة أولئك الرجال والنساء العابرين الذين لا يتركون أثرًا، فتنسج حولهم قصة حب سرية أو مأساة ما، لكنها كانت تصطدم دومًا بحدس والدتها الذي لا يخطئ في كشف الخيال.
كانت والدتها تعرف متى تخفي عنها إلينا شيئًا. كان لديها حسّ عملي لا يُقاوَم، وفهم دقيق لكل ما يدور تحت سقفها. كانت تعرف تمامًا ما يفعله كل نزيل في أي ساعة من الليل أو النهار، كم تبقّى من السكر في خزانة المؤونة، من يُتصل به حين يرن الهاتف، وأين تُركت المقصات آخر مرة.
كانت في شبابها امرأة مرحة، بل وجميلة، لكن فساتينها الرثة بالكاد كانت تحبس نفاد صبر جسدٍ لا يزال شابًا. غير أن سنوات الكفاح في سبيل لقمة العيش استنزفت روحها شيئًا فشيئًا.
لكن حين جاء خوان خوسيه بيرنال يسأل عن غرفة، تغيّر كل شيء، بالنسبة لها... وبالنسبة لإلينا أيضًا.
لقد أسرتها طريقة "العندليب" المتكلفة في الكلام، وتلك الهالة من الشهرة التي أضفاها الملصق المعلّق على غرفته، فتجاهلت قواعدها الصارمة وقبلت به نزيلاً، رغم أنه لا يشبه بأي شكل النموذج المثالي للنزيل الذي كانت تبحث عنه.
أخبرها بيرنال بأنه يغني ليلًا، لذا يحتاج إلى النوم نهارًا، وأنه بين عقود عمل ولا يستطيع دفع الأجرة مقدمًا، وأنه شديد التدقيق في طعامه ونظافته—فهو نباتي، ويحتاج إلى الاستحمام مرتين في اليوم.
كانت إلينا تراقب كل ذلك بدهشة صامتة، دون تعليق أو سؤال، وهي ترى أمها تسجل اسمه في دفتر النزلاء، ثم تصطحبه إلى غرفته، تكاد تترنح تحت ثقل حقيبته، بينما هو يحمل علبة جيتاره والأنبوب الكرتوني الذي يحوي ملصقه الثمين.
من زاويتها المموّهة على الجدار، تبعتهما إلينا على السلالم، ولاحظت النظرة الفاحصة التي ألقى بها النزيل الجديد على تنورة القطن اللاصقة بجسد والدتها المتعرق.
وحين دخلا الغرفة، ضغطت إلينا زر الكهرباء، فانطلقت شفرات المروحة السقفية تدور بصوت معدن صدئ.
كان وصول بيرنال بمثابة إعلان فوري لتغيير روتين المنزل.
أصبح هناك مزيد من العمل، لأن بيرنال كان ينام حتى يغادر بقية النزلاء إلى أعمالهم؛ وكان يحتكر الحمّام لساعات؛ ويستهلك كميات مذهلة من الخضار النيئة التي كانت تُحضَّر له خصيصًا؛ وكان يستخدم الهاتف باستمرار؛ ولم يكن يتردد في استخدام المكواة لتسوية قمصانه، دون أن يُحاسب على هذا الامتياز الغريب.
كانت إلينا تعود إلى البيت وقت القيلولة، حين تكون الشمس في أوج سطوعها والنهار خاضعًا لبريق أبيض فتاك، ومع ذلك، كان خوان خوسيه بيرنال لا يزال نائمًا.
وحسبما أمرتها والدتها، كانت إلينا تخلع حذاءها لتُحافظ على الصمت المصطنع في المنزل.
وكانت تدرك أن أمها بدأت تتغيّر يومًا بعد يوم. لقد لاحظت العلامات منذ البداية، قبل أن يبدأ النزلاء بالهمس خلف ظهر والدتها.
أولًا، كان العطر الذي بدأ يلتصق بأمها ويخلف أثرًا في الغرف التي تمر بها ، إلينا، التي تعرف كل زاوية في البيت، والتي دُرّبت طويلًا على التلصص، سرعان ما اكتشفت زجاجة العطر مخفية خلف أكياس الأرز وعلب المعلبات في خزانة الطعام.
ثم لاحظت الكحل الداكن الذي يحدد جفون أمها، واللون الأحمر على شفتيها، والملابس الداخلية الجديدة، وابتسامتها الفورية كلما نزل بيرنال في المساء، وشعره لا يزال مبتلًا من الحمام، ليأكل أطباقه الغريبة التي لا تصلح إلا ليوجي.
كانت والدتها تجلس مقابلة له، تستمع إليه وهو يروي مغامراته كفنان، ويفصّل كل حكاية بضحكة عميقة.
لأسابيع عدّة، كرهت إلينا ذلك الرجل الذي استولى على كلّ مساحة في البيت وكلّ انتباه أمّها. كانت تنفر من شعره المصفوف ببريق البريانتين، وأظافره المصقولة، وحماسه المفرط في استعمال عود الأسنان، وتفكّره المتكلّف، وافتراضه الوقح بأنّ الجميع في خدمته. تساءلت عمّا قد تراه أمّها فيه: لم يكن سوى مغامر صغير الشأن، مؤدٍّ في الحانات لا يعرفه أحد، بل ربّما كان وغدًا كاملًا، كما همست الآنسة صوفيا، إحدى أقدم النزلاء.
في مساء أحد دافئ، حين لم يكن هناك ما يُفعل وتوقّف الزمن بين جدران المنزل، ظهر خوان خوسيه بيرنال في الباحة يحمل جيتاره؛ استقرّ على مقعد تحت شجرة التين وبدأ يعزف بعض الأوتار. جذبت الأصوات جميع النزلاء، الذين راحوا يطلّون واحدًا تلو الآخر، أولًا بتردّد، غير واثقين من سبب هذا الحدث غير المألوف، ثمّ بحماسة متزايدة؛ أحضروا كراسي غرفة الطعام ورتّبوها في حلقة حول العندليب. كان صوته عاديًّا، لكنّه كان يملك أذنًا موسيقيّة جيدة ويغنّي بجاذبية معيّنة. كان يعرف جميع البوليروهات النموذجية والبلدات الريفية من التراث الشعبي، وبعض أغاني الثورة المليئة بالتجديف والكلمات البذيئة التي جعلت النساء يحمررن خجلًا.
لأوّل مرة في ذاكرتها، شعرت إلينا بجوّ من الاحتفال في البيت. وعندما حلّ الظلام، أضاءوا مصباحين يعملان بالكيروسين وعلّقوهما على الأشجار، وأحضروا البيرة وزجاجة الروم المخصّصة لعلاج الزكام. كانت إلينا ترتجف وهي تملأ الكؤوس؛ شعرت بكلمات الأغاني الموجعة وأنين الجيتار في كلّ ذرة من جسدها، كأنّها حُمّى. كانت أمّها تنقر بإصبع قدمها على الإيقاع. فجأة، نهضت، وأمسكت بيدي إلينا، وبدأتا ترقصان، تبعتهما على الفور البقيّة، بمن فيهم الآنسة صوفيا، يرفرفون ويضحكون بتوتر.
رقصت إلينا لبرهة بلا نهاية، تتحرّك على إيقاع صوت بيرنال، ملتصقة بجسد أمّها، تستنشق العطر الزهريّ الجديد، سعيدة سعادة خالصة. ثم شعرت بأمّها تدفعها بلطف بعيدًا، وتنسحب لترقص وحدها. كانت أمّها، بعينيها المغمضتين ورأسها مائلًا إلى الخلف، تتمايل كما لو كانت قطعة قماش تُجفّف في النسيم. انسحبت إلينا من ساحة الرقص، وعاد جميع الراقصين إلى مقاعدهم، تاركين صاحبة البيت وحدها في وسط الباحة، ضائعة في رقصتها.
بعد تلك الليلة، بدأت إلينا ترى بيرنال بعينين جديدتين. نسيت أنّها كانت تكره شعره اللامع، وأعواد أسنانه، وغروره، وكلّما رأته أو سمعت صوته، تذكّرت الأغاني التي غنّاها في تلك السهرة الارتجالية، وعاد الاحمرار إلى بشرتها، والارتباك إلى قلبها، حُمّى لم تكن تعرف كيف تعبّر عنها بالكلمات.
أخذت تراقبه حين لا يكون ناظرًا إليها، ولاحظت شيئًا فشيئًا تفاصيل لم تنتبه لها من قبل: كتفاه، عنقه القويّ بعضلاته، تقوّس شفتيه الثقيلتين، أسنانه المثالية، أناقة يديه الطويلتين النحيلتين. شعرت برغبة لا تُحتمل لأن تكون قريبة منه، لتدفن وجهها في صدره الأسمر، لتسمع صدى الهواء في رئتيه ونبضات قلبه، لتشمّ رائحته التي كانت تعرف، غريزيًّا، أنّها ستكون قويّة نافذة، مثل الجلد الجيّد أو التبغ.
تخيّلت نفسها تلعب بشعره، تتمعّن بعضلات ظهره وساقيه، تكتشف شكل قدمه، تتلاشى في دخان وتتسرّب إلى داخل حنجرته لتسكن جسده بالكامل. ولكن إن صادف ونظر نحوها والتقت أعينهما، كانت إلينا، مرتجفة، تهرب لتختبئ في أعمق وأكثف زاوية من الباحة.
أصبح بيرنال يسيطر على أفكارها؛ لم تعد تحتمل مرور الوقت بعيدًا عنه. في المدرسة، كانت تتحرّك كأنّها في كابوس، عمياء وصمّاء عن كلّ شيء سوى أفكارها الداخليّة، التي لم يكن فيها متّسع لأحد سواه. ماذا كان يفعل في تلك اللحظة؟ لعلّه نائم، ممدّد على بطنه في السرير، والنوافذ مغلقة، والغرفة مظلمة، والهواء الدافئ يحرّكه مروحة السقف، خطّ من العرق يسيل على ظهره، وجهه غارق في الوسادة.
عند أوّل صوت يرنّ معلنًا نهاية اليوم، كانت تركض إلى البيت، تتمنّى أن لا يكون قد استيقظ بعد، لكي تتمكّن من الاستحمام وارتداء فستان نظيف، ثم تجلس في المطبخ تنتظر، متظاهرةً بحلّ واجاباتاها المدرسيّة، حتى لا تُكلّفها أمّها بأعمال المنزل.
وحين تسمع صوته وهو يخرج من الحمام، يصفر، كانت تموت من التوتّر والخوف، واثقة من أنّها ستفنى من اللذّة إن لمسها، أو كلّمها، تموت شوقًا ليحدث ذلك، وفي الوقت نفسه مستعدّة لأن تذوب في الأثاث، لأنّه، رغم أنّها لا تستطيع العيش من دونه، لم تكن قادرة على تحمّل حضوره الملتهب.
راحت تتبعه في كلّ مكان بصمت، تخدمه من دون أن تُطلب منها الخدمة، تحاول أن تتكهّن برغباته وتلبّيها قبل أن ينطق بها، لكن دائمًا مثل شبح، لا تريد أن يلاحظ أحد وجودها.
لم تستطع إيلينا النوم ليلًا لأنه لم يكن في المنزل. كانت تنهض من أرجوحتها وتجوب الطابق الأول كالشبح، تستجمع شجاعتها أخيرًا لتتسلل على أطراف أصابعها إلى غرفة برنال. كانت تغلق الباب خلفها وتفتح المصراع قليلًا ليدخل انعكاس ضوء الشارع ليضيء الطقوس التي ابتكرتها لتستعيد بقايا روح الرجل التي تركتها في ممتلكاته. وقفت تحدق في نفسها في مرآة بيضاوية سوداء لامعة كبركة طين داكنة، لأنه نظر إلى نفسه هناك، وامتزجت بقايا صورتهما في عناق. سارت نحو المرآة، وعيناها تحدقان، ترى نفسها من خلال عينيه، تقبّل شفتيها بقبلة باردة وقوية تخيّلت أنها دافئة كشفاه برنال. شعرت بسطح المرآة على صدرها، وبعنق حلماتها الصغير يتصلب، مما ولّد ألمًا خفيفًا يتدفق إلى أسفل حتى نقطة محددة بين ساقيها. بحثت عن ذلك الألم، مرارًا وتكرارًا. أخذت قميصًا وحذاءً من مكواة ملابس برنال وارتدتهما. سارت بضع خطوات حول الغرفة، حريصة جدًا على عدم إصدار أي صوت. لا تزال في ملابسه، حفرت في سراويله، ومشطت شعرها بمشطه، وامتصت فرشاة أسنانه، ولحست كريم الحلاقة الخاص به، وداعبت ملابسه المتسخة. ثم، دون أن تعرف السبب، خلعت ثوب نومها وحذائه وقميصه، واستلقت عارية على سرير برنال، تستنشق رائحته بشراهة، وتدعو دفئه لتلف نفسها به. لمست كل شبر من جسدها، بدءًا من الشكل الغريب لجمجمتها، وغضروف أذنيها الشفاف، ومحجري عينيها، وفتحة فمها، واستمرت في جسدها، ترسم جميع العظام والطيات والزوايا والمنحنيات لكل شيء تافه من نفسها، متمنية لو كانت ضخمة وثقيلة مثل الحوت. تخيلت جسدها يمتلئ بالحلوى؛ سائل لزج كالعسل، منتفخ، يتمدد بحجم دمية ماموث، حتى يفيض السرير والغرفة، حتى يملأ انتفاخه المنزل بأكمله. منهكة، تغفو لبضع دقائق، تبكي.
ثم في صباح يوم سبت، وهي تراقب من نافذتها، رأت إيلينا برنال يمشي نحو المكان الذي كانت فيه والدتها منحنية على الحوض تغسل الملابس. وضع يده على خصرها، ولم تتحرك، كأن ثقل يده كان جزءًا من جسدها. حتى من مسافة بعيدة، كانت إيلينا ترى إيماءته التي تحمل طابع التملك، وموقف والدتها من الاستسلام، وخصوصيتهما، التي تربطهما في سر هائل. غرقت إيلينا فى العرق، لم تستطع التنفس، وكان قلبها طائرًا خائفًا في قفصها الصدري، وأطرافها تتنمل، ودمها يتدفق حتى ظنت أنه سينفجر من أصابعها. كانت تلك اللحظة التي بدأت فيها بالتجسس على والدتها.
مرة تلو الأخرى، اكتشفت الأدلة التي كانت تبحث عنها؛ في البداية كانت مجرد نظرة، أو تحية طويلة جدًا، أو ابتسامة متواطئة، أو شك في أن أقدامهما تتلامس تحت الطاولة، وأنهما كانا يختلقان أعذارًا ليكونا وحدهما. وأخيرًا، في إحدى الليالي بينما كانت عائدة من غرفة برنال بعد أن أدت طقوس حبيبها، سمعت صوتًا كهمسات مجرى مائي تحت الأرض قادمًا من غرفة والدتها، وأدركت أنه طوال ذلك الوقت، كل ليلة بينما كانت تعتقد أن برنال كان خارجًا يغني ليكسب عيشه، كان الرجل على بُعد خطوات منها، بينما هي كانت تقبّل ذاكرته في المرآة وتستنشق أثر وجوده على الأغطية، كان هو مع والدتها.
بمهارة تعلمتها على مر السنين في جعل نفسها غير مرئية، انزاحت إلى الغرفة ورأتهما مشتبكين في لذتهما. كان المصباح ذو الحواف يتوهج بضوء دافئ يكشف عن العاشقين على السرير. تحولت والدتها إلى حورية وردية مكتنزة، متلوية، تتنهد، أشبه بشقائق النعمان البحرية، كلها مجسات ومصاصات، كلها فم وأيد وأرجل وفتحات، تدور وتلتف وتلتصق بالجسد الكبير لبرنال، الذي كان بدوره يبدو متيبسًا وأخرقًا، يتحرك بشكل متشنج كقطعة خشب ألقيت في رياح عاتية لا يمكن تفسيرها. حتى تلك اللحظة، لم تكن الفتاة قد رأت رجلاً عاريًا، وقد صدمها الفرق الجوهري. بدا لها ذكورته وحشية، واستغرق الأمر وقتًا طويلاً قبل أن تتمكن من التغلب على رعبها وتجبر نفسها على النظر. لكن سرعان ما استسلمت للدهشة وراقبت باهتمام كامل لتتعلم من والدتها الصيغة التي استخدمتها لخطف برنال منها، وهي صيغة أقوى من كل حب إيلينا، وكل صلواتها، وأحلامها، ودعواتها الصامتة، وكل طقوسها السحرية التي اختلقتها لجذب برنال إليها. كانت متأكدة أن لمسات والدتها وتنهداتها كانت تحمل مفتاح السر، وإذا تمكنت من تعلمها، فإن خوان خوسيه برنال سينام معها في الأرجوحة المعلقة كل ليلة بخطافين كبيرين في غرفة الخزائن.
قضت إيلينا الأيام التالية في غيبوبة. فقدت اهتمامها بكل شيء حولها، حتى ببرنال نفسه، الذي أخفته في مكان شاغر من ذهنها، وغاصت في واقع خيالي حل تمامًا محل عالم الأحياء. استمرت في اتباع روتينها بقوة العادة، لكن قلبها لم يكن في أي شيء مما كانت تفعله. عندما لاحظت والدتها قلة شهيتها، عزت ذلك إلى بداية مرحلة البلوغ—على الرغم من أن إيلينا ما زالت تبدو صغيرة جدًا—فوجدت وقتًا للجلوس معها وحدها وشرحت لها مزحة أن تكون قد وُلدت امرأة. استمعت إيلينا في صمت مفعم بالعبوس إلى الخطبة حول اللعنات التوراتية وتدفق الطمث، مقتنعة أن شيئًا من هذا لن يحدث لها أبدًا.
في يوم الأربعاء، شعرت إيلينا بالجوع لأول مرة منذ أسبوع تقريبًا. دخلت إلى المخزن ومعها فتاحة علب وملعقة، وابتلعت محتويات ثلاث علب من البازلاء الخضراء، ثم قشّرت الشمع الأحمر عن جبن هولندي وأكلته كما لو كان تفاحة. فورًا بعد ذلك، هرعت إلى الفناء، انحنت، وتقيأت حساء أخضر مقرف على نباتات الجيرانيوم. أعادها الألم في بطنها والمذاق المر في فمها إلى الواقع. تلك الليلة، نامت هادئة، ملفوفة في أرجوحتها، تمتص إبهامها كما كانت في مهدها. في صباح يوم الخميس، استيقظت سعيدة؛ ساعدت والدتها في تحضير القهوة للنزلاء وتناولت الإفطار معها في المطبخ. ولكن، بمجرد أن وصلت إلى المدرسة، اشتكت من آلام شديدة في بطنها، وتلوّت وطلبت مرارًا الذهاب إلى الحمام، حتى أذنت لها معلمتها بالعودة إلى المنزل في منتصف الصباح.
سلكت إيلينا طريقًا طويلًا، متجنبةً الشوارع المألوفة عمدًا، واقتربت من المنزل من الجدار الخلفي المُطل على وادٍ. استطاعت تسلق الجدار والقفز إلى الفناء بسهولة أكبر مما توقعت. كانت قد حسبت أن والدتها ستكون في السوق في ذلك الوقت، ولأنه يوم السمك الطازج، سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تعود. كان المنزل خاليًا إلا من خوان خوسيه بيرنال والسيدة صوفيا، اللتين عادتا من العمل منذ أسبوع بسبب نوبة التهاب مفاصل.
أخفت إيلينا كتبها وحذاءها تحت بعض الشجيرات وتسللت إلى المنزل. صعدت الدرج، متشبسة الجدار وكاتمة أنفاسها، حتى سمعت صوت الراديو يزمجر من غرفة الآنسة صوفيا وشعرت بمزيد من الهدوء. فتحت باب غرفة برنال بدفعة صغيرة . كان الظلام يملأ الغرفة، وللحظة، بعدما جاءت للتو من ضوء النهار الساطع فى الخارج، لم تستطع أن ترى شيئًا. لكنها كانت تعرف الغرفة عن ظهر قلب؛ فقد قاست هذا الفضاء عدة مرات وكانت تعرف أين يوجد كل شيء، المكان الذي يصدر فيه الصوت عندما يضغط على الأرض، كم خطوة تفصل الباب عن السرير. مع ذلك، انتظرت حتى تأقلمت عيناها مع الظلام وتمكنت من رؤية معالم الأثاث. وبعد لحظات، استطاعت أن ترى الرجل على السرير. لم يكن نائمًا على بطنه، كما كانت تتخيل غالبًا، بل كان مستلقيًا على ظهره فوق الأغطية، مرتديًا سروالًا داخليًا فقط؛ كانت إحدى ذراعيه ممدودة والأخرى على صدره، وقد سقطت خصلة من شعره على عينيه. على الفور، اختفى كل الخوف والتوتر الذي تراكم لعدة أيام، وبدت إيلينا صافية، هادئة كمن يعرف ما يجب عليها فعله. بدا لها أنها عاشت تلك اللحظة عدة مرات؛ قالت لنفسها إنه لا يوجد ما تخافه، فهذا مجرد طقس يختلف قليلًا عن الطقوس التي مرت بها من قبل.
ببطء، خلعت زيها المدرسي حتى البنطال القطني الذي لم تجرؤ على خلعه من قبل. مشت نحو السرير. أصبحت قادرة على رؤية برنال بشكل أفضل الآن. بحذر شديد، جلست على حافة السرير بالقرب من يده، مركّزة على عدم ترك أية تجاعيد حتى على الأغطية. انحنت للأمام ببطء، حتى أصبح وجهها على بعد بضعة سنتيمترات من وجهه، فشعرت بدفء أنفاسه وعبير جسده الحلو؛ ثم، بحذر شديد، استلقت بجانبه، ممددة كل ساق بحذر شديد حتى أنه لم يتحرك. انتظرت، مستمعة إلى الصمت، حتى قررت أن تضع يدها على بطنه في لمسة شبه غير مرئية. مع تلك اللمسة، اجتاحت جسدها موجة خانقة؛ خشيت أن يكون صوت قلبها يتردد في أرجاء المنزل، وأنه سيوقظ برنال بالتأكيد. مرت عدة دقائق قبل أن تستعيد هدوءها، وعندما أدركت أنه لم يتحرك، استرخت، وتركت ذراعها تسقط بلا حركة—كان وزنها، في أي حال، خفيفًا جدًا حتى أنه لم يغير نومه. مسترجعة حركات والدتها، بينما كانت أصابعها تزحف تحت حافة سرواله الداخلي، بحثت إيلينا عن شفتي برنال وقبلته كما كانت تقبّل المرآة كثيرًا. كان برنال لا يزال نائمًا، فتأوّه؛ لفّ ذراعه حول خصر الفتاة بينما أمسكت يده الحرة بيدها لترشدها، وفتح فمه ليردّ قبلتها، وهو يهمس باسم حبيبته. سمعته إيلينا ينادي أمها، لكن بدلًا من أن تتراجع، اقتربت منه أكثر. أمسكها برنال من خصرها وجذبها فوقه، وأجلسها على جسده، وبدأ أولى حركات الحب. ثم، إذ أحسَّ بهشاشة ذلك الهيكل العظمي الشبيه بطائر على صدره، لمعت شرارة وعي عبر ضباب النوم القطني، ففتح عينيه. شعرت إيلينا بتوتر جسده، وشعرت به يقبض عليها من ضلوعها ويُلقى بها جانبًا بعنف حتى سقطت على الأرض، لكنها نهضت وركضت عائدة إلى السرير لتعانقه من جديد. صفعها بيرنال على وجهها وقفز من السرير، مرعوبًا مما لا يعلمه إلا الله من محظورات قديمة وكوابيس.صرخ:
"يا لها من فتاة شريرة!"
فُتح الباب، وكانت السيدة صوفيا واقفة عند العتبة.
***
أمضت إيلينا السنوات السبع التالية مع الراهبات، وثلاث أخريات التحقت فيهن بالجامعة في العاصمة، ثم بدأت العمل في أحد البنوك. في هذه الأثناء، تزوجت والدتها من عشيقها، واستمر الاثنان في إدارة بيت الضيافة حتى وفرا ما يكفي من المال للتقاعد في منزل صغير في الريف، حيث زرعا القرنفل والأقحوان لبيعه في المدينة. علّق العندليب الملصق الذي يعلن عن فنه في إطار ذهبي، لكنه لم يغنِ في نادٍ ليلي مرة أخرى، ولم يفتقده أحد. لم يرافق زوجته قط عندما كانت تزور ابنة زوجته، ولم يسأل عنها قط - لئلا يثير الشكوك في نفسه - لكنه كان يفكر فيها باستمرار. بقيت صورة الطفلة معه، سليمة، لم تمسسها السنين؛ لا تزال الفتاة العاطفية التي رفضها. لو عُرفت الحقيقة، فمع مرور السنين، نمت ذكرى تلك العظام الخفيفة، وتلك اليد الطفولية على بطنه، وذلك اللسان الطفولي في فمه، لتصبح هاجسًا. عندما احتضن جسد زوجته الممتلئ، كان عليه أن يركز على تلك الرؤى، مستحضرًا صورة إيلينا بدقة لإيقاظ دافع المتعة الذي يتلاشى باستمرار. الآن، في منتصف عمره، كان يذهب إلى متاجر ملابس الأطفال ويشتري سراويل داخلية قطنية ويمتع نفسه، يداعبها ويداعبها. ثم كان يخجل من هذه اللحظات الفاحشة، فيحرق السراويل الداخلية أو يدفنها في حفرة عميقة في الفناء في محاولة يائسة لإخراجها من ذهنه. بدأ يتسكع حول المدارس والحدائق حيث كان بإمكانه الوقوف على مسافة ومشاهدة الفتيات الصغيرات اللواتي حملنه للحظة وجيزة إلى هاوية ذلك الخميس الذي لا يُنسى.
كانت إيلينا في السادسة والعشرين من عمرها عندما زارت والدتها لأول مرة، ومعها حبيبها، وهو نقيب في الجيش كان يلح عليها لسنوات كي تتزوجه. وصل الشابان - هو، لا يريد أن يبدو مغرورًا، بملابس مدنية، وهي محملة بالهدايا - في إحدى أمسيات نوفمبر الباردة. انتظر بيرنال تلك الزيارة كمراهق متوتر. كان يحدق في نفسه في المرآة كلما سنحت له الفرصة، يدقق في صورته، متسائلًا عما إذا كانت إيلينا ستلاحظ أي تغيير، أو ما إذا كان العندليب قد بقي في ذهنها محصنًا من ويلات الزمن. استعد للقاء، متدربًا على كل كلمة ومتخيلًا كل إجابة ممكنة. الاحتمال الوحيد الذي لم يفكر فيه هو أنه سيجد مكان الطفلة المتأججة التي أوصلته إلى حياة من العذاب امرأة شابة تافهة وخجولة للغاية. شعر بيرنال بالخيانة.
مع حلول الظلام، بعد أن خفت نشوة الوصول وتبادل الأم والابنة آخر أخبارهما، نقلتا الكراسي إلى الفناء للاستمتاع بنسيم المساء البارد. كان الهواء مشبعًا بعطر القرنفل. اقترح بيرنال كأسًا من النبيذ، وتبعته إيلينا إلى المنزل لتحضر الأكواب. لبضع لحظات، كانا وحدهما، وجهاً لوجه في المطبخ الضيق. بيرنال، الذي انتظر طويلاً هذه الفرصة، أمسك بذراع إيلينا بينما كان يخبرها كيف كانت كل تلك الحكاية خطأً فادحًا، وكيف كان نصف نائم في ذلك الصباح ولم يكن لديه أدنى فكرة عما كان يفعله، وكيف لم يكن يقصد أن يطاح بها على الأرض أو أن يناديها بما ناداها به، وسألها أن تشفق عليه وتسامحه، لعله حينها يعود إلى رشده، لأنه لما بدا وكأنه عمره كله استهلكته رغبة لا تنضب فيها، ألهبت دمه وسممت عقله. حدقت به، صامتة، لا تدري بماذا تجيب. عن أي فتاة شريرة يتحدث؟ لقد تركت طفولتها خلفها بعيدًا، وكان ألم تلك المحبة الأولى التي رُفضت قد تم حجزه في ركن مغلق من الذاكرة. لم تكن تتذكر أي خميس معين في ماضيها.
(تمت)
***
..................
الكاتبة: إيزابيل ألليندي (Isabel Allende) كاتبة تشيلية شهيرة وُلدت في بيرو عام 1942، وتُعد من أبرز الأصوات الأدبية في أمريكا اللاتينية. اشتهرت بروايتها الأولى بيت الأرواح (La casa de los espíritus) التي مزجت فيها بين الواقعية السحرية والتاريخ السياسي والاجتماعي لبلدها. تتميز أعمالها بالسرد الغني والعاطفي، وغالبًا ما تتناول فيها قضايا المرأة، المنفى، الهوية، والحب، متأثرة بتجربتها الشخصية كلاجئة بعد انقلاب بينوشيه في تشيلي عام 1973. تُرجمت أعمالها إلى عشرات اللغات، ونالت العديد من الجوائز الأدبية العالمية.