ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: أيوبامي أديبايو

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

لم تشاهده أرملته وهو يدخل، ولكننا شاهدناه. كان بنفس الثياب التي ارتداها حينما ذهب إلى العمل قبل حوالي خمس أسابيع. بذة سوداء، قميص أبيض وربطة عنق هزيلة زرقاء. وقف بالباب لحظة، كأنه يتوقع أن تنظر إلى أعلى، وتبتسم له وتعتذر. جرت أطراف غطاء رأسها، وقلبت صفحة الجريدة التي كانت تقرأها. أغلق الباب، وذهب إلى مكان الجلوس دون أن يخلع نعليه. ربما اعتقد أنه سيدفعها للكلام معه. فقد تشاحنا عدة مرات بسبب نوع الأحذية التي يمكنه أن يسير بها فوق البساط الكريمي الذي يغطي الأرض. وضعت الجريدة في حضنها، ودعكت ذراعها بطريقتها المعتادة كلما شعرت بالبرد. حينما خلع سترته، شاهدناها: بقعة الدم الواسعة التي غطت ظهره من عظام كتفيه إلى النقطة التي اختفى بها قميصه في سرواله. كان القميص ملتصقا بظهره، ومن الواضح أنه مبتل، وكأنه بعد خمسة أسابيع، لا يزال مكان الجرح الذي قتله ينزف. طوى السترة نصفين، ووضعها على ذراع كرسي جلد أسود، كان يجلس عليه دائما بعد أية مشاحنة كبيرة. ولكنها لم تتخلى عن كرسي الحب الذي اشترياه بعد شهرين من زواجهما. وكان هو الذي يستيقظ متنهدا ويذهب إلى كرسيه الأسود. ولا نعتقد أنه أخبرها أنه هدية من لوب، صديقته الحميمة السابقة، والتي اعتقد أنه سيقترن بها. جلس في المقعد الجلدي ومد ساقيه وانتظر. ماذا ينتظر؟. الحقيقة أنه خلال عشرة شهور من الزواج، كانت هي التي تبادر بالاعتذار. وهكذا تنتهي مشاحناتهما بنفس الطريقة، تقع على ركبتيها أمامه، وتطلب المغفرة، حتى لو أنه هو المخطئ. وبعد أن تعتذر، يربت على شعرها ويقول إنه متأسف بدوره. أصابنا هذا الإيقاع المتكرر بالضجر. فالزوجان اللذان غادرا، قبل مجيئه منذ أربع سنوات مضت، كانا مسليين أكثر. في تلك الليلة، انتظرها حتى تنتهي من تقليب صفحات الجريدة ببطء، فقد كانت تقرأ كل مقالة بالطريقة التي اتبعتها كل ليلة منذ أسبوعين بعد أن رحلت أمه وأمها وبقية المعزين. نظف حنجرته بين حين وآخر، ومنحها نظرة جانبية. لا بد أنه أدرك أخيرا أنها لن تركع أمامه في تلك الليلة. ولذلك فعل شيئا لم يفعله من قبل، وبادر إلى الكلام معها قبل أن تعتذر إليه. وقال لها: "أتيت إلى البيت بالتاكسي. وكان السائق حلو المعشر. ولم يتقاض النقود مني. تخيلي هذا في لاغوس" - وتابع بصوت هامس: "ولكن ماذا عن سيارتي. ماذا حصل لسيارتي".

وحينما أغمض عينيه ودمدم بصوت خافت عن سيارته، قلبت صفحة أخرى واقتربت من منتصف الجريدة، وكانت نعوته منشورة بجوار إعلان عن زيت المحركات. وهنا فتح عينيه. وقال وهو يمد أصبعه باتجاهها: "ماريا. عليك في هذا الصباح أن تتعلمي كيف تثقين بي. نعم. كنت أدردش مع لوب ليلة أمس، ولكن لم يكن عليك التجسس على هاتفي. هذا ليس من حقك". وتراجع بظهره إلى الخلف، بعد أن قال ذلك، ورماها بنظرة نافذة.

نظرت قليلا إلى الأعلى، نحوه، وباتجاه الكرسي التي قالت لأمها إنها ستحتفظ بها، لأنها المفضلة عنده. وعندما هزت رأسها ببطء وعادت بنظرتها إلى الجريدة، تنهد وقال: " حسنا. لديك حق أيضا. ولكن. لكن. عمليا لا مكان للاستدراك. لديك كل الحق بالنظر في هاتفي. وما دمت فعلت ذلك، لا بد أنك لاحظت أنني كنت أخبر لوب كيف علينا أن نتابع حياتنا. انظري. هل استمرت المحادثة لوقت طويل؟. ربما. ولكن هذا لا يعني أنني استيقظت لأثرثر معها. أنت تعلمين أنني كنت أبحث عن أكا ACCA (رابطة المحاسبة الرسمية المسجلة - المترجم). لهذا السبب استيقظت. أما الكلام معها فقد كان مجرد شيء جانبي". فركت عينيها بقفا يدها اليمنى، ثم نظرت إليه، وشفتها السفلى بين أسنانها، والأسف في عينيها، فقال وهو يميل إلى الأمام في كرسيه: "انظري. أعلم أنك تعتقدين أنني لا زلت أكن عاطفة نحو لوب، ولكنني تزوجت منك يا ماريا. اسمعيني. بعد أن أرسلت صورة صدرها في الليلة الماضية، توقفت عن الكلام معها. أنت قرأت المحادثة. وتعلمين أنني لم أعلق بعد ذلك. وإذا كنت تتوقعين أنني محيت الأشياء التي تفوهت بها، لماذا لم أمح الصورة أيضا؟. ربما كان علي أن أخبرها، حينما أرسلت الصورة، أن ترحل، ولكن رأيت، رأيت أن الصمت أفضل".

كان يقول الحقيقة. ورأيناه يهز رأسه ويقلب هاتفه على وجهه فوق طاولة الطعام المغطاة بالزجاج، بعد أن ظهرت الصورة. ثم ذهب إلى كتبه واستمر الهاتف على ذلك الوضع حتى انتقل إلى الحمام حوالي الخامسة صباحا.

ماريا كانت ثاني شخص يلمسه. وهكذا اندلعت آخر مشادة بينهما. وحينها كان في الحمام. واستمرت حتى نهاية استحمامه واستحمامها. ارتفعت أصواتهما وهما يلبسان الثياب. كان أسرع بارتداء ملابسه، حتى أنه وضع ربطة عنقه الرفيعة الزرقاء في جيبه عوضا عن ارتدائها. تبعته إلى الباب، قبل أن تزرر قميصها المفصل، وهي تصيح بالأسئلة التي رفض الإجابة عنها. صفق الباب وهو يغادر، فاتكأت على واحد منا، وتنهدت قبل أن تخبط الأرض عائدة إلى غرفتهما للانتهاء من ارتداء الثياب من أجل العمل.

والآن زفرت وهي تقلب صفحة أخرى ولكنها لم تصل إلى منتصف الجريدة، وكان أمامها قراءة صفحتين قبل أن تصل إلى إعلان زيوت المحركات، ولكن الدموع كانت تسيل على خديها مسبقا. وقف ليجلس قربها في كرسي الحب الرمادي. وعندما جلس، لم تحرك ساكنا، ثم ارتجفت بشدة وسكنت مجددا. جففت وجهها بيديها ونظرت إلى المكان الذي جلس فيه على يمينها. لا بد أنها شعرت بوجوده. على نحو ما، شعر جسدها بما لم تراه عيناها. جلسا بتلك الطريقة لعدة لحظات، يتبادلان النظرات من وجهيهما ولكن لم يشاهد الآخر غير واحد منهما.

قال: "آسف. آسف لأنني جرحتك".

مدت ماريا يدها نحوه. وسمحت ليمناها أن تحوم بجانبه وهو على كرسي الحب، بحوالي عدة بوصات فوق ركبتيه اللتين لا يمكنها رؤيتهما. ثم سحبت يدها، ووضعتها على قلبها. لمس أطراف اللفاحة السوداء التي تغطي رأسها، وفرك النسيج بإبهامه وسبابته قائلا: "هيا. كلميني. ألم يدهشك اعتذاري منك أولا؟". وجر اللفاحة، وكشف رأسها الحليق وتابع: "ماذا يا - ماريا؟ أين ذهب شعرك؟".

لم تذرف ماريا دمعة واحدة حينما حلقت شعرها بعد اليوم الذي تأكد لها أن الجثمان الذي سحبه ضابط المرور من بين الحطام على ثالث جسر أساسي هو جثمان زوجها. جلست بظهر متصلب ووجه جامد بينما إحدى شقيقات زوجها تشذب بمقص شعهرها البني الطويل والغزير المنسدل على كتفيها. ولكن استندت أم ماريا على أحدنا، وغطت وجهها بكلتا يديها، وانخرطت بالبكاء. جلست ماريا في الكرسي التي يجلس عليها زوجها حينما يدردش مع لوب، وقلبت في كتاب مدرسي نسي وضعه جانبا أثناء خروجه المتسرع من البيت. سقط بعض شعرها على الصفحات. وسالت دموعها لاحقا، بعد بكاء الجميع - أمها، أمه، أخواتها، أخواته، والنساء اللواتي أتين لتعزيتها وللتأكد أنها تعبر عن أحزانها بطريقة صحيحة - ثم عدن إلى بيوتهن وأزواجهن.

وصلت الآن إلى صفحة النعوات في الجريدة. رفعتها كما تفعل دائما حينما تصل إلى هذه الصفحة، تحركت إلى اليسار، لتقترب من مصباح النور، وكأنه يشع ما يكفي على ما تقرأ، أو أنه سيغير شيئا، من الكلمات، أو من صورة الرجل الذي تزوجته.

عندما رفعت الجريدة، وقف ومال نحو الأمام، وأصبح ينظر مباشرة إلى وجهه. كانت الصورة ملتقطة في يوم زفافهما التقليدي. وخلاله كان مكللا بالبني والذهبي. علق حبلين من خرز المرجان حول رقبته، وكان فمه مفتوحا على سعته، وكان بمنتصف ضحكته. هز رأسه وهو يحدق بالصفحة، وبالإعداد لجنازته، وبقائمة الأصدقاء الذين وقعوا بأسمائهم في الأسفل من جهة اليمين. ثم قال: "ماريا. يا ماريا. توقفي عن هذا الهراء. أنت تسمعينني، يا ماريا، يمكنك سماعي. أنا حي يا ماريا. وأنا هنا".

غطت الوجه في الجريدة براحتيها، ونكست رأسها، وبدأت بالنحيب. صاح وهو يبتعد عنها: "هيا". وقف في وسط الغرفة، يراقب بكاءها، ويهز رأسه مرارا وتكرارا. ثم قال: "أنا حي. حي".

ثم جاء إلى واحد منا، الأقرب منه. وربما فكر أننا سنكون معيارا يعاين به حالته. وعندما لصق جسمه بذلك الجدار وأغلق عينيه بقوة، شعر كل منا أنه يحاول أن يخترقنا، وأن يمر من الطلاء والإسمنت والفولاذ نحو الجهة الأخرى. ولكنه لم يمر، وفي مكان ما من الجدار الذي شكلناه نشأ صدع. حينما فتح عينيه، نظر حوله، ووجد أنه لا يزال في غرفة المعيشة لا غرفة النوم. ابتسم، وذهب إلى ماريا وركع أمامها.

قال: "انظري. أنا هنا. وحي أرزق. عليك أن تصغي لي. توقفي عن البكاء. توقفي. رجاء".

ثم حاول أن يعانقها. ولكن اختفى ذراعاه في جسدها ولم يعانق ماريا، بل علقت يداه فيها. وعندما سحبهما إلى الخلف، شهقت وضمت كتفيها، في المنطقة التي لمستها يداه. انتقلت نظرته إلى الأمام والخلف بين يديه ودمعتها - ووجها المخطط بالدموع. وقال: "لا. هذا مستحيل".

وحاول مجددا. في هذه المرة حاول أن يعانقها من خصرها، ولكن علقت يداه في داخلها، وعندما تمكن من تحريرهما من بطنها، صاحت، وأمسكت بطنها، وانثنت على نفسها.

قال وهو يحدق بيديه: "آه يا إلهي".

انزلقت الجريدة من حضنها وهي تنثني. وتوزعت الصفحات على الأرض حول قدميها. قلب في الصفحات، واحدة واحدة، حتى وجد النعوة. حرك إبهامه فوق كل حرف من عبارة "رحل باكرا جدا" وحتى آخر كلمة من نعوات الصفحة. وبعد أن انتهى، كور يديه بشكل قبضتين وبدأ يصيح. ثم تحولت الأصوات التي صنعاها، نواحها وعواؤه، إلى موجة واحدة هزت أغطية النوافذ.

***

........................

أيوبامي أديبايو Ayobami Adebayo كاتبة نيجيرية. أصدرت كتابها الأول عام 2017 بعنوان "ابق معي". صدر لها أيضا "سحر الأشياء الصغيرة" عام 2023.

 

بقلم: جوادالوبي نيتيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

حدث ذلك قبل بضع سنوات، في تلك الفترة التي استأجرنا فيها شقتنا. لجأنا إلى وكالة عقارية أوصى بها صديقي وكانت تتقاضى عمولات معقولة جدًا. بعد زيارة عدة مبانٍ في جميع أحياء برشلونة، اخترنا اثنين: أحدهما في شارع ميستال بالقرب من ساحة إسبانيا، والآخر في شارع كارولينيس في حي جراسيا. كان شقة ميستال مكانًا مشمسًا، مع شرفة صغيرة تخيلتها ألينا فورًا كحديقة داخلية. لم تكن العمارة جميلة بشكل خاص. كانت من تلك المباني المربعة التي تفتقر إلى السحر والتي تنتشر في تلك المنطقة، ولكنها بدت لألينا واسعة. أما شقة جراسيا، فكانت تقع في الطابق الأوسط، على الرصيف الأيسر من شارع كارولينيس، قادمة من مترو فونتانا. كان المبنى قديمًا ومشغولًا بشكل جيد. كان المصعد الخشبي الذي يتناغم مع الباب المودرن والركائز والأقواس داخل الشقة يعطيه طابعًا مميزًا. باختصار، كانت شقة أنيقة جدًا، مكانًا يمكن تنظيم عشاءات ممتعة فيه، منزلًا يفخر به المرء. للأسف، في تلك الشقة كان الضوء يدخل بالكاد ومن الجهة المقابلة. كان الفناء الداخلي، الذي يطل عليه ثلاث غرف، من المفترض أن يضيء الشقق العليا لكنه لم يكن يصل إلى تلك الطابق. وكان هذا السبب الذي جعلنا لا نختارها فورًا. في أوقات فراغها، كانت ألينا تعمل كرسامة لقصص الأطفال وفضلت مكانًا مشرقًا. خلال عطلة نهاية الأسبوع، فكرت في الأمر وقررت أن أختار شقة جراسيا. ما أهمية عدم وجود الشمس إذا كنا دائمًا ما ندعو الناس في المساء؟ علاوة على ذلك، لم تكن ألينا ترسم كثيرًا حتى تكون هذه الأنشطة الثانوية سببًا مقنعًا. وعندما تقوم بذلك، يمكنها استخدام مصباح مصمم يحاكي ضوء النهار بشكل مثالي. وعدتها بأنني سأتكفل بتركيبه بنفسي.

صباح يوم الاثنين، اتصلنا بالوكالة لإبلاغهم بأننا اخترنا شقة كارولينيس، لكن الموظفة أخبرتنا بأنها لم تعد متاحة.

- لقد تم حجزها من قبل عائلة شابة لديها طفلان.

احتججت بإصرار، مضيفًا:

- لكننا أكملنا جميع مستنداتنا مسبقًا، لماذا لا تؤجرونها لنا مباشرة؟

ردت الموظفة بلهجة قاطعة:

- لا يمكننا ذلك. العائلة دفعت عربون الحجز، وهذه سياسة الوكالة التي لا يمكن تجاوزها.

ثم أضافت قبل أن تنهي المكالمة:

- إذا طرأ أي تغيير أو تأخروا في تقديم الأوراق المطلوبة، سأبلغكم على الفور.

في تلك الليلة، ذهبت ألينَا إلى الوكالة لدفع عربون حجز شقة شارع ميسترال. أما أنا، فبقيت غارقًا في خيالاتي حول الحياة في حي جراسيا: التجوال في شوارعه، السينما "فيردي"، الجلوس في المقاهي ذات التراسات، والمسرح "تياترينيو". كنت واثقًا أن القرب من المسرح سيعيدني إلى خشبة التمثيل، وبحلول العام القادم، كنت سأعمل في إحدى المسرحيات بلا شك. ومع مرور الوقت، أصبحت شقة جراسيا في مخيلتي أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه.

لكن يوم الخميس، تلقيت مكالمة من الوكالة أكدت لي أن الشقة قد أُجرت بالفعل. وهكذا، لم يكن أمامنا خيار سوى الانتقال إلى شقة ساحة إسبانيا.

في شهر يوليو، انشغلنا أنا وألينَا بتجديد شقتنا. قمنا بطلاء الجدران والسقف، وإصلاح الخزائن، وتصميم الحديقة الداخلية التي تخيلتها. وعندما انتهينا، قررنا قضاء بضعة أيام في قرية والديّ. عند عودتنا من الريف، كان رائحة الطلاء قد تلاشت تمامًا.

لكن، ومنذ الليلة الأولى، شعرت أن الشقة غير صالحة للسكن. لم تكن لدي أية أسباب منطقية لهذا الشعور، لذلك قررت عدم إخبار ألينَا. أما هي، فقد كانت غارقة في سعادتها بما حققته من تحسينات، وبالألوان التي اخترناها لغرفة المعيشة.

في الخريف، وضعتُ خطة جديدة لاستعادة مسيرتي في التمثيل. تضمنت الخطة الاقتراب من الشباب الذين ربما ما زالوا يحملون بعض الاحترام لممثلي جيلي. لذلك نظمتُ عدة عشاءات للتعرف على بعض المخرجين الجدد. كنتُ قد قضيتُ أكثر من عامين أعمل في دائرة تابعة لحكومة كاتالونيا، وثلاث سنوات دون أن أصعد على خشبة المسرح. وفقًا لما كانت تقوله ألينا، كان عليّ أن أشكر السماء على هذا العمل الممل وأترك المسرح كهواية أمارسها في أوقات الفراغ، كما كانت تفعل هي مع الرسم.

كان الضيوف في تلك العشاءات يهنئوننا على شقتنا، لكنهم لم يعرضوا عليّ أي فرصة عمل في أي مسرحية، حتى ولو كعامل مساعد في قسم الديكور. ومع اقتراب الشتاء، بقي الوضع على حاله تقريبًا. ومع مرور الوقت، بدأتُ أشعر بإحساس غامض، هادئ جدًا لا يرقى أن يُسمى قلقًا، لكنه كان مزعجًا بما يكفي ليظل حاضرًا في داخلي. كان لدي شعور قوي بأن شيئًا ما يجري بالقرب مني، شيء لا أستطيع رؤيته لكنه يخصني تمامًا.

بدأتُ المشي في فترة ما بعد الظهيرة لتخفيف توتري. بعد العمل، كنتُ أتجول في المدينة بلا هدف محدد. غالبًا ما كانت جولات المشي تلك تتحول إلى دوران حول أحد المسارح. مسرح "روميا" إذا كنتُ في حي رافال، أو مسرح "ليوري" إذا كنتُ بالقرب من المنزل. كثيرًا ما كنتُ أكتفي بالبقاء في الشوارع المحيطة دون الاقتراب حتى من أبواب المسرح لرؤية جدول العروض. كنتُ أكتفي بمراقبة خروج الجمهور الذي، بعد انتهاء العرض، يتوجه بحماس نحو الحانات والمطاعم في الحي.

كان يكفيني أن أستنشق هواء تلك الكثافة العاطفية التي تملأ قلوب الجمهور بعد عرض جيد، تلك الكثافة التي شعرتُ بها مرات كثيرة في الماضي. لقد كانت هي نفسها التي جعلتني في مراهقتي أعتقد أنني وُلدتُ لأكون ممثلًا.

كان أحد تلك التجوالات ما أعادني مجددًا إلى شارع كارولينس. منذ أن انتهينا من ترميم شقتنا في شارع ميسترال، خفتت الأفكار عن تلك الشقة الأخرى، وتحولت شقة جراسيا إلى أمنية منسية ضمن قائمة طويلة من الأشياء التي تمنيت تحقيقها ولم تحدث قط، وظننت أنني قد تجاوزتها. ولكن، حين اقتربت من محطة المترو –رغم البرد القارس الذي كان يلف اليوم-لم أستطع مقاومة الرغبة في المرور بالمبنى. في النهاية، لم يكن يبعد سوى شارعين بعد محطة فونتانا، ولن يستغرق الأمر طويلًا.

كان الشارع غارقًا في الظلام، ومن الزاوية ظهرت لي النوافذ المضيئة للطابق الأرضي المرتفع. ومع اقترابي أكثر، تسللت إلى مسامعي أصداء موسيقى خافتة. رأيت مصباحًا أرضيًا منصوبًا في المكان الذي كنت أنوي وضعه فيه لو كنت هناك، ولاحظت وجود أصص للنباتات أيضًا. توقفت لبضع دقائق، متأملا تلك الظلال التي تلوح خلف النوافذ، متخيلا أنها ظلالي وظلال عائلتي. لم تكن ظلالي وظلال ألينا، بل عائلة أخرى، زوجة وأبناء لم أعرفهم يومًا، ولكنهم ألهبوا قلبي بحنين موجع وحزن عميق، كذاك الذي يسيطر علينا حين نتذكر أحبة غابوا عن حياتنا ولم نعد نراهم.

عندما عدت إلى المنزل، أعدت ألينا العشاء وكانت تنتظرني لأقرأ في غرفة الطعام. ذهبت لأغسل يدي، وعندما نظرت في المرآة، شعرت وكأن شخصًا مختلفًا قد استولى على وجهي. لقد فكرت في البيت الآخر طوال الليل. كنت أعتقد أن هذه الشقة هي الأكثر ملاءمة لأذواقي وطريقة وجودي، تمامًا كما كانت شقة ميسترال أكثر ملاءمة لألينا. قلت لنفسي، لأعزي نفسي، إن الشقة تشبه إلى حد ما الطفل الذي تختلط فيه جينات عائلتين. في حالتنا، كان ذوق زوجتي هو الذي انتصر، ربما سيأتي دوري في المرة القادمة.

في يوم الجمعة التالي، عند خروجي من المكتب، توجهت مجددًا إلى المبنى. في تلك الأيام، كان الظلام يحل مبكرًا، لذا كانت الليلة قد خيمت عندما نزلت في محطة مترو فونتانا. لكن هذه المرة، لم يكن هناك ضوء في الشقة. كانت معظم نوافذ البناية مغلقة. "هذا أمر طبيعي"، فكرت، "في مثل هذا الوقت، لا يكون أحد في بيته." قررت الجلوس في المقهى الموجود على الرصيف المقابل. اخترت طاولة قريبة من الشارع وطلبت قهوة منزوعة الكافيين مع الحليب.

كان المكان يحمل الطابع البوهيمي والفرنسي الذي يميز أجواء مقاهي جراسيا، بأضوائه الخافتة وبعض الملصقات المعلقة على الجدران. في أحد هذه الملصقات، لاحظت برنامج عروض مسرح تياتريناو. كانت تُعرض مجددًا مسرحية أوبو ملكا، من تأليف ألفريد جاري الذتي تم نقلها إلى السياق السياسي لكاتالونيا. كانت العروض ممتدة حتى نهاية الشتاء. رغم أن الكثيرين قد تحدثوا عن المسرحية بإعجاب، فضلت عدم حضورها. كان شافي ميستري، الممثل الرئيسي، شابًا أسمرً ذا بنية عضلية، وكان زميلي في مدرسة الفنون. بعد التخرج، سافر شافي إلى إيطاليا ثم إلى الدنمارك ليتدرب مع يوجينيو باربا. وعند عودته، استقبل المسرح الكتالوني شافي كأنه مخلص، ومنحوه أدوارًا لم يحظَ بها أحد من جيلنا حتى ذلك الحين.

بينما كنت أرتشف قهوتي ببطء، كنت أتأرجح بنظري بين ملصق المسرح وباب المبنى، وهما مكانان لا أستطيع دخولهما إلا بصفتي مجرد متفرج.

كنت في هذا الوضع عندما رأيت امرأة تتوقف أمام البناية الرئيسية. بدا أنها في أوائل الثلاثينيات من عمرها. كانت نحيلة وشقراء، وشعرها مرفوع بطريقة تجمع بين الأناقة والعفوية المتقنة. كانت تدفع عربة طفل وإلى جانبها طفل صغير ينتظران حتى تفتح الباب. الوجه الذي رأيته لبضع ثوانٍ بدا لي جميلاً.

بعد دقائق قليلة، أضاءت الأنوار في الطابق الأول. ظهرت ظلال الطفل في النافذة، وفي عمق المكان، كانت المرأة تحمل الطفل بين ذراعيها. كانت الأجواء الدافئة للشقة تنساب وكأنها تصل حتى المقهى الذي كنت أجلس فيه عند الزاوية. واصلت مراقبتي لبضع دقائق، ثم دفعت ثمن قهوتي وعدت إلى منزلي. هذه المرة، كانت ألينا قد تناولت العشاء بالفعل، واستقبلتني في السرير أمام التلفاز.

في اليوم التالي، استيقظنا معًا كما هي العادة. تناولنا الإفطار بهدوء، وكما هو معتاد، خرج كل منا من المنزل في اتجاه مختلف. ولكن بدلاً من أن أأخذ المترو إلى عملي، وعندما وصلت إلى ساحة إسبانيا، صعدت إلى الخط الأخضر، الذي سرت فيه كأنني ميت حي حتى وصلت إلى فونتانا. كان عليّ أن أنتظر ساعة في المقهى قبل أن أرى المستأجرة تخرج من الشقة. من ملابس الطفل، بدا لي أنها ستأخذه إلى المدرسة. تركت بعض العملات على الطاولة وقررت متابعتها.

في ذلك الأسبوع، قمت بتقديم إجازة من المكتب بادعاء الإصابة بالإنفلونزا، وعلى مدار خمسة أيام متتالية، خصصت وقتي لملاحقة المرأة في شوارع جراسيا. كانت ثلاثة أيام كافية لمعرفة عاداتها وأوقاتها: بعد أن تترك الطفل، تعود إلى المنزل لتطعم الطفل في الأريكة حتى الساعة العاشرة. ثم تخرج بمقعد الطفل إلى ساحة فيرينا حيث تجلس لتقرأ في أحد المقاهي حتى وقت الغداء. بعد ذلك، تستلم ابنها من المدرسة وتعود إلى المنزل. كانت نادرًا ما تخرج في المساء.

بقية وقتي - أي الساعات التي لم أكن أخصصها لمهمة التجسس - كانت تبدو لي غير ذات أهمية. كانت حياتي مشابهة للإعلانات التلفزيونية التي تقاطع فيلمًا مشوقًا. لم أستطع فعل شيء حيال ذلك سوى تحمله بصبر. بدأت ألينا في إلقاء تعليقات ساخرة، كانت تقول إنني في الآونة الأخيرة كنت في مكان آخر. لكنني كنت دائمًا أتحدث إليها عن صراعاتي المهنية.

في صباح يوم الخميس، عندما غادرت المنزل لركوب المترو، كدت أتعرض للدهس بواسطة شاحنة قمامة، والسيارات لا تسير بسرعة أبدًا. قلت لنفسي أن زوجتي كانت على حق: يجب عليّ أن أتوقف عن هذه التفاهات وأركز على عملي، لكن هذا لم يقنعني تمامًا، تمامًا كما لم يكن يعجبني العيش في شارع مليء بالبيروقراطيين والمهاجرين، مغطى بفضلات الكلاب، أو وجود رسومات جدارية على جدران المترو. لم يعجبني أيضًا اللكنة البارشلونية التي كان يتحدث بها موظفو عملي، ولا طعم القهوة القوية في المقهى القريب. حيّنا لم يكن سيئًا، والمبنى لم يكن سيئًا، والشقة أيضًا لم تكن سيئة، لكن مهما نظرت حولي، لم أتمكن من إيجاد شيء كان على ما يرام. كانت الحياة تبدو لي غير عادلة في جميع جوانبها. وبصفتي ممثلًا، كان بإمكاني التظاهر بنفس الرضا الذي كان يظهره جيراني، لكنني كنت لا أزال أتساءل في أي عام أو في أي كيلومتر قد خرجت من الطريق السريع الذي كان يقودني إلى المصير الذي كنت أعتقد أنه يخصني، أو على العكس، أي زاوية كان يجب أن ألتف فيها حتى لا أخرج إلى هذا الشارع المليء بالسيارات، هذه الجادة السريعة المؤدية إلى الحدائق المحبطة في فترة الحجر الصحي.

أوحى لي حدسي أن شيئًا جيدًا ينتظرني في الشقة التي لم نستأجرها. شيء غير تقليدي ومنعش، مثل بداية جديدة بعد سنوات طويلة من التعاسة.

مع مرور الأيام، توقفت عن الرضا بدور الشاهد وبدأت السرية تصبح غير محتملة. أردت أن أتحدث مع المرأة، أن أكسب ثقتها وأجعلها تدعوني إلى منزلها. لم أعد أستطيع الانتظار، وفي صباح يوم الجمعة، قررت أن أقف في طريقها في مقهى فيريينا.

كان صباحًا مشمسًا في الشتاء، حيث لا يكون الجو باردًا جدًا، وكان من اللطيف الجلوس في التراس. خلعَت معطفها وطلبت قهوة. جلست على بعد طاولتين منها، وشعرت كيف بدأ نبض قلبي يتسارع. ومع ذلك، طرحت السؤال بشكل مباشر، وبطبيعية:

- كنتِ في مدرسة التمثيل، أليس كذلك؟

رفعت المستأجرة نظرها. حدقت عيناها الزرقاوان فيّ لبضع ثوان، ثم أجابت المرأة بلكنة أجنبية لم أتمكن من التعرف عليها:

-أنا لا.. لكن زوجي هو الذي درس في تلك المدرسة.

تحدثنا لبضع دقائق. أخبرتني أنها دانماركية وأنها درست الديكور المسرحي في كوبنهاجن حتى قررت الانتقال إلى برشلونة للزواج من رجل كان ممثلًا. قبل أن تذكر اسم زوجها، أدركت أنها تتحدث عن زوجة إكسافي.قلت بإعجاب مصطنع:

-لا تخبريني أنكِ متزوجة من إكسافي، تلميذ يوجينيو باربا.

أظهرت اهتمامًا حقيقيًا بمسيرة زميلي السابق؛ وبدأت أتذكر بصوت عالٍ ثلاث مواقف مدرسية جمعتني به، مُبالغًا في أهمية علاقتنا. بدت مسرورة واستمرت في الاستماع إليّ باهتمام بقدر ما سمحت لها مسؤولياتها الأمومية، قبل أن تسرع للذهاب إلى مدرسة ابنها. قالت وهي تنهض:

-من النادر أن نجد أشخاصًا من تلك الفترة. زملاء إكسافي لا يحضرون عروضه تقريبًا. يجب أن نلتقي في وقت لاحق

ثم تركت لي بطاقة تحتوي على اسمها، وعنوانها في شارع كارولينس، ورقم هاتفها. كانت تُدعى جوزفينّا وتستخدم لقب زوجها.

عدت إلى العمل في ذلك المساء وأدخلت البطاقة في الدرج. لم يكن لدي أدنى نية للاتصال بها أو للعودة إلى طرقها. ومع ذلك، لم تنتهِ الأمور هنا. بعد ثلاثة أسابيع، اتصلت بي أليينا لتخبرني أن إكسافي ميستري قد اتصل في ذلك المساء.

- يريدنا أن نذهب لتناول العشاء في منزله!

قالت ذلك بدهشة، وكأنني تم ترشيحي لجائزة أوسكار بدلاً من ذلك.

سألْتُها بقلق:

- وماذا قلتِ له؟

- قلت له إن يوم الجمعة سيكون مناسبًا لنا. هل تعرف في أي شارع يسكنون؟

أجبت:

-نعم، أعرف، هم من فازوا بالشقة التي كنا نريدها.

قلت ذلك لأرى إن كان بإمكاني جعل أليينا تكرههم قليلاً. كنت قد نسيت أنها كانت تفضل شقتنا دائمًا.

على الرغم من أننا لم نكن أصدقاء أبدًا، تصرف إكسافي وكأن عودتي لرؤيته كانت تسره حقًا. كان العشاء لذيذًا وكان الشقة أجمل بكثير مما كانت عليه قبل بضعة أشهر، عندما عرضتها لنا الوكالة. من جانبي، وجدته قد تغير كثيرًا، أصبح أكبر سنًا وأقل كلامًا، أقرب إلى الملك أوبو فى مرحية ألفريد جاري منه إلى الشاب الذي تعرفت عليه قبل خمسة عشر عامًا. تساءلت إن كان مريضًا أو أن مظهره كان نتيجة موسم طويل كهذا. ومع ذلك، بدلاً من أن يجعله ذلك بائسًا، كانت هذه الشيخوخة المبكرة تبرز جوهريته المتفوقة. خلال العشاء، أكد لي أن زملاءه في مدرسة المسرح لم يريدوا أن يعرفوا عنه شيئًا منذ أن عاد إلى إسبانيا. ولكن رغم الحرب الشرسة التي شنها عليه الاتحاد، لم يشكك المخرجون أبدًا في موهبته.

قلت لإرضائه:

- من الطبيعي أن هؤلاء الممثلين الصغار يكرهونك، لا بد أنهم يغارون منك...

وعلى الفور، كسبت إعجابه.

خلال العشاء، نهضت مرتين للذهاب إلى الحمام. هكذا اكتشفت الغرف الأخرى، التي كانت مدهشة مثل غرفة المعيشة. في الردهة كانت هناك صور مؤطرة لإكسافي على خشبة المسرح، وكذلك لوحة تذكارية. كانت جميع الأثاث والأشياء في ذلك المكان تبدو مألوفة لي، ولذلك شعرت بشعور بالانتماء كان من الصعب تحمله. كان ذلك المنزل تقريبًا ملكي، لكن، لسبب غير مفهوم، لم أستطع العيش هناك.

قرب نهاية الليل، سألني ميستر عن سبب تركي للتمثيل. كنت على وشك أن أخبره بما أقوله دائمًا، أي أنني أفضل أن أعيش حياة مستقرة وآمنة مع منزل جميل حيث سيعيش الأبناء الذين سأرزق بهم من ألينا، لكنني لم أجرؤ. رفعت كتفي وأجبت بأنني لم أستطع تحمل الوسط الفني، ولهذا فضلت الابتعاد. وقد تفهم ذلك تمامًا.

كانت أمسية غريبة. تحدثنا كثيرًا عن المدرسة، وعن أحلامنا السابقة، والطريق الذي اختاره كل منا. وصف لي إكسافي المسرحية وعلاقاته مع المسرح الكتالوني، التي لم تكن على النحو الذي تخيلته. فاجأني أنه انفتح عليّ بهذه الطريقة. شعرت في صوته بشيء من المرارة التي لم أتمكن حينها من فهمها.

تحدثنا وشربنا حتى الصباح. وعدنا أن نبقى على تواصل وأن ندعوهم للعشاء في المرة القادمة. لا أتذكر بالضبط كيف عدنا إلى المنزل. عندما استيقظت، كانت رأسي المؤلمة كأنها مستنقع عفن. كانت ألينا تحدق بي. بعد ساعات قليلة، اعترضت على اهتمامي بزوجة ميستر. طلبت مني ألا أراها مرة أخرى. مع ذلك، اتصلت في نفس اليوم لأشكرهم على العشاء. شرحت لي جوزيفينا، التي أجابت على الهاتف، أن إكسافي كان مريضًا ورفضت أن تتيح لي التواصل معه. زادت شكوكي بشأن صحته.

قالت:

-بشكل عام هو يتحمل ذلك جيدًا،لكن اليوم لم يستطع حتى النهوض من السرير.

أقلقني صوتها. طوال تلك الأيام، لم أستطع إخراج جوزيفينا من رأسي. لم أتمكن من تحديد ما إذا كان ما جذبني إليها، شخصيتها وفمها، أم أن إعجابي كان بسبب كونها زوجة إكسافي ميستر. رجل كنت أحسده على كل شيء، بما في ذلك علاقته المضطربة مع المسرح الكتالوني.

كان هذا أبرد شهر ديسمبر على ما أتذكره. تغلغلت الرطوبة في عظامنا وكانت ألينا لا تزال غاضبة. عدت إلى شقة كارولين عدة مرات، ولكن بدونها. أتذكر أن تلك الزيارات إلى تشافي ميستري كانت الشيء الوحيد المثير للاهتمام الذي قمت به في ذلك الشتاء. شربنا البراندي ولعبنا الشطرنج في الاستوديو الخاص به، حيث لم تدخل أشعة الشمس تقريبًا أبدًا. وبينما كنا نلعب، كان يشتت انتباهه بالحديث عن ماضينا المشترك في مدرسة المسرح. لم أتمكن من تصديق أنه، بعد هذا النجاح الكبير، كان يشعر بالحنين لتلك الفترة البائسة.

في إحدى الأمسيات، وبين كأس وآخر، أخبرني أنه لن يكمل موسم "أوبو". عندما سألته عن السبب، أراني بعض الأوراق التي تحمل شعار عيادة CIMA.

- يقول الطبيب أنه سيكون من الأفضل إيقاف الموسم، لكن بدلاً من ذلك طلب ريجولا من شخص أحمق أن يحل محلي. هل يمكنك أن تصدق ذلك؟

بدأ الطفل يصرخ في الغرفة المجاورة. عندما سألته عما ينوي فعله حيال ذلك، أجاب:

- سأفكر في شيء ما. ومهما كان رأي الآخرين، أنا مستمر في عملي.

نزلت الدرج متفاجئًا من جوابه. على الرغم من مرضه، كان الرجل مليئًا بالثقة بالنفس. عندما غادرت المبنى التقيت بجوزيفينا. لقد كانت تنتظرني في نفس المقهى الذي كنت أتجسس فيه على شقتها عدة مرات. كانت عيناها متورمتين.

جلست معها على طاولة في الخلف. كانت تتحدث بصوت منخفض، وكأنها تخشى أن يسمع الزبائن الآخرون ما ستقوله. شرحت لي مدى خطورة آخر النتائج. وفقًا لها، كان مرض شافي نتيجة لعدة سنوات من العمل المستمر دون راحة، لكنه كان أحمق بالإضافة إلى كونه أنانيًا. كما عبرت عن مرارتها تجاه المدير الذي طرده إلى الشارع مثل الكلب. حاولت تهدئتها:

- إن الطلب من ريجولا تعليق الموسم لأن شافي مريض بمثابة انتحار وسيضر بالممثلين الآخرين أيضًا.

أمسكت بيدها. ولكن لا كلماتي ولا إيماءاتي الداعمة كانت قادرة على جعلها تشعر بالهدوء.

منذ تلك اللحظة، زدت من معدل زياراتي. كنت أذهب ثلاث أو أربع مرات خلال الأسبوع، باستثناء يومي السبت والأحد. لم أكن حتى أتعب نفسي بالمرور عبر المنزل. بعد الخروج من العمل، كنت أركب الحافلة في شارع مايور دي جراسيا وأتوقف قبل بضعة شوارع لأذهب إلى السوبر ماركت. إذا كان هناك شيء يمكنني قوله لصالح نفسي هو أنني كنت دائمًا أصل ومعي شيء للأكل. كل مساء، كنت أعرض وضع الطاولة، أو تغيير حفاضات الطفل أو اللعب مع الطفل الآخر. لم أجد صعوبة في التعود على المنزل، لأنه كما قلت سابقًا، كان دائمًا يبدو لي مألوفًا. عند الدخول، كنت أضع معطفي على المشجب وأترك حقيبتي في الردهة، ثم أذهب مباشرة إلى المطبخ لأضع الأشياء التي اشتريتها. تدريجيًا، بدأت أتحول إلى عضو آخر في الأسرة. كنت أعرف تمامًا مكان كل طبق في المطبخ، كنت أعرف كيف أضع الطاولة وحتى أغير الفراش إذا لزم الأمر. في الحمام، حيث كنت أحب الجلوس لفترات طويلة، كنت دائمًا أجد مجلتَي المفضلتين.

كما كان قد أعلن، استمر شافي في العمل. بمجرد أن ترك العمل الفني، بدأ في كتابة رواية. وفقًا لجوزيفينا، كان يصحح مخطوطًا قد احتفظ به لأكثر من عشر سنوات، وهو محاكاة ساخرة للبيئة الفنية الإسبانية، وبشكل خاص تلك الموجودة في كاتالونيا. كان مشاهدته أثناء العمل محطمة للكرامة. أنا متأكد من أن انضباطه وتركيزه كانا يجعلان أي شخص يشعر بالسوء، وليس مجرد طفيلي مثلي. عند موعد العشاء، كانت جوزيفينا تطرق باب الاستوديو عدة مرات لتعرف إذا كان يريد الانضمام إلينا أو إذا كان يفضل أن نأخذ له العشاء إلى مكتبه. عندما كان يوافق على تناول الطعام معنا، كان دائمًا هو من يضع جوًا من البهجة على الطاولة. كان يختار أسطوانة موسيقية، ويشعل شمعة. كان الأطفال قد ناموا في تلك الساعات، وكنا نجلس وحدنا لنستمتع بحساء دافئ. على عكس ما كنت عليه، كان هو يأكل أقل فأقل. في بعض الأحيان، كان متعبًا جدًا لدرجة أنه كان يجد صعوبة في حمل أدوات الطعام. ومع ذلك، تمكن من إنهاء الرواية.

بعد وقت قصير، دخل شافي إلى مستشفى سان باو. كانت جوزيفينا ترافقه معظم الوقت، وبالطبع، تضاعفت المهام المنزلية. حاولت مساعدتها بكل ما أستطيع، كنت أتلقى المكالمات الهاتفية وأستغل الفرصة لحذف الرسائل التهديدية من جهاز الرد الآلي التي كانت تتركها ألينَا، والتي كانت قد بدأت منذ ذلك الحين في سبّي. لكن لم يكن لدي وقت لهجمات الغيرة تلك، كان عليّ أن أعتني بالطفلين، وأعد لهما العشاء، وأضعهما في السرير ليناما. هكذا بدأت أمضي الليالي هناك. أولًا على الأريكة، ثم مع الطفلين اللذين كانا دائمًا يشعران بالخوف، وعندما كانت جوزيفينا تبقى في المستشفى، كنت أيضًا أنام في سريرهما.

توفي شافي قبل أن ينتهي الشتاء. قمنا بتوديعه في بيدرالبيس. كانت جنازة حزينة، مع عدد أكبر من الصحفيين مقارنة بالأصدقاء. كنت هناك طوال الصباح. لم تظهر زوجتي، وفضلت ألا أضغط عليها لكي تأتي. في الظهيرة، التقيت بجوزيفينا في مقهى الجنازة. جلسنا في إحدى الطاولات. كان الجو هناك مريحًا. كان البرد أقل، والبخار على النوافذ حال دون رؤية القبور في الحديقة. أتذكر أنها كانت ترتدي شالًا رماديًا من الكشمير. عندما بحثت عن يدها، أدركت أنني لم أعد أرغب فيها. أنا متأكد من أن الأمر لم يكن يتعلق بألمها أو الظروف الدرامية. سألتها عن الطفلين، وأخبرتني أن شقيقتها أخذتهما إلى الدنمارك في نفس الصباح. شكرتني على كوني قريبًا منها في الأيام الأخيرة:

- لقد أظهرت لشافي أن ليس جميع الممثلين حقيرين كما كان يعتقد.

اكتفيت بالابتسام بتواضع. عندما ودعنا بعضنا، أخبرتني جوزيفينا بأنها تفكر في العودة إلى كوبنهاجن وسألتني إذا كنت مهتمًا باستئجار شقتها مجددًا. طلبت منها أن تعطيني بضعة أيام للتفكير.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: جوادالوبي نيتيل /Guadalupe Nettel: كاتبة مكسيكية/ ولدت جوادالوبي نيتل في مدينة مكسيكو عام 1973، وقضت جزءًا من طفولتها في جنوب فرنسا. درست اللغة والأدب الإسباني في جامعة أوتونوما في مكسيكو، ثم نالت درجة الدكتوراه في علوم اللغة من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.كتبت نيتل العديد من القصص القصيرة والروايات والدراسات، وقد تُرجمت أعمالها إلى ثماني عشرة لغة. حصلت على عدة جوائز دولية، منها جائزة جيلبرتو أوين للرواية، وجائزة أنتوان آرتو، وجائزة آنا سيجرز.

أصدرت أربع مجموعات قصصية هي: ألعاب الخيال (1993)، الأيام الأحفورية (2003)، بتلات وقصص مزعجة أخرى (2008)، وزواج الأسماك الحمراء (2013)، التي فازت بجائزة رواية قصيرة ريبيرا ديل دويرو. والضائعون عام 2023. وفي مجال الرواية، نشرت الضيف عام 2006، التي كانت مرشحة لجائزة هيرالد، ثم نشرت الجسد الذي وُلِدتُ فيه عام 2011، وفي 2014 نشرت بعد الشتاء التي فازت في النهاية بجائزة هيرالد للرواية. كما كتبت مقالات مثل لفهم خوليو كورتاثار (2008) وأوكتافيو بايث، الكلمات في حرية (2014)وتشارك نيتيل بانتظام في العديد من المجلات الأدبية في إسبانيا وفرنسا وكندا وأمريكا اللاتينية.

https://letraslibres.com/revista-espana/la-vida-en-otro-lugar

بقلم: لندا باستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

لماذا قصائدك معتمة جدا؟

أ ليس القمر معتما ايضا،

في اغلب الأوقات؟

و أ لا تبدو الصفحة البيضاء

ناقصة

من دون البقع المعتمة

لحروف الأبجدية؟

حين استدعى الرب الضوء

لم يطرد الظلام.

بدلا من ذلك اخترع

الأبنوس والغربان،

وذلك الخال الصغير

على وجنتك اليسرى.

أو هل قصدت ان تسأل:

"لماذا انت حزينة غالبا؟"

اسأل القمر.

اسأل ما قد شهد.

***

....................

لندا باستن (1932 – 2023) شاعرة أميركية من مواليد نيويورك. شغلت منصب شاعرة ولاية ميريلاند للسنوات 1991-1995. نشرت 15 مجموعة شعرية ومجموعة أغاني راب ومقالات وحازت على العديد من الجوائز. من بين عناوين مجموعاتها: (دائرة تامة للشمس) 1971؛ (في الطريق الى حديقة الحيوان: قصائد) 1975؛ (مراحل الحزن الخمس) 1978؛ (بانتظار حياتي) 1981؛ (أبطال متنكرون) 1991؛ (ملكة بلد مطير 2006 )؛ و(الضوء المسافر) 2011, وآخرها بعنوان (تقريبا مرثية) 2022 .

بقلم: نيوين دوش تونغ

ترجمة صالح الرزوق

***

كان لدى الطابعة ثلاث آلات للطباعة. لا بد أن التي أمامها مباشرة مطلية بطبقة لها لون القشدة الطرية والتي تحولت حاليا إلى لون زيتي، الاثنتان اللتان على يسارها ويمينها، بلون أخضر بارد، لا تزالان جديدتين. طاولتها تقابل الجدار، ونافذة من جهة اليمين تفتح على ممشى إسمنتي بجوار مرفأ العبارات. كنت أقف تحت المظلة في الخارج، بعيدا عن المطر، ونظراتي نحو الداخل. كنت أرى نصف وجهها، منقطا بنمش وردي، وهي تميل قليلا إلى الأمام وأصابعها ترقص على الحروف المعدنية كالمطر. أما مكان عملها فقد كان ملحقا بمتجر "باي لوريل هيربال"، وهي مساحة تكفي لإيواء طاولة فقط، مع كرسي، وخزانة معدنية محشوة بالأضابير. اعتدت أن أحدق بشغف بورق الكربون الأسود، والذي يبدو أنه يفوح بعبير السوس، والقرفة، والعنب المجفف القادم من طاولة المتجر.

الطابعة في حوالي الأربعين، ونحيفة، وشعرها ملفوف بشكل كعكة ومثبت بإبرة قنفذ عنبرية اللون، وتتكلم بلهجة سكان هانوي. ووجهها لطيف ولكنه عملي. وترتدي "أو داي" إما بلون زهر الربيع الأخضر أو الخوخ الناضج، وأصابعها محرومة من الخواتم، وطويلة، وناعمة، والعروق الزرق على ظهر يديها مثل خيوط من الزبرجد. ما أن اعتادت لوجودي أمام نافذتها، حتى دعتني وطلبت مني أن أساعدها ببعض الواجبات البسيطة، وبعد ذلك قدمت لي أوراق كربون قديمة على سبيل الأجر لقاء عملي - وهي أوراق مستعملة ومتهالكة وأصبحت فضية اللون، ومع ذلك احتفظت بها. كنت أستعمل ورق الكربون لطباعة صور جميلة أنقلها من بعض الكتب، وهو ما أثار إعجاب زملائي في المدرسة غاية الإعجاب.

حينها كانت الآلات الطابعة نادرة في حياتنا، وبما أن أي شيء رسمي يتطلب التنسيق والطباعة، كان الطلب على خدمات الطابعة شديدا -  وربما لهذا السبب احتاجت لثلاث آلات، إحداها لعقود الزواج، والثانية لاستمارات الباحثين عن عمل، والثالثة "لتصريح شهادات الولادة". ومع أنها مجرد طابعة، كان عملها يتطلب سرعة بديهة ومهارة فائقة. وغالبا ما تصحح أخطاء إملائية ونحوية يرتكبها العميل، وترشده لكل شيء من شؤون العمل وحتى الحب وخطط الزواج. وكان يأتيها أشخاص بدون عروض بخط اليد، فيملون عليها طلباتهم، وهي تكتب ما يريدون في استمارات صممتها بنفسها. وفي إحدى المرات وقف وراءها شخص مصاب بالربو، صوته متأثر بسنوات من تدخين السجائر، وقرأ عليها طلباته: استرحام لإعادة النظر بالتجنيد الإجباري بسبب ظروف عائلية.. اسم ابني.. مولود في.. مكان الولادة.. مكان الإقامة...  وأقدم هنا الاسترحام طالبا من الحكومة إعادة النظر بالقرعة المفروضة على ابني، لأنه ابني الوحيد، ولا يوجد غيره للاعتناء بشؤون العائلة، وأمه ليست بحالة جيدة، وابنتي لا يعتمد عليها. التفتت الطابعة. وقالت: لماذا تقول لا يعتمد على ابنتك؟. ابتسم الرجل وقال: حسنا. يمكنك تدبر عبارة بديلة بهذا الخصوص.

وكان لديها عدة أكوام من الصحف والمجلات القديمة لزبائنها كي يتصفحونها في حجرة الانتظار. كنت أجلس في كرسي صغير خلف الباب، وأقلب في المجلات الحكومية مثل "الحرية"، بصورها الملونة الجميلة، "عطر الوطن" التي تنشر القصص القصيرة من جنوب البلاد لكتاب منهم بنه نيوين لوش أو صون نام، وبعض الصحف الخاصة مثل "الاستقلال"، "السلام"، و"تسونامي"، وطيلة الوقت أستمع لحوار، مرتفع أو هامس، بين الطابعة وزبائنها. وأحيانا تنهض لتشعل موقد الكيروسين في زاوية الغرفة البعيدة، من أجل إعداد الشاي- تظهر شعلة زرقاء مرتجفة، ويغلي الماء، ثم تسكبه في إبريق من السيراميك مليء بأعواد شاي "كوان تين"، بعد ذلك تصب سائلا أخضر في كوب رقيق، وأحيانا تقدمه لي، وهي تتحرك بخطوات مضيئة بين أكوام من الأضابير.

وكان مكتبها، الكائن في شارع مغمور في طريق يقود إلى النهر، مزدحما بالأشياء، وبلا لافتة كأنه ملحق فقط بمتجر الأعشاب. ومع أنها لا تهتم بالإعلان عن نفسها، يجد الجميع طريقهم دائما إلى هناك. وأمام مكتبها البسيط تقف شجرة توت أبيض عجوز، بثمار توت حمر وأوراق خضر لطيفة - ولكن الشجرة اليوم ميتة. في تلك الأيام، خلال الخماسين أو المواسم الجافة، وحينما تتأخر العبارة ساعات لتعبر بي النهر إلى البيت، أتوقف في مكتبها. كانت تعمل صامتة، ولكن أحيانا تلتفت لتنظر نحوي بعينيها الدافئتين والباسمتين. وبين حين وآخر يظهر جنتلمان أكبر منها، له شعر مدهون بالزيوت، وجلد أشهب، وخدود بارزة العظام، وقميص منشى أبيض، ومظلة سوداء مبلولة بالمطر أو لماعة، ويتكلم معها من خارج النافذة. كان يدفع نقدا لقاء أعمال ورقية، وأحيانا يتبادل معها عدة كلمات قبل أن يتابع. وفي تلك الأوقات تقف وراء طاولتها وترد على تحياته وهي تستند على النافذة بذراعيها المعقودين أمام صدرها. وبعد رحيل ضيفها، بقيافته الذكورية، تميل برأسها، وتغلق عينيها، وتبتسم ابتسامة غامضة، وتواصل عملها.

وتستمر الحياة هكذا، من عام دراسي إلى آخر، كما لو أن كل شيء يجري بهدوء، وكأن الزمن لا يتوقف ولا شيء يتغير. رغم الثورة والحرب ثم كل هذا الموت والاحتضار الذي أعقبه - في تلك الأوقات لم نكن نفهز ولا نتوقع هذه الأمور. 

أحيانا أتخيل الطابعة مثل مي، بطلة "الاعتدال الربيعي"، وهي رواية قوية للكاتب كاي هونغ نشرت في فترة الاستعمار الفرنسي. توجب على مي، وهي امرأة متعلمة من عائلة فقيرة مات والدها في شبابه، أن تعمل لتعيل أخاها الأصغر الذي يدرس في ليسيه محمية بوميلو في هانوي. وكانت نقية وجميلة وذات مبادئ، ووقعت بحب لوش، الرجل الشاب الذي ينتمي لعائلة غنية، ولكن تآكل حبهما بسبب الحواجز الطبقية والاقتصادية. أحيانا أتخيل نفسي بمكان هوي، الأخ الأصغر لمي، الذي يحب أخته ولكنه يشعر بالضعف أمام قوة القدر. وكنت أجلس معظم الوقت، بترقب، لأشاهد كيف تصعد مفاتيح الطابعة وتهبط كأنها رقاقات تفرقع تحت أصابع الطابعة الرشيقة.

بدلت الحرب الاتجاه بلا إنذار. في يومين وليلتين انسحبت كتائب المشاة المتمركزة في قاعدتي إي تو ودونغ ها التابعة لمنطقة كوانغ تري، وعبرت النهر بكثير من الفوضى، وخلفت وراءها دبابات وعتادا - وسيكرر المشهد نفسه بالضبط بعد ثلاث سنوات في أجزاء أخرى من البلاد. هرب المدنيون والموظفون الخائفون، ولكن منعهم من متابعة طريقهم قصف مكثف على الطريق السريع. وتخلخلت صفوفهم نحو الأمام والخلف مثل النمل على صفيحة حارة وذلك تحت شمس نيسان. كان الهواء راكدا وحارا، والتهبت الأشجار المزهرة حديثا بألسنة النار، وذابت، لكنها لم تمت، وجفت جذوعها الجديدة غير أنها لم تسقط. في آخر يوم قبل أن أغادر بلدتي، تجولت في الطريق الفارغ. كان السطح الإسفلتي يذوب تحت سماء شاسعة. وتمدد الضوء المزعج على الأرض، ولم يكن يشبه لا ضوء الحرب ولا السلم. وتخلل الأفق لون أزرق رمادي بليد، كما لو أنه يسبق الخسوف. مشيت على طول الحدود الفاصلة بين العتمة والنور، ولكن حتى هذه الحدود كانت تتحرك بسرعة شديدة. لم أتمكن من اللحاق وتعثرت في خنادق وجثث توزعت على طول الطريق السريع 1، قرب تقاطع  لونغ ها Long Hưng.

عدت مشيا إلى مركز البلدة، ووصلت إلى أمكنتي المحببة، مررت بمكان بعد الآخر. مدرسة ثانة تام، مدرسة نيوين هوا، مكتبة لونغ يان، ومكتبة فو لونغ، ومكتبة تاو دا. ودعت مرابع طفولتي لآخر مرة. وتخيلت أنني الوحيد الذي يودع مرفأ عبارات سوق المنطقة، بدرجاته الكثيرة المغطاة بحراشف السمك الأبيض التي تفوح منها رائحة السمك، ومعبد تن ها بأجراسه الصامتة تحت مظلة من الأشجار الصينية،  ومتجر الأقمشة المكدس بالحرير وكانت أمي تزوره تكرارا، والبائعة المبتسمة التي تغطي فمها بيد واحدة، ومطعم والدي المفضل الذي يقدم دم البط، ومتجر النودل المفضل عند أختي، وصالة البليارد التي يحبها أصدقائي، حيث أقف لوقت طويل، وأنا أراقب الكرات الحمر والزرق وهي تتدحرج بحنان في زاوية من طاولة اللعب. حملتها وأصغيت لصوتها حينما تركتها من يدي.

في شمس نهايات ما بعد الظهر، تلمع المدينة وتذوب كأنها قصة خرافية. تسكعت أمام بيت زميل دراسة قديم وأمامه شجرة لوكوما وسريعا ما ستكون بيضاء يتخللها أزهار الربيع.  وكانت البوابة الزرقاء مغلقة الآن وسيغطيها شبكة العنكبوت عاجلا. تعانقت حمامتان بيضاوان على شرفة من القرميد قرب بركة صنعها المطر تطفو عليها ورقة لوتس نصف ممزقة.

ذهبت إلى مكتب الطابعة ولاحظت أن الباب لا يزال مغلقا، والقفل بمكانه، ولكن النافذة مفتوحة. تلفت حولي بعض الوقت، ودخلت من النافذة، وأشعلت الضوء - لا توجد كهرباء، ربما غادرت الطابعة مع عشرات ألوف النازحين بسبب الحرب، ومثلهم، توقعت أنها ستعود خلال أيام، حينما تتحسن الحال. ومن أوراق الكربون المبعثرة على الأرض، ميزت الرائحة الصينية العشبية: اللوز المر، والخوخ السكري، والقرفة. وكانت الطابعات الثلاثة موجودة وسليمة على طاولة الطابعة. اقتربت من الطابعة الوسطى ذات اللون الكريمي - وعليها رخصة زواج، مطبوعة، وكانت تبدو مرتبة ورسمية. وعلى يسارها الآلة الطابعة الزبرجدية، وفيها ورقة أخرى، نصف جاهزة. نظرت إلى أول عدة سطور:

تبرؤ من رابطة عائلية

أثارت هذه الكلمات الغريبة فضولي. سحبت الورقة وقرأت:

نحن - و - ابننا، - المولود في -، هو طالب في الصف التاسع في -. تقدمنا بهذه الوثيقة العامة، لتنشر في الصحف، ولنعلن أنه، من هذا اليوم فصاعدا، لن نعترف بعد الآن - أن ابننا - من العائلة. السبب: - أنه غير مطيع وغير مهذب، ويهمل واجباته، وقد غادر بيته ليتبع أوبرا كيم شونغ المتنقلة ويرافقها.

مع التقدير محررة في  -

وقفت لفترة طويلة في الغرفة المعتمة، والشمس تغرق ببطء تحت غابة قيقب "نه بايو" على الطرف الآخر من النهر،  ملونة السماء بلون الرمان. على السقف الأحمر القرميدي أطلق عصفور صيحة مكبوتة يمكن سماعها، وتبعها أصوات رقيقة ناجمة عن سقوط الأغصان، وكان احتمال كسر عش طائر مدعاة للتشاؤم، وزاد من ركود الهواء الخانق للبلدة المهجورة. فكرت بالرجل الشاب المجهول وغير المعروف، وربما حتى هذه اللحظة لم يعلم بالخبر الصادم ولا ببراءة والديه منه -   والدان أحباه ولكن بطريقة قاسية. إلى أين ذهب والداه؟. إلى محطة قطار لانغ كو أو مرفأ دا نانغ؟. أم هل فقدا حياتيهما أثناء الإجلاء؟. وفكرت بجماعة الأوبرا الجنوبية التي أتت إلى هذه البلدة الحدودية لتقدم عروضها في العام الجديد، حينما كان السلام سائدا. ربما في الفرقة مغنية جميلة ذات صوت منوم، غادرت في اليوم التالي دون أن تعلم أنها استولت على قلب طالب صف تاسع، ولكنه كان يفضل الموسيقا الشعبية والأوبرا الكلاسيكية على حياة الطلبة.  ثم تعلم العزف بأدوات النفخ وقرر الهرب من بلدته ليتبع طريقها حتى سايغون. وربما سيبلغ في أحد الأيام الشهرة وهو في العاصمة، ثم يعود منتصرا إلى بلدته ومعه محبوه وجماعته. أو أنه قد يمضي بطريق خاطئ، ولا يحظى حبه للفن غير الرفض، أو لا يقدره أحد، وينتهي به الحال إلى الفشل والتشرد والجوع، وذات يوم، سيقف في الطريق، وينظر لشمس الغروب ويحن لبلدته.  ولكن بلدته تحولت إلى أنقاض - مثل صخور محطمة وذهب فاسد، كما ورد في المثل، ولم يتبق مكان يمكن أن يقول عنه إنه وطنه.

وربما بعد عشر أو عشرين سنة، سيمنح الوالدان وابنهما المفقود فرصة للصلح في بلد أجنبي. كيف؟. لا أعلم. ولكن لا بد من طريقة. لأن الآباء والأبناء، والأخوة والأخوات، الذين مروا بخلافات في الحياة أو اختلاف في وجهات النظر، لم يمكنهم أن يعيشوا متباعدين إلى الأبد.  

هل سيبحث الوالدان، في ذلك الوقت من المستقبل البعيد، عن الطابعة التي كتبت له براءته العائلية؟ وهل سيطلب منها أن تعيد له تلك الورقة التي اصفرت الآن بسبب الوقت، ويحرقها ببطء حتى تصبح رمادا بينما صوت طباعتها يدفعه للتفكير بنور الربيع في الظلام؟.

كالنائم طويت الوثيقة، وضعتها في جيب سروالي، وزررته. قفزت من النافذة، ثم أغلقتها ورائي، وانصرفت.

***

........................

* الترجمة من الفيتنامية: Thuy Dinh

* نيوين دوش تونغ  Nguyễn Đức Tùng شاعر وناقد ومترجم كندي / فيتنامي. يعيش في فانكوفر (كولومبيا البريطانية).

مجموعة شعراء

ترجمة: سوران محمد

***

(مشكلة في القلب)

مايكل جينينغز

انتبه! هذا القلب القديم الذي أيقظته

بعد أن نام طويلاً

لە أوتار صدئة تكاد تنكسر

يُطلب منه الآن أن يعزف أغنية أخرى.

*

صُممت تلك الحيوية الربيعية لاحتواء اضطراب الدم الجارف.

إنه الخريف الآن، ونحن نتسلل إلى سبات الشتاء القارس

ولا يصلح للحب الرومانسي.

***

(انتهى الشتاء)

ويندي ويستلي

يُشير لي هذا الفصل

بأنفاسه المظلمة الكئيبة

أو بفجره المتأخر وغروبه المبكر،

أن هذا الموت مُحاطٌ بالحياة

كغطاءٍ من الحزن.

هناك القليل من النور والكثير من البرد

وأنا أفكر في موتي.

*

تتسلل أمي بهدوء

تُذكرني بأن الحياة قصيرة

والكوارث تزحف دائمًا من الخلف

لتُصيب غيرالمحفوظ وساذج لا يعلم

لكن هناك همسات أخرى،

من قبور من يرقدون بسلام،

عن نجاةٍ مجيدةٍ وحياةٍ عاشوها بفرحٍ وألوان.

ألاحظ السماء مُرقّطةٌ ببريقٍ مُشرق.

وقد انتهى الشتاء.

***

(طيور الكروان)

كيث كادي

لا توجد طيور الكروان إلا عند الغسق؛

فقط في الأيام التي لا ريح فيها ولا مطر

حيث تتلألأ الشمس كطين فضي

أو تتساقط أحجار القمر المبكرة على أكوام لامعة

لمصب النهر العاري.

*

تتلوى أصواتها كعصف العصر المحتضر؛

تتلمس مصب النهر الذي ينحسر فيه المد والجزر

يائسةً، بحثاً عن شيء ضائع.

كثيراً ما تنظر خلفها وتتأمل

في الوحل المتكتل ذي الجوانب المائلة.

تجعد أفواهها شبه الضاحكة

تتعرج على انحناءات ناعمة،

وتُحرك زحف مسارها المتعرج.

لا تتأمل في العاصفة؛

لا تعيش إلا في ختام النهار،

*

عندما يُجرف مدُّ رجال من شاطئ مُبحر،

وصوت صقيع رمادي يرتجف في السماء الناضجة.

تقلب تجاويف حناجرها

من ذعر ساخر، وتحول مسعور إلى

أغنيةٍ حزينةٍ، مائية

*

تُنبئ باستسلامٍ هادئ،

مع عودة المد، وهبوب النسمات

ترنيم عكس التيار باتجاه المدينة

لا يعيش طائر الكروان إلا في ختام النهار،

ويموت مع انحسار الشمس.

***

.........................

*الكروان: طائر مائي منقط، ذو منقار طويل بحجم قبج.

*المصدر: مجلة بولسر الشعرية الفصلية، ربيع  Pulsar/ 2025

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - القامة

أنا ألم طويل القامة

أبصر الكلم

أنى كان

بمجرد لمحة

ويراني المعوز

أنى كان

دون أن أتسلق

كتف هم

آخر..!

***

2 - انحناء

زهرة خزامى

انحنت للعليق

تلثم يده

وما أن انتهت من ذلك

وانتصبت واقفة

حتى تخضبت سيقان

العليق

باللون الأحمر

فتكور حسرة

على اللون

الأصفر..!

***

3- الكرسي

إن الكرسي

الذي أجلسوا عليه

ذاك الشاعر

وقتلوه

قد أضحى خير

شاهد

على ذلك الجناح

فقد عاش

ليشهد موت الجلاد

وكيف جلس عليه

العتق

***

4 - تعليم

كانت (جميلة) تجدل*

شعر (الجزائر) المسترسل

بأسرارها

و تقول

أيها الوطن

إن قطعوا يدي اليمنى

لعلمت اليسرى

كيف تكتب اسمك

و إن قطعوا يدي اليسرى

لجعلت أصابع قدي

تعتاد كيف تكتب

اسمك

و إن بتروا أطرافي

الأربعة

سأكتب اسمك بالصراخ

و إن همد

صراخي

أكون قد علمت نظراتي

كيف تحفر اسمك

في عيون الأوجال

التي يستشعر بها

جلاوزة الغرف

الباردة

أيها الوطن

***

5 - تمثال

سيأتي اليوم

الذي تعتصم فيه

تماثيل الدنيا

فلا تتشامخ

احتجاجا

لعدم مشاهدتها

منذ أن وجدت

تمثالا منحوتا

ل (أديسون)**

بجانب آلاف التماثيل

***

......................

* إشارة إلى المناضلة (جملة بوحيرد) الشخصية الجزائرية المعروفة وأيقونة الثورة الجزائرية.

** توماس أديسون (1847 – 1931) العالم الفيزياوي الأمريكي المعروف ومخترع العديد من الالات الكهربائية ومنها المصباح الكهربائي.

- شيركو بيكس: شاعر وأديب كردي كبير. (1940 السليمانية / العراق – 2013 السويد). نشر مع مجموعة من الأدباء الكرد (بيان المرصد) حول الابداع والحداثة الأدبية واللغوية. ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، ومنها (الإنكليزية، الفرنسية، البولونية، العربية، السويدية، الألمانية، الإيطالية، التركية، والرومانية) وغيرها. منح جائزة (توخولسكي) الأدبية في السويد، وجائزة العنقاء الذهبية العراقية، وجائزة (بيره ميرد). من أعماله (ضياء القصائد - شعر 1968، هودج البكاء 1969- شعر، كاوة الحداد – مسرحية شعرية 1971، أنا باللهب أرتوي – شعر 1973، الغزالة – مسرحية شعرية، الغبش – شعر 1978، أنشودتان جبليتان - شعر 1980، الشيخ والبحر – رواية مترجمة لهمنغواي 1982، الصليب والثعبان، يوميات شاعر، مرايا صغيرة – شعر). ترجمنا له إلى اللغة العربية ونشرنا له في الصحف والمجلات العراقية والعربية وضمن مجموعات شعرية مشتركة. عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001.

بقلم: تد كوزر

ترجمة: عاد صالح الزبيدي

***

موت كلب

في الصباح التالي شعرت بأن منزلنا

قد جرى رفعه بعيدا عن اساسه

خلال الليل وهو الآن عائم،

على الرغم من ثقله الكبير الا انه سحب معه

ما يساوي قدما او اكثر من ايما شيء كان يجعله يطفو،

ليس ماءً، ولكن شيء بارد ورقيق وصاف،

الصمت يلف سطحه بينما بدأ المنزل

يستدير فوق تيار تتزايد قوته،

مغادرا، جارفا معه زوجتي وانا،

ولكن على الرغم من ان ذلك لم يحدث لي قط

حتى تلك اللحظة، الا ان كلبنا، وطوال خمسة عشر عاما،

كان قد تحمل مسؤولية ما نملك

بلصق بطنه على الأرضية،

ومخالبه الأمامية ايضا،

وبعد رحيله بدأ المنزل يطفو متجها نحو الفراغ،

وما من ارض صلبة تلوح في مرأى البصر.

***

.................

تد كوزر: شاعر أميركي ولد في مدينة ايمز بولاية ايوا عام 1939 وتلقى تعليمه في جامعتها ثم في جامعة نبراسكا حيث نال شهادة الماجستير وعمل أستاذا زائرا إضافة إلى عمله الأساسي في شركات التأمين. نشر اثنتي عشرة مجموعة شعرية فازت بعدة جوائز أهمها جائزة البوليتزر عام 2005 التي نالها عن مجموعته "مباهج وظلال". شغل منصب شاعر الولايات المتحدة لدورتين متتاليتين. من عناوين مجاميعه الشعرية الأخرى: "عالَم واحد كل مرة" 1985 ؛ "كتاب أشياء" 1995؛  و"عجائب محلية: فصول في جبال الألب البوهيمية" 2004 .

قصة برايان واشنطن

ترجمة: صالح الرزوق

***

بدا السؤال مباشرا. فقد أخبرني نوح - في رسالة قصيرة، وهي الأولى منذ سنوات - أنه هو وأمه أعادا افتتاح مخبزهما، ثم سأل إن كان بمقدوري تقديم المساعدة. وخلال ذلك بوسعي أن أنام على كنبة والده. مارست عائلته هذا العمل منذ سنوات طويلة. حتى أنني شاركتهم بالعمل لعدة سنوات، قبل أن أغادر هيوستون إلى نيويورك، لمطاردة محاسب لعوب له لحية. وبعد رحيلي، تابع المخبز عمله، وواصل العالم دورانه، وبقي نوح في كاتي، وهي بلدة صغيرة على تخوم المدينة، وعلق بالفقاعة - ولكن بعد وفاة والده، أغلق نوح ولاين أبوابهما. وعمل نوح بائع زهور لبعض الوقت. ووجدت لاين عملا في مركز تسوق. ولم أتصل معهما، ولم تكن لدي خطط للمستقبل. ولكن الآن ها هو نوح، وبيده عرض عمل متكامل. وكنت بحاجة لمكان أعيش فيه، والفضل يعود للمحاسب. كنت أعلم أن لاين لن تتقاضى مني الإيجار - ولذلك حينما وقفت في باحة سياراتهم، مخدرا ببخار 12 ساعة من القيادة المتواصلة، وبنوستالجيا المنطقة القديمة، لاحظت كيف كان نوح يحدق من النافذة. مرت علي لحظة فكرت خلالها أن أستدير وأعود من حيث أتيت فورا. ولكن ظهرت لاين في المشهد ولوحت ببدها، فلوحت بالمثل. وخرج نوح إلى الممشى، وهو ينخر ويشخر بطريقته المعتادة، وقبض على قفل شاحنتي، وسألني لماذا تبدو حقائبي اللعينة ثقيلة، وما هو الجحيم الذي أنوي أن أسافر إليه.

**

كان مخبزهما في الواقع عبارة عن بيت صغير من طابقين. وهو متموضع في باحة قرب مركز تسوق، بجوار طريق يصب في الطريق السريع. إذا أسرعت بالقيادة جدا، لا تراه. ولكن البناء أضفى حسا سكنيا على الشارع. وكان مدخله يفضي إلى غرفة معيشة معدلة لتكون صالة للجلوس - ثم هناك آلة الدفع، والمطبخ، وبعده الحمام. ويوجد سلالم غير مرئية بجوار الشرفة، من الخلف، ووراء كل ما سبق. وبدورها تفضي إلى غرفتي نوم، وغرفة ألعاب. وقد نمت فيها على الأرض، مع أنها مكتظة بكنبة وبعض النباتات المنعشة والكثيفة. في صباي كانت عائلتي تعيش قبالة المخبز. ولم يكن أفرادها متواجدين دائما. وكان نوح لا يمانع استضافتي. كنت أعود بعد عناء التعليم من المدرسة برفقته عبر الأزقة، ومأوى السيارات، إلى المخبز لنقتل الوقت مع والديه، وكنا نطوي عجينة المعكرونة في المطبخ. والد نوح شاب كوري شاب، علمني كل شيء عن طيها، وطريقة تحويلها إلى قوالب وأشكال في راحة اليد. وعلمني أن أثق بيدي. كان ينتسب لعائلة من الخبازين، أما زوجته - وهي امرأة سوداء من سان دييغو - فقد كبرت في المخبز. ولذلك حينما قالا لي إنني أتقن عجن أرغفة الخبز مع نوح، صدقت كلامهما. وكان والد نوح يقول لي إنني أفضل من ابنه، وكفاني ذلك لأبدأ بالتفكير في رد الجميل بعد أن أنال درجتي، ولكن لم أذكر هذا الموضوع. ثم مرض والد نوح. ولاحقا بقي نوح ولاين. وأصبحت مثليا، لكن نوح لم يصبح كذلك. ولم يبق للانتظار في ذلك المكان أي معنى، فرحلت. تنقلت من لوس أنجلس، إلى نيو أورليانز، إلى فانكوفر، إلى بروكلين، لأتبع صديقي، وبقي نوح في البيت، حتى تحسنت مهارته في المخبز، وللأسف لم يسمع هذا الإطراء من والده. بعد ذلك عملت صبي منزل عند أي كان، وكنت أطبخ المعكرونة في عطلات الأسبوع. وكنا نتراسل في هذه العطلات الأسبوعية، وإن كنت أحيانا أنسى مراسلته، وفي النهاية توقفت عن النسيان. أصبح هذا اختياري. وعلى هذا الأساس توقف نوح عن الاتصال بي أيضا.

**

في الصباح التالي من يوم وصولي، قبل الفجر، أيقظني نوح بلمسة من قدمه. وحام فوقي بالشورت، وهو يطرف بعينيه. كان دائما شابا ثقيلا، وممتلئا مثلي. ولكنه الآن أصبح هشا أيضا، وتقريبا لم أتعرف عليه.

قلت له: يمكنك أن تتحلى باللطف قليلا.

قال نوح: أنت لا تعرف كيف تعيش. كلنا استيقظنا إلا أنت.

- ولكن نحن ثلاثة فقط.

- مهما كان. القهوة جاهزة تحت.

قلت: لن تجد إنسانا خشنا مثلك.

قطب نوح قليلا، قبل أن يختفي وراء الزاوية. كانت لاين تطوي قائمة الطعام على الطاولة، عانقتها، ورميت نظرة إلى ابنها. كان واقفا قرب آلة النقود، يرشف من كوب. ثم بصمت، طبيعي، باشرنا بترتيب الخزانة - وهكذا أنفقنا يومنا. نظفنا الغبار، وكنسنا، وخشخشنا بالوصفات، وتذوقنا المشروبات. وحينما حان وقت العمل مع الوصفات، كان ملمس العجين في راحتي مألوفا، ولكنه لا يزال بعيدا على نحو ما، ووجدت نفسي ألتفت إلى نوح، لأراقب حركاته. من الواضح أنه تحسن. ويستعمل يديه بأريحية. في النهاية رفع عينيه ليضبطني أراقبه.

قال: هل يوجد شيء بوجهي؟.

قلت: أقترح أن تبتسم.

كشر وهو يصنع المعكرونة واحدة واحدة بدقة. ثم توقف قليلا باستراحة قصيرة، وتابع ثانية.

**

كانت كاتي تتوسع وتغطيها حقول الأرز. أصبح لدينا متجر فيديو ومدارس وبعض الباحات للرياضة ومركز للتسوق وصالة سينما. وحينها إن كنت تبحث عن مشكلة عويصة عليك أن تتوجه إلى شرق المدينة. ولكن تبدل كل ذلك: الآن لدينا مدينة صينيين كاملة. وأرسى الفنزويليون أركان مجتمعاتهم. وأصبح هناك صالة للفنون، وأماكن غير محدودة للحشيش، وعدد من المتاجر الموزعة على طول محيط البلدة - مع أنها الآن لم تعد عمليا بلدة. وكان المخبز ميتا في وسطها.

أحضرت صديقا، في إحدى المرات، قبل أن أغادر الولاية لأول مرة. رأى والد نوح الشاب، وشد على يديه. وحذت لاين حذوه، أيضا، وغمزت لي من فوق كتفه. وأذكر أنني عدت في تلك الليلة إلى نوح، مبتهجا تماما، وكذلك كانت أحواله. ولم يتوقع أي منا إمكانية حصول ذلك - لنا في كاتي. فقد وضعنا الخطط لتحديد الهيئة التي سيكون عليها شريك نوح (أكبر وأطول قليلا)، وكيف سيغازله (في وجبات غداء وسط البلدة)، وكيف سيستمتعان بحبهما (ربما في أحد الحقول بمكان ما). ولكن طبعا لم يمر وقت طويل قبل أن يتخلى عني شريكي من أجل شخص مخنث. وفي تلك الليلة، أخبرت نوح، وكنت في سيارته وأرتعش قليلا، وهو بجانبي يومئ للفضاء المفتوح. ذهبنا بالسيارة إلى ملعب كرة القدم - بحثا عن الصمت وعن مكان - وبدأت أغفو، ثم فتحت عيني على نوح وهو يميل نحوي ليضع وجهه فوق وجهي. قبلته بالمثل، وبشغف تام - ثم بشغف أكبر - قبل أن أنسحب. ثم ضحك نوح، بقليل من الحماس، وكذلك، فعلت أيضا، وأنا أقفز فوق المقعد الأمامي - حتى، في لحظة ما، شهق كلانا، وتمسكنا بحزام الأمان، ونحن بغاية الانفعال والحمى.

**

بقي أسبوع على افتتاح المخبز، وخلاله كنا نحن الثلاثة بقبضة الروتين: نوح يلكزني لأستيقظ قبل الفجر، وفي الصباح ننشغل في المخبز، ونحن نرشف القهوة ونفحص القوائم. بينما لاين تتنقل بين المطبخ والمصرف وبالعكس. وكنا نتابع عملنا حتى ما بعد الظهيرة. وحينها يحتل نوح المطبخ وأقفز أنا إلى الكومبيوتر بجانب الطاولة. وبدماثة تسألني لاين بعض الأسئلة - عن الوسائط الاجتماعية، والتسويق - ولكنها كانت تعلم كل شيء، ويكون نوح خلال ذلك مشغولا بالعمل في الخلف، يخبز، متجاهلا وجودنا. في النهاية أصبح المكان كما تخيلناه. ولكنه بقي عسيرا على الفهم، مثل معجزة، شيء لا يمكننا إنجازه بمفردنا، وبأيدينا. حركت لاين رأسها، وهي تحدق بالبناء من الجهة المعاكسة في الشارع، وسألت إن كنا غير قادرين على تخطيط لافتتنا بأيدينا. قال نوح عن ذلك إنه إفراط بالوساوس - ولكن هزت لاين رأسها لكلينا، وقالت إنه لا مكان لأنصاف الحلول. ثم وهي تراقبنا، قمت مع نوح بكتابة اللافتة. وقفت لاين بجانبنا، وهي تنقل رأسها من طرف إلى آخر. وفي إحدى اللحظات قالت إن اللافتة انتهت، وأصبحت جميلة، ووافقنا على كلامها.

**

أخبرني نوح، في إحدى مكالماتنا الهاتفية النادرة، عن شاب واحد اقتحم حياته. حصل هذا منذ سنوات خلت. كنت حينها أعيش في بروكلين مع طبيب تحول إلى رسام. وكان نوح في تكساس، يعيش حكاية حبه. سألني وقتها عن الجنس، فأخبرته بما أعرف. وسألني عن الرسميات في الحياة العامة. واستفسر عن الفرق بين الاهتمام بشريكه والاهتمام بنفسه. وكنت صادقا معه - ولكن أحيانا، كنت أتهرب منه. في أحد الأيام، في منتصف ذلك اليوم، انفصل عني الرجل الذي كنت على علاقة به، وكنت خارج شقته، ولم يسمح لي الحارس بالدخول، فخابرت نوح من مقهى في المبنى.

وحينما انفصل نوح عن صديقه، كنت أعيش مع شخص آخر. وأخبرني أن هناك أمورا لم يمكنهما تجاوزها. وهذا كل شيء. وكانت هذه فرصتي لأتقرب منه، كما كان يفعل، وكنت أشعر بذلك. ثم تبلدت مشاعري. سألت نوح ما هو الخطأ الذي ارتكبه. وسألته لماذا يصعّب الموضوع. وشعرت أنه يهز رأسه على الطرف الآخر من الهاتف، ثم بالمقارنة تحسنت مشاعري، فقد كنت أكثر خبرة منه، وأشبه مؤخرة لعينة. لاحقا تركني رجلي، أيضا، وعاودت الاتصال بنوح، وفي تلك الأثناء لم يكن يرد، فقد انشغل بوالده، وبصعوبة كنت أتمكن من مكالمته.

**

في الليلة السابقة المحددة للافتتاح، جاءت لاين باكرا. قالت: أمامنا يوم طويل، واقترحت أن نبكر بالنوم أيضا. فأخبرتها أنني سأتبعها إلى أعلى، وكذلك نوح، أيضا - ولكن مكثنا كلانا في الأسفل، نمسح، حتى منتصف الليل. أنا كنست، ونظفت الجدران. ولزم نوح الصمت، وهو يقوم بعمله. ثم في النهاية رفع نظره، وسأل إذا كنت أريد شيئا آكله. كان قد مر على أول مرة لنا معا في السيارة أكثر من عقد. خرجنا من المحلة باتجاه المدينة. وتابع نوح القيادة. لم أوقفه. قدنا حوالي ساعة قبل أن يدخل في شارع يمر بمطاعم تاكو كابانا، ثم وقفنا في باحة السيارات، ووجهانا نحو الطريق السريع، لنقضم في الظلام رقاقات تورتيلا.

مد نوح يده إلى علبة بيننا وقال: لم أتوقع أن تعود.

قلت: حسنا. توقعك مخطئ.

- كان من الممكن أن أفقد نقودي لو راهنت على ذلك.

- أمر طيب أنك لست مقامرا.

قال نوح: أنت لم تأت لوداع والدي.

قلت له: أدرك هذا.

- كان من واجبك أن تأتي.

قلت: أنت محق. وأنا آسف.

قال نوح: لا تعتذر بهذه الطريقة الشئيمة.

قلت: ولكن لم أكن متأكدا أنك تريد أن أكون حاضرا.

- ماذا؟.

- أنا جاد. وربما هذا ما أدهشني. كان علي أن ألاحظ ذلك بنفسي.

قال نوح: أنت من غادر. لقد هجرتني.

قلت: هذا لأنك لم تهتم.

وعلى الفور تمنيت لو أسحب كلامي.

جلسنا كلانا نمضغ بصمت. مد نوح يده إلى العلبة المجاورة لي، وفعلت مثله.

قال: اسمع. لا ضرورة لأن أخبرك أن هذا ليس عدلا. أنت تعلم ماذا يحصل. وأن كل شيء تبدل.

قلت: حسنا.

- حسنا على ماذا؟.

قلت: أنت تختلق الأعذار.

قال نوح: كلا. أنا أذكر الأسباب. أن كل شيء تبدل.

وأضاف: والأسوأ أنك تبدلت أيضا.

**

أنهينا كلانا في لحظة ما طعامنا. وعدنا إلى البيت، دون أن نتبادل كلمة واحدة. جلست على الأرض، واستقر نوح في غرفة نومه، وسمعته يشخر حتى غفوت في النهاية.

**

في صبيحة يوم افتتاح المخبز سقطت الثلوج. وكان هذا أول يوم تشهد فيه هيوستون الثلوج منذ سنوات. وتوقعنا أن هذا الجو سيخنق نشاطنا، وقفنا نحن الثلاثة حول آلة النقود، نلهو بإبهاماتنا. ومسح نوح يده. نقرت على هاتفي. ووقفت لاين بجانبنا، مقتنعة أنه لا ضرورة للقلق. قالت: هذه الأمور تحدث على دفعات، ونحتاج للتريث، تبادلت النظر مع نوح، وانتظرت أن يقول شيئا، ولكنه لم يفعل طبعا، وكذلك أنا. كانت لاين محقة. قبل الغداء، جاءت امرأتان بيضاوان. ثم شاب آسيوي مع ابنته. ثم حلقة من الطلاب والهواتف في أيديهم. ثم زرافات من الناس بجماعات محدودة، وأحيانا أفراد، وكانوا يأتون إلى الطاولة، ويشيرون من وراء الزجاج ويتأملون قائمة الطعام. ومع نهاية ما بعد الظهيرة، لم يعد لدينا معكرونة. وانشغلت تماما بخزانة النقود، وكانت لاين تخدم الزبائن. وتهادى نوح نحو الطاولات بثياب فضفاضة، وكان يقفز في أرجاء المطبخ. وبصعوبة تبادلنا بعض الكلمات، ولكن لم يزعجنا ذلك: كان كل شيء مألوفا وعاديا. وها نحن نعمل معا. وبانسجام رغم كل شيء. لم نمتنع عن تبادل الحديث، ولكن لم يكن هناك شيء نقوله.

**

في تلك الليلة، حسبت لاين ثمار أيام العمل. لم يكن هناك شيء عظيم، ولكنه أفضل من توقعاتنا. بعد ذلك اغتسلنا نحن الثلاثة، وتناولنا طعامنا، ثم استقرت لاين في الطابق العلوي، أنا جمعت كتفيّ وتبعتها. ومكث نوح في الأسفل ليتصفح الوصفات قرب آلة النقود. فكرت به وهو في الأسفل، وأصغيت لصوته وهو يقلب الصفحات - ولاحقا، بفترة طويلة، استيقظت لأشاهده يتأملني، جالسا قبالة الكنبة. لم ينطق أحدنا بكلمة. جلس نوح ببساطة، وساقاه متقاطعتان فوق الخشب. بدا مألوفا أكثر رغم كل شيء، وتساءلت إن كنت مألوفا مثله. وفكرت كيف أتصرف إذا أقبل، وكيف أرد على حركاته. وعلى نحو ما تساءلت إن كانت هذه هي النهاية التي نتوجه إليها. ثم ضغط على ركبتي وطلب مني أن أتبعه إلى الأسفل. كنت مكدودا، ولكنه كان قد طهى وجبة كاملة. استندنا على الطاولة. وطلب مني نوح أن أقضم لقمة من معكرونة أمامه، شيء ممتلئ وتغطيه رقاقات براقة، وفهمت المعنى فورا. وتيقنت أنه فهمه مثلي. كان يريد أن يخبرني. لكن لم أعرف ماذا أقول، وعوضا عن ذلك، نفذت كلامه: تناولت قضمة. ثم نظرت إليه. ونظر لي أيضا. ملنا على الطاولة بدفء، وهدوء، ونحن نمضغ دون صوت، برشاقة، رغم الفوضى التي صنعناها بيننا.

***

..........................

* برايان واشنطن Bryan Washington روائي أمريكي معاصر من هيوستون. من أهم أعماله: الباحة 2019، النصب التذكاري 2020، وجبة عائلية 2023، وساوس 202، وغيرها...

 

قصيدة للشاعر الارجنتيني فابيان كاساس

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

كان واحد من تلك

الايام التي تجري

الامور فيها بصورة مقبولة

وعلى ما يرام

نظفت البيت

وكتبت قصيدتين

او ثلاث

ولم ارغب بكتابة منها

المزيد خطوت

اولى خطواتي

في الممر كي اخذ

كيس القمامة

الى الخارج

وحينذاك هبت

ريح قوية فصفقت

الباب ورائي

وقفت هناك

في الخارج

وفي الظلام

ومفاتيحي لم تك معي

مستشعرا اصوات

جيراني عبر بواباتهم

فقلت في سري

قد يكون هذا شيئا موقتا

او ربما بعد ذلك

يكون الموت

فالرواق مظلم

والباب مقفول

وكيس القمامة

في يدك .

***

.....................

فابيان كاساس – 1965، شاعر وكاتب وصحفي ارجنتيني يعتبر من ابرز الشخصيات الادبية الأرجنتينية في تسعينات القرن الماضي باعماله التي تشمل الشعر والرواية والقصص القصيرة والمقالات باسلوبه الاستثنائي والمثير وغالبا ما تناول كاساس مواضيع الحياة اليومية والمشاعر الانسانية حاز على عديد من الجوائز الادبية منها جائزة سيغيرز المرموقة عام 2007 لغنائتية الاستثنائية وتاثثره على كتاب امريكا اللاتينية. ترجمت اعماله الى عدة لغات منها الانكليزية والالمانية والفرنسية ومن قصائده

دورات الحياة -وبناء - وغيرهما .

قصة: سيكى ليو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في صباح يوم عمل روتينى عادى في أوائل أغسطس، قبل أربعة أشهر من الألفية الجديدة، خرجت تشين ييزي من غرفة نومها وهي لا ترتدي سوى الجوارب. تسلل نسيم صيفي دافئ عبر شق نافذة غرفة المعيشة ووأخذ يداعب ذراعيها العاريتين ثم انحدر إلى مؤخرتها المكشوفة. في تلك اللحظات النادرة التي تجد نفسها فيها وحيدة في الشقة، كانت تفضل العري، والعودة إلى الحالة البدائية. لكنها لاحظت على الفور أن شيئًا ما خارج عن المألوف. بين وعاء مليء بقشور البيض المكسورة وكوب الشاي، كان هناك ظرف بنفسجي باهت بدرجة لم ترها من قبل- كأنه فراشة نادرة مثبتة على طاولة الطعام الخشبية. لا بد أن زميلتها في الغرفة استلمت الرسالة من مكتب البريد قبل الخروج من المدينة.

حملت المظروف إلى أنبوب الضوء المائل عبر النافذة. كان اسمها مكتوبًا بأحرف كبيرة مائلة إلى اليمين، كما لو أنها كتبت على عجل. في عنوان المرسل، الذي كان باللغة الإنجليزية، كتبت كلمة شيكاغو. كانت غريبة. لم تكن تعرف أحداً في أمريكا، على الأقل لا أحد لديه سبب للكتابة إليها. فتحت المظروف بنفس المقص الصغير الذي استخدمته لقص حواجبها، وسقطت صورة صغيرة مستطيلة الشكل. وأظهرت الصورة شابا ينظر حوله في مثل سنها، مذهولاً وليس وسيماً، بعينين متباعدتين وأذنين كبيرتين بشكل كوميدي. وجاء في الرسالة المصاحبة له ما يلي:

عزيزتي تشين يزي،

اسمي لي مين. أنا ابن عم زميلك في الكلية، دونغ يو. من فضلك سامحيني إذا كان هذا بمثابة تهور. رأيت صورة لك في كتابه السنوي وأعجبت بهالتك الأنيقة وابتسامتك الحلوة. أعيش في شيكاغو وأبحث عن صديق لاستكشاف أمريكا معًا.

إذا كنت مهتمًة، يمكنك مراسلتي مرة أخرى على هذا العنوان.

لي مين

وعندما وصلت إلى النهاية، عادت إلى البداية وأعادت القراءة. ثم التقطت الصورة مرة أخرى، ولاحظت فم الرجل الواسع، المنفتح كما لو أنه تمت مقاطعته في منتصف الجملة. وتذكرت إعجابها بالطريقة التي ظهرت بها صورتها في الكتاب السنوي. كان شعرها مجعدًا لهذه المناسبة، وكانت شفتاها مزمومتين بابتسامة متواضعة ومليئة بالأمل. بعد قراءة الرسالة للمرة الثالثة، تذكرت أن دونغ يو، الصبي السمين الذي جلس خلفها في صف الفيزياء، كان يتفاخر بالفعل بوجود قريب له في الخارج. في الكلية كان الجميع يحلمون بالمغادرة. كانت الشائعات تقول إنك تستطيع أن تكسب من غسل الصحون في مطعم أمريكي في أسبوع أكثر مما يمكنك أن تكسبه كمهندس هنا في شهر واحد، وكان الناس يتنقلون بالسيارات – سيارات شخصية. لكن الوصول إلى هناك يتطلب وجود كفيل أجنبي، ورسوم التقديم، والمال لشراء تذكرة طائرة في اتجاه واحد. كانت هواية طفلة غنية، وكانت تتمتم بصوت منخفض مع نيا، صديقتها المفضلة في الكلية، كلما شاهدتا طلابًا يلاحقون علماء دوليين، ويطالبون بممارسة لغتهم الإنجليزية.

شعرت باحمرار شديد عندما فكرة أن شخصًا غريبًا قد أعجب بصورتها، ثم شعرت بالحرج من غرورها، ثم المفاجأة. هل كان هذا هو ما يفعله الرجال في أمريكا: العثور على صديقات في الصين عن طريق كتابة الرسائل؟ لم تكن تعرف كيف يجب عليها الرد. لا بد أن ابن عم دونغ يو سمع أنها كانت مع شخص ما بالفعل. مخطوبة، في الواقع.

ناهيك عن أن كل ذلك قد حدث بشكل غير رسمي إلى حد ما. قبل ثلاثة أسابيع، التقت ببو عند نهر شيانغ جيانغ على المقعد المعتاد، في الوقت المعتاد. كان واقفًا هناك بالفعل عندما اقتربت: يداه في جيوبه، وساقاه نحيفتان في بنطاله الرمادي النشوي. لقد كان طالب دراسات عليا في الكيمياء في الجامعة التي التحقا بها عندما كانا طالبين جامعيين. لوح لها قليلاً، ثم نظر إلى النهر، حيث غطس طائر أبيض في الماء، وجناحه مسطح مثل نصل السكين. وعلى الشاطئ الآخر كان هناك صف من المباني الأسمنتية الرمادية اللون التي رسمت عليها شعارات حمراء كبيرة: الوقت هو المال، والكفاءة هي الحياة. زرع المزيد من الأشجار، وإنجاب عدد أقل من الأطفال.

قال وهو يشير إلى الماء عندما اقتربت: "انظري". وسألها إذا كانت تعرف أي نوع من الطيور هو. "إنه طائر الكركي، أليس كذلك؟

- البلشون الأبيض. إنه يأتى إلى هنا في الربيع ويطير جنوبًا في الخريف.

وضع يديه على جبينه، كما لو كان يضبط منظارًا غير مرئي.

- إنه يعيش عادة في حقول الأرز في الريف. من الغريب رؤية واحد هنا.

رفع الطائر رأسه من الماء، وومض بطن السمكة اللامع للحظة قبل أن يغلق منقاره. لقد كان يعتقد أن رقبته رفيعة جدًا لدرجة أنه لا يمكنه ابتلاع شيء كبير جدًا. لقد كانت معجزة أنها لم تنكسر إلى نصفين. سألها بو عما إذا كانت قد رأت طائر البلشون الأبيض في مسقط رأسها.

- لا. لم أر قط حيوانًا بريًا هناك. ربما أكلها الجيران جميعًا.

لقد كانت مزحة، رغم أنه كان من الممكن أن تكون حقيقية. حدثت سنوات المجاعة خلال حياة والديها، قبل وقت قصير من ولادتها هي وبو. عندما رأت تكشيرةبو ، أحنت رأسها وقامت بتنعيم فستانها. كانت تنسى أحيانًا أنه حساس لهذه الأشياء: إصابات الحيوانات والبشر، والحرمان، والكرب، والألم العام.

على مدى الأشهر الاثني عشر التي قضياها في المواعدة، كانا يلتقيان مرة واحدة في الأسبوع على وجه التحديد، عند النهر إذا كان الطقس لطيفًا، أو في المسرح بخلاف ذلك. في ذلك اليوم، سارا حتى الجسر الشمالي. خلفه كان هناك طريق سكة حديد مهجور مليء بالأعشاب الطويلة. لقد تساءلت دائمًا عما يكمن في نهاية المسارات. قرية مهجورة؟ العمود الفقري المتعرج لسلسلة جبال؟ لقد خلفت عاصفة رعدية من الليلة السابقة وراءها ضبابًا رقيقًا غطى المسارات بحجاب مرتعش. أومأت برأسها نحو الأفق المائي وقالت:

- ماذا تعتقد هناك؟

- ماذا؟

بدا بو مشتتا. وضع يده على كتفها وأدار جسدها حتى أصبحت في مواجهته.

- دعينا نبقى هنا لفترة من الوقت. اسمعى، لقد كنت أفكر، اسمعي، لقد كنت أفكر - لقد كنا معًا لمدة عام. والتقينا بوالدي بعضنا البعض. لقد تعرفنا بشكل جيد على بعضنا البعض.

أومأت برأسها ببطء، متظاهرة بالهدوء. ظنت أنها تستطيع رؤية الاقتراح القادم. كان الأمر واضحًا، مع كل العلامات التي سبقته: تحدث بو عن نوع السكن الذي سيوفره برنامج الدراسات العليا إذا تزوج، ودعاها بو لمقابلة والديه، وتصرف بو بطريقة مهذبة عندما أخذته. لزيارة والدتها في قريتها المتداعية. ولكن ماذا لو لم يكن متوقعًا كما اعتقدت؟ لقد تخيلت أنه في الواقع ينفصل عنها. كان بوسعها أن تشعر تقريبًا بدوار شديد لاحتمال هجرها دون سابق إنذار، وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، بعد عام من مواعدة رجل مثل بو وكونها موضع حسد بين أصدقائها. تخيلت وجهها وقد أصبح شاحبًا، وفقدت الإحساس بقدميها ويديها كما يحدث أحيانًا عندما تكون في حالة صدمة. لقد هزها رعب هذه الفكرة كصدمة كهربائية.

وتابع:

- أعتقد أننا نعتبر متوافقين جدًا. يجب أن نفكر في الزواج.

لقد استنزفت كل مخاوفها منها مثل الهواء الذي يخرج من بالون مثقوب. شعرت باستقرار هائل. ابتسمت وأجابت:

- أنا أفكر في نفس الشيء .

أمسك بيدها بقوة وقبل خدها: قبلة قصيرة عفيفة، مشبعة بنفس اللياقة التي عاملها بها طوال فترة خطوبتهما. مرة واحدة فقط، تحت جنح الظلام في المسرح، ضغطت بصدرها عليه ردًا على ذلك. لقد انسحب، وفي عينيه نظرة ماكرة، وربت على ذراعها بضع ربتات طويلة، كما لو كان يسترضي قطة.

وفكرت مرة أخرى في الطريقة التي اتخذت بها الاختيار الصحيح في بو- بو، بأدبه وعينيه الناعمتين، وضبط النفس الرجولي.

وأوضح أنهما سيحظىان بحفل زفاف مناسب في المدينة، وهو مسند بمرفقيه على الجسر. ومضى في سرد ما يحتاجان إليه: مكان، وقائمة طعام، ودعوات، وحلويات للأطفال - كان هناك المزيد من الأشياء التي كان ينساها، وكان عليه أن يعد قائمة لاحقًا. وقال:

- أنا آسف لأن الأمر معقد للغاية .

هزت رأسها وهي تحمل ابتسامتها. إن الاستماع إليه وهو يعمل في عالم من المهام والأهداف الواضحة قد أغرقها في حمام دافئ من التفاؤل. كان من الجيد أن يكون لديك زوج يعرف الطريقة الصحيحة للقيام بالأشياء، ويخطط. معظم الرجال لم يفعلوا ذلك. في القرية التي نشأت فيها، كان حفل الزفاف عبارة عن مائدتين من الدجاج المذبوح والمشروبات الكحولية في ساحة أحد الأشخاص. في أحد الأعوام، هطلت الأمطار، وتذكرت جلوسها على كرسي تحت شجرة فلين،وهي تقضم ساق دجاجة بينما كان الطين يمور حول مقعدها.

وفي وقت لاحق، في الحافلة المتوجهة إلى العمل، أخرجت الرسالة المرسلة من أمريكا ونظرت إليها مرة أخرى. كانت الكتابة لهاو. أمر مثير للسخرية حقًا، وصارم جدًا، وكان من الممكن نسخها من دليل حول كيفية جذب النساء. وتساءلت كيف سيكون رد فعل زميلاتها في قسم المحاسبة في وحدة تصنيع أسطح العمل رقم 2 في تشانغشا إذا أخبرتهن بالرسالة. من المحتمل أن تتحول عيونهن إلى اللون الأحمر من الحسد. أولاً، بو، ثم هذا الرجل الأمريكي، الذي طلب نقلها إلى الخارج. أمسكت بأصابعها الحواف الحادة للظرف الموجود في حقيبتها وقررت أنها ستحتفظ بالرسالة لنفسها حتى تتمكن من اتخاذ قرار بشأن ما ستفعله بها.

عندما أخبرت زملاءها في العمل عن خطوبتها، كان رد فعلهم في البداية هو الصدمة المقنعة، ثم دشنوا عبارات التهنئة المبتذلة، على نحو لا يختلف عن الطريقة التي يثني بها المرء على زميله في الفصل الذي حصل على وظيفة مرغوبة. لم يكن أحد يتوقع أن ينتهي الأمر بها وبو معًا. كان والدا بو طبيبين في مستشفى تشانغشا رقم 1، وكان أصدقاؤه في الكلية أبناء مسؤولين حكوميين وأساتذة جامعيين. لم تتقاطع مساراتهما أبدًا حتى حضرا حفلة صديق مشترك بعد عام من التخرج. لقد ظهرت وهي ترتدي فستانًا أخضر ووشاحًا حريريًا اشترته بأول راتب لها. لقد كانت سنة من العيش في المدينة طويلة بما يكفي لتقليد ما ترتديه النساء الأنيقات في الشوارع، وكيف يحملن أنفسهن ويجدلن شعرهن، وكيف يلمسن ضفائرهن عندما يغازلن الرجال. في الحفلة، وقفت وظهرها مستقيم مثل اللوح، أطول بنصف رأس من بقية النساء في الغرفة. بالنسبة إلى بو، لا بد أنه لم يكن من الممكن التعرف عليها من خلال الفتاة الريفية التي كان يراها من وقت لآخر في غرفة الطعام، وهي تتجول في قمصانها البنية الفضفاضة.

ولمفاجأة الجميع، لم يرفض والدا بو علاقتهما. وفي وقت سابق من ذلك الصيف، تناولت العشاء معهما في الشقة التي نشأ فيها بو. كانت والدته قد طرحت عليها كل أنواع الأسئلة حول عائلتها: الآباء؟ توفي والدها عندما كانت في الثالثة من عمرها. الإخوة؟ أخ واحد، لكنه مات بمرض السل عندما كان في السادسة من عمره وكانت هى في التاسعة من عمرها. بعد ذلك الوقت، سيتم إغلاق هذا السؤال؟ كانت تعتني بقطعة أرض العائلة وتعمل خياطة في الليل. ماذا زرعت؟ خس، جزر، بطاطس.

تدخل والد بو:

- لماذا تسألين الكثير من الأسئلة؟ انظرى، إنها لم تتناول قضمة واحدة بعد.

احمرت زوجته خجلاً، وهي تضع إصبعها على المشبك اليشم الرقيق الموجود على معصمها.

- تمام. هيا نأكل أولا. على أية حال، لقد أحببت دائمًا سكان الريف. إنهم جميعًا أبرياء للغاية ويعملون بجد.

شعرت بيد بو تربت على يدها تحت الطاولة، وابتسمت كما لو أنها وافقت.

في عطلة نهاية الأسبوع التي تلت ظهور المظروف الأرجواني في منزلها، أدى حادث دراجة تعرضت له عمة مسنة إلى انتقال بو إلى شنجهاي في اللحظة الأخيرة. قررت الذهاب إلى النهر على أية حال. وبدون بو، ركضت بين الجسرين اللذين يربطان الحديقة الواقعة على ضفاف النهر حتى آلمت رئتيها. اشترت كيسًا بلاستيكيًا من العجين المقلي الساخن وأكلته بأصابعها، وتقاسمت المقعد مع رجل ذو ساق واحدة يرتدي ملابس بالية. في طريق عودتها إلى المنزل، توقفت خارج محل لبيع الكتب مع لوحة خشبية عامة تحت مظلتها كتب عليها كتب العصر الجديد.

على الرغم من مرورها بالمتجر عدة مرات في طريقها إلى المنزل من مواعيدها مع بو، إلا أنها لم تدخل أبدًا. لم يكن لديها أي سبب لقراءة الكتب منذ الكلية. كانت تفضل قضاء وقت فراغها في الخارج، والتنزه ومشاهدة الناس والاستمتاع بأشعة الشمس. كان هذا شيئًا مشتركًا بينها وبين بو: لم يكن أي منهما يحب الجلوس. في المدرسة، كانت متخصصة في الرياضيات، وكانت دفاتر ملاحظاتها مليئة بالتكاملات الرائعة والأحرف اليونانية المتعرجة الأنيقة. لكن عامين من التحديق في طوابير طويلة من بيانات الأرباح والخسائر، ووضع علامة على كل عنصر بطرف قلم الجرافيت لتحديد مدى توفير التكاليف، أدى إلى صقل الزوايا الحادة من دماغها. أصبحت فكرة قراءة كتاب الآن بمثابة الدخول في بركة من الطين الخانقة.

ولم تكن والدتها لتلومها على هذا. تخلصي مما لا تحتاجين إليه، هكذا أخبرتها في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من فقرهما، كانت والدتها تحتقر الفوضى. كانت جدران المنزل الصغير المكون من غرفة نوم واحدة عارية طوال طفولتها، حيث كانت أي عائلة تعيش هناك تتنقل أو تغادر باستمرار.

لكن رؤيتها للمكتبة اليوم ذكّرتها بالرجل الأمريكي من شيكاغو. كانت تخرج الرسالة لتعيد قراءتها كل يوم تقريبًا، وقوم بتسوية التجاعيد بإبهامها. جعلها ذلك تفكر في الأشخاص القلائل الذين تعرفهم في الخارج. كان هناك ابن عم جارتها الذي يعمل في سان فرانسيسكو، وزميل الدراسة الذي يدرس في ليفربول، وابن زميل العمل الذي هاجر مؤخرًا إلى تورونتو. كان من المحرج أن يعيش الناس حياتهم في أماكن لم تتمكن حتى من تحديد موقعها على الخريطة.

دق الجرس عندما دفعت الشرائط البلاستيكية السميكة التي كانت بمثابة الباب جانبًا، ورفعت العمة عند الخروج قدميها عن المنضدة. كانت كومة أنيقة من قشور بذور عباد الشمس تتراكم بالقرب من مرفقها. مرت يزي بقسم الشعر، ثم السير الذاتية والكتب المدرسية والروايات قبل أن تصل إلى الجزء الخلفي من المتجر، ، حيث توجد لافتة صغيرة مكتوبة بخط اليد تتدلى من السقف مكتوب عليها أجنبي. في قسم الكتب الأجنبية كانت هناك امرأة تبدو في مثل عمرها، تحمل حقيبة أنيقة، وتمرر أصابعها الطويلة الرفيعة على ظهر كل كتاب في رف الكتب الأجنبية بحرص. كانت تلك الكتب المغطاة باللون الأخضر مألوفة منذ أن كانت في الكلية عندما كانت تلمحها في كل مكان بين أيدي زملائها الأكثر حظًا، والذين كان السفر إلى الخارج بالنسبة لهم حلمًا بعيد المنال ولكنه ليس مستحيلاً.

- هل تحتاجين إلى مساعدة؟

استخدم رجل يحمل كومة من الكتب يده الحرة لإنشاء إسفين بين كتابين، بالقرب من وجهها لدرجة أنها تمكنت من رؤية الحواف المهترئة لخيط أزرق وأبيض مربوط حول معصمه. تراجعت خطوة إلى الوراء، مندهشة، وشعرت بالزوايا الحادة والصلبة لكومة كتبه تحفر في عمودها الفقري.

قال:

- أوه، آسف .

شعرت بيده تضغط لفترة وجيزة على كتفها من خلال قميصها، كما لو كان يعتقد أنها على وشك الإطاحة، أو ربما كان يحاول فقط حماية كتبه.

حاولت ألا تجفل أو تبدو مرتبكة للغاية. لقد كان أطول منها، لكنها كانت ترى الآن أنه كان صغيرًا، وربما لا يزال طالبًا جامعيًا.

قالت:

- أريد خريطة.هل تباع هنا؟

قال:

- نحن لا نبيع الخرائط، لكن يمكنني أن أريكم بعض الكتب التي تحتوي على خرائط . ما هي المنطقة التي تريدين رؤيتها؟

عندما قال هذا، وضع كتابًا على الرف: "الوقت الذي أمضيته في إنجلترا: مذكرات". على مستوى عينها، كان هناك عصبان يسيران بالتوازي مع رقبته المدبوغة، واستقرت مجموعة من البثور على حافة فكه.

- كلها.

- فهمت. أنت في القسم الخطأ.

قال لها أن تتبعه. وبينما كانا يتجولان في المتجر، كان يتوقف أحيانًا فجأة ويضع كتابًا في صف ما، كما لو كان يحفظ الموقع الدقيق لكل كتاب. من الخلف، شاهدت قميصه الضخم ينتفخ حول جسده النحيل، واعتقدت أنه يذكرها بابن عمها، الذي كان أيضًا طويل القامة وشابًا ويمسك نفسه بنفس الطريقة المتشددة والمتيقظة. كان ابن عمها قد ترك المدرسة الثانوية وكان يعمل في ورشة إصلاح الدراجات النارية في قريتهم. في المرة الأخيرة التي عادت فيها إلى المنزل، كان يغازل فتاة ذات وجه رائع ناعم ومشرق مثل وجه طفل. في أحد الأيام، وضعت يزي سلة من ثمار الكاكي عند باب والدته الصماء ورأته يقود الفتاة إلى قطعة من الغابة خلف المنزل. الطريقة التي سقط بها رأس الفتاة على كتفه جعلتها تتراجع. لقد رأته يزي وهو يركض حول فناء منزلها بملابسه الداخلية عندما كان طفلاً صغيرًا وعلمته كيفية ركوب الدراجة. على الرغم من أنها عرفت أنها يجب أن تغادر، إلا أنها شعرت فجأة بجذورها على الأرض، كما لو أنها أصبحت شجرة. وقفت بجانب الباب لفترة طويلة، تستمع إلى دوامة من الصرير البري ترتفع فوق الغابة وتشعر بأن المحلاق الدافئ يزحف إلى رقبتها.

قال الشاب، وتوقف تماماً في النهاية:

- كتب الجغرافيا العالمية موجودة هنا،لدينا الكثير، الذي يغطي جميع المناطق.

ثم انحنى وسحب مجلدًا صغيرًا من الرف السفلي.

- هذه هي النسخة الأكثر إحكاما لدينا. اعتمادًا على الغرض الذي تستخدمه من أجله، لا بد أن يكون هذا هو المناسب.

وعندما شكرته، أومأ برأسه وقال:

- إذا كانت لديك أسئلة أخرى، يمكنك أن تجديني دائمًا .

لقد توقف للحظة قبل أن يبتعد، وتضاءلت كومة الكتب التي بين ذراعيه الآن إلى كتابين فقط. نظرت إلى السوار الموجود على معصمه مرة أخرى وتساءلت عما إذا كان لديه صديقة صنعته له.

اشترت الكتاب وتصفحته في الحافلة إلى منزلها. أدركت أن الكتاب لم يكن مفيدًا بأي شكل من الأشكال إلى جانب تحديد المدن وأنظمة الطرق في أي بلد. لم يكن هناك وصف لعادات المكان، ولا تعليق على تاريخه أو مناخه. كانت سان فرانسيسكو على ساحل المحيط الهادئ، وليفربول على جزيرة، وتورونتو وشيكاغو بالقرب من البحيرات الكبيرة. يبدو أن الجميع قد انتقلوا إلى مكان قريب من مسطح مائي. لقد تساءلت دائمًا: هل ستكون شخصًا مختلفًا بعض الشيء إذا عاشت على شاطئ مساحة شاسعة من المياه، تساءلت دائمًا: هل ستكون شخصًا مختلفًا بعض الشيء إذا عاشت على شاطئ مساحة شاسعة من المياه، شخصًا لديه فهم أفضل للروعة والخطر واللاحدود؟ كان من الصعب التسليم بهذا. لقد عاشت في أماكن غير ساحلية طوال حياتها.

وفي نهاية الأسبوع التالي، زارت القرية الشمالية الصغيرة التي نشأت فيها. لقد اعتقدت أنه من المناسب إعلان خبر خطوبتها شخصيًا، رغم أنها شككت في أن والدتها لن تعبر عن أي شيء سوى الموافقة المعتدلة. على عكس الآباء الآخرين في القرية، كان لدى هوا آراء قليلة حول قرارات حياة طفلها.

وفي وقت سابق من الصيف، أحضرت ييزي بو إلى منزلها للمرة الأولى.

- ما رأيك ؟

سألت هوا بعد أن عاد بو إلى تشانغشا وأصبح منزلهما هادئًا مرة أخرى،ولم يصدر صوت طقطقة إلا مع صوت قيامهما بالأعمال المنزلية جنبًا إلى جنب. كانت هوا تتكئ على باب المطبخ الذي يفتح على فناء منزلهم، وترمي حبات الذرة إلى الدجاج.

- ليس سيئًا. هو طويل.

- نعم.

- لقد حان الوقت لكي تتزوجي.

- نعم.

ألقيت في الريح حفنة أخرى من الذرة. احتشد الدجاج.

- يبدو أنه لائق بما فيه الكفاية. لا تضيعا المزيد من الوقت.

انتظرت والدتها لتقول المزيد، لكن هوا ذهبت إلى الجانب الآخر من الفناء لإحضار المزيد من الذرة، مما يشير إلى انتهاء محادثتهما. استدارت ييزي منزعجة، ومشت عبر المطبخ وخرجت من الباب الأمامي، وجلست بتثاقل على جذع أسمنتي ساخن على جانب الطريق. بدت والدتها غير معجبة بصفات بو الواضحة المثيرة للإعجاب: مظهره الأنيق، وخلفيته العائلية، وأخلاقه الحميدة، وتعليمه. ألم تدرك أنه كان إنجازًا لها أن تجد رجلاً مثل هذا؟ في اليوم السابق، كان بو أليفا ومهذبا بشكل استثنائي، حيث ساعد والدتها في نقل أوعية الحساء من موقد الفحم إلى الطاولة، وجلس معها على الأرض بينما كانت تقشر البازلاء. ألم تدرك هوا أن معظم الرجال لن يفعلوا هذه الأشياء؟

الآن، بعد يوم كامل في القطار، سارت مجهدة على الطريق الترابي المألوف الذي يمتد بين محطة القطار ذات الرصيف الواحد ومنزل طفولتها، وهي تعيد المحادثة في ذهنها. شعرت بالذعر. كان عليها أن تذكر نفسها بأن حياة والدتها كأرملة فلاحية أمية كانت عبارة عن طريق طويل وضيق، لم يتميز إلا بأحداث مثل الزواج، وولادة الأطفال، ووفاة زوجها، وفي حالة هوا، وفاة أحد أفراد أسرتها. رجل. طفل كان من الطبيعي أن تكون هذه هي المقاييس الوحيدة التي تقيس بها الحياة، وأن تنظر إليها بنفس الطريقة الواقعية التي تستيقظ بها قبل الفجر كل يوم لتخصيب محاصيلها وإطعام دجاجها. ولكن مرة أخرى، هل كانت حياتها مختلفة؟ وسرعان ما ستنتقل إلى شقة أكبر قليلاً، وتأخذ طفلاً إلى المدرسة بالدراجة، وترى نفس زملاء العمل كل يوم حتى التقاعد. لن يكون هناك أية مفاجآت أبدا.

وسمعت أحداً ينادي باسمها. كانت ابنة العم يو، تلوح لها من الفناء الأمامي لمنزلها، وتمسك إحدى يديها بسلة من البطاطس والأخرى تمسح يدها بمئزرها. لوحت يزي لترد التحية لكنها تظاهرت بأنها في عجلة من أمرها، لأنه لا تريد التورط في ثرثرة القرية. وعندما ظنت أنها أصبحت بعيدة عن الأنظار بأمان، أبطأت سرعتها ونظرت إلى الوراء نحو الفناء. نعم، كانت لا تزال هناك شجرة الصفصاف الصفراء، والقطط الضالة تتجمع بجوار بئرها.

قبل وفاة العم يو بسرطان البنكرياس عندما كانت في سن المراهقة، كانت ساحة منزله الأمامية هي مكان تجمع الأعمام العاطلين عن العمل في القرية للعب الورق. لقد لعبوا على طاولات مؤقتة، بدون قمصان، ولفائفهم من الجلد الفضفاض بنية ومرقطة. عندما كانت والدتها تعمل بعيدًا، ولم تكن هناك مدرسة، كان يسمح أحيانًا ليزي بإحضار كرسي صغير والجلوس بالقرب منه. ركضت حول الطاولات، تطارد اليعسوب، واستطاعت رؤية أوراقهم وكيف يلعبون كل دور. يقولون "ركزى على دراستك". "اقرأى الكتب. لا تكونى مثلنا." ما زالت تحسب تلك الأيام المشمسة الطويلة - بعيدًا عن مسؤوليات الأعمال المنزلية والواجبات المدرسية، عندما بدا الوقت نفسه وكأنه توقف في مكان ما لتأخذ قيلولة - من بين ذكريات طفولتها الأكثر راحة.

ثم كانت هناك زوجات الأعمام، اللاتي يأتين إلى الطاولات من وقت لآخر ويوجهن الإهانات. كن يطلبن من رجالهن أن يفعلوا شيئًا مفيدًا لمرة واحدة،وفي بعض الأحيان كن تأتين ومعهن مكانس يهددون بوضعها على ظهورهم التي أحرقتها الشمس. ولهذا السبب، ارتبطت أوراق اللعب بالفشل وخيبة الأمل ولم تلمس مجموعة أوراق اللعب حتى الكلية. وهناك، في الفصل الدراسي الأول لها، مرت بمجموعة من طلاب الرياضيات يلعبون لعبة مألوفة في الفناء. "هل ترغبين في الإنضمام إلينا؟" نادى عليها صبي. "لا تقلقى، نحن لا نلعب من أجل المال." انتهى بها الأمر بالفوز بثماني مباريات متتالية في تلك الليلة. قالت وهي تحاول التخلص من انتصاراتها: "حظ المبتدئين". ومع ذلك، بعد ذلك، بدأ نفس زملاء الدراسة الذين تجاهلوها أثناء جلسات مراجعة الامتحانات ينظرون إليها باهتمام مدروس.

كانت هوا تكنس الفناء الأمامي لمنزلهما عندما وصلت. لقد أصبحت الآن امرأة منهكة، عقدية ومتقلبة. عندما رأت ابنتها، أسقطت المكنسة وسارت مرتعشة قليلاً، ممسكة بكم بلوزة يزي الجديدة. في المقابل، أمسكت يزي بمعصم والدتها الآخر. بدا لها أنهما لم يتلامسا إلا بطريقة عابرة ومفاجئة. منذ أن غادرت المنزل في السابعة عشرة من عمرها، كانت تعود في عادة فقط في أيام العطلات، ولم تكن أبدًا مفاجئة.

قالت والدتها، وهي تقصد ذلك كمجاملة:

- لقد أصبحت أكثر بدانة .

ولم تتفاجأ والدتها عندما أخبرتها بالخطوبة، وأصرت على ذبح دجاجة احتفالاً. وعلى العشاء، قامتا بدفع قطع الدجاج بصمت في أوعية بعضهما البعض. في بعض الأحيان، كانت والدتها تتحرك وتذكر خبرا مقتضبًا مثل: "لقد أنجبت ابنة العم ليو ولدين توأمان" أو "إنهم يبنون طريقًا جديدًا خارج منزلنا". أومأت يزى برأسها ردًا على ذلك وأطلقت التعليق المناسب، مدركة أنه مثل المرة الأخيرة، لن تنقل هوا أي آراء أو نصائح أخرى بشأن زواجها الوشيك.

على الأقل لم يعد هناك حديث عن عودتها. قبل ست سنوات، عندما أصبحت أول شخص يذهب إلى الكلية في قريتهم بأكملها، قامت هوا أيضًا بذبح دجاجة للاحتفال. لكن بينما كانتا تأكلان، كانت تترك عيدان تناول الطعام الخاصة بها تتوقف في الهواء وتقول:

"في يوم من الأيام، عندما تريدين العودة إلى هنا، يمكنك ذلك".

شعرت بكلمات والدتها وكأن الماء البارد يُسكب عليها. لقد فكرت، إلى أي مستوى يجب أن أغرق لأعود؟

بالتأكيد، لن يحدث ذلك أبدًا الآن. لقد حشرت نفسها في شقوق تشانغشا، حتى لو وجدت قبحها لا يطاق تقريبًا، وحافلاتها منتفخة ووحشية، وحشود الأجساد تنبض في شوارعها مثل الحشرات. في أسبوعها الأول في الكلية، شاهدت آثار حادث سيارة خارج البوابات الرئيسية للحرم الجامعي. احترقت إحدى لوحات الترخيص وتحولت إلى قشرة سوداء، وكان الإصبع المقطوع ملقى على الحصى. وجدت نفسها غير قادرة على إبعاد عينيها عن النيران التي تلتهم الجثة المعدنية. في ذلك الوقت، اعتقدت أن تشانغشا قد تسحقها، لكن ما فعلته حقًا هو إعادة ترتيبها. جعلتها جديدة. والآن، مع بو، نجحت في تحقيق البقاء هناك، على عكس توقعات والدتها.

ومع ذلك، عندما استعدت للعودة إلى المدينة بعد يومين، حشوت والدتها بيضًا مسلوقًا في حقيبة ظهرها وربتت على خديها، تمامًا كما كانت تفعل في كل مرة ذهبت فيها يزي إلى مدرسة داخلية عندما كانت مراهقة.قالت هوا:

- اعتني بنفسك .تناولى الطعام جيدًا، ونامى جيدًا.

- حسنا . اعتني بنفسك.

قالتا نفس الكلمات لبعضهما البعض عند كل فراق. وعندما استدارت للصعود إلى القطار، شعرت بسيل مفاجئ من الدموع، جعلها تسرع في صعود الدرج، والجلوس على مقعدها، والابتعاد عن النافذة حتى لا تتمكن والدتها من رؤية وجهها من الرصيف. لقد أدركت أنه على الرغم من كل شيء ،كانت والدتها، ولن يهتم بها أحد مثلها بنفس الطريقة. ولا حتى بو.

بعد ظهر ذلك اليوم شاهدت قطارها يمر بسرعة عبر الأراضي الزراعية وواجهات المتاجر الملتصقة ببعضها البعض بواسطة الطرق الموحلة. بعد أن توقف القطار في بلدة لم تتمكن من تمييز اسمها من خلال جهاز الاتصال الداخلي، استولى رجل على السرير المقابل لها، ووضع حقيبة سوداء من القماش الخشن تحت قدميه.كانت الحجرة التي يتقاسمانها، والتي تحتوي على سريرين بطابقين جنبًا إلى جنب، صغيرة بما يكفي بحيث يمكنها شم رائحة العرق والديزل المنبعثين من قميصه الكتاني. قام على الفور بفك أزراره وهو جالس، وكشف عن قميص أبيض بال تحته، كانت أحزمتها ملتصقة بحافة كتفيه الصلبتين، ذات اللون البنى وملساء بسبب العرق. المرأة التي كانت في السرير فوقها لم تتحرك عندما دخل الرجل؛ لقد كانت نائمة كالجثة منذ أن غادر القطار القرية.

سألت ييزي الرجل عن المحطة التي مرا بها للتو فذكر اسم مدينة لم تسمع عنها من قبل.

- إلى أين أنت ذاهبة يا آنسة؟

أخرج علبة سجائر من جيبه وولاعة. قام بحركة بيديه نحوها. هزت رأسها بالنفى .

قالت:

- تشانغشا .

- أنا ذاهب إلى ووهان.

بدأا محادثة حول المكان الذي أتيا منه والمكان الذهابين منه. قامت بتقييم يدي الرجل العريضة وذراعيه السميكتين، والأهلة الداكنة على أظافره. كانت هناك قصص بين صديقاتها عن المنحرفين والملاحقين في الحافلات والقطارات الذين يفعلون أشياء فظيعة مع النساء اللاتي يصرحن بالكثير من المعلومات الشخصية. يمكنه بالتأكيد التغلب عليها إذا أراد ذلك، وخنقها بتلك اليدين. ومع ذلك واصلت المحادثة.

وأوضح الرجل، الذي قدم نفسه على أنه تشانغ دايمين، أنه رجل أعمال. كان يمتلك سلسلة متاجر تبيع منتجات متخصصة من الريف بكميات كبيرة، أشياء مثل التوابل والفواكه المجففة والفول السوداني والصابون المصنوع يدويًا. في ووهان سيفتتح متجرًا جديدًا. استخدم الرجل جسده بالكامل وهو يتحدث، يومئ بسيجارته المتدلية بين أصابعه، واقترب أكثر عندما سألته عن سير العمل. كانت الأعمال مزدهرة. نعم، في الواقع، كانوا يرفعون الأسعار. أحب سكان المدينة الوصول إلى المنتجات الطازجة من المزرعة.

قالت متأملة:

- تصنع والدتي معجون الفاصوليا الحمراء والخضروات المخللة، وأحيانًا أغطية وسائد تُخيط يدويًا. إنها تبيع بضائعها فقط في قرى أخرى - بعيدة سيرًا على الأقدام.

- بالضبط. انظرى، ما أفعله هو ربط العملاء بالبائعين بطريقة أكثر ملاءمة. الجميع يكسب.

ولم تقابل رجل أعمال من قبل. بعد التخرج، تم تعيين كل من اختار التخلي عن المزيد من الدراسة في وحدة عمل. وقد عين الأشخاص غير المحظوظين في وحدات في المدن النائية. تعيش نيا الآن في منطقة جبلية في الجنوب الغربي، تقضي أيامها في محطة فضائية. في المكان الذي عاشت فيه نيا، كان الطعام سيئًا، والناس فظين، وكانت فرص الزواج بالنسبة للمرأة المتعلمة في الجامعة ضئيلة. كانت رسائلها إلى ييزي في البداية مليئة بالاستياء والألم، ثم تحولت في الأشهر الأخيرة إلى الهزيمة. ولكن بغض النظر عن المكان الذي انتهى بهم الأمر، كان جميع زملائها في الفصل يعملون في وظائف روتينية برواتب صغيرة وترقيات غير متكررة. لم يسافر أحد كثيرًا. وحتى مع التغيير الأخير في السياسة الاقتصادية، لم يرغب معظم الناس في المخاطرة بأوعية الأرز الحديدية التي توفرها لهم وحدات عملهم.

لقد كان هذا الرجل في كل مكان. وقال إن سهول منغوليا الداخلية لا نهاية لها. غروب الشمس أشعلها باللون الأحمر، ولم يشعر قط بالوحدة في حياته كلها أكثر مما شعر به وهو ينظر إلى تلك الأرض. كانت جبال قويلين ناعمة ومستديرة، مثل الإبهام. كان الطبق المميز هناك هو القواقع، والتي يجب على المرء دائمًا تناولها مع البيرة الباردة. لقد ذهب إلى تشانغشا أيضًا. كانت هناك سلسلة جبال شهيرة ليست بعيدة عن المدينة، تبدو قممها مثل الصخور التي ترتفع في الهواء. هل كانت كذلك؟

قالت وهي تومئ برأسها:

- لقد سمعت عنها.

كان هذا هو رد فعلها المعتاد كلما أخبرها الناس عن أماكن خيالية لم تزرها من قبل، كما لو أن مجرد معرفتها بوجود مكان ما يقربها منه.

قال:

- اذهب في يوم غائم .الأفضل بعد ليلة ممطرة.

ومضى للحديث عن شنغهاي، رحلته الأخيرة. حسنًا، كانت شنغهاي شيئًا آخر. بقيت الأضواء مضاءة طوال الليل. كان هناك أجانب، أشخاص بيض ذوي رموش شقراء وعيون زرقاء يتجولون في شوارع معينة، إذا كنت تعرف أين تبحث عنهم. . وبينما قال هذا، أدركت أنها طوال الوقت الذي كانت تنظر فيه إلى خرائط أمريكا وكندا، كانت تتخيلها مليئة بالشعب الصيني. كان هناك باحث زائر في الكلية، خلال سنتها الثانية، جاء من ولاية كنتاكي، وكان شعره أشقر ورموشه شقراء. لقد كان يصدمها دائمًا على أنها ضعيفة، وأثيرية تقريبًا. تخيلت أنها في شوارع مليئة بأشخاص يشبهونه. ستشعر وكأنها على كوكب غريب.

غمر الضوء البرتقالي المنبعث من غروب الشمس مقصورتهما وأغرق وجه الرجل. خمنت أنه لا يمكن أن يكون قد تجاوز الثلاثين من عمره ، على الرغم من أن وجهه كان متجعدًا بشكل ناعم وسمرة غير متساوية، وكان على وشك الخراب - ربما بسبب السفر المستمر، والتدخين، والأيام الطويلة التي قضاها تحت الشمس الحارقة، والتفاوض مع المزارعين.

أخبرها أن المكان الذي جاء منه ليس مثل شنغهاي مُطْلَقاً. لقد كان مكانًا صغيرًا في يوهان حيث بدا وكأن الجميع ماتوا قبل أن يكبر أطفالهم، بما في ذلك والديه. لقد بدأ كعامل مهاجر في مصنع للأحذية، حيث كانت وظيفته هي خياطة أجزاء من جلد البقر يدويًا للنعال الداخلية للأحذية. في نهاية المطاف، تسبب مزيج من الحركة المتكررة والمحاليل الكيميائية التي كان عليه استخدامها في فقدان الإحساس في أطراف إصبعيه السبابة والإبهام.

وقال وقد تسللت ابتسامة على شفتيه:

- يمكنني أن أضع ولاعة على إبهامي الآن ولن أشعر بأي شيء .

تخيلت أن رائحة اللحم المحروق تملأ مقصورتهما وجفلت. ومع ذلك وجدت نفسها تقول:

- حقًا. دعنى أرى.

رفع حاجبيه مستغرباً. لكن دون احتجاج، أخرج الولاعة من جيبه ووضعها على الطاولة بينهما. قال وهو يستند إلى وسادته:

- أشعليها.

بدأت بالضحك، لكنها توقفت بعد ذلك. كان يتأملها ولا يبتسم.

كانت تعلم أن التراجع الآن سيكون بمثابة موقف ضعيف ، مثل خسارة مباراة. وصلت ببطء إلى الولاعة ومدت إبهامها على دولابها المعدني الصغير. استغرق الأمر عدة محاولات قبل أن يومض اللهب أخيرًا. انحنى مرتين ومد إبهامه إليها مثل الشمعة. وجدت نفسها مرتين تطلق المفتاح، وتترك الشعلة تنطفئ في الثانية الأخيرة. شعرت بكفها زلقة من العرق. أخيرًا، سند يدها بيده الأخرى، ممسكًا بالولاعة بثبات بينما ترك اللهب يلعق إبهامه السيئ.

ولم يظهر على وجهه أي رد فعل. وبعد بضع ثوان، سحب إبهامه إلى الخلف ونفخ فيه، كما لو كان من أجل الحظ. ابتسم ابتسامة عريضة. يده الأخرى، التي كانت لا تزال ممسكة بيدها، أخرجت أصابعها من الولاعة بلطف وأبعدتها عنها. يمكنها أن تشعر بالنتوءات الصلبة لبشرته تضغط على مفاصل أصابعها.

أخذت يدها في حضنها. ثم ضغطت على الزجاج البارد بخدها، الذي كان مشتعلا بالحرارة حتى أذنها. وقالت إنه قد يكون هناك مرهم ليده. وكانت والدتها تعاني من مشاكل في أصابعها أيضًا بسبب عملها كخياطة. عندما كانت فتاة، شاهدت والدتها وهي تنقع أصابعها في خليط من جذور الزنجبيل المغلية ودهن الخنزير.

من المؤكد أن بو كان سيضحك على هذا الاقتراح. على الرغم من أنه لم يدرس الطب، إلا أنه غالبًا ما كان يتصرف كقناة للمعرفة الطبية الصحيحة ويرفض أي شيء غير علمي. وفيما يتعلق بالآلام والأمراض، كان يجيب عادةً قائلاً: "كان لدى والدي مرضى . . . " أو "كانت والدتي تقول دائمًا . . "

أدركت الآن أنها كانت المرة الأولى التي تفكر فيها في بو منذ فترة طويلة.

قالت:

- يمكنك أيضًا أن تحاول .

قال إن عنده الكثير من دهن الزنجبيل ولحم الخنزير ؛ يمكنه تحضيره بسهولة.

مر رجل بعربة يبيع عبوات صغيرة من الوجبات الخفيفة وألعاب الأطفال.اشترى دايمين كوبًا من الشاي الساخن وشربه بسرعة.وعندما بدأت العربة في التحرك بعيدًا، صرخت للبائع قائلة: "انتظر"، وأشارت إلى مجموعة البطاقات المتنوعة المصطفة بجوار عبوات الرامن (نوع من الحساء).

سألته بعد أن دفعت ثمن طابقين: هل تلعب؟

- بالتأكيد.

- ما هي الألعاب التي تعرفينها؟

- كل الألعاب المعروفة .

فضت الغلاف وخلطت الطابقين معًا. راقبها وهي تتحرك، وعيناه تتحركان من أصابعها إلى وجهها، ثم تتراجعان مرة أخرى. وضع بقايا سيجارته في بقايا الشاي الرطبة.وقال:

- سأجد المزيد من اللاعبين لنا .

عاد برفقة امرأة في منتصف العمر ورجل أصلع قصير اعتقدت في البداية أنهما شقيقان. لقد اشتركا في نفس الظهر المنحني والفك المربع والعينين البارزتين. قاما بضغط أجسادهما في المساحة الفارغة على الأسرة وبدأا على الفور بالتناوب في سحب البطاقات من سطح الطاولة، ولم يبدوا مهتمين بالدردشة باستثناء مشاركة ألقابهما وحقيقة أنهما كانا مسافرين لزيارة ابنتهما في شنتشن.

بدأ الأربعة بألعاب بسيطة يعرفها حتى الأطفال، ثم انتقلوا إلى لعب ألعاب أكثر تعقيدًا تتطلب منهم تشكيل تحالفات. انتصف الليل وأضاءت أضواء الفلورسنت في الأعلى. لعبت هي ودايمين بضع جولات كشركاء في لعبة تسمى تراكتور، وفازا مرتين وخسرا مرة واحدة. كان للزوجين ميزة غير عادلة؛ فقد استطاعت من سرعتهما الماكرة أن تدرك أنهما رجلان كبيران في السن يجيدان اللعب معًا. في نهاية كل لعبة، كان الرجل العجوز يقول دائمًا: "مرحبًا، دعنا نرى ما سيحدث بعد ذلك"، وكانت المرأة العجوز دائمًا تخدش الشامة في الفم بخنصرها وترد:

- قم بخلط الأوراق جيدًا، سوف ترى.

في منتصف الجولة الرابعة، بينما كانت تفكر في البطاقة التي ستلعبها بعد ذلك، شعرت ييزي بشيء يضغط على كاحلها. مقبض. خلسة، نظرت نحو الأرض ورأت أن حذاء دايمين الجلدي كان يلامس كاحلها العاري. عبر الطاولة كانت عيناه الداكنتان مغمضتين، لكنها فهمت. لعبت وفقا لذلك. في المرة التالية كان دورها – اضغط اضغط.

لقد لعبوا بهذه الطريقة حتى نهض الزوجان، بعد سلسلة من الخسائر، اشتكيا من برودة القطار. بعد أن غادرا، التفتت إليه، ورأت أن وجهه، مثل انعكاس صورتها في النافذة، كان شاحبًا ولكنه مشرق من الإثارة.

قالت:

- لقد كنت تغش .

- كنا نغش.

- حسنا عدالة.

- رأيت المرأة تقبض فكيها نحو الرجل. قبضتان سريعتان تعنيان أنها لم تحصل على ما يحتاجه.

هز كتفيه:

- عليك أن تحاكي استراتيجية خصمك.

أشعل سيجارة أخرى.

- في المباريات القليلة الأولى، عندما كنا نلعب بشكل فردي،هل كنت تخسرين عمدًا؟

- ليس من الممتع أن يستمر شخص واحد في الفوز.

ضحك:

- كيف تعلمت اللعب بشكل جيد؟

- من خلال المشاهدة .

وعلى الرغم من توقفهما عن اللعب، إلا أن حذائه كان لا يزال مضغوطًا على كاحلها. لقد انتزع منها ألمًا بطيئًا ودافئًا. وفوقهما تحركت المرأة النائمة، ثم هدأت مرة أخرى. نظرا إلى بعضهما البعض لفترة طويلة.

- يجب أن تنزلى معي في ووهان. سنصل قبل الصباح.

أخرجت من حلقها ضحكة صغيرة ساخرة.

- لا أستطيع أن أفعل ذلك.

- لديك شخص ما بالفعل.

- أعتقد ذلك.

مد يده إلى حقيبته، وأخرج دفترًا صغيرًا، وكتب عليه العنوان ورقم الهاتف. "إذا كنت بحاجة إلى أي شيء،" قال وهو يمزق الصفحة ويمررها على الطاولة. حدقت في التراب تحت أظافره، وتذكرت كيف لاحظت الاتساع الوحشي ليديه عندما جلس لأول مرة. تصورت نفسها وهي تنزل من القطار معه. يمكن أن يذهبا إلى فندق رخيص، حيث يمكنه أن يأخذها على السرير، ويتظاهر باللياقة بطريقة تثيرهما معًا، ثم يذهبان لتناول وجبة من معكرونة السمسم الساخنة والجافة. أو يمكنه استدراجها إلى حديقة نائية واغتصابها وقتلها.

في الصباح استيقظت على المقصورة فارغة. لقد رحل كل من دايمين والمرأة التي كانت تنام في الطابق العلوي.

**

خلال استراحة الغداء التي استمرت لمدة ساعة في وحدة تصنيع أسطح العمل رقم 2 في تشانغشا، كانت النساء في العشرينات من أعمارهن يحببن الجلوس معًا. اليوم، قامت إروين، إحدى زميلات يزي في الكلية، بوضع صينية الطعام الخاصة بها بقوة لدرجة أن بعض حساء الأعشاب البحرية البني تناثر على ياقتها البيضاء.

سألت:

- هل تتذكرين زميلتي في الكلية؟ تلك القصيرة واللطيفة التي تدرس اللغة الروسية؟

عندما أومأت بيزى برأسها، نقرت إروين بلسانها والتفتت إلى النساء الأخريات.

- لقد تقدم رجل يعيش في أمريكا لخطبة زميلتي في الغرفة في الكلية. واستمعن إلى هذا  لقد اختارها من بين مئات الصور في كتابنا السنوي. على حين لم يلتقيا قط.

ثارت هناك ضجة على الطاولة. قال إحدى المحاسبات:

- ماذا؟

وقال أخرى:

- أنت تمزحين. أين في أمريكا؟

- شيكاغو.

حاولت يزى إبقاء صوتها فضوليًا بشكل طفيف فقط.

- لقد قدم عرض الزواج في الرسالة؟

- لقد كتب أنه يبحث عن صديقة. ولكننا جميعا نعرف ماذا يعني ذلك.

- لا أستطيع أن أصدق أن هناك شيئًا جيدًا كهذا تحت السماء!

قالت امرأة أخرى:

- لقد انتقلت ابنة أخت جارتي للتو إلى أمريكا لإكمال دراستها العليا . ما هي الدولة التي تسمى - كان، كان ..

قالت يزي:

- كانساس؟

- ربما. انا لا اتذكر. لكنها تعيش حياة عظيمة. إنها تأكل أفخاذ الدجاج والموز كل يوم. فهي رخيصة هناك وتأتي في أكياس كبيرة.

سألت إحدى المحاسبات الجدد، ذو الوجه المربع:

- إروين، هل سترد عليه صديقتك؟ إذا لم تفعل ذلك، سأفعل أنا .

قالت إروين:

- مستحيل. فكرى في الأمر - الرجل الذي يرسل رسالة كهذه طوال الطريق إلى هنا لا بد أنه يائس للغاية. ومن يعرف ما هي المشاكل التي لديه.

قالت زميلة إروين في المكتب:

- أنت لست مخطئًة. قد يكون غريب الأطوار .

قالت المرأة ذات الوجه المربع بحزن:

- ومع ذلك سأذهب إلى أمريكا لمقابلة شخص غريب الأطوار .

وجدت صعوبة في أن تكون منتجة لبقية اليوم. كلما نظرت عيناها إلى الأرقام الموجودة في ورقة الميزانية أمامها، كانت تتخيل الرجل الأمريكي في مكان أجنبي بأثاث غريب، جالسًا على الأرض، محاطًا بنسخ ونسخ من نفس الرسالة. شعرت بأنها رخيصة ومزعجة. الطريقة التي كتبت بها الرسالة، مع هالتك الأنيقة وابتسامتك اللطيفة، جعلتها تفيض بشعور من الاعتراف والحميمية. طوال هذا الوقت لم تكن تعرف كيف ترد لأنها تخيلت أن لي مين رجل انطوائي لكنه عاطفي للغاية، من النوع الذي يتطلب شجاعة هائلة لكتابة هذا النوع من الرسائل.

في الواقع، ربما كان وحيدًا ويائسًا بشكل مثير للشفقة، كما قالت زميلاتها في العمل. لقد تخيلته وهو يسيل لعابه على صور النساء ويداعب نفسه وهو يتجول بعينيه على وجوههن المبتسمة. ربما اختارها لأنها بدت محتشمة بشكل خاص في صورتها، وحتى خجولة، مما جعلها أكثر إثارة، وهو صندوق سيتعين عليه فتحه. زميلة إيروين في الكلية، والمتلقي الآخر للرسالة (الذي كان يعرف عدد الأشخاص الآخرين الموجودين هناك)، كانت على هذا النحو: لطيفة، معسولة الكلام، ودائمًا ما تعيد تصفيف ضفائرها بعصبية. أو ربما كان ببساطة فضولية بشأن نوع المرأة التي سترد، تمامًا كما كان فضولية بشأن نوع الرجل الذي سيكتب رسالة كهذه.

ثم كان هناك الرجل من القطار. يبدو أنها لم تتوقف عن التفكير فيه للحظة خلال الأسابيع الثلاثة التي تلت عودتها إلى تشانغشا. حتى نفحة من السيجارة الرخيصة التي كان يدخنها، وهي ملقاة في محطة الحافلات،، التي تنطلق في الهواء خارج صالات ماه جونج، وتتدحرج على أجساد الرجال الذين يعملون في مواقع البناء - كانت كافية لجعلها تشعر بهذا الألم البطيء والدافئ مرة أخرى. في بعض الأحيان كانت تجد نفسها تفكر فيه حتى وهي تجلس بجوار بو مباشرة وتناقش حفل زفافهما. لقد أدركت أنها إذا فكرت مليًا في الأمر، فلن تتمكن بعد الآن من التأكد من شكل وجهه. لكنها تذكرت أجزاء مميزة منه بوضوح شديد. وكانت صورة يديه، أو كتفه، ترتفع أمام عينيها كالشبح، بدون داع .

وبسبب أحلام اليقظة، وجدت نفسها بحاجة إلى البقاء في المكتب بعد الساعة العادية، مسرعة لإنهاء مهام اليوم. بحلول الوقت الذي غادرت فيه، كانت مصابيح الشوارع مضاءة ووصلت نحو السماء الأرجوانية المتسعة. ومن دون تفكير، وجدت نفسها تنزل من الحافلة قبل محطة واحدة وتسير إلى محطة الهاتف العمومي.

أدخلت الرقم الذي حفظته وشاهدت السيارات تتدفق بينما رن الهاتف مرة ومرتين. في الرنة الثالثة: -مرحبًا؟ كان الصوت الذكوري على الطرف الآخر مشوهًا، ومشوهًا بالكهرباء الساكنة، لكنه هو صوته بشكل لا لبس فيه.

انتظرت للتسمع . ثم تمكنت من الصراخ:

- مرحبًا.

- من هذا؟

بدا الرجل غير صبور. سلكت حلقها.

قال مرة أخرى:

- مرحبًا؟

- إنها ييزي، من القطار.

- آه؟ من؟

- كنا نلعب ..

قال:

- أعتقد أنك ضربت الرقم الخطأ .

على الرغم من السكون، استطاعت أن تستشعر تراجعًا في صوته. كانت هناك فترة توقف، بالكاد محسوسة، قبل أن يغلق الخط.

رمشت بعينيها، واستدارت ببطء لتنظر إلى الطريق، أولاً إلى أحد الجانبين ثم إلى الجانب الآخر، وكادت أن تعمى بسبب المصابيح الأمامية لسيارة قادمة. أعادت الهاتف إلى جهاز الاستقبال لتلتقط أنفاسها.

عادت إلى المنزل ببطء، متخذة الطريق الطويل، على الرغم من أن موعد العشاء كان قد مر والجوع يلاحقها من الداخل. هل كان قد نسيها حقاً؟ هل كانت دعوته مزحة؟ أو ربما اتصلت به في وقت سيء وكان برفقة امرأة أخرى — زوجة، أو صديقة، أو عشيقة.لمعت أمامها صورة كتفيه البنيتين مرة أخرى، وأغمضت عينيها لفترة وجيزة، وتخيلت نفسها تضغط على الذكرى لأسفل، لأسفل، مثل إسقاط شيء ما في بئر طويل مظلم. الحقيقة هي أنها لم تكن تعرف سبب اتصالها به، بصرف النظر عن معرفة ما إذا كانت ستفعل ذلك بالفعل.

في نهاية هذا الأسبوع، خططت هي وبو للقاء عند النهر، حيث سيضعان اللمسات الأخيرة على قائمة دعوات الزفاف. كان كل شيء يحدث بسرعة كبيرة، فكرت وهي تلف سترة صوفية حول كتفيها بينما كان إعصار صغير من الأوراق المتساقطة يتقافز على ممر المشاة. لقد أدى أسبوع من الأمطار المتواصلة إلى خنق ما تبقى من الصيف، ونزع أوراق الأغصان الرطبة.

وفي طريقها إلى النهر، دلفت إلى المكتبة مرة أخرى. هذه المرة كان هناك رجل في منتصف العمر يسجل في السجل. بقيت الأم وابنتها بالقرب من الكتب المدرسية وأمسكتا بأيدي بعضهما البعض .

وبعد مرورها بقسم الشعر والسير، رأت الشاب في قسم العلوم يقف على سلم صغير محاولا الوصل إلى الرف العلوي.

سألت:

- هل تبيعون المفكرات هنا؟

نظر إليها ثم أمال ذقنه وكأنه يخنق ضحكته.

- لماذا تواصلين البحث عن الأشياء التي لا نبيعها؟

قالت:

- لا أعرف.

لقد تذكرها بعد كل شيء.

- كنت أعتقد أن المكتبات سيكون لديها مفكرات.أليس ذلك هو المعتاد؟

نزل من على سلمه:

- المكتبات تبيع الكتب. لم أر مذكرات أو مفكرات معروضة منذ سنوات. لكن دعيني أرى ما يمكنني فعله من أجلك.

شقا طريقهما عبر عدة أرفف. أخذ حلقة مفاتيح من خطاف على جانب المكتب حيث كان الرجل الأكبر سنا يجلس ويهوى على نفسه بمروحة من الخيزران.

سألت وهى تتبعه:

- هل عملت هنا لسنوات؟

- ست سنوات .

- اعتقدت أنك لا تزال في المدرسة.

- أنا في الكلية الآن، لكن أمي وأبي يمتلكان هذا المكان.

مرا بالكتب المدرسية والمجموعات الشعرية ورفوف الكتب الأجنبية حيث تحدثا آخر مرة. ومنذ ذلك الحين لم تكلف نفسها عناء إخراج مجموعة البطاقات أو الرسالة من حقيبتها. أصبح ثقلهم على جانبها مألوفًا الآن.

- لذا فإن العم العجوز في المقدمة ..

- هذا والدي.

- آه. اعتقدت أنني رأيت تشابها بينكما.

توقفا عند الباب، وكان على الشاب تجربة بعض المفاتيح المختلفة قبل فتحه. وعندما دخل دون أن ينبس ببنت شفة، تبعته، وتركت الباب مفتوحًا. في الداخل، كان هناك مصباح كهربائي مكشوف معلق بسلك معدني، بجوار مروحة بلاستيكية ذات شفرة مفقودة. وبصرف النظر عن أرفف الكتب التي تغطي الجدران من الأرض إلى السقف دون أي تنظيم واضح، كانت هناك أشياء غير متوقعة: جرتان عملاقتان من الطين بشفاه متشققة، وملصق بالحجم الطبيعي لمغنية من جيل والديها، وعربة أطفال زرقاء ذات ألوان باهتة. أنماط هندسية. تساءلت إذا كانت هذه تذكارات من طفولة الشاب، وإذا كانت تعني شيئًا بالنسبة له. كان لديها ذكرى واضحة عن دفع شقيقها في عربة الأطفال على الطرق الترابية في قريتهم، وكانت هي نفسها طفلة فقط، وقدماها العاريتين تطحنان أوراق الشجر الميتة بينما كان شقيقها يضحك فرحًا بالسرعة.

فتح الشاب عدة صناديق. من حين لآخر، كانت عيناه تنزلق نحوها، في البداية عندما ظن أنها لا تنظر، ثم بجرأة، ونظراته الطويلة ترسم الدفء على خديها. وسألها عن نوع المفكرات التي كانت تبحث عنها. وأوضحت أنها تحتاج إلى نوع جديد من المذكرات، مذكرة بسيطة لتصنيف أحداث اليوم، وقوائم المهام، وقوائم البقالة، وما إلى ذلك. يجب أن يكون هناك مساحة كبيرة بين السطور. كان خطه يد كبير إلى حد ما.

لقد رفعا أرجلهما عالياً ليرفعا أنفسهما فوق الجرار العملاقة. وعلى الجانب الآخر منهما كانت هناك متاهة من الأرفف التي لم تترك مساحة كافية لشخصين للانحناء دون أن يطرقا رؤوسهما. سألته ماذا كان يدرس في الكلية. وقال إنه لم يكن متأكدا بعد. وقالت:

- خذ وقتك في الاختيار. ليتني فعلت ذلك.

- ماذا درست أنت ؟

- الرياضيات. على الجانب النظري، وإن كان. لقد كانت عديمة الفائدة مثل الفلسفة.

أخبرها أنه كان مهتمًا بعلم الأحياء، لكنه الآن يفكر في التحول إلى علوم الكمبيوتر. كان يشعر بالقلق من أن الأمر قد يكون صعبًا للغاية. وذكّرته بأن الدرجات ليست كل شيء، فمعظم الأشخاص يُعينون في وحدات العمل الجيدة عن طريق المحسوبية. وحذرت قائلة: "تأكد من أنك لا تنسى ذلك". لقد فوجئت بنبرة صوتها المعقولة والصابرة، كما لو كانت معلمته.

ولم تكن تلك نيتها. لقد رأت أنه كان مرتبكًا بسبب التحول في محادثتهما. نظر بعينيه عبر الغرفة المليئة بالخردة، ويبدو أنه غير متأكد تمامًا مما يجب فعله بنفسه. لقد أوضح تردده مدى حداثة سنه وعدم يقينه أمراً لا لبس فيه، ولكنه كشف أيضًا عن مدى مرونته وشفافيته. مد ذراعيه فوق رأسه بحثًا عن صندوق من الورق المقوى البني على رف علوي، واستطاعت أن ترى الخيط الأزرق والأبيض معلقًا على معصمه، رفيعًا ومحكمًا، وخصلة صغيرة من الشعر الداكن تحت إبطه. ولما أنزل الصندوق ليفتحه وضعت أصابعها على سواره ولم تتحرك حتى خفض رأسه ليُقبّلها .

أثناء التقبيل، مرر يده إلى مؤخرة رقبتها وإلى شعرها وسحبها بلطف. أمالت الحركة رأسها، مما أتاح المجال للسانه الكبير الدافئ للدخول إلى فمها. من أجل الاستمرار في مداعبة بعضهما البعض دون إثارة ضجة، قاما بالمناورة حول أكوام الكتب، والجرار، وعربة الأطفال، حتى وجدا مساحة صغيرة بجوار الحائط. واجه صعوبة في فك حزام تنورتها، فقامت برفعها أعلى خصرها، ومن ثم أستطاع أن يدخل أحد أصابعه فى داخلها على الفور تقريبًا. لقد بعث ذلك في داخلها هزة كبيرة من المتعة، دون أي ألمٍ كانت قد توقعته. أمسكت بمعصمه، ولم تسمح له بتحريك يده بينما كانت تهز وركيها ذهابًا وإيابًا ضده، حتى شعرت بدفء مألوف يتراكم في بطنها. ولكن على عكس ما كانت عليه عندما كانت وحيدة في ظلام غرفة نومها، كان هناك الكثير من عوامل التشتيت هنا: سطوع المصباح العاري يؤذي عينيها، والغبار يجعلها ترغب في العطس. في النهاية أفلتت معصمه. مسح الإصبع الذي كان بداخلها على ساعدها، تاركاً خطاً طويلاً رطباً.

وعندما دفع بالانتفاخ في سرواله نحوها، قالت:

- من الأفضل أن نذهب .

لم يحتج، بل اقترب منها مرة أخرى وقبل شحمة أذنها بخفة، وترددت أنفاسه في كهف أذنها.

أعادا ترتيب ملابسهما المبعثرة. ولم تلحظ إلا بعد خروجهما من الغرفة أنه ما زال يحمل الصندوق الكرتوني. مدّت يدها ورفعت الغطاء. كان بداخله ألعاب أطفال مغبرة: دمية ذات وجه رمادي، وكرة بلاستيكية حمراء صغيرة، وعداد مكسور. لم يكن هناك أي دفتر يوميات في النهاية.

لقد تأخرت عن موعدها مع بو. خارج المكتبة، اخترقت التنهدات النحاسية الصاخبة للحافلات العامة الهواء الخريفي الرقيق، وتدافعت أجسادها على الرصيف. ونظرًا لأن لديهما لوجستيات زفاف مهمة يجب مناقشتها، فلن يكون بو سعيدًا. كان عليها أن توضح لنفسها. خطت بضع خطوات باتجاه النهر وشعرت أنها بحاجة إلى الجلوس.

في مكان قريب كان هناك قماش مشمع أزرق اللون منتشر على الرصيف، يعرض مجموعة متنوعة من الأشياء الرخيصة ذات الإنتاج الضخم: أوعية نحاسية حزينة، وملاعق مشقوقة، وصنادل بلاستيكية وردية اللون. كانت صاحبة هذا الكشك غائبة للحظات، فجلست على الكرسي الصغير الموجود خلف البضائع. وعلى مستوى عينيها كانت ركب الناس تتدفق بجانبها. لقد كانت وجهة نظر غريبة أن تكون منخفضًا جدًا على الأرض. وتساءلت عما إذا كان هذا هو شعور والدتها عندما تأخذ بضائعها إلى الأسواق البعيدة وتفرشها على بطانية ولم يسبق لها أن ذهبت في تلك الرحلات؛ ولم تطلب منها هوا (والتها) ذلك قط. ولكن كلما عادت هوا في وقت متأخر من الليل، وكان ظلها الطويل يصل إلى المدخل قبل جسدها، كانت تبدو دائمًا وكأنها نوع من المغامرات الجريئة. سيكون صرير عربتها غاضبًا وبشعًا، لكن رائحتها ستكون مختلفة وجديدة. كانت يزي تمسح حبات العرق عن جبين أمها بيدها الصغيرة، وكانت تتدحرج على الأرض منتعشة مثل المجوهرات.

- مهلا، هذه هي أغراضي، أيتها اللعينة!

يبدو أن امرأة ترتدي قميصًا أحمر مبهرج ظهرت من العدم واندفعت نحوها.

فأسرعت بالوقوف.تمتمت

- آسفة، آسفة .

نظرت إليها صاحبة القماش من أعلى إلى أسفل بشكل مثير للريبة. كانت في منتصف العمر، قصيرة القامة، ممتلئة الجسم، مثل ثور صغير.

- لقد كنت متعبًة فقط ..

قالت المرأة باقتضاب:

- دعيني أرى أنك لم تسرقى شيئا.

وقبل أن تتمكن من الاحتجاج، مدت المرأة يدها إلى حقيبتها وفتحتها. قامت بلمس أنابيب أحمر الشفاه والمحفظة وكتاب الخرائط قبل أن تشعر بالرضا. سقطت الرسالة واستقرت على مجموعة من أعقاب السجائر القذرة.

قالت المرأة وهي تدفع حقيبتها إلى ذراعيها:

- حسنًا، اذهبي .

عندها فقط انحنت ييزي لالتقاط الرسالة، وهزت المظروف الأرجواني لتنفيضه من الرماد. ربما كانت هناك امرأة أخرى قد استجابت بالفعل لـ (لي مين) وقبلت عرضه بتذكرة ذهاب بلا عودة إلى أمريكا. إذا ذهبت إلى مكتب البريد هذا المساء—هل سيكون الوقت قد فات؟

وقفت المرأة واضعةً يديها على خصرها، وظلت تحدق بها. وتسببت ضجتهما في تركيز أعين المارة عليهما. شعرت بوخز دافئ من الخجل. لا، لا، هذه ليست فرشتي ، أرادت التوضيح. هذه ليست بضاعتي القبيحة والمثيرة للشفقة. ولكن ببطء بدأت تشعر بنوع من الوقاحة. حدقت في الرجال والنساء الذين كانوا يسرعون ، كما لو كانت تتحداهم أن ينظروا إليها. أما نظراتهم، حتى لو توقفت عليها للحظة، فقد كانت تنتقل فورًا إلى مكان آخر، كما لو كانت قطعة معدن تعكس الشمس.

(النهاية)

***

........................

المؤلفة: سيكى ليو/ Siqi Liu: كاتبة أمريكية صينية حاصلة على درجة الماجستير في الفنون الجميلة في القص من ورشة عمل الكتاب في آيوا، وقد فازت بجائزة بوشكارت/ .Pushcart الأدبية. ولدت سيكى ليو في تشانغشا، الصين، وهاجرت إلى ضواحي شيكاغو في سن السابعة وتعيش الآن في مدينة آيوا ومدينة نيويورك.

 

بقلم: اندريا ركسيليس

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

كيف كانت اللغة

يوم ماتت الغزلان،

كنت حية في منزلي.

كنت حية في حقل مائي

من الأنهار الجليدية.

في مملكة غابة البتولا في حنجرتي.

يوم بكت العصافير،

يوم هربت الثعالب من الغابة المحترقة.

كنت حية في عقد من الزمن.

احيانا كان ديني الحلم بمنطقة اخرى.

مكان قبل الأشجار، سابق للهيب.

حين ماتت الغزلان

كنت في منزلي احلم.

ثم حل الجفاف. انقطع الصوت.

نيران بحمرة التفاح

سكنت داخل حنجرتي تهس.

***

......................

اندريا ركسيليس: شاعرة واكاديمية اميركية نشرت اربع مجموعات شعرية وتقوم بتدريس الشعر في ورشة كتاب لايتهاوس في دنفر وتدير برنامج الدراسات العليا بجامعة ريجس.

من الأدب الكردي:

بقلم: رفيق صابر

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

عندما أرادوا

أن يمنعوا عن السنديانة

هواء (كويستان)*

عندما أرادوا أن يقطعوا عنها

مياه الثلوج الجبلية

وأرادوا لها أن تفترق

عن حبيبها

عندما أرادوا اجتثاثها

وراحوا يذبحون ظلالها

بحضرتها

راحت هي تبكي

أوراقها

المتساقطة

حتى ترنحت

وانحنت فوق الأرض

فوق التراب

غارسة أغصانها

وذروتها في الأرض

واضعة قلبها

فوق صخرة

خشناء

وأذابته فوق جذورها

وأغصانها

وذروتها..!

***

..........................

* كويستان: المناطق الجبلية الباردة.

- (رفيق صابر): باحث وشاعر كردي مغترب غزير الإنتاج، ولد عام 1950 في (قلعة دزة)  السليمانية – العراق.

- خريج جامعة بغداد – قسم اللغة الكردية وآدابها.

- حاصل على شهادة الدكتوراه من الأكاديمية العلمية البلغارية 1987.

- قبل بصفة لاجئ في السويد في عام 1989 وأصدر هناك مجلة (رابون).

حاصل على جائزة (كلاس دي فيلري).

- نشر نحو (27) كتابا.

- أصدر مجموعته الشعرية البكر المسماة (الجذوات تتقد) عام 1976، وقد أعيد نشرها في ايران عام 1979.

- ثم أصدر مجموعته الشعرية الثانية المسماة (فيض) عام 1979

- أصدر الاعمال الشعرية التالية: -

احتراق تحت المطر – لندن 1987

لاوك هلبجة – بيروت 1989

مثوى – السويد 1990

وه رزه  به ردينه – المانيا 1992

ديوان رفيق صابر – السويد 1993

المرآة والظل – السويد 1996

ملتقى الضياء – السويد 1997، وأربيل – العراق 1997

- ترجمت أعماله إلى السويدية، الدنماركية، الإنكليزية، العربية، الفارسية، الإستونية، الفرنسية والنرويجية.

- عن (من مشكاة الشعر: قصائد مختارة) للمترجم، أربيل – العراق 2002.

بقلم: كيفن سبايد

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنت جالسًا في الشرفة الخلفية أقرأ عندما سمعت صوت الدراجة النارية. أول ما سمعتها على الطريق الرئيسي، تئن تحت زقزقة العصافير، ثم سمعتها تبطئ سرعتها، وينخفض أنينها إلى همسة. والآن كانت تنزل في الممر بين الأشجار. وضعت كتابي جانبًا. كانت كارا قد غابت عني ثلاثة أيام. بعد ثلاثة أيام، كنت أرغب في المزيد. وإن حصلت على يوم إضافي، كنت أعلم أنني سأرغب في يومين آخرين. وإن حصلت على يومين، سأرغب في أربعة أيام أخرى. في النهاية، سأصل إلى مرحلة لا أرغب فيها أبدًا برؤية إنسان آخر. الوحدة كانت حلوة وخطيرة، لكنني الآن كنت أُجبَر على العودة إلى ذاتي الأخرى. الكائن الذي أكونه عندما لا أكون وحيدًا. لكنني لم أستطع الاستمرار في التفكير بهذه الطريقة، فلم أفعل.

كان صباحًا ربيعيًا مشمسًا، والزهور البرية تنتشر في كل مكان. تجرأت على الالتفات إلى مقدمة المنزل، الجانب المظلم منه، في اللحظة ذاتها التي انطلقت فيها الدراجة النارية من بين الأشجار. كانت تسحب مقطورة صغيرة تستخدمها كارا في رحلاتها إلى المدينة. وكانت تحمل زوجًا من الدراجات الهوائية مثبتتين على المقطورة. في البداية لم أعرف ما هما. أشياء غريبة. شيء من قصة قديمة. أدوات خيالية لمشاكل لم أكن أعرف بعد أننا نملكها. كنت قد نسيت أن الناس يركبون الدراجات. لم يكن بإمكانك رؤية الطريق من المنزل، وأنا بالكاد أذهب إلى هناك. بعض الأيام بالكاد أجرؤ على الذهاب إلى مقدمة المنزل. الفناء الخلفي كان مملكتي – مسرحًا طبيعيًا من النهر، الأشجار، التلال، العصافير. لم يكن لدي مشكلة مع العصافير. لم يتوقف الأمر عن إدهاشي أن العصافير تستطيع الطيران حقًا. لم أظن أني سأعتاد على ذلك أبدًا. كنت أجلس هناك على الشرفة الخلفية أشاهدها تطير بلا وعي من شجرة إلى أخرى. كانت تتعامل مع الأمر بلا مبالاة مروعة. على أية حال، لم يكن أحد ليصل من ذلك الاتجاه بعجلات.

وحين أدركت ما كنت أنظر إليه، قلت:

- مِن مَن سرقتيهما؟

- من شخص لا تعرفه.

أسندت كارا إحدى الدراجتين على جدار المنزل. ظلت ساكنة بلا حراك. كان طلاء العارضة الخضراء يلمع تحت أشعة الشمس. بدت عجلتاها صلبتين وقويتين ، ومقودها الأنيق وكأنه مُنح إرادة حرة. لقد عرفت رجالًا كانت وجوههم أكثر فراغًا من ذلك. رفعت كارا الدراجة الأخرى عن المقطورة، قفزت فوقها وانطلقت عبر الفناء، نازلة التل باتجاه النهر، ثم استدارت في اللحظة التي كانت ستندفع فيها مباشرة إلى الماء—وكان من شيمها تمامًا أن تفعل ذلك.

أما الدراجة المتكئة على جادر المنزل فكانت تنتظرني هناك. صابرة، غارقة في عالمها الصلب. كنت أعرف كيف أركب الدراجة لكنني لم أفكر أبدًا أن الأمر سيصل إلى ذلك. عندما لمست المقود شعرت بنبضه. أو ربما كان مجرد نبضي يعود إليّ. لا بد أن لدي نبضًا.لم تتراجع الدراجة. ضبطت مقعدها. كان آخر من ركبها ذا ساقين طويلتين. لم تكن ساقاي طويلتين. لكنها لم تكن قصيرة أيضًا. كانت ساقين عاديتين، تسهل إصابتهما بالكدمات، لكنهما أقوى مما قد يتوقعه أحد من مظهري.رفعت إحدى ساقيّ فوق العارضة. بدا الأمر غريبًا، أن أفعل شيئًا كهذا. كأنني شخص يفعل أشياء كهذه. كان الأمر أشبه بأداء معجزة لا معنى لها.

بينما كنا ندوّس صعودًا نحو الطريق، لم تكترث الأشجار على جانبيّ بإخفاء دهشتها. انحنت فوق الدرب، متشابكة الأغصان من فوق كأنها أغنية. تبعتُ كارا. لم أكن أعرف إلى أين نتجه. كان شعورًا رائعًا أن أكون راكبًا دراجة لدرجة أنني لم أهتم بالوجهة طالما أننا لسنا متجهين نحو البلدة. كان الطريق ينهار في بعض الأماكن وتناثرت الصخور من المنحدرات، فكنت أتجنب هذه الفخاخ بحذر. في أحد المواضع، انهارت كمية هائلة من الحطام من التل وأخذت قضمة كبيرة من الطريق. كان المكان قد أصبح مغطى بالشجيرات الشائكة وشتلات الأشجار الصغيرة. أي شخص يأتي من هذا الطريق سيكون مضطرًا للمناورة حول هذا التعدي الفظ على مسار وعر مليء بالحفر يتعرج بين الأشجار. توقفنا ثم سحبنا الدراجات على طول المسار. عندما يأتي المطر سيكون من المستحيل العبور. لم تقل كارا شيئًا عن أي من هذا ولم أقل أنا أيضًا شيئًا.

لم أتذكر آخر مرة سلكت فيها هذا الطريق. قبل سنوات. لكنه الآن مختلف تماماً لدرجة أنني أشعر أنني لم آتِ إلى هنا من قبل. حين سرقتُ دراجة كارا النارية ذات مرة، صعدت إلى التلال لأتمكن من رؤية البحيرة من الأعلى. كان مهماً أن أرى البحيرة بين الحين والآخر، ذلك الامتداد الشاسع الذي يختفي في الضباب. كنت دائماً أسلك الطريق نفسه ولم أقابل أحداً قط. أما هذا الطريق فكان أكثر عرضة لحركة المرور. لكن اليوم، لم نرَ أحداً. تقدّمت كارا بالدراجة أمامي وتبعتها. بدأت رئتاي تحترقان بالفعل. كانت الأشجار كثيفة ومظلمة، تتآمر أوراقها الخضراء الداكنة ضد السماء، وكان الطريق مغطىً بالأغصان الصغيرة والفروع المتساقطة. حيث سقطت أشجار كاملة عبر الطريق، قام أحدهم بقطعها وإزالتها بالمنشار. تساءلت إن كانت كارا نفسها من فعلت ذلك. يوماً ما، ستبتلع الغابة هذا الطريق.

توقفت كارا وأسندت دراجتها إلى شجرة. كان جدول ماء يندفع من التلال، ماراً بقناة تحت الطريق متجهاً نحو البحيرة. لم أتمكن من رؤية البحيرة عبر الأشجار لكنني علمت أنها هناك. كل تلك المياه كانت تملك جاذبية، قوة جذب. حين كانت العواصف تجرد الأشجار من أوراقها في الخريف، كنت تراها من هنا. لم تكن بعيدة. أسندت دراجتي إلى دراجتها، وتركنا الدراجتين خلفنا وبدأنا نصعد الوادي.

في البداية، استطعنا السير بجانب الجدول على الأوراق الميتة من العام الماضي، بينما ارتفعت جوانب الوادي بشدة على كلا الجانبين. لكنه ضاق بعد ذلك فسرنا في الماء البارد ونحن نرتدي أحذيتنا. كانت هناك صخور ضخمة، أكبر من بيوت صغيرة، قد انتفخت وسط الجدول. قالت كارا إنها ترسّبت هناك بفعل الأنهار الجليدية، تلك نفسها التي حفرت شكل البحيرات قبل عشرة آلاف عام. كنت قد سمعت هذه الحكاية كثيرًا، لكنني كنت أجد صعوبة في تصديقها.  لم أستطع التوقف عن التساؤل عما كان هنا قبل التلال والبحيرات. هل كانت هناك أشجار مليئة بالطيور والحشرات والديدان المتدلية على خيوط؟ هل كانت هناك نساء بشعور طويلة ووجوه مليئة بالندوب؟ هل كانت هناك نساء بشعور قصيرة ووشوم؟ ماذا كان هنا قبل أن تزحف الأنهار الجليدية وتنظّفه وتلقي بهذه الصخور العملاقة؟

أصيبت قدماي بالخدر كنت أكره البرد، طبعًا، وكان مجرد التفكير في البرد يمكن أن يثير في نفسي الرعب، لكنني كنت أعلم أنه لن يدوم لأشهر. كان بردًا نقيًّا. أحرق البرد قدمي. كان قاع الجدول حاداً مليئاً بالصخور والحطام، وأحياناً كنا نمسك بأيدي بعضنا لنحافظ على توازننا، كوحش ضخم بأربعة أرجل ورأسين يتسلل صعوداً في الوادي. كانت يد كارا خشنة وقوية، وكنت أعلم أنها كانت قادرة على نزع ذراعي من مكانها. ثم وصلنا إلى شلال. كان أطول منا مجتمعين، واضطررنا لتسلق حافة جافة ضيقة على جانبه. انهار الصخر الزيتي المفكك تحت أقدامنا، لكن التسلق كان سهلاً. لو لم يكن سهلاً لما فعلته. كنت أفعل العديد من الأشياء الصعبة، مثل إصلاح الأحذية أو قطع رؤوس دجاجات كنت أعرفها جيداً، وكتابة القصائد، لكنني لم أفعل الأشياء الصعبة دون سبب.

مدت كارا يدها من قمة الشلال وسحبتني إلى الأعلى، متذمرة من أن وزني لا يزيد عن وزن طفل جائع.

كانت فترة ما بعد الظهيرة حارة، لكننا كنا الآن مبتلين تحت الظل البارد العميق للأشجار. كان الجدول يجري بانسياب فوق الشلال، وقاعه أملس وزلق. أملس كصحن قديم . جعلت كارا كفيها على شكل كوب وشربت من الماء. كانت الأشجار الطويلة تحوم فوقنا، تراقبنا بفضول لا نهائي.

تبعنا الجدول حول منعطف منحدر، حيث كان الماء ينساب على جانب واحد منه، بينما كان الجانب الآخر جافاً وأبيض تحت الشمس. جلستُ على صخرة مسطحة تحت الشمس، وأرخيت جسدي كي تتسلل الحرارة إلى عظامي. حرارة الشمس. طاقة قادمة من الفضاء الخارجي تُبقيني على قيد الحياة. تمدّدت تمامًا، فضحكت كارا. قالت:

- انهض، لقد كدنا نصل.

- دعيني أستلقي هنا دقيقة .

- انهض، يا رجل .

- خمس دقائق أخرى.

حدّقتُ إلى الأعلى، إلى الأشجار، ولثوانٍ معدودة بدا من الصعب أن أصدق أن هناك شيئًا آخر موجود. لا منازل محترقة منتشرة على الأرض، ولا أطفال يتسللون في الغابة. اختفت بلدتنا المليئة بالمجانين الصارخين، وأُغلِق على المغتصبين في صناديق. استلقيت على ظهري وأخمص يدي وقدمي ملتصقة بالصخرة الدافئة. أغمضت عيني ولم أتحرك. قلت:

- أنا هنا تمامًا. لستُ في أي مكان آخر.

ضحكت كارا مرة أخرى واستلقت بجانبي. بقينا هناك لفترة طويلة، نتنفس.

(انتهت)

***

........................

الكاتب: كيفن سبايد/ Kevin Spaide: كيفن سبايد من أوبورن، نيويورك. ظهرت قصصه في عدد من الأماكن، وكان أحدثها في مجلة FRiGG. يعيش في مدريد مع زوجته وابنه.

رابط القصة على: FRiGG

https://www.friggmagazine.com/issuesixtythree/fiction/spaide/stream.htm

نصوصُ وقصائد هولندية Remco Campert للشّاعر، عُني بترجمتها إلى العربيّة الأب يوسف جزراوي

 ***

* في أمستردام

كنتُ متأكدًا مِن أنّني أفتقدُ شيئًا مَا/ لم أستطع تحديده/ هكذا نسيتهُ وأنا أسيرُ في شارع امستردام/ مدينتي التي لا تُغلق أبدًا/ تعيشُ الليل كما النهارِ/ في أزقةِ المدينة/ أشعرُ بالحرمان مِن شيءٍ مَا تسلل إليّ وملأني شوقًا لشيءٍ شعرتُ أنّني فقدته وبتًُ أفتقدهُ.

أفقتقدُ هذا المبنى الامستردامي وزخارفه الخاصّة بالاراضي المنخفضة/ إنّه متحف ريجغس/ لقد كان يختزن روعة الأمسِ/ بدون الماضي لا يصمد حاضرنا/ نحن فارغون وبلا شكل/ ووجودنا أقصر عُمرًا مِن وجود البناية/ الذي يدوم أطول/ الممتد نحو الأبدية/ كانَ هذا المبنى رمزًا للأبدية/ لكن المدخل كان مغلقًا/ والباب كان مغلقًا، وهذه المدينة/ هذه الأرض المنخفضة، هذه الشّعبُ، جميعها لم تعد تنفتح، بل أصبحت معزولة عن ماضيها/ الآن وقد عرفتُ مَا فاتني في ربيعٍ جديد.

 **

* نصٌ وجودي

على طولِ المياه العميقة الطويلة/ خلف الأدغال المحترقة بِالشمس/ كنتُ أظن أنكِ دائمًة، ولكن دائمًا أن عينيكِ كالنسيمِ/ ودائمًا يهتز الماء قُبالة صمت مرتجف منكِ/ ظننتُ السعادة تدوم/ لكن بكاء طائركِ ظهرًا اماء الماء ذكرني بلون بشرتكِ/ أنتِ دائمًا معي.

 **

 * بسرعة قبل أن أنسى:

في السيارة مع صديقي/ أكتبُ بسرعة عبر ترحالنا في فصول أمريكا/ شمسٌ رطبة/ لكن في مدينة القديسة باربارا ثلوجٌ ساقطةٌ/ في الليل ضوء التلفاز الوامض على وجهها الجميل النائم/ مدينة تبدو أنها عادت فتاةٌ صغيرةٌ مِن جديد/ عندما أرحل عن مدن/ أكلتُ فيها مع صديقي/ تقاسمنا الخبز واللحم معًا/ تحدثنا/ عانقنا بعضنا وداعًا/ مع أننا ما زلنا نضحك/ ماذا عسانا أن نفعل غير ذلك/ تجوال لن يبقى منه سوى الكلمات/ إنّها تُذكّرني بشيءٍ ما/ لم تعد عينٌ تعرفه إلا القلم الذي كتبه.

 * في ليل ريفي باردٌ

يا لهُ مِن حشدٍ غريب/ حدث شيء ما!/ إنّه تسوّق في وقت متأخرٍ مِن الليل!!. أشعرُ بالخوف الشديد في الداخل/ مددتُ رأسي من النافذة وتفحصت الشارع/ المشي والقراءة في الشارع/ لم تعد مجديّة كثيرًا/ بينما حركة المرور مزدحمة/ تأتي موسيقى الراديو من نافذة مفتوحة/ في الشرفة فتاة ترتدي فستانًا جديدًا/ كما تمر بجانبي وعن قربٍ سيدة تروض حصانها/ الفتاة الريفية تنظر إليّ/ فهل أقول لها الكتاب الذي أقرأه اسمهُ "أنتِ" وقد نُشر مؤخرًا عنكِ.

**

 * عدتُ إلى بيت أمي بدونها.

 قضيتُ ليلةً على نهر ويترينغشانز في البيت المتهدم

محرومٌ إلى الأبد من رؤيتها

من الآخرة يتردد صوتها مجددًا:

"ريمكو، ماذا تفعل في بيتي؟"

سؤالٌ رافقني منذ ولادتي

ماذا كنت أفعل في بيت أمي؟

أرى أن في غرفتها الفارغة

لا يزال دليل السفر المشمس

وكيف، مُغلفًا بضبابٍ ناعم.

عبر مياه بحيرة غاردا الطويلة والعميقة

وحدي يسير بي القارب الصغير

الذي أبحرنا فيه يومًا

لنرى، على سبيل المثال،

هل لا يزال لإيليونورا دوزي مكانًا في خزانة التحف في منزل دانونزيو؟

**

في الفندقِ

يا حلوتي

فكرتُ فيكِ على جزيرة هاجمتها العاصفة

أدخن سيجارتي وأفكر في الطريق بين قارتين..

غادرتُ قبل وصول الفيضاناتِ

أود أن أخبركِ حركة دفاعي مختلفة تمامًا عني ...!

 أدخنُ وأكتبُ عن فكرة

جالسة بلا حراك في العش الغريب من عقلي..

كلما أحاول كتابتها

نبتت لها أجنحة.

 

بقلم: سونيا يوريكوفا

ترجمة: صالح الرزوق

***

عاد ولداي إلى البيت من المدرسة، وكان لديهما واجب منزلي مزعج عن الحلزونات. طبعا لم يعبرا عن امتعاضهما، ولكن تكلمت عن الموضوع مع دانو ونحن في السرير في تلك الليلة، واتفقنا أنه من الأفضل أن لا تفرض المدرسة عليهما واجبات منزلية. أحب الولدان الواجب، لأنهما اعتقدا أنني سأطلب حلزونات إفريقية لهذه الغاية، وسيحتفظان بها كحيوانات أليفة في المنزل. وبحثا في غوغل مع رفاق المدرسة عن الحلزونات الإفريقية وتبين لهم أنها تعيش على فراش من قشور جوز الهند ولا ينمو لها شعر. يا له من شيء عجيب.

كانت الوظيفة: "اقرأ مقالة علمية عن الحلزونات بمشاركة أبويك، وسجل أهم الحقائق، في دفتر الواجبات المنزلية، وارسم بعض الصور بعد الكتابة".

في البداية طلبت منهما ترتيب أشيائهما، فقد كان لدينا أطنان من الحلزونات في حديقتنا، ويمكنهما كتابة قصة طويلة - رغم أنهما في الصف الثاني فقط، وكتابتهما تقريبا دون أخطاء، وبالأخص نينا. ولكن تذكر ميشو أنني في الصيف الماضي علمتهما كيف يرشان الملح على الحلزونات، وقال إنه سيكتب قصة عن ذلك، ليقرأها معلم النشاطات البيتية.

لم يكن لدي خيار حينما كنت صغيرة. ما أن أمكنني المشي قدموا لي طبقا من الملح وأرسلوني إلى حقل الملفوف لقتل الأشياء التي نسميها حلزونات. لم يهتم أحد بالجنس والنوع، البزاق هو الحلزون الذي يهدد بالتهام المحصول. جلست القرفصاء بين الصفوف، حملت بعض الملح بأصابعي الصغيرة، وسكبته على دستة من الأجسام المخاطية. ارتجفت البزاقات وأصبحت سوداء، وسال المخاط منها. تابعت على طول صفوف الخضار حتى حل الظلام. ولكن حصلت على توبيخ لأنني وطأت على الكرنب، ثم غسلت يدي، وذهبت إلى السرير. 

والآن أصبحت الحلزونات وظيفة منزلية. لم يتمكن الولدان من الامتناع عن الكلام عنها وهما على طاولة الغداء، واستولت على ميشو بالأخص فكرة أن يمتلك حيوانا أليفا. وحينما نبهتهما أنها تترك وراءها خطا مخاطيا، رفع موبايله بوجهي قائلا: "الحلزونات الإفريقية لا تفعل ذلك".

"لماذا تجر حلزونا من قارة أخرى ولديك حديقة ممتلئة بالحلزونات؟".

أجاب: "فتشت ولم أجدها. ليس لدينا حلزونات لأنك طلبت منا رش الملح عليها في العام الماضي". في الحقيقة أزعجني ذلك. قلت له ما بين الهزل والجد أن الاحتفاظ بحلزون جنون وليس من محاسن الأخلاق أن تقتلع حلزونا من إفريقيا إرضاء لنزواتك.  انكفأ ميشو على نفسه، ولكن والحمد لله آزرني دانو، فأرسله إلى غرفته، وبقي غداؤه على الطاولة دون أن يأكله.

احتفظت نينا بهدوئها، وحينما حملت طبقها إلى المغسلة، قلت من فوق صحن السلطة: "غدا بعد المدرسة سنذهب إلى المكتبة ونبحث عن كتب عن الحلزونات".

وعندما أسرعت إلى ميشو لتنقل له الخبر، نظر لي دانو كأنني فقدت عقلي، وقال لي: لماذا لا نكتفي بالبحث عن شيء في الإنترنت، ونشاهد فيلما تعليميا عن الموضوع.

قلت له منهكة: "لا تزعجني أنت أيضا".

***

إن لم يأخذ الولدان عني أي شيء، ورثا حبي للكتب. حينما ذهبنا إلى قسم الأطفال في مكتبة المدينة، التفت تلقائيا نحو الموجودات. في طفولتي كنت أقرأ الكتاب بعد الآخر، أحمل معي عشر كتب وأعيدها بعد يومين،  ثم أغزو بقية الرف، وفي الأسبوع التالي، أتابع باتجاه الرف الآخر.  حينها حفظ موظفو المكتبة اسمي. في هذه الأيام يعاملوننا مثل زوار دائمين، ولكن الفرقأنه حل محل السيدات ذوات النظارات الثقيلة في قسم الأطفال شاب في بواكير العشرينات وبشعر خفيف أجعد. وكنت متأكدة أنه بعد انصرافنا كان يمارس العادة السرية. لم يترك لدينا الانطباع أنه غريب أو مغتصب للأولاد، ليس ذلك، ولكن توقعت أنه يستغل كل فرصة: حالما يغادر آخر طفل، ويترك وراءه عطره، عطر أمه المثير جنسيا، يكون قد بقي للإغلاق خمس دقائق، والكتب مرتبة على المنضدة، وبالحال يباشر وبسرعة.  

قلت له: "أبحث عن الحلزونات؟ هل يمكن أخذ نظرة".

انحني قليلا، وسبقني إلى الموسوعات. جلس الأولاد في قسم المطالعة، متوترين من الانتظار. اختارت نينا قصة عن سندريلا، ولا  أعلم ماذا يجذبها إليها، أحيانا تنظر فقط لملابس الأميرات، مع أن معظم الصور، حرفيا، تؤلم عيني. وطالع ميشو دليل لعبة حقل الألغام، ومع أنني أود أن أوجههم نحو الغاية التي أتينا من أجلها، احتفظت بهدوئي وابتسمت لموظف المكتبة. ولكن كان الأفضل أن يسرعوا بنسيان الحلزونات الحية. 

كانت موسوعات الأطفال على الرف السفلي، وهي منهكة، ومفككة، ومن الواضح أنه في عصر الإنترنت لم يبحث أحد منذ مدة طويلة فيها. ولكن كان الموظف واثقا من نفسه، ولم يسحب كتابا بعد الآخر، ومد يده إلى المجلدات السميكة وهو يقول اللعنة .. آه.. هل يوجد فيها شيء من ذلك. كنت بجانبه ولاحظت كتفيه العريضين وعضلاته البارزة من تحت قميصه الرقيق. تسارعت دقات قلبي، وارتجفت، ثم تنهدت بعمق لأغطي انفعالي. انحنى وظهره نحوي وقاطع تنهيدتي قائلا مع ضحكة عصبية: "آسف. استغرقت وقتا طويلا. الحقيقة أنني لست غوغل".

ذهنيا تنهدت. كان غبيا مع أن ظهره عريض. والشكر لله. ولذلك لم يتوجب علي التفكير به - لا الآن ولا إذا أويت إلى السرير ولا في أي وقت آخر.

قلت وأنا أزفر مجددا وأهوي نفسي: "الجو حار هنا". وقف ومعه عدة كتب، وبدأ يشرح لي سبب توقف المكيف عن العمل في هذا المكان، ولكن بالنتيجة قررت أنني لن أهجر دانو من أجله، وتحركنا إلى الطاولة.

قال ميشو باهتمام وهو مشغول بكتابه: "انظري ماما. هنا طريقة لبناء بيت بشكل الحلزون".

"تقصد بشكل قوقعة الحلزون، أليس كذلك؟".

"كلا. الحلزون كله".

كان في الدليل تعليمات عملية لبناء أشياء بأشكال حيوانات مختلفة. النوم في سن النمر!. انظروا إلى حقل الألغام بعين زرافة!. ابن حديقة في مؤخرة فيل!. وكنت أنا أود النوم في المكتبة مع موظف شاب - أين دليل هذه الرغبة؟. 

قلت بصوت مبحوح حينما ترك ميشو الدليل وارتمى على الموسوعات: "هيا وابن شيئا. ما دمت دائما تلعب لعبة حقل الألغام". أحيانا كنت أود أن يفعل الأولاد ذلك عمدا.

انضمت إلينا نينا. جلست بتهذيب على كرسي. ورتبت تنورتها بمهارة وعلى نحو طبيعي. نظرت إلى  الصفحات التي يعرضها الموظف، ومررت أصبعها على طول السطور وهي تقرأ: "الحلزونات حيوانات أليفة مناسبة لأطفال مصابين بالتحسس".

قلت بنغمة خفيفة حينما شاهدت فرحتها: "كلاكما لا يشكو من أي تحسس".

بالعادة كلما أزعجوني بهذا الموضوع أقول أنا المصابة بالتحسس. ولكن سبقني الموظف، وأعلن أنه يكره شعر الحيوانات وربما يفضل الحلزون وسيقتني حلزونا. واقترح الولدان أن يبني بيتا له قلعة من البلاستيك حولها خندق تعوم فيه دمى بشكل التماسيح.

مكثنا قرابة ساعة، ونسخنا عدة صفحات من الموسوعة، وحمل الأولاد إلى البيت بعض الكتب الجديدة. أودعت على الرف عدة عناوين، وتابع الموظف وأودع البقية. وابتسم لي. وأصابني ذلك بالخدر والدوار حتى حان وقت النوم.

***

كانت يوميات ما بعد الدوام من اختراع معلمة الواجبات المنزلية النشيطة، اسمها إميليا. ولكن يناديها الولدان ميلكا. وكانا يناديانها بصوت كخوار البقر، فتأتي لتنضم لهما. كنت أعترض على فلسفتها في الحياة، ولكن لم أعلن ذلك بصوت مسموع، لأنها كانت ذات كفاءة -  وكانت إذا تأخر الآباء تنتظر مع الأولاد ساعات وساعات.

جاء دانو يوم الجمعة ليقلني من مكتبي، وقمنا بشراء البقالة، ثم وقف أمام المدرسة.

قلت له: "اذهب. مزاجي لا يساعدني على ملاقاتها".

كانت ميلكا تنتظر في الخارج مع الولدين وتساعدهما على حزم الحقائب، وتصنع إشارات واسعة بذراعيها، وتلوح لنا. وعندما ركضت نينا مع ميشو نحو أصدقائهما، تابعت توضيح شيء ما لدانو بانفعال شديد. ابتسم لها فقط وفهمت أنه يوافقها بتهذيب. واحتفظ بابتسامته لنفسه لوقت إضافي، وحالما غاب الولدان ابتلعها.  بل أنا مخطئة  ما أن أصبحا في السيارة، اختفت ابتسامته.

"لديكما خطط للعطلة".

صاحت نينا: "سنذهب إلى ال...". ولكنها لم تعرف الكلمة.

قال ميشو: "معرض التيراريوم".

"تيراريوم.. ويمكن أن نشتري منه أشياء كثيرة".

"أبدا. كلا".

امتعضت حقا. غالبا بسبب الصياح المتبادل، وكان دانو يشتم بقية السائقين، مع أنه كان نفسه يعوي عند إشارة مرور حمراء كالمأفون، كما لو أنه لم ينتبه لما يدور حوله.

توقفنا، وسمحنا لحافلة بالمرور. رأيت امرأة عند موقف الحافلة. كانت تكافح مع طفل ألقى نفسه على الأرض والمخاط يسيل من أنفه. ورأيت الانتفاخات تحت عينيها تكبر وتجاعيدها تزداد بوقت قياسي. كانت صدمة. أطلقت الحافلة المنبه، وتحركت السيارات، وانتقلت الصور أمام النافذة إلى حشود تحمل الأكياس البلاستيكية، ومزيد من السيارات، وأضواء إشارات المرور.

قلت ببطء: "سنذهب. وستشاهدان الحلزونات، وسنناقش سلوكها، ولكن لن أشتري لكما أي شيء. الاهتمام بشخص ليس نزهة في حديقة".

صحح لي دانو "الاهتمام بشيء". وتبادلنا النظرات. ثم أعلن أنه غير قادر على مرافقتنا، لأن أحد زملائه طلب معونته في الانتقال. لم أعترض. وضعت رأسي على الزجاج وأصغيت لثرثرة نينا المتواصلة عما فعلاه في حصة الرشاقة.

في وقت لاحق من اليوم انتابت ميشو حالة عصبية، لأن كيفن، وهو طفل يجلس بجانبه في المدرسة، امتلك عائلة كاملة من الحلزونات في بيته، وتابع إرسال الصور إلى ميشو. حلزونات على يده، على رأسه، في طبق، مع فلاتر مختلفة ولصاقات الأبطال الخارقين. حاولت أن أوضح لميشو أنه لا حكمة من الغضب، فهو لن يحصل على أي حلزون ما لم يحسن سلوكه، وإذا كان لا يزال مهتما بها بعد المعرض، يمكنه أن يؤدي واجبه بامتياز حتى من دون وجود حلزونات في البيت. حملنا المقالات من المكتبة، ووجدت بسرعة في الإنترنت تعليمات عن تأليف مقالة عن الحلزونات، وأسعد ذلك نينا، وجلست هادئة بينما واصل ميشو البكاء وركل الوسادة.

بعد قليل توقعت أنه هدأ، فقد ذهب إلى غرفته ولزم الصمت. عاد دانو من غرفة الولدين في وقت النوم وفي يده حفنة نتف ممزقة من النسخ التي صورناها في المكتبة.

***

قال لي دانو في تلك الليلة ونحن في الحمام: "أود أن أحصل لهم على حلزون".

"إذا أنت تقول أنني أنا من تعارض؟".

قال ضاحكا: "هكذا على ما يبدو. انظري. إما أن يضجروا منه بسرعة، أو أن يهتموا به حقا".

جلست على طرف الحوض منهكة، ودهنت وجهي بالمطريات. كانت لها رائحة الشامبو الذي استعملته عائلتي في أول رحلة إلى إيطاليا. وحملني عبيره إلى الماضي بسرعة مخيفة.

"كيف وصلت هذه العائلة إلى حصر كلامها كله على الحلزونات، وسأمضي يوم السبت بحثا عن تيراريوم؟. حتى أنني لا أعرف ما هي وظائف البقية".

قال وهو يدس فرشاة أسنان في فمه: "لاحظي أننا لا نتكلم إلا عن الحلزونات". وتابعنا الكلام حتى الواحدة صباحا تقريبا عن الكتب وعن أمور اطلعنا عليها في الإنترنت، وعن الفيلم الذي سنشاهده يوم الأحد. إذا وجدنا من يجالس ميشو ونينا. ثم غلبنا النوم.

منذ فترة طويلة أحضرت إلى المدرسة مقالة عن الأعضاء الذكرية، مطبوعة على الطابعة الكاتبة، وقد وجدتها في أحد دفاتر الوالدة القديمة. لم أفهمها أبدا، وكانت تتكلم عن الطول المتوسط في وضع الراحة، ثم خلال الإثارة، وتضمنت إحصائيات عن فترة الانتصاب شملت أوروبا، ومن ضمنها سلوفاكيا. لم أكن أعلم ما هو الجماع، ولكن أخذت المقالة إلى  الصف، وحاولت مع صديقاتي حل هذا اللغز في الاستراحة. ولا أتذكر كيف سمعت المعلمة بالمقالة، وثرثرت معها حول الموضوع بغباء،  ولكنها أخبرت والدي، إنما لم أتعرض لمشكلة، لأنهما يعلمان من أين جاءت المقالة.

فكرت بذلك في طريقنا إلى المكتبة، ولم نكن متعجلين، مع أنها تفتح أيام السبت حتى الظهيرة فقط. وتخيلت كيف ستتصرف ميلكا إذا أحضروا لها نصا مشابها. ربما ستمتدحهم وتبين لهم التشابه بين الحلزون والعضو. 

"أسرعي يا أمي. وإلا باعوا الحلزونات".

كنت متعبة ومضعضعة في ذلك الصباح، وتوجب علي أن أعد ميشو أننا لن نغادر المعرض بيد فارغة، وصليت لله أن يكتفي بسمكة غوبي. تسكعت نينا بمرح وراءنا، وهي تنظر للحجارة على طرف الطريق، وبعد كل عدة دقائق تلتقط إحداها وتتأملها.

وانفصل عني الولدان في المكتبة، وبقيت لأفسر سبب عودتنا. ضحك الموظف، في إحدى المرات في طفولته أصابته نوبة عصبية فقطع سلك التلفزيون. قلت لأنني علمت أنه لم يفهم ما أقول: "لديك حكاية عن كل شيء".

قال من وراء آلة التصوير: "أنت محظوظة بعودتك، لأننا سنغلق قريبا بسبب مناسبة خاصة، سيسجلون شريط فيديو هنا".

"أحاول أن لا يفوتنا معرض التيراريوم".

انتصبت أذناه. فقد سمع بالمعرض، وأين يعقد، وكذلك ساعات الافتتاح.

"اعلمي أنني أنفقت بعض الوقت أهتم بالحلزونات، وكانت تبدو - كيف أعبر عن ذلك - مهدئة. لم أمتلك قطة ولا كلبا، ولكن بوسعي احتمال حلزون".

قبل أن ينهي عبارته تكهنت أنه سيكوم نفسه في سيارتي، ويروي لي قصصه المربكة، ويعد السيارات الحمراء والزرقاء مع الولدين، ومع أنه لن يرتاح في مقعده لن يغير وضعه، وسيبقى عطره في السيارة طيلة أسبوع. ولكن إذا كذبت عليه، وقلت له أن دانو سيرافقنا، ولدينا في السيارة مقعدان خلفيان، سيقول كلا.

سأله ميشو: "عن أي حلزون أنت تتكلم؟ الإفريقي؟".

قلت مباشرة: "أنه التصوير وسنكون بانتظارك في الخارج".  وتوقعت أن محادثة أخرى ستبدأ عن أفضل أنواع الحلزونات - النوع الإفريقي أم حلزون الحدائق - وبعدها سأحزم حقائبي وأسافر إلى الجهة الأخرى من العالم. 

***

تجولت في صالة المعرض كالمسرنمة - كان هناك دمدمة متواصلة، وخرير مياه، ونافورات تلفظ الماء، وأضواء نيون تطن، وجداجد تصفر.  في السيارة عرف الموظف باسمه وهو أندريا، ولكن تابعنا الكلام بالرسميات. ولصق بنا، وتبين أنه مفيد لنا، فقد كان يرد على أسئلة الولدين، وحين لا يعرف جوابا، يحاول تسليتهما أو أن يجد الجواب عند البائعين والمربين. شاهدت حرباء تقترب من جدجد. أخرجت لسانها قليلا، ثم أطلقته، ثم لم يبق غير سيقان الحشرة خارج فم الحرباء. لفظتها وذهبت للبحث عن الفريسة التالية.

قالت البائعة وهي تقرب التيراريوم بوصة مني: "إذا أردت أن تشعري أنك تعيشين في مرج صيفي، اشتريها، معها خمسون جدجدا بالمجان". إذا فعلت ذلك مع عشرين شخصا، ستنفد كل الطاولة. تابعت المشي قليلا، ونظرت إلى الخلف. التقطت المرأة التيراريوم وأعادتها. بحركة ماهرة.

كانت الحيوانات هادئة، لم أخف من العناكب، ولا السحالي الكبيرة كالإغوانا وكانت الضبيات تسحرني. ولكن بدأ ولداي يزعقان لأنني حاولت توجيههما نحو الأسماك. ثم لوح أندريا بيده ليعلن أنه وجد الحلزونات. 

اشترينا اثنين، أحدهما لميشو بجسم داكن وقوقعة بنية، والثاني لنينا بلون خفيف ومخطط بخطوط مثل القهوة بالحليب.  وضعت حجارة في قاع التيراريوم، وكان لديها جزدان مليء بالحصى.

قال المربي مع ابتسامة: "ستحصلين على لسان البحر مجانا". ضحكت لكلامه. وضحكت لي نينا، وحضنت خصري، وانضم إلينا ميشو. وضعا الحلزونين على راحتي يديهما، وقال البائع إنهما قد يعيشان سبع سنوات.

وأضاف: "وفي الطبيعة قد يعيشان عشر سنوات".

سألت أندريا وهو يعينني بوضع حلزوني  التيراريوم في السيارة: "وماذا عنك؟  لا أعتقد أنك ستشتري شيئا؟"  تركنا الولدين في الداخل، وهما يشاهدان إطعام الثعبان وجبته.

قال بجدية: "كنت أفكر بسمكة غوبي أو إغوانا. ولكن في النهاية أفكر بسمكة. قد تعيش في المكتبة، وهي تسبح على المنصة. وستنعش الصالة".

حاولت أن أمسك نباتا كان يسقط، وكانت التعليمات أن لا نضعه في التيراريوم حتى نعود إلى البيت. ولا بد أنه أخطأ بتفسير حركاتي، لذلك انحنى نحوي بعينين مغلقتين وحاول أن يقبلني. بسرعة وتهذيب دفعته بعيدا. احمر وجهه وتابع الاعتذار، ولكنني عدت إلى المعرض.

لزم الصمت طيلة طريق العودة، بالمقابل كان الولدان يصخبان بتشوق. حاولت أن أشغله بحوار ليفهم أنني غير غاضبة ولا شديدة الابتهاج، ولكنه جلس بمكانه يلهو بعقدة في كيس بلاستيكي وضع فيه سمكة غوبي بألوان قوس قزح.

***

 ثم في يوم الأحد حرر ولداي الرائعان الحلزونين. وبعد الغداء بقليل ذهبت أنا ودانو إلى السينما، وبقيت نينا وميشو مع جارتنا، وهي  طالبة بعمر واحد وعشرين عاما وتدعى بريجت. رافقت الولدين إلى الخارج، وأخذوا الحلزونين والتقطا لهما الصور، وقرآ في بعض الكتب، وناما في ضوء الشمس. وفجأة اختفى الحلزون الداكن.

غادرنا صالة السينما، ورأيت حينها دستة من المكالمات الفائتة أجراها الولدان وبريجيت. ارتعبت، ولكن ضحك دانو، قائلا إن الحلزونين هربا على الأرجح. بعد مكالمة قصيرة، حافلة بالنشيج، تأكد لي ذلك. ومع أن حلزون ميشو هو الهارب، كان أكثر البكاء من نصيب نينا. تكلمنا في الترام حول الفيلم باقتضاب، ثم أخبرني دانو أنه يتعين علي أن لا أكون بخيلة.

"لا تقولي إنك توقعت ذلك. وأنك لن تشتري لهما حيوانا آخر".

"لماذا تقول ذلك؟".

"لأنني أعرف بماذا تفكرين".

أطنبت بريجيت بالاعتذار، وسمحنا بعودتها إلى بيتها، فالخطأ ليس خطأها. وانتفخت عينا نينا، وجلس ميشو بهدوء على الكنبة. كانا ينتظران ما سيجري. اختلست نظرة من الحلزون الأقل سوادا وهو يقضم ببطء ورقة خس في التيراريوم.

"هل أديت واجبك؟".

ثم طبع دانو عدة صور من هاتف ميشو حين كان الحلزونان معا، ثم صنعت مع نينا مجسم حلزون كبير. وألصقنا الصور وأجزاء من المقالات المطبوعة في دفتر الواجبات المنزلية. وكتبت نينا أيضا أن اسم حلزونها قوس قزح، ورسمت قوس قزح حول كامل الصفحة. وضع ميشو دفتره جانبا، قائلا إنه سيكتب عن ضياع حلزونه ويعتقد أن الكائنات الفضائية اختطفته. ثم حزما دفتريهما في حقيبة الظهر، وأدينا الواجب المنزلي المعتاد من أطفال عاديين لديهم واجب فرضه معلمون عاديون.

في المساء شاهد ميشو ودانو التلفزيون معا، ولكن كانت نينا متعبة جدا من المشكلة العاطفية التي تلازم نهاية الأسبوع وأرادت أن تأوي إلى السرير أبكر من المعتاد.  التقطت كتاب حكايات خرافية استعرته من المكتبة كان على طاولة بقرب سريرها، وقرأت لها آخر قصة، عن أميرة اقترنت بالشيطان. كانت نينا تتقلب في السرير، ولم تجد وضعا مريحا، وألقت جانبا حصانها الدمية المفضل. وجهزت نفسي للإصغاء والتفهم، ومع ذلك كنت منهكة بسبب العطلة الأسبوعية أيضا - بعد نهاية القراءة، سألتها ما المشكلة. صمتت قليلا، ثم قالت إن ميشو سمح بهروب حلزونه لغاية في نفسه. ولم تتمكن من تقديم سبب - وربما كان بمقدورها ذلك ولكنها لم ترغب بالكشف عن المزيد.

قبل أن تسقط بالنوم، وعدتها أن نأتي يوم الاثنين بالمزيد من الكتب، بعد أن انتهينا من آخر كتاب. وتحاشيت ميشو، كان ينظف أسنانه، فذهبت لتفريغ غسالة الصحون. ثم أودعه دانو في سريره،  وعاد إلى غرفة النوم.

"حاول موظف المكتبة أن يقبلني أمس".

"ماذا؟ متى؟".

"حينما كنا نضع الأشياء في السيارة. كان حادثا غريبا، وارتبك بكلامه، قائلا إنه تحرك حركة خاطئة أو شيء من هذا القبيل".

"يا له من مغفل".

"وأخبرتني نينا أن ميشو سمح لحلزونه بالهرب عمدا".

"كيف يمكن ذلك؟".

هززت كتفي. طيلة ما بعد الظهيرة كنت أفكر بالولدين الغريبين اللذين أنجبتهما، حتى أنهما تركا حلزونا يهرب، ولكن حاولت تهدئة نفسي بفكرة أضحكتنا لعدة سنوات. في عمر المراهقة، كلما أصابني الإحباط، كنت أروي قصة.

"دانييل؟".

"نعم".

قلت مع تنهيدة: "هذا كثير بالنسبة لي".

أحاط دانو كتفي بذراعه وحاول أن يهدئني، في الصباح سنسأل ميشو ماذا حصل فعلا.

رأيت أمامي احتمالين - إما أن ابني كان أحمق وقبل فقدان حلزون كسبه بصعوبة، أو لسبب عجيب قتله. في طفولتنا كنا نحرق الضفادع وهي حية، ماذا لو أن هذه إشارة مبكرة على المرض النفسي؟. لا عجب أنني كبرت ووصلت لما أنا عليه الآن - ولكن ماذا عنه؟.

وسريعا ما نام دانو، وشخر بهدوء في أذني، وهو يحضنني.

عندما تقلب غادرت السرير. كان شعاع من النور يلمع في غرفة الجلوس قادما من الشارع، أشعلت المصباح من أجل الحلزون، وراقبته وهو يخرج، مرتبكا. في إحدى المرات من أيام صباي كنت مخمورة جدا، وسهرت طيلة الليل، لأن محتويات معدتي بلغت حلقي. كنت أعدو إلى الباحة، وأعود إلى نفس البقعة كل مرة، تحت الكرمة القديمة المواجهة للباب الأمامي. وعندما استيقظت تأكد لي أن الجميع سيشاهدون القيء، لأننا تناولنا كوكتيل القشدة. وقررت أن أذهب لإحضار علبة السقاية من أجل غسل المكان. 

ولكن لم أشاهد أي أثر للقيء في البقعة التي لجأت إليها ليلا. وكانت دستة من الحلزونات تزحف حول الأعشاب وكانت والدتي تشتم، وتسأل لماذا جاء هذا العدد الكبير منها إلى الباحة، وبالذات إلى ذلك المكان؟. لم أذكر شيئا، فمع أنهم يعلمون أنني كنت مخمورة حين عودتي، لم أكن جاهزة للإصغاء لطقوسهم.

***     

من المدخل وأنا باتجاه قسم الأطفال رأيت السمكة على الطاولة، تسبح في إناء مستدير. كان أندريا يساعد أما شابة معها ابنة بعمر الحضانة.  وضعت الكتب المقروءة على الطاولة، وذهبت بصمت إلى الرف الذي كان وراءه والذي استعرنا منه قصص الأميرة. وانتقيت ثلاثة كنت على علم أننا لم نقرأها.

قال للبنت الصغيرة: "للأسف لم نشتر ذلك الكتاب بعد". شكرته أمها بأدب، وغادرتا. حاولت أن أبتسم له بطريقة مشجعة، ولكنه حينما شاهدني، اعتراه التخشب.

"أعدت خمسة وسأستعير ثلاثة".

ذهب إلى مكانه منكس الرأس، ومسح بطاقة المكتبة، ووضع الكتب المعادة جانبا،  وطيلة الوقت لم يكلف نفسه النظر لي.

قال أخيرا: "لا أعلم ماذا اعتراني".

قلت: "لا تقلق. أنا أصدقك. وعمليا لم يقع مكروه". ولكن أستطيع التأكيد أنه خلال ثوان، ستحطمه نوبة عصبية.

قال: "سيدة وجدتني هنا، ولم يكن الأمر كما يبدو، وتورطت معها بمشكلة. بخصوص التعامل مع الصغار أو ما يشبه ذلك. اشتكت، وتقريبا تعرضت للطرد، ولكن لم يكن الموضوع يستحق".

كررت عبارة تعلمتها من الحياة مع الأولاد ومن الكتب التعليمية التي استعرتها من قسم أعلى بطابق واحد: "أصدقك". تمسك أندريا بالطاولة، وهو لا يشعر بالأمان، ونظر بعيني، مستأنسا بما قلته. أنه ربما يقول الحقيقة، والتي لا أهتم لها. ثم شرع بالبكاء وتقديم أعذار واهية، وكيف أنه يحب الأولاد كثيرا، كأصدقاء فقط، وهو راغب بتعليمهم، وكان يواعد النساء، نساء بالغات وطبيعيات، ولكن لم تنجح محاولاته، وبالأخص مع آخرهن، بعد فترة طويلة، وقد تخلص من ذكراها، وكان عليه أن يشتري السحلية، غير أنه يتراجع دائما، ويا لها من حياة، ويا له من رجل. لم أكن أعرف كيف أرد على دموع ولدي، فما بالك بنحيب غريب كبير بالعمر. ماذا علي أن أستخلص من كلامه المشتت، ومن صورته المضعضعة عن مصاعبه المربكة والطويلة العهد مع النساء، والحيوانات، ومع نفسه؟. وأوشكت أن أصفعه وأنصرف.

وكان على الحافة، فتوقف عن الثرثرة، وابتلع لعابه، وقال: "أنت زبونتي المفضلة".

وعمليا لم أجد ما أقوله حيال ذلك.

***

حينما أتيت لملاقاة الولدين من المدرسة المسائية، كانا يجريان خارج البناء، وبرفقة عدد من زملاء الدراسة، الذين كان آباؤهم بالانتظار، قفزا على السكوتر الخاص بكل منهما. حزمت علبة طعام نينا وحينها أصبحت ميلكا فوقي. عقدت يديها كأنها في صورة دينية، وكانت متوترة، وغير هادئة.

"هل فحصت وظيفة ميشكو عن الحلزون؟".

صحت في البداية نعم، وكنت أنا ونينا نرسم حلزونا، وكان ميشو يكتب عن هرب حلزونه. وحينما أجبتها تذكرت أنه كتب بعيدا عن أنظارنا، ثم وضع دفتر واجباته بسرعة في الحقيبة، وبدأ مع وظيفة الحساب. ابتعدت ببطء عن الخزانات، وخرجت من الممر.

"حلزون نينا رائع، ويجب أن تضعيه في ثلاجتك".

قلت وكنت في الخارج: "بالتأكيد سأفعل".

"وظيفة ميشكو لم تكن...".

قلت ملتفتة نحوها: "هل بإمكانك التوقف عن القول إنها واجب منزلي؟. في أحسن الأحوال هو دفتر واجبات، ويحتاجونه للواجبات المسائية. وإذا لم أحضرهم إلى هنا لن نفكر بمثل هذه الواجبات. لا هما ولا أنا".

لم تحول نظرتها ولو لحظة.

ثم قالت بحزم: "كتب ميشكو في دفتره أن الحلزونات حمقاء. وهذا كل شيء". وأدهشتني بنبرتها الأخلاقية، والتي لم أكن معتادة عليها منها.

"حسنا. بعد يوم سبت في معرض التيراريوم، أنا أؤيده أيضا".

ولكن لم أكن واثقة كما آمل. أمسكتني من ذراعي وقالت: "كما تعلمين، كانت الوظيفة بسيطة. وكل الآباء أدوها، ولم يتذمر أحد. ولم تكن إجبارية ويمكنك أن لا تقبلي بها. بعض الناس لا يحبون ذلك ببساطة".

هبطت على السلالم.

كررت: "وظيفة بسيطة".

قرقعت السكوتر على الشقوق في الممشى. لم تكن نينا تجيد اعتلاء السكوتر، ولكنها اجتهدت لتكون بجانب أخيها وبقية الأولاد. التفتت نحوي، فاصطدمت بحفرة، وأسرعت تلقائيا بالتحرك لمنعها من السقوط أرضا. ولكنها فعلتها مع ابتسامة، وأدت دورة حولي بقوس رائع.

***

.......................

* ترجمتها إلى الإنكليزية Magdalena Mullek.

** سونيا يوريكوفا  Soňa Uriková  كاتبة سلوفينية معاصرة.

 

بقلم: هيلين شولمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

بعد ستة أشهر من وفاة زوجها، عثرت ليلي وايلرستين على يومياته الجنسية مدفونة في الرف الخلفي لخزانة الأرز في ممر شقتهما الواقعة في الجانب الغربي العلوي من مانهاتن، الشقة التي عاشا فيها معًا لما يقرب من أربعين عامًا، منذ ما كان والتر يسميه "عصر الإمكانيات"، حين كانا شابين تقريبًا. كان أول مسكن لهما شقة طويلة كخط السكك الحديدية، (متصلة الغرف على التوالي) في الطابق الرابع، على بعد ثلاث جادات من كولومبوس، وسط تجار المخدرات وبائعات الهوى، ومغنيي الأوبرا والأخصائيين الاجتماعيين—مكان مناسب لزوجين حديثي الزواج في بداية حياتهما. لكن بعد مرور عشر سنوات على زواجهما، عندما وجد والتر إعلانًا عن شقة مؤجرة فرعيًا في ريفرسايد درايف معلّقًا على لوحة الإعلانات في نقابته، شكرت ليلي الله على ذلك؛ أو بالأحرى، ما يعادل الله في نسخته العلمانية (الحظ). كانت حينها في الشهر الثامن من حملها بطفلهما الثالث. ثلاث غرف نوم وغرفة للخادمة.لكن من كانت الخادمة؟ ليلي؟ أم والتر؟

في البداية، كانا يتناوبان على غسل الأرضيات وتنظيف المراحيض. وكناشطَين، بكل ما تحمله الكلمة، كانا يجددان عقد زواجهما كل عام بروح ما آمنَا به في عملهما الحياتي: "لكل حسب قدرته، ولكل حسب حاجتها." كان واضحًا أن والتر يحتاج إلى هذه الغرفة أكثر من ليلي، ولهذا سرعان ما تحوّلت تلك الخزانة الصغيرة التي كانت تُسمى غرفة الخادمة إلى مكتبه-غرفة تخصه وحده- تاركًا لليلي مجرد زاوية على طاولة العشاء لأوراقها وبرامجها التوعوية وتلك الأكوام من الملفات (حملات سياسية، حقوق الإجهاض، جمعية الآباء والمعلمين، ثم وظيفتها الحقيقية كمحامية للأسرة في مكتب عضو المجلس التشريعي،قبل أن تنتقل ببراعة إلى مكتب تشاك شومر). أما خزانة الأرز، فكانت تلك مملكة ليلي؛وبالنسبة لها، كانت تمثل الفخامة بعينها.

والآن، بعد مرور ما يزيد عن أربعين عاماً، وقفت ليلي على أطراف أصابعها فوق سُلَّمٍ خشبيٍّ قديم، تتنشق عَفَن الأوراق المتآكلة وروائح الصور القديمة، وهواءً راكداً اختزنتْه الأوشحة الصوفية ومعاطف الشتاء، بينما تبخَّر عبق خشب الأرز الأحمر الفاخر منذ زمن بعيد . كانت تبحث في الرفوف العليا عن إحدى كنزات والتر الرمادية من الكشمير ذات الياقة المثلثة، متوهمةً بغباء أن هذه القطعة الناعمة التافهة قد لا تزال تحمل رائحته وتمنحها بعض العزاء-يا لها من حمقاء! كانت لا تزال في طور الحداد عليه آنذاك.لكن، ما إن فتحت ليلي أول دفتر من سلسلة مكوّنة من ثمانية دفاتر حلزونية- وكان مشهد خط والتر وحده كافيًا لأن يجعلها تلهث- خطه الأنيق الأوروبي الذي حمل شاعرية جسدية لافتة، حتى إن ليلي شعرت وكأنها تسمع موسيقى تصويرية تصاحب الصفحات، تلك الآلات الوترية الكاشفة… عندها أدركت أنها عثرت على كنزٍ لا يُقدَّر بثمن .

كمن تسير في نومها، حملت ليلي الدفاتر إلى غرفة النوم.هناك، استلقَت هناك على سريرهما الكبير، تقلّب الصفحات تلو الأخرى في سجلات مغامرات والتر المُذهلة والمدمِّرة — قدمَاها مرفوعتان، وبطنها على الوسادة، بنفس الوضعية التي كانت تتخذها وهي مراهقة عندما كانت تقرأ مجلات الأفلام في بيت أبيها في إيست نيويورك— تفتّش بجنون عن شيءٍ ما يمنحها شعوراً أفضل.

شكراً لله، فكّرت ليلي، لقد كنتُ مذكورة. كان والتر يشير إليها مرارًا في المذكرات بعبارات مثل "حبيبتي، ووحيدتي".وقد كانت وصفاته لتقاربهما الجسدي، المتكرر بما لا بأس به، دقيقة تمامًا: "حنون، محب، وملاذ جسدي". على مدار زواجهما الطويل والمعقد، عاشا قصة حب حقيقية؛ كانا يتشاجران ويضحكان ويتحدثان بلا انقطاع، على الهاتف، وعلى طاولة المطبخ، وفي الحمام وهو يحلق وهي جالسة على المرحاض. لطالما أيقنت أنهما أحبّا بعضهما إلى الأبد. ولم تفعل تلك الدفاتر الملعونة شيئًا لنفي هذه الفكرة. لكن من الواضح أنهما لم يمارسا ذلك النوع من الجنس الحارّ، المثير، الخطير، والمفعوم بالرغبة الحقيقية الذي كان والتر منجذبًا إليه بوضوح. أسماء، تواريخ، أوضاع؛ صديقاتها، أصدقاؤه، حتى ابنة عمها "سيل" - التي رحلت منذ زمن بسبب سرطان الثدي - الجميلة، العصبية، غير المتزوجة... لقد ضاجعتْ والتر! وبين السطور (وهذا ما آلمها بشكل خاص، رغم أنها لم تكن متأكدة تمامًا من السبب) ذكرٌ لعلاقات مع رجال، بعضهم أشير إليهم بأحرف أولى، وبعضهم بأرقام، رجال تعرف عليهم في الحانات، أو في مراحيض عامة، أو في القطارات، أو خلال رحلات عمل - فقد كان والتر محاميًا نقابيًا، دائم الترحال للمشاركة في احتجاجات ما، "ينقذ العالم" كما ظنت، بينما كان - كما يبدو الآن - منهمكًا في مصّ عضو سائق شاحنة! في اللحظة التي اكتشفت فيها الحياة السرية لزوجها، توقفت ليلي عن الحداد عليه.

بل على العكس، ما إن وقعت عيناها على ذلك النتاج الفوضوي لحياة إنسانية معقّدة-حياة والتر-حتى شعرت ليلي بالغيرة، وبروح التحدي، وبالرغبة في الانتقام.إن لم تكن قد مارست ذلك الجنس المذهل مع والتر، فهي إذن لم تمارسه مع أحد على الإطلاق.

يا للكلمات التي استخدمها! لوصف الرغبة وحدها: شبق، شهوانية، فحولة، نهم جنسي، تلهّف جسدي، دم حار، شوق ملتهب، وصخور متقدة! حتى أوصافه للأعضاء الأنثوية كانت تكاد تكون صبيانية محرجة - كأنها محارة وردية، أو زهرة رطبة، أو قفاز دافئ. لكن عندما يتعلّق الأمر بالعدة الرجولية، فقد اختار كلمات خشنة: كيس، سَلّة.يا له من مستمتع بدوره السري كـأمين أرشيف، كـكاتب يوميات، كـزانيٍ محترف.

لقد عاشا خمسين عامًا من الزواج السعيد. وثلاثة سنوات بائسة. تلك السنوات العجاف جاءت في النهاية، بعد أن تمكن مرض باركنسون من والتر، فبدأت يداه ترتعشان أولاً، ثم اختل توازنه، وأخيراً تقلصت خطواته إلى وئيدة متثاقلة تشبه تلك التي كان يؤديها تيم كونواي في برنامج "كارول بورنيت شو".وفي إحدى الليالي، بينما كانت ليلي تغطّ في نوم عميق- فالعناية به كانت قد أنهكتها تمامًا!- استفاقت فجأة على صوت ارتطام ارتطام مدوّ، إذ كان والتر قد سقط وصدم رأسه بأرضية غرفتهما الخشبية الصلبة. أصيب بنزيف دماغي حاد، وبحضور أبنائهم الثلاثة البالغين - أحدهم قادمًا من لوس أنجلوس، وآخر من لندن، والثالث آتٍ بسيارة أجرة من الجانب الآخر من المدينة -خضع لعمليتين جراحيتين في الدماغ صباح اليوم التالي.

قضى شهرًا في المستشفى وثلاثة أخرى في إعادة التأهيل، ثم عاد إلى البيت. عاد إلى إلى حياة من التبول اللاإرادي وسكب الطعام والكثير من الالتباس؛ كان الأمر غير مفهومٍ ليلي أن الرجل الذي ثرثرت معه دون توقف لنصف قرن .أصبح الآن عديم الكلام. كان من غير المفهوم أن تلك الشيخوخة الذهبية التي خطّطا لها—دورات تعليمية لكبار السن، رحلة إلى الصين، معًا دائمًا معًا، يحتجّان على كل كارثة قادمة—قد سُلبت منهما فجأة.كان من غير المفهوم، وهي تُحمّمه وتلبّسه ثيابه وتسحبه من جلسة علاجية إلى أخرى، أن هذه ستكون النهاية التي سيلقاها زوجها اللامع، الجذاب، دائم الإثارة، صعب المراس بعض الشيء.

لكن بالطبع، هكذا كانت النهاية. فبعد ثلاث سنوات بائسة، أصيب بنوبات تشنّج متتالية على سريرهما، بينما كانت ليلي تتصل بجنون بالإسعاف، ثم مات، ببساطة مات في ذلك السرير نفسه، السرير الذي تقاسماه طويلاً، حيث سهرت على رعايته ونامت بجواره وشاهدت التلفاز معه . وقرأت له وتشاجرت معه ثم تصالحت معه، السرير الذي كانت تستلقي عليه الآن! لقد مات في سريرهما بوجه مشوّه يعكس الغضب والألم، وجهٌ بدا فيه من الذكاء ما لم تره منذ زمن بعيد. في الموت، كان وجهه يتهمها. وكأنه يقول: لماذا تركتِ هذا يحدث لي؟ كانت تلك ملامح حاولت محوها من ذاكرتها. أما الآن، فقد عقدت العزم على إحياء ذكراه.

انقلبت ليلي على ظهرها، بعيدًا عن دفاتر زوجها الدقيقة، وحاولت التقاط أنفاسها، تلك الأنفاس التي، مثل قلبها في هذه الأيام، اعتادت أن تفلت منها.على سقف غرفتهما، كانت هناك بقعة ماء كبيرة إلى حد ما، يتفرع عنها شق وشروخ، تتخذ شكل مدينة تالاهاسي.هل كانت هذه البقعة حديثة نسبيًا؟ أم أنها، مثل كل مظاهر التدهور في حياتها -بقع الشيخوخة التي انتشرت كالأشنات على ظهر يديها، وتقوس عمودها الفقري الذي أخذ يقصر شيئًا فشيئًا - كانت تتسلل إليها بخفة دون أن تنتبه؟

دوَّنت ليلي في ذهنها أن تتحقق من سبب تلك الشقوق. جيرانها في الطابق العلوي، من الجيل الثاني- البناية خاضعة لقانون الإيجار المحدد- وهم عائلة مكوّنة من خمسة أفراد، كانوا قد انتقلوا منذ زمن إلى الضواحي (ريدجفيلد؟ سكارسدايل؟ مونتكلير!)، وصاروا يستخدمون شقتهم ذات الغرف السبع كمنزل ثانٍ في المدينة، لذا كانت شبه خالية معظم الوقت.

يمكنها أن تحاول استدعاء عامل الصيانة الجديد، فْرِيد، الذي لم تلتقِ به إلا عبر إعلان أُدخل تحت بابها. لم يكن يرد على جهاز النداء، ولذلك لم يكن موجودًا أبدًا عندما تحتاج إليه كانت .أعمال الصيانة المنزلية، والتعامل مع الحرفيين، من مهام والتر، والتي سلّمها لليلي على مضض عندما عجز عنها بسبب المرض. وليس لأن والتر كان ماهرًا بطبعه؛ لم يكن كذلك. لقد كان مفكرًا، مناضلًا، مدافعًا—حياته كانت حياة عقل!(والآن، كما يبدو، حياة الخصيتين أيضًا.) ومع ذلك، لم يكن ليسعد بتسليم أي جزء من سلطته، حتى تلك التي كان يكرهها بشدة.

كانت عجوزًا. هذه حقيقة لا تقبل الجدل. ليلي عجوز وستموت قريبًا. جلست. تدفق الدم من رأسها. وضعت راحتيها على غطاء السرير لتستقر. نظرت إلى يدها اليسرى، التي تحمل خاتم الزواج الفضي البسيط - هي ووالتر، لطالما راودتهما أفكار! لطالما كان لديهما هدف! - وشاهدت عروقها الزرقاء المنتفخة تتدحرج فوق الأوتار الرقيقة التي تشبه أسلاك البيانو، والتي تحرك أصابعها بينما تمدها ببطء. وقفت بحذر، وعندما استعادت توازنها، خرجت ليلي من غرفة نومها وسارت في الردهة، مارةً بخزانة الأرز السخيفة تلك، راكلةً الباب مغلقةً إياه، ثم دخلت المطبخ.

فتحت الثلاجة، وصبت لنفسها بعضًا من عصير الخوخ العضوي من جورجيا، الذي كانت تحتفظ به من أجل أحفادها. جلست إلى طاولة المطبخ، مطيحةً بالقطة السمينة، بَسْتَر، عن مربعها المدلّل من أشعة الشمس. حرّكت كتفيها ورأسها إلى داخل تلك البقعة، واستندت بمرفقيها. كان الضوء المنبعث من الفناء الداخلي (فالنوافذ هنا، لحسن الحظ، تواجه الجنوب) يغمر مطبخها وحمامها وغرفتي الأطفال، اللتين تحوّلتا منذ زمن إلى غرفة ضيوف وغرفة تلفاز- ليلي ووالتر، غرفة تلفاز، يا للسخرية؛ لم يكن لديهما وقت لمشاهدة التلفاز، إلا إذا أخذت سي إن إن ووبرنامج 60 دقيقة في الحسبان؛رغم أنها، في النهاية، وجدت نفسها تشاهد أوبرا من أجل الصحبة- - لقد أحبت ذلك الضوء الجنوبي! شعرت بأشعة الشمس الجميلة على وجهها، واستراحت للحظة. ثم مدّت ذراعها إلى الخزانة التي تحتفظ فيها بالكحول، فتحت زجاجة فودكا صغيرة من تلك التي تُقدَّم في الطائرات، وصبتها في عصيرها.

كان زوجها قد مات. لم يكن بوسعها أن تشكوه إلى أمه وتحاول كسب السيدة وايلرستاين إلى صفّها، أو أن تبوح بالأمر لأبيها الغاضب الدائم الإحساس بالإهانة، ذلك الذي ربما كان سيطارد والتر بسكين مطبخ-كما فعل من قبل مع زوج أختها رينا الأول، حين ضبطته رينا مع عاملة التنظيف. لقد ماتوا جميعًا: السيدة وايلرستاين، ووالد ليلي، وأختها، وزوج أختها الأول، مايمان، وزوجها الثاني، بول- ماتوا، ماتوا، ماتوا، وبهذا صاروا في مؤامرة ضدها.

كانت ليلي وحدها.

شربت ليلي كأسها، مزيج الفودكا وعصير الخوخ، في جرعة واحدة شرهة ونهمة. ستعيش بدونهم، جميعهم، هؤلاء الأوغاد. رفعت ليلي سماعة الهاتف. طلبت رقم ابنتها الكبرى، ميرا. ميرا. الفاسقة، الجامحة. العاهرة.. سألت ليلي

- كيف أعيش بدونهم؟

ثلاث مرّات أسبوعيًا، في المتوسط، خلال الأشهر الستة الماضية، كانت ليلي تتصل بابنتها طارحة عليها هذا السؤال. وهي تحدّق في تقويم نايتشر كونسيرفانسي المثبت على جدار المطبخ. أبريل. زهور وأمطار. وماذا في ذلك؟

كانت ميرا قد طُردت من بيتها على يد زوجها قبل بضع سنوات، بعد أن ضُبطت مرة أخرى، - وهذه المرة في علاقتها الثالثة -مع عشيق أصغر سنًا.(لقد ورثت جينات والدها! الأمر وراثي! لو أن ليلي كانت تعرف، لما أرهقت نفسها كل هذه السنوات في لوم ذاتها. انفلات ميرا الأخلاقي إرث من والدها. هي غلطتك اللعينة، يا والتر!)

أما أولاد ميرا الثلاثة، فكانوا يقضون السنوات الأخيرة متنقّلين كالحافلات الصغيرة بين شقّتي والديهم، الولد بين الجانبين الشرقي والغربي، والبنتان بخدمة سيارات أجرة من القرية. وكانت ميرا قد اكتشفت، كما تقول في أيامها الجيدة-الأيام التي لا تتصل فيها بليلي لتسأل: كيف أعيش من دونهم؟ - أن الطريقة الوحيدة لتحظى بحياة وأطفال هي الطلاق.كل متع الأمومة، مع إمكانية النوم حتى ساعة متأخرة كل أسبوعين، وقراءة كتاب، وممارسة الجنس، والذهاب للنادي الرياضي، وتناول الطعام بالخارج، ومشاهدة فيلم، والتحدث على الهاتف، ومواصلة حياته المهنية.

كانت ميرا محامية في قضايا الطلاق، وأصبحت الآن مستشارة قانونية في بنك.(مدرسة فيلدستون. معسكر باكز روك للعمل. كلية أوبرلين. متطوعة في بنك طعام في أحد أفقر أحياء كولورادو. والآن أصبحت مصرفية! أين أخطأوا في تربيتها؟)«

قالت ميرا بحدة طفيفة وهي تمضغ علكتها:

- وماذا يعني أن 'تعيشي'؟

كان أحد أيام الأحد التي تتناوب فيها على رعاية الأطفال، وميرا دائمًا ما تكون عصبية في نوبتها؛ فهي تحب أطفالها كفكرة، من حيث المبدأ فقط. في الخلفية، كانت الحرب العالمية الثالثة تدور رحاها بين أحفاد ليلي. وفي يوم جميل كهذا، كانوا يتعاركون داخل الشقة. كانت ليلي ستراهن بكل ما تملك على أن النوافذ كانت مغلقة كلها.

- كوني أكثر تحديدًا يا أمي. ماذا تقصدين بالضبط؟

قالت ليلي، وقد أثرت فيها الفودكا:

- أريد أن أمارس الجنس.

عندها، أصدرت ميرا فرقعة عالية بعلكتها. قالت ميرا:

- اذهبي إلى فلوريدا.

كانت نصيحة جيدة، لكنها تطلبت بعض التحضير.

قالت ليلي:

- بعيدة جدًا.

ردت ميرا:

- هناك يوجد الرجال، في مثل عمرك.

ثم صرخت من فوق كتفها:

- ليزي بوردن الصغيرة، ضعي السكين فورًا!

ثم عادت للحديث إلى والدتها.

- لا يمكنك الذهاب إلى حانة. لقد كبرتِ في السن. يجب أن تبحثي عن شخص كنتِ تعرفينه- أرمل لإحدى صديقاتك كنتِ تظنينه جذابًا، أو شاب من أيام المدرسة الثانوية، أو من مركز الخدمات الاجتماعية. أو كلية المدينة. إعادة التدوير تنجح دائمًا بالنسبة لي. يمكنك استخدام جوجل . بحثتُ الأسبوع الماضي عن بيلي رابابورت، تتذكرينه؟ من أيام المعسكر الصيفي؟ وكانت النتيجة رائعة. إنه مطلّق ويعمل وكيل عقارات في نيوجيرسي. أخذني إلى مطعم لو برناردان وصرف أطنانًا من المال، حتى قبل أن أسمح له بلمسي قليلًا في المقعد الخلفي من سيارة أوبر.

لحسن الحظ، انقطع الخط. تمنّت ليلي أن أحد الأحفاد قد نزع السلك من الحائط حتى لا تضطر إلى الاستماع لتلك الحمقاء ميرا. الحفيد الأصغر، الشرير، آدم. من المحتمل أنه الفاعل. وكان آدم هو الأحب إلى قلبها.

شارع 92 ومركز Y. هذا هو المكان الذي يقصده كبار السن عندما يشعرون بالوحدة. عندما لا يذهبون إلى فلوريدا، فكرت ليلي، ولم يصلوا بعد إلى مرحلة الخرف الكامل. لم يكن لديها وقت من قبل لكل تلك الأنشطة التي قرأت عنها في كتالوج المركز، لكنها كثيرًا ما كانت تقرأ عناوين البرامج وهي تتنهّد إعجابًا بالمحاضرات التي لم تحضرها، وبصفوف الفنون التي لم تجد لها وقتًا.

مركز شارع 92 - ذلك المكان الذي يلجأ إليه العجائز عندما يشعرن بالوحدة.عندما لا يذهبنن إلى فلوريدا، كما فكرت ليلي،وعندما لا يكون الخرف قد استولى عليهن بعد..لم يكن لديها يومًا وقت لكل الأشياء التي كانت تقرأ عنها في كتالوج المركز، لكنها كثيرًا ما كانت تتصفح العناوين وتتنهّد إعجابًا بالمحاضرات التي لم تحضرها قط، وبصفوف الفنون التي لم تجد لها متسعًا في جدولها.

أما الآن، فقد بات لدى ليلي متسع لكثير من الأشياء. مثل قراءة كتالوج مركز الشارع 92 من الغلاف إلى الغلاف. كانت هناك أمسيات شعرية – مضيعة للوقت في رأيها. وكانت هناك حفلات موسيقية، تحبها، خاصة تلك التي تعزف فيها الآلات الوترية. وكانت هناك محاضرات. وهناك أيضًا "دورات لغوية مكثفة ليوم واحد" للإيطالية -يا لها من فكرة ذكية! يوم واحد فقط، فهذا وحده كان التزامًا كافيًا لجيلها.

رفعت الهاتف وسجّلت في درس اللغة. ثم عادت إلى قنينات الفودكا الصغيرة، وشربت حتى ثملت بما يكفي لتغفو قبل نشرة أخبار السادسة، في غرفة التلفاز- فهي لم تكن تطيق العودة إلى سريرها الكبير، ذلك الذي، كما يبدو، استخدمه والتر في عام 1987 ليُجري "تجاربه" الخاصة على معلمة البيانو القبيحة والممتلئة الخاصة بابنتهما ميرا.

لقد كان زانيًا من الطراز الأول، ذلك الوغد والتر. وللحظة، سمحت ليلي لنفسها بأن تشتاق إلى قلبه الطيب والسخي.

**

في صباح أول وآخر درس إيطالي لها، انتابها شعورٌ مفاجئ أثناء الاستحمام. أدركت أنها لا تزال تُجاري غيرها في الجاذبية! كانت تعتني بجسدها بعناية—ليس لأنها توقعت حدوث شيء على الفور، لم تكن تتوقع ذلك، كانت تعرف أن الأمور الرومانسية تستغرق وقتًا، لكنها لم تكن تبحث عن الحب، بل عن الجنس؛ ولذلك هيأت نفسها لاحتمالية حدوثه. فالجنس، كما يبدو، الجنس بحسب والتر—هكذا كانت تشير إلى دفاتره الآن في ذهنها، الجنس بحسب والتر—يمكن أن يحدث من دون حتى مجرد تعارف سطحي.

حلقت ساقيها بعناية حول شبكة الدوالي الزرقاء التي كانت تزيّن بطتي ساقيها، وحول مثلث شعر العانة، الذي غدا فضيًّا وخفيفًا، وتحت إبطيها للمرة الأولى منذ شهور. منذ ما قبل وفاة والتر. بل منذ ما قبل ذلك بكثير. استغرقت وقتًا في ذلك. كانت ساقاها لا تزالان نحيفتين، لكن الجلد عليهما كان متجعّدًا، ينسدل بلطف حول فخذيها الداخليين في طيّات صغيرة تشبه الثنيات. رغت جسدها بالصابون بعناية، كل ثدي منها كان زلقًا وثقيلاً، ترفعه يد لتتمكن الأخرى من تمرير الصابون تحته وحوله جيدًا. غسلت شعرها ووضعَت عليه البلسم. وعندما أغلقت الماء، وضعت مرطبا على الكتلة الطرية المتحرّكة من جلدها، ذلك الجلد الذي صار منفصلًا الآن عن الجسد تحته. استخدمت الملقاط لإزالة الوبر الداكن قرب سُرّتها، وحول حلمتي ثدييها، وأخيراً، بتحدٍ أمام المرآة الكاملة الطول، حول ذقنها. يا إلهي!

ثم وقفت تتأمل نفسها لوقت طويل. نعم، كان ثدياها مترهّلين، لكنهما لا يزالان ممتلئين، وكانت بشرتها مرتخية، لكنها لم تكن بدينة، والغريب أن جسدها بدا أصغر سنًا من وجهها ويديها. أقل تجعّدًا بكثير. لا بد أنها تستطيع العثور على شخصٍ ما يرغب في مضاجعتها، شخص عجوز ويائس، وربما شبه كفيف. لا بد أن هناك عجوزًا سيكون سعيدًا بما يكفي، مع قليل من الفازلين، لأن يُدخل عضوه الذكري في مؤخرتها، واحدة من الممارسات الجنسية الكثيرة التي كان والتر يتغنّى بها في دفاتره- ومع ذلك، لم يحاولها ولو مرة واحدة مع زوجته. استدارت ليلي وفتحت مؤخرتها بيديها، وتأمّلت فتحة شرجها في المرآة، بشفتيها الورديّتين الجميلتين المطبقتين. لا شيء يعيبها في هذا الجانب.

لفّت ليلي نفسها بمنشفة. وضعت المكياج ومزيل العرق، فرّشت أسنانها وشعرها المبتل الذي بدأ يجف. ثم مشت بخفّة عبر الممر إلى غرفة نومها، حيث بذلت قصارى جهدها لترتدي شيئًا جاذبًا. ارتدت جينزًا، جينزًا عاديًا، ليس من ذاك النوع الذي ترتديه الجدّات، بل من نوع «ليفايس» الذي اعتادت ارتداءه منذ أن أعجبت به على أجساد الشابات في كل تلك المسيرات المناهضة للأسلحة النووية: جينز، وحذاء قصير، وسُترة صوفية وردية ناعمة. في البداية صفّفت شعرها الفضي على هيئة كعكة فرنسية، لكن الدرس كان في الانغماس في اللغة الإيطالية؛ وأرادت أن تبدو إيطالية! (ربما كان حلق شعر الإبطين قرارًا خاطئًا؟) لذلك فكّت شعرها وتركته منسدلًا في تموجات حول كتفيها. هل بدا ذلك شاطئيًا أكثر من اللازم؟ جامحًا؟ جمعت الجانبين من شعرها إلى الخلف على هيئة ذيل أميرة باستخدام مشبك.

كانت فتاة جذابة في شبابها، بجسد جميل، وثديين كبيرين، وأرداف ليست كبيرة جدًا. وعلى مدار السنين ازداد وزنها، ثم نحفت؛ وبعد وفاة والتر، توقّفت عن الأكل. لو أن العلاقات المثلية نجحت مع زوجها... لربما كانت المرأة أكثر تسامحًا. محارة وردية، زهرة مبللة، قفاز دافئ.

عندها سقط السقف حرفيًا. أو على الأقل قطعة كبيرة منه، قطعة على شكل ولاية فلوريدا بأكملها. سقط في وابل من الطلاء والجص، وأخطأ ليلي ببضع بوصات، لكنها غطّتها، وغطّت ملابسها، بالغبار.

استغرقت ليلي لحظة لتدرك ما حدث للتو. صارالسقف الآن على الأرض، العالم انقلب رأسًا على عقب، ملابسها ويومها وسجادتها — دُمِّرت كلها ظاهريًا. لكنها هي نفسها لم تُصب بأذى. قرصت ظهر يدها الرقيقة، فانتصب الجلد وبقي على حاله، فقدت بشرتها مرونتها منذ زمن. كانت لا تزال حية، بينما فلوريدا المتصدعة متناثرة من حولها. هكذا إذن، لا اكتشاف لمتعة المثلية اليوم. كانت حية، ووحيدة، وبفوضى عليها أن تنظّفها، قصة حياتها.

في تلك اللحظة، تكلم الله، أو ما بدا لها كصوت الله كما تعودت أن تتخيله، صوت رجولي قادم من العلو، جهوري، عميق كالكونترالتو..

- لـ ـي، هل أنت بخير؟

"ليـ..." — لم تعرف ليلي إن كان الصوت يقول "سيدتي" أم "ليلي"، فالتحية الشخصية ستكون مناسبة لإله عالم بكل شيء، بينما الأخرى تناسب "سائق الشاحنة العظيم في السماء." حتى هذا وجدته مذهلًا.نظرت إلى الأعلى، ورأت ثقبًا في السقف وسط الحطام. في مركز الثقب، كانت هناك عين تحدق نحوها.

رفعت عينيها نحو السقف، ورأت فجوة وسط الفوضى العارمة. وفي مركز الفجوة، كانت هناك عين.تحدق بها من الأعلى. قال الصوت،"ربما لم تكن فكرة السرير المائي الأفضل"، صوت عميقٌ وموجع، بنبرة مذيع الراديو، المرتبط على الأرجح بتلك العين - قزحية زرقاء لامعة، محاطة برموش سوداء، بتفاصيل مدهشة في التفاصيل.عندها لاحظت ليلي تساقط الماء باستمرار، تقط تقط تقط على سريرها. كان يبلّل الجصّ ويحوّله إلى ما يشبه الصمغ. "لم أكن على علم بالتسرّب، لكنني سأُصلحه في أسرع وقت."

كان الوضع يؤلم رقبتها، فتوقّفت عن النظر إلى الأعلى. بدلًا من ذلك، خرجت من غرفة نومها بحثًا عن غطاء بلاستيكي لتغطية مفرش السرير المخرّب، وعن ثياب بديلة- كلاهما كان في خزانة الأرز. عندما رأت انعكاسها في المرآة بالممر، انتابها الذعر: مغطاة بالجص على هذا النحو، بدت وكأنها ميتة بالفعل، شاحبة كالشبح.

كانت قد تخلّت لتوّها عن ملابسها التي انتقتها بعناية وارتدتها بأمل—يا تُرى، هل يستطيع محل التنظيف الجاف إنقاذ ذلك السويتر الوردي الناعم؟- وارتدت بدلًا منها فستانًا مقلدًا لتصميم ديان فون فورستنبرج. كانت ميرا قد اشترته لها كرشوة بعد طردها من المدرسة الثانوية لأنها كانت تمارس الجنس الفموي مع أعضاء فريق الرياضيات، عندما رنّ جرس الباب.

ربما كان فريد، المشرف الجديد، قد أتى لينقذها. مشت ليلي نحو الباب الأمامي، تربط فستان اللفّ على عجل، وخلفها أثر من الغبار. ربما سيكون ملاكها الحارس.

وحين فتحته، وقف أمامها رجل مسنّ، غير حليق، يرتدي قميصًا مصبوغًا بألوان "تاي داي" وبنطال جينز، شعره الرمادي طويل يلتف حول أذنيه، وعيناه الزرقاوان فاتحتان كسماء الصباح، تحفُّهما رموش داكنة طويلة، ناتجة على الأرجح عن تناول الإنترفيرون، رموش باربي، مهدورة على رجل. لم يكن الأمر يتطلب عبقريًّا لفهم أن هذا العجوز هو صاحب السرير المائي في الطابق العلوي. كان يحمل مكنسة كهربائية، وممسحة، وكيس قمامة.

قال:

- أرجوكِ، الأمر خطأي، لم أكن أعلم أن الصمّام كان يسرّب. اسمحي لي أن أتكفّل بتنظيف الفوضى.

" يتكفّل بالتنظيف؟" فليكن. ليلي لا تمانع، لكن من هو هذا الرجل؟ لم تره من قبل.قالت:

- من تكون؟

فأجاب الرجل المسن:

- اعذريني، اسمي إيرف، إيرف جورنشتاين. أنا عم ناثانييل سوان. سمحوا لي بالإقامة في شقتهم.

كان ناثانييل سوان جار ليلي في الطابق العلوي.

قالت ليلي:

-  حسنًا، يا إيرف، لقد دمّرت غرفة نومي تقريبًا. والآن بعد أن صار هناك ثقب في السقف، أعتقد أن علينا الاتصال بالمختصين، ألا ترى؟»

قال إيرف بلهجة مستهجنة:

- المختصين! لم أكن يومًا أخشى العمل الشريف. تركت دراسات العليا من أجل المصانع، ثم تركت المصانع لأعمل في السكك الحديدية! بنيت جسورًا، وحفرت أنفاقًا. كنت عامل نظافة، ونادلًا، وسجّلت ناخبين. وفي صيف واحد رائع، قطفت العنب في فرنسا. ورعيت الأغنام في كومونة بكاليفورنيا. كل هذا قبل أن أحصل على شهادة المحاسب القانوني.

كان إيرف في غرفة نومها. ولم يكن أمامها من خيار سوى أن تتبعه. قال، موجّهًا حديثه إلى الهواء:

- كنت دائمًا ما أوقف التسريبات وأمسح الفيضانات.

لم يكلّف نفسه عناء النظر إلى ليلي، كان منشغلًا جدًا بتصحيح الأخطاء، والتكفير عن الذنوب. كان لديه الكثير ليعوّضه.

تابع وهو يزمجر:

- من المؤسف أن الأعاصير لم تغسل تلك الولاية النتنة بأكملها.

كان من الواضح أنه ممتن لوجود مهمة أمامه، مهمة تنقذه من أي تأمل داخلي. وأضاف بصوت عالٍ:

- باركلاند! ملهى النبض! طفل أسود في الثانية عشرة يُحكم عليه بالمؤبد! ناس ملوّنون يُطردون من مراكز الاقتراع! وكلهم مسجّلين كديمقراطيين! هل هذه هي أمريكا؟

كان إيرف أشبه بدرويش أشيب يدور حول أرضية شقتها الخشبية، رأسه الرمادي يلتف في الهواء. (كانت ليلي تعرف الـ"ديدهدز" حق المعرفة؛ ابنها الأوسط، إيريك، أمضى سنتين من عمره في جولة "تور" مخدّرة مع فرقة غريتفول ديد. هي ووالتر عثرا عليه وهو يتلوّى من المخدرات في موقف سيارات في "ريد روكس"، كولورادو، وسط مئات من الأطفال التائهين البائسين مثله تمامًا. مركز هازلدِن. التعافي. والآن صار لديه شركة شحن بضائع خاصة به في لوس أنجلوس. متزوّج، لديه قرض رهن عقاري وطفلان. لكن ليلي لن تنسى أبدًا تلك الأمسية في كولورادو—حدقتا إيريك كانتا كدوائر متداخلة، ووجهه أحمر كالحافة الضخمة من الصخور التي كانت تحيط بهم تحت وهج الغروب—ووالتر يلتقط الصبيّ كأنه رضيع، يرفعه فوق كتفه، ثم يلتفت إليها قائلاً:

- ليل، هل رأيتِ يومًا لونًا كهذا؟

نعم، كانت الجبال تبدو آنذاك مثل قطعة لحم نيئة فاخرة. كان والتر رجلاً حسّيًّا، حتى أثناء إنقاذه لابنه، كان الجمال من حوله يذهله ويشله مؤقتًا. وقتها، لم تكن ليلي متأكدة إن كانت هذه الصفة تجعلها تحب زوجها أكثر أم تدفعها لكرهه.)

والآن، بعد أن مات والتر، ها هو إيرف جورنستين في شقتها، ذلك الهيبي العجوز الذي ربما باع لابنها إيريك أول قرص "ويندوزبين" في حياته. كان إيرف يرفع قطعًا ضخمة ومبللة من الجص ويكدسها في كيس القمامة.

قال:

- سأرسل اللحاف إلى المصبغة. يعرفونني هناك.

قالت ليلي:

-حسنًا.

لكنها فكرت: يعرفونه هناك؟ لماذا؟ لأنه هو من يوصل الغسيل؟

قال إيرف:

- عليكِ أن تأخذي حمامًا، أن تنفضي الغبار عن شعرك. إنه يطفئ لمعان اللون الفضي ويغطيه.

لقد لاحظ اللمعان في شعرها! رفعت ليلي يدها لتربّت على رأسها، فالتقت راحتها بطبقة من الغبار.

قالت في طاعة:

- حسنًا.

كأنها فتاة صغيرة، فتاة صغيرة مشدوهة ومنتوَبة، وربما – ربما – مُغازَلة؟ ثم عادت إلى الحمّام، الذي كان لا يزال رطبًا من حمامها قبل ساعة.

دخلت الحوض من جديد. وتركت الماء الساخن ينهمر على جسدها مرة أخرى. وبينما ارتفع البخار، راحت تراقب دوامة الغبار وهي تتجمع عند المصرف، وتنساب نزولًا كما في ساعة رملية. وفجأة فكرت: يوجد رجل في شقتي. رجل غريب!

كانت عارية، وحيدة، في الحمّام.

قبل أن يتسلّل الخوف أو الحس السليم إلى وعيها، طرقت الفرصة بابها. ربما يكون هذا الإرف هو خلاصها.

من لا يخاطر لا يربح. الأفضل أن تأتي متأخرًا من ألا تأتي أبدًا، و... إلخ، إلخ.

لتذهب دروس الإيطالية إلى الجحيم. ستوفر أجرة الباص الذي يزحف بها عبر الحديقة.

يملك إيرف قضيبًا، وعيناه جميلتان. خرجت ليلي من الحمّام، ولفّت جسدها بمنشفة وردية مخملية، أظهرت كتفيها، وعظمة ترقوتها الثابتة الجميلة، وذراعيها البيضاء الناعمتين.

عادت إلى غرفة نومها.

كان إيرف جورنستين لا يزال هناك، في غرفة نوم ليلي، ظهره نحوها، وقميصه المصبوغ بألوانٍ متداخلة يشبه دائرة تصويب تحيط بكرشه، لكن من الخلف- باستثناء تلك الضفيرة القصيرة في مؤخرة رأسه – كانت ليلي تكاد تعجب بقوة عموده الفقري المنحني قليلًا.

سألت ليلي:

- هل تؤمن بالحب؟

استدار إيرف ببطء وقال:

- كنت أؤمن، أيام الكوميونة.

ثم أضاف بأسى:

- لكن بعد ثلاث زوجات وكل تلك النفقة... تعلمت أن لا شيء يأتي مجانًا.

قالت ليلي، محاوِلة التظاهر باللا مبالاة، رغم ارتجاف صوتها:

- وماذا سيكلفني إذًا؟

قال إيرف:

- هل أنتِ جادة؟

كان يواجهها الآن، وفي يده كيس قمامة أسود من نوع "هيفتي"، وفي الأخرى خرطوم المكنسة الكهربائية. كان يرفعه من وركه كأنه قضيب فضي ضخم. يا لهذا البطن الكروي! لا بد أن تبذل جهدًا لتتجاهله.

قالت ليلي:

- زوجي ميت.

قال إيرف:

- أتمنى لو كانت زوجاتي كذلك.

ثم تنهد وقال:

- اثنتان منهن اجتمعتا وتشاركتا في شقة بمنتجع بالم بيتش. ورغم كل ادعاءات الحياة الزوجية،

ووضع الخرطوم بين ساقيه ورفع يده ليشكل علامة الاقتباس في الهواء

–  يمارسانها .

ثم تنهد مجددًا:

- صفقة تجارية فقط لابتزازي.

يا له من كره للنساء! فكرت ليلي.

قال:

- الزوجة الأخرى، جيني، كانت حبيبتي في المدرسة الثانوية، وكان من المعجزات أنها عادت إليّ! التقينا مجددًا بجوار المسبح في دار للرعاية. كانت تزور شقيقتها، ليندا. تزوجنا لبضع سنوات فقط، كنا صغارًا جدًا، صغيرين جدًا، وعندما جمعنا القدر من جديد، ظننا أننا استسلمنا مبكرًا. لكن بعد المشاكل، أوه، كل تلك المشاكل!

هنا تنهد إيرف تلك التنهيدة اليهودية القديمة، تنهيدة بدت وكأنها عبرت إليه من جيل سابق، تنهيدة لا يمكن تجاهلها، ذكّرت ليلي بأبيها –

- حتى جيني، السمينة، الطيبة، الوفية، لم تستطع أن تخرجني من خدرِي.

هز رأسه وقال:

- غرفتك، انظري إليها، نظيفة تقريبًا. تحتاج فقط إلى سقف جديد، ومختص لتنظيف السجاد بالبخار. سأشتري لك غطاء سرير جديد، أو لحاف، إن أحببت، أو حتى أصنعه لك بنفسي.

نظرت ليلي إليه وقالت:

- أتصنع اللحف؟

لو كانت رجلاً، لشعرت بأن انتصابها بدأ يخبو.

- أأنت صانع لحف؟

قال إيرف:

- الحياة كلها عن إعادة الابتكار. السؤال هو: كيف سأفعلها هذه المرة، للمرة الأخيرة.

جلس على طرف السرير.

يا إلهي، لا. هل هذه هي اللحظة التي سيبدأ فيها في الثرثرة عن حياته؟

قالت ليلي:

- عليّ أن أرتدي ملابسي الآن. وعليك أن تعود إلى شقتك في الطابق العلوي.

قال إيرف:

- لم أتناول الفياجرا هذا الصباح، لكنني مستعد إن كنتِ أنتِ كذلك.

تحدث وهو ينظر إلى الأرض.

- أنتِ ديمقراطية، أليس كذلك؟

قالت ليلي:

- أنا تقريبًا اشتراكية.

قال إيرف:

- أنا وأمثالي السبب في كل هذه الفوضى.

ثم وضع رأسه بين يديه وبدأ يبكي.

- أنا مكتئب سريريًا، كما أنكِ بالتأكيد لاحظتِ. الفياجرا تتداخل مع الوِلبوترين.

قالت ليلي:

- لا يبدو هذا مبشّرًا جدًا.

كانت متأكدة أنها لم تكن يومًا بهذه الوقاحة.

قال إيرف، وسط نحيبه:

- بالطبع تحتقرينني. أنا أحتقر نفسي.

قالت ليلي:

- أوه، إيرف.

لقد قضت حياتها في مواساة الرجال. كانت ردة الفعل هذه آلية تمامًا، موروثة من أمها، التي كانت تمضي معظم وقتها في تهدئة زوجها المذعور كثير الشكوى.

قال إيرف:

- الآن تقولين "أوه، إيرف"، لكن عندما تعرفين الحقيقة، لن تزعجي نفسك حتى بقول "أوه، إيرف".

قالت ليلي:

- ما هي؟ ما هي؟ لا تجعلني أخمّن. أنا كبيرة في السن، والوقت قليل. أين "الخط الأحمر" في هذه المعادلة؟

كانت تقتبس من ابنتها ميرّا المصرفية.

قال:

- أنا من بالم بيتش.

قالت ليلي:

- وماذا في ذلك؟

نظر إليها وقال:

- بطاقات الاقتراع المخرّمة؟ الحمقى الذين صوّتوا لبات بيوكانن؟ كنت واحدًا منهم.

حدّقت ليلي فيه. وقالت:

- هذا كان منذ سنوات!

قال:

- لا، لا، لا. لقد غيّرتُ مجرى التاريخ! أنا واحد من أولئك الحمقى الذين أوصلوا بوش إلى البيت الأبيض. وماذا حصل بعد ذلك؟ أحداث 11 سبتمبر. العراق. سوريا. زعزعة استقرار الشرق الأوسط. كل ذلك الموت والدمار! الهجرات الجماعية. صعود القومية. من دون بوش، ما كان ليكون هناك ترامب. ومن دون إيرف جورنستين، ما كان ليكون هناك بوش.

قالت ليلي:

- وماذا عن أوباما؟

قال إيرف:

- أوباما... لثماني سنوات متتالية كنتُ مهووسًا بأوباما.

ثم تنهد تلك التنهيدة المَرَضية من جديد.

ثم أضاف:

- في نهاية المطاف، يا ليلي الجميلة، كل شيء يبدأ بي.

أدركت ليلي أن في نزعة إيرف النرجسية مفارقة عجيبة - فبينما تنطوي على حكمة ما، تحمل في طياتها جنوناً لا يُنكر. ربما كان له وجهة نظر، في زمنٍ انحدرت فيه القيم إلى الحضيض، حيث ساد خطاب الكراهية وعادت نزعات التعصب بثوبها الجديد، بينما أضحت عبادة المال هي الديانة السائدة. أليس من المنطقي عندئذٍ أن نرى أن جهود جيلها - جيل إيرف ووالتر - ذهبت أدراج الرياح؟

تذكرت ابنها إيريك في أيامه الضائعة، حين كان يهذي بفلسفة "ماندالا الرمال" التي تعلمها من الرهبان التبتيين - أولئك الذين يقضون أياماً طويلة في صنع لوحات فنية بديعة من أحجار ثمينة مسحوقة، ليمسحوها فور إتمامها في لمحة عين. كان يلقنها دروساً عن "جمال الزوال" من على أريكتهما البالية، بينما كانت عيناه البنيتان تدوران كعجين الكعك في الخلاط الكهربائي.

"عِيشي اللحظة"

نصحها ابنها المدمن وهو تحت تأثير الهيروين، ذلك الابن الشاعر الذي ظل الأقرب إلى قلبها. لا عجب أن والتر كان يضاجع كل ما يتحرك.

قالت ليلي، وهي تشد منشفتها أكثر حول صدرها:

- أظن أنكَ يجب أن تعود إلى بيتك.

نهض إيرف بحزن من مكانه.قالت ليلي:

- لا ينبغي أن تلوم نفسك. ستشعر بتحسن حين تغسل وجهك.

قال إيرف بتردد:

- ربما.

سلمته ليلي مكنسته وممسحته، وحملت كيس القمامة بنفسها، ثم بدأت بتوجيهه نحو الممر بدفعة خفيفة. وأرشدته حتى الباب الأمامي. عندما فتحته، وجدت رجلاً وسيماً بقميص أسود وجينز أسود، يحمل حقيبة أدوات، واقفاً على ممسحة الباب.قال إيرف:

- آه، فريد! لقد تلقيت رسائلي.

لم تتحرك عضلة واحدة في وجه فريد. بدا منحوتًا، كما خمنت ليلي، من خشب مُلطخ بالشاي. أشبه بتمثال ملاك من حضارة أخرى، ربما من المستقبل الساحر؟ تلمع عيناه الخضراوان للحظة، وكأن طاقة تنبض داخله، أو ربما كان ذلك بسبب لمعان شعره الأحمر الناعم—بلون خشب خزانة الأرز في منزلها—الذي جعل عينيه تشعان. أو ربما كانا يتلألآن بسخرية من هذا المشهد العجائزي الذي وجدت ليلي نفسها، ولأسباب غامضة، جزءاً منه.

قال إيرف:

- المشكلة هناك في غرفة النوم .

انزلق فريد، برشاقة نمر الغابة، متجاوزاً إيرف بقميصه الملون وليلي بمنشفتها، وتوجه نحو الممر.قال إيرف، مركزاً الآن بالكامل على ليلي.

- كان من دواعي سروري التحدث معك، أنتِ شخص طيب.

فكرت ليلي.طيب؟! الطيبة لم تأتِ بأي أحد إلى أي مكان! لكنها قالت:

- شكراً لك.

- ربما يمكنني أن أدعوكِ لاحتساء القهوة يوماً ما؟

قالت ليلي:

- سنرى، إيرف، الله وحده يعلم ما يخبئه المستقبل لأي منا. في عمري هذا، لا أزعج نفسي بشراء مواضيد خضراء.

ابتسم قليلاً عند سماع ذلك، وأخذ كيس القمامة من يدها. ثم استدار إيرف حاملاً مكنسته وممسحته، واتجه نحو المصعد واضغط على الزر.

بالعودة إلى الشقة، في غرفة النوم، كان فريد الغامض يفحص الثقب في السقف بعينيه.قالت ليلي:

-  بعض الجص سيصلح هذا، أليس كذلك؟

حوّل فريد نظره من السقف إليها، متفحصاً إياها بعينيه الزمرديتين.

وقف الاثنان هكذا لبرهة، قبل أن تدرك ليلي أن منشفتها قد انزلقت، كاشفةً عن جانبها الأيسر.كان فريد يحدق في صدرها.حسناً، ولماذا لا؟ فكرت ليلي. إننا نعيش مرة واحدة فقط. تركت المنشفة تسقط إلى قدميها.(لقد رأت هذه الحركة مراراً في الأفلام!)

فيما بعد، وهما عاريان على السرير في غرفة التلفاز، وكان فريد قد دخلها من الخلف، إحدى يديه تداعب بظرها، والأخرى تقبض على ثديها – (توقعت ليلي أن يكون جسده خاليًا من الشعر، وأن يكون فخذه ناعمًا كالدمية كين، لكن لا، فريد رجلٌ بكل معنى الكلمة، رجلٌ بكل معنى الكلمة في كل شيء. كانت ستخبر ميرّا لاحقًا بذلك، وستقول لها بفخر، ممتزج بالحسد: "أحسنتِ يا أمي!") شعرت ليلي برغبة في أن تصرخ:

- يا والتر! كيف تخليت عني؟

لكنه كان قد مات. وليلي لم تكن ميتة.

ولذا، خرج صراخها من أعماق قلبها، كآهة واحدة عظيمة، ممتلئة، ودسمة، مشبعة باللذة.

(النهاية)

***

...................

* من كتاب: من حمقى من أجل الحب: قصص، بقلم هيلين شولمان . 2025

https://lithub.com/i-am-seventy-five

الكاتبة: هيلين شولمان/ Helen Schulman: (مواليد أبريل 1961) هي روائية وكاتبة قصة قصيرة ومقالة وسيناريو أميركية. حققت روايتها الخامسة This Beautiful Life نجاحًا عالميًا، وقد اختيرت ضمن قائمة 100 كتاب بارز لعام 2011 في نيويورك تايمز بوك ريفيو. وُلدت هيلين شولمان في مدينة نيويورك، حيث تعيش وتكتب وتدرّس. حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة كورنيل، ودرجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة كولومبيا. نشرت حتى الآن سبع روايات، وصدر لها هذا الشهر( يوليو 2025 ) مجموعة قصصية بعنوان: حمقى من أجل الحب / Fools for Love.

 

بقلم: مارجا مينكو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

 ***

  سألتُ:

 - أما زلتِ تذكرينني؟

  نظرتِ المرأة إليّ بتمعن. كانت قد فتحت الباب قليلًا فقط. تقدمتُ ووقفتُ على العتبة، ثم أجابتْ بجفاف:

- لا، لا أعرفكِ.

- أنا ابنة السيدة س.

  أمسكت بالباب وكأنها تريد منعه من الانفتاح أكثر. لم يظهر على وجهها أيّ أثر للتعرّف. واصلت التحديق فيّ بصمت.

  ربما كنتُ مخطئة، فكرتُ، ربما ليست هي. كنتُ قد رأيتها مرة واحدة فقط، لفترة وجيزة، وكان ذلك قبل سنوات. لعلّي ضغطت على جرس المنزل الخطأ. تركتِ المرأة الباب وتنحّت جانبًا. كانت ترتدي سترة أمي الصوفية الخضراء. أزرارها الخشبية باهتة قليلًا من كثرة الغسيل. رأت أنني أحدّق في السترة، فاختبأت جزئيًا خلف الباب من جديد. لكنني عرفتُ الآن أنني على حق.

  سألتُ:

 - إذن، كنتِ تعرفين أمي ؟

  قالت المرأة:

 - هل عدتِ؟. ظننتُ أن لا أحد عاد.

 - فقط أنا.

 انفتح باب وأُغلق في الممر خلفها، وانبعثت منه رائحة عفنة.

  قالت:

 - يؤسفني أنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا لأجلكِ.

 - لقد أتيتُ خصيصًا بالقطار. أردتُ التحدث معكِ قليلًا.

  قالت المرأة:

 - الوقت غير مناسب الآن. لا يمكنني استقبالك يمكن في وقتٍ آخر.

 أومأت بحذر وأغلقت الباب كما لو أنها لا تريد إزعاج أحد داخل المنزل.

  ظللتُ واقفة على العتبة. تحرّكت الستارة أمام النافذة البارزة. كان أحدهم يحدق بي ولا بدّ أنه سأل عما أريده. "لا شيء،" لابد أن المرأة أجابت. "لم يكن شيئًا."

  نظرتُ مجددًا إلى لوحة الاسم. مكتوب عليها "دورلينج" بحروف سوداء على خلفية بيضاء. وعلى عمود الباب، أعلى قليلًا، كان الرقم. الرقم 46.

  بينما كنتُ أمشي ببطء عائدةً إلى المحطة، فكرتُ في أمي التي أعطتني العنوان قبل سنوات. كان ذلك في النصف الأول من الحرب. كنتُ في المنزل لبضعة أيام ولاحظتُ على الفور أن شيئًا ما في الغرف قد تغير. افتقدتُ عدة أشياء. اندهشت أمي لأنني لاحظتُ ذلك بهذه السرعة. ثم حدثتني عن السيدة دورلينج. لم أكن قد سمعتُ بها من قبل، لكنها على ما يبدو كانت من معارف أمي القدامى، ولم تلتقِ بها منذ سنوات. ظهرت فجأةً وجددت الاتصال. ومنذ ذلك الحين، بدأت تزورنا بانتظام.

  قالت أمي:

 - في كل مرة تغادر فيها هذا المكان، تأخذ شيئاً معها. أخذت كل أدوات المائدة الفضية دفعة واحدة. ثم الصحون الأثرية التي كانت معلقة هناك. وقد واجهت صعوبة في حمل تلك المزهريات الكبيرة، وأخشى أن ظهرها قد تأذى من أواني الخزف.

 هزت أمي رأسها بحزن.وتابعت:

 - لم أكن لأجرؤ على طلب ذلك منها. هي من اقترحته عليّ بنفسها. بل أصرت على ذلك. كانت تريد إنقاذ كل أشيائي الجميلة. قالت: إذا اضطررنا لمغادرة هذا المكان، سنخسر كل شيء.

 سألتها:

 - هل اتفقتِ معها على أن تحتفظ بكل هذه الأشياء؟

 صاحت أمي:

 - وكأن الأمر يحتاج إلى اتفاق! سيكون إهانة صريحة أن نتحدث بهذه الطريقة. وفكري في المخاطر التي تتعرض لها في كل مرة تغادر فيها بابنا بحقيبة أو شنطة ممتلئة.

 بدا أن أمي لاحظت أنني لست مقتنعة تماماً. نظرت إليّ بتأنيب، ومنذ ذلك الحين لم نتحدث كثيرا في هذا الموضوع.

 في هذه الأثناء، وصلت إلى المحطة دون أن أعر الكثير من الاهتمام لما حولي في الطريق. كنت أسير في أماكن مألوفة لي لأول مرة منذ الحرب، لكنني لم أرغب في الذهاب أبعد مما هو ضروري. لم أرد أن أزعج نفسي برؤية الشوارع والمنازل المليئة بذكريات من زمن عزيز.

 في القطار أثناء عودتي، رأيت السيدة دورلينج مرة أخرى أمام عينيّ كما كانت في المرة الأولى التي التقيتها فيها. كان ذلك صباح اليوم التالي لليوم الذي حدثتني فيه أمي عنها. استيقظت متأخرة، وبينما كنت أنزل الدرج، رأيت أمي تودع أحداً. امرأة ذات ظهر عريض.قالت أمي:

 - هذه ابنتي.

 وأشارت لي أن أقترب.

 أومأت المرأة برأسها والتقطت الحقيبة الموجودة تحت حامل المعاطف. كانت ترتدي معطفاً بنياً وقبعة غير متناسقة.

 سألتُ وأنا أراها تعاني في حمل الحقيبة الثقيلة عند خروجها من المنزل:

 - هل تسكن بعيداً؟

 أجابت أمي:

 - في شارع ماركوني. الرقم 46. احفظي هذا العنوان.

***

  كنت قد تذكرتُ العنوان. لكنني انتظرت وقتًا طويلًا قبل الذهاب إلى هناك. في البداية، بعد التحرير، لم أكن مهتمةً البتة بتلك الأشياء المخزونة، وبالطبع كنت خائفةً منها بعض الشيء. خائفةً من مواجهة أشياء كانت تنتمي إلى ماضٍ لم يعد موجودًا؛ أشياء مُخبأة في الخزائن والصناديق تنتظر عبثًا أن تُعاد إلى أماكنها الأصلية؛ أشياء صمدت طوال تلك السنوات لمجرّد كونها "أغراضًا".

 لكن شيئًا فشيئًا، عاد كلّ شيء إلى طبيعته. أصبح لون الخبز أفتح، ووجدت سريرًا يمكن النوم فيه دون خوف، وغرفةً بإطلالة اعتدت عليها يومًا بعد يوم. ثمّ في أحد الأيام، لاحظت أن الفضول بدأ ينتابني حيال تلك الممتلكات التي لا بدّ أنها ما زالت في ذلك العنوان. أردتُ رؤيتها، لمسها، تذكّرها.

 بعد زيارتي الأولى الفاشلة لمنزل السيدة دورلينج، قررت المحاولة مرة أخرى. هذه المرة، فتحت الباب لي فتاة في الخامسة عشرة تقريبًا. سألتها إن كانت أمها في المنزل. أجابت:

 - لا، والدتي في مهمة.

 قلت:

 - لا بأس، سأنتظرها.

 تبعْتُ الفتاة عبر الممر. كان هناك حامل شموع حديدي عتيق الطراز لعيد الحانوكا معلقًا بجانب مرآة.لم نكن نستخدمه أبدًا لأنه كان أثقل وأكثر تعقيدًا من الشمعدان العادي.

 سألت الفتاة:

 - ألا تفضلين الجلوس؟

 فتحت باب غرفة المعيشة وأدخلتني أمامها. توقفتُ، مذعورة. كنتُ في غرفة أعرفها ولا أعرفها. وجدتُ نفسي محاطة بأشياء كنتُ أرغب حقًا في رؤيتها مجددًا، لكنها ثقلت عليّ في تلك الأجواء الغريبة. ربما بسبب الطريقة العديمة الذوق التي رُتّبت بها كلّ الأشياء، أو بسبب الأثاث القبيح، أو الرائحة العفنة التي علقت في المكان، لا أعرف؛ لكنني بالكاد تجرأت على النظر حولي. حركت الفتاة كرسيًا. جلستُ وحدقتُ في مفرش المائدة الصوفي. مرّرت يدي عليه. شعرتُ بدفء في أصابعي من فرك القماش. تتبعتُ خطوط النقوش. في مكان ما على الحافة، يجب أن تكون هناك علامة حرق لم تُصلح أبدًا.

  قالت الفتاة:

  - ستعود أمي قريبًا. لقد أعددتُ لها الشاي. هل ترغبين في فنجان؟

  - شكرًا لك.

  رفعتُ نظري. وضعت الفتاة الأكواب على طاولة الشاي. كان لها ظهر عريض، تمامًا مثل أمها. سكبت الشاي من إبريق أبيض، لم يكن عليه سوى إطار ذهبي حول الغطاء، كما تذكرت. فتحت صندوقاً وأخرجت منه بضع ملاعق.

 - هذا صندوق جميل.

  سمعتُ صوتي. كان صوتًا غريبًا، كما لو أن كل نبرة بدت مختلفة في هذه الغرفة.

 - أوه، هل تعرفين هذه الأشياء؟

 استدارت نحوي وقدّمت لي الشاي. ضحكت.

 - تقول أمي أنها تحفٌ قديمة. لدينا الكثير منها.

  أشارت حول الغرفة.

 - يمكنكِ أن تري بنفسك.

 لم أكن بحاجة إلى متابعة إشارتها. كنت أعرف أيّ الأشياء تقصد. نظرتُ فقط إلى لوحة الطبيعة الصامتة المعلقة فوق طاولة الشاي.

 عندما كنت طفلة، كنت دائمًا أتخيل نفسي آكل التفاحة المرسومة على الطبق القصديري.

 قالت:

 - نستخدمها لكل شيء. ذات مرة أكلنا حتى في الصحون المعلقة على الحائط. كنتُ أرغب في ذلك كثيرًا. لكنها لم تكن تجربة مميزة.."

 وجدتُ علامة الحرق على غطاء الطاولة. نظرت الفتاة إليّ متسائلة.

 قلت:

 - نعم، نعتاد لمس كل هذه الأشياء الجميلة في المنزل لدرجة أننا بالكاد ننظر إليها. لا نلاحظ إلا عندما يفقد شيء ما، لأنه يحتاج إلى إصلاح أو لأننا أعرناه لشخص ما، مثلًا."

  مرة أخرى، سمعتُ ذلك الصوت غير الطبيعي لصوتي، ثم أكملت:

 - أتذكر أن أمي سألتني ذات مرة إن كنتُ أرغب في مساعدتها في تلميع الفضيات. كان ذلك منذ وقت طويل، وربما كنتُ أشعر بالملل ذلك اليوم، أو ربما كنتُ مضطرة للبقاء في المنزل لأنني كنت مريضة، فهي لم تطلب مني ذلك من قبل. سألتها أي فضيات تقصد، فأجابتني باستغراب: 'الملاعق والشوك والسكاكين، بالطبع'. وكان هذا هو الأمر الغريب: لم أكن أعرف أن أدوات المائدة التي نأكل بها يوميًا كانت من الفضة."

  ضحكت الفتاة مجددًا.

  قلتُ وأنا أحدق فيها:

  - أراهن أنكِ أنتِ أيضًا لا تعرفين.

 سألت:

  - أدوات الطعام التي نستخدمها؟

 - حسنًا، هل تعرفين؟

 ترددت قليلًا، ثم مشت نحو خزانة الطعام وحاولت فتح أحد الأدراج.قالت:

 - سألقي نظرة. إنها هنا.

  قفزت واقفة:

 - لقد نسيت الوقت! لا بد أن ألحق بالقطار.

 كانت يدها على مقبض الدرج. قالت:

 - ألا تريدين انتظار أمي؟

- لا، يجب أن أذهب.

 مشيت نحو الباب، وسحبت الفتاة الدرج.

 قلتُ:

 - أعرف الطريق.

 وبينما كنتُ أعبر الممر، سمعت رنين الملاعق والشوك.

***

 عند ناصية الطريق رفعتُ رأسي لأقرأ لافتة الاسم. مكتوبٌ عليها: شارع ماركوني. كنتُ في المنزل رقم ٤٦. العنوان كان صحيحًا. لكنّي لم أعد أرغب في تذكّره الآن. لن أعود إلى هناك، لأنّ الأغراض التي ترتبط في ذاكرتك بالحياة المألوفة للأيام الخالية تفقد قيمتها فورًا حين تراها مجدّدًا في بيئة غريبة، منفصلة عن تلك الذكريات. وماذا عساي أن أفعل بها في غرفة مستأجرة صغيرة، حيث ما تزال بقايا ورق التعتيم الأسود معلّقة على نوافذها، ولا يتسع درج الطاولة الضيق لأكثر من بضع قطع من أدوات المائدة؟

عقدتُ العزم على نسيان ذلك العنوان. من بين كلّ ما كان عليّ نسيانه، كان هذا هو الخيار الأسهل.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة: مارجا مينكو/ Marga Minco (اسم مستعار لسارة مينكو، ٣١ مارس ١٩٢٠ - ١٠ يوليو ٢٠٢٣) صحفية وكاتبة هولندية. نشأت مينكو في مدينة ذات أغلبية كاثوليكية، والتحقت بمدرسة حكومية للبنات في بريدا، حيث شعرت بالحرج بسبب هويتها اليهودية. في سن الثامنة عشرة، بدأت العمل كصحفية في الصحيفة المحلية. من أبرز أعمالها: العشب المر - سردية صغيرة (1957). العنوان (1957). الجانب الآخر (مجموعة قصصية) (1959). نقيضان (مع بيرت فوتن) (1961). ألقِ نظرة في الدرج (1963).المنزل المجاور (1965).العودة (1965). منزل فارغ (1966). اليوم الذي تزوجت فيه أختي (1970). السيد فريتس وقصص أخرى من الخمسينيات (1974). يمكنك أن تتحدث عن الحظ (في "بولكبويك 46") (1975). العنوان وقصص أخرى (1976) وغير ذلك من القصص والمقالات.

بقلم: والت ويتمان

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

افرح يا زميل النوتي

افرح

صرخت والحماس يكاد

يقتلني!

لقد انتهت حياتنا

لقد ابتدأت حياتنا

و نحن نرفع المرساة

الطويلة.. الطويلة

وأخيرا تتخلص

السفينة

وتنط

فتمخر عباب البحر

برشاقة

في منأى عن الساحل

افرح يا زميل النوتي

افرح

***

....................

- (والت ويتمان): شاعر أمريكي رائد. ولد في 31 آيار 1819 في (ويست هيلس). عمل في التدريس وأيضا في الصحافة خلال الفترة 1831 – 1845. صدر له ديوان (أوراق العشب) و(مذكرات الحرب) و(إني أجلس وأتامل) وغيرها. ومن أشهر قصائده (أغنية الطريق المفتوح)، (بعيد تناول العشاء والتحدث)، و(التضرع الدائم). أصيب بالشلل في عام 1873. حارب التعصب والفاشية والديكتاتورية. أفضى إلى ربه عام 1892. نشرت هذه الترجمة في مجلة (الطليعة الأدبية) العراقية، العددان (1 / 2) 1987. عن (في مرفأ الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001.

بقلم: جهـﭭـرتشند ميجاني

ترجمة: جيني بهات

ترجمها إلى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

على الحدود الغربية من إقليم سوراث، تقع قرية تُدعى رانافاف، سُمّيت تيمّنًا ببئرٍ محليّ شهير.في زمنٍ مضى، كانت المزارع في تلك المنطقة تزدهر كما تزهر الأزهار الدائمة. وكما يتسلّق الرضيع جسد أمّه ليصل إلى ثدييها المانحين للحياة، كذلك تسلّقت عائلات مجتمع "كانبي" الزراعيّ التلال، واستقرّت في حضن الأرض الأم، لزراعة الحبوب وكسب لقمة العيش. هذه قصة عن ذلك الزمان.

كان كيتو باتِل أحد ملاّك الأراضي من طائفة "كانبي" في تلك الأنحاء.وكان له ابنةٌ بلغت من الجمال حدًّا جعلهم يطلقون عليها اسم أجوالي، أي "المُتوهِّجة" – لكنهم كانوا ينادونها ببساطة: أنجو. وحين كانت أنجو تبتسم ابتسامةً خفيفة، كان النور، للحظة، ينتشر من حولها كالأشعة.

منذ ساعات الصباح الأولى، كانت أنجو تُعدّ من عشر إلى اثنتي عشرة رغيفًا من الخبز المُسطّح الغنيّ لتقدّمه لوالدها. ثم تنظّف الزرائب التي تُؤوي ثيرانهم الأربعة، وتكنس ساحة الدار حتى تبدو كأنها حديقة نظيفة هادئة. وبعدها، تحلب الجاموستين، تمسك بأضرعها الغليظة – السميكة مثل عضد رجل – وتجذبها بمهارة بين قبضتيها حتى تنهمر منها جداول دافئة من الحليب الكثيف. ثم تخضّ هذا الحليب الطازج بسرعة لتُحضّر أكبر قدر ممكن من اللبن الرائب.

كان الكثير من الخُطّاب يتوافدون لطلب يد "أنجو" الفاتنة الموهوبة، لكنّ "كيتو" كان يردّهم بلطف قائلاً: " ما تزال ابنتي صغيرة على الزواج."

***

في يومٍ من الأيام، زار شابٌ من قبيلة الكانبي منزل كيتو باتيل. كان يرتدي ثياباً بالية بالكاد تستر جسده النحيل، ووجهه الشاحب يكسوه لونٌ باهت. لكن في عينيه نظرةٌ أثارت الشفقة. فقرر كيتو باتيل تشغيله كعامل في الحقل، مقابل ثلاث وجبات يومياً، وثوبين، وزوجٍ من الأحذية، وحين يحين موعد الحصاد، يحصل الشاب على قدر ما يستطيع حصده بنفسه من سنابل القمح. وهكذا بدأ الشاب الذي يدعى ميبو عمله على الفور.

كانت أنجو نفسها تتولى مهمة إحضار غداء ميبو يومياً إلى الحقل. كانت تنتظر هذه اللحظة بشوقٍ بالغ، حتى أنها كانت تنهي جميع أعمالها المنزلية قبل الظهيرة بوقتٍ طويل. رغيفان من الخبز السميك تعلوهما قطعة كبيرة من الزبدة، وسيقان الكوليوس المخللة بالليمون التي كانت تعدها خصيصاً له، وإبريقٌ فخاري مملوء باللبن الرائب الغليظ - حين تجمع أنجو هذه الأطعمة وتتوجه بها إلى الحقل، كان وجهها يكتسب جمالاً يفوق أي وقتٍ آخر من النهار.

كانت أنجو تجلس بجانب ميبو تطعمه بيدها، مازحةً إياه بتهديداتٍ عابرة:

- إن لم تأكل، فستموت أمك!"

فيردّ وهو يبتسم:

- ليس لي أمٌّ حتى أموتَ عليها .

فتضيف وهي تضغط على كتفيه:

- إذن سيموت أبوك!

فيقول وهو يهزّ رأسه:

- ولا أبَ لي أيضاً.

فتغمز بعينيها وتقول:

-  زوجتك إذن ستموت!

فيجيب ببراءة الرّحل:

-لعلّ أمها ما تزال تربي تلك الفتاة - زوجتي المستقبلية - في مكانٍ ما من هذا العالم.

فتميل نحوه وتقول بصوتٍ حنونٍ قاطع:

-  إذن.. سيموت أحبّ الناس إلى قلبك!

عندما يسمع ذلك التهديد الأخير، يعود الفتى إلى طعامه بشهيةٍ متقدة. يومًا بعد يوم، كان سعده يزداد بلا حدود. في أحد الأيام، سأل الفتى:

-  لماذا تُظهرين لي كل هذا اللطف؟

فأجابت ببساطة:

-    لأنك يتيم.. لا أمَ لك ولا أب.

وفي مرة أخرى، بينما كان صوت عجلة الساقية يتردد "كينشوك-كينشوك" لتروي الحقل، سألت أنجو:

- ميبو، ما الذي تتحدث عنه العجلة والمحور؟ ماذا يقولان لبعضهما؟

فأجاب ميبو بابتسامة خجولة:

- تذكّره بحياته الماضية. تقول للمحور: 'أيتها السيدة المحور! في تلك الحياة السابقة، كنتِ ابنة ملاك الأراضي باتل، وأنا كنتُ مجرد عامل فقير...

قالت أنجو ضاحكةً في حياء:

- يا له من بطل شجاع! هل نطقتَ أخيرًا بما في قلبك؟ لقد أصبحتَ جريئًا أكثر مما ينبغي، أيها القرد الخجول! انتظر فقط حتى أخبر أبي!

هكذا كانا يتبادلان ألعاب الغزل البريئة.

هكذا مر الصيف في ظل هذه اللحظات السعيدة. كان ميبو قد عمل بجدٍ لا يكل لحرث الأرض حتى أصبحت ناعمة كفراشٍ وثير. لم يترك حتى عشبةً ضالةً قائمة، فما بالك بالأعشاب الضارة. تغطت يداه بالجروح من قلع السيقان اليابسة المتشابكة. وكانت أنجو تأتي لتنفث نسماتها الباردة الناعمة على تلك الجروح، وتنزع الأشواك من قدميه برقةٍ تشبه دبيب النمل على الرمال.

وعندما هطلت أمطار الموسم، كان الحظ السعيد يغمر ميبو كما تغمر الأمطار الأرض العطشى. نبتت سيقان الذرة الرفيعة والدخن بضخامة حتى لم يعد بمقدوره أن يمسك واحدة منها بقبضة يده. وفي ظهيرة أحد الأيام، بينما كان ميبو يحدق بلا رمش في المحصول الشامخ، سألته أنجو:

-    فيما تحدق هكذا؟

فأجاب وهو يبتسم:

- أحاول أن أعرف إذا ما كان هذا المحصول كافياً لإقناع امرأة بالزواج مني هذا العام.

فتقول أنجو بخبث:

- وماذا لو لم تكن بحاجة إلى أيّ من هذا المحصول لتحصل على زوجة؟

فيجيب ميبو ببراءة:

- عندها سيُقال عني إنني يتيمٌ معدم، لا يملك شيئًا ليقدّمه لعروسه!

***

تم تحديد موعد يوم الحصاد الكبير. وخلال الأيام التي سبقت الموعد، كان ميبو يقطع ربطة من الحشيش الأخضر كل يوم ويهديها إلى الحداد في القرية. كانا قد صارا صديقين مقرّبين، وقد صنع له الحداد منجلًا صغيرًا. وبعد أن صيغَ المنجل المعدني، تم تنظيفه وشحذه بماء بئر رانافاف. لقد أصبح ذا شفر حادّ للغاية، كالسيف، لو اقترب من جسدٍ لقطع أطرافه بضربة واحدة.

وفي صبيحة يوم الحصاد المنتظر، حمل ميبو منجله الجديد وبدأ يقطع سنابل المحصول ببراعة. بحلول الظهيرة، كان قد حصد ثلاثة أرباع الحقل! جاء كيتو باتِل ليتفقد الأرض، ثم عاد إلى بيته مذهولًا، وعيناه جاحظتان. قال لزوجته:

- يا باتلاني، لقد خسرنا! بحلول الليل، سيكون ذلك الفتى قد حصد كل ما في أرضنا. وبحسب الاتفاق، كل ما يحصده سيكون ملكًا له. فماذا سنأكل بقية العام؟

سمعت أنجو كلام أبيها، فبدأت تتزين بأفضل ما لديها: ارتدت تنورة أرجوانية فاخرة مطرزة بقطع المرايا لجلب الحظ، وشالاً قرمزيًا كعروس لتغطية رأسها. سرحت شعرها وضفرته بطريقة العرائس، وملأت فراق رأسها الـسيندور الأحمر القاني، مثل العرائس الجُدد.

في هذا اليوم الخاص، خرجت أنجو مبكرًا كالمعتاد ومعها وجبة ميبو، لكنها أعدت له مفاجأة: حلوى "لابسي" شهية، صنعتها من دقيق القمح المحمص، وسكر الجاجري، والحليب الكريمي، والمكسرات، والفواكه المجففة.

جلس ميبو ليأكل، لكن قلبه كان مضطربًا اليوم. راحت أنجو تثرثر في مواضيع شتى لإبقاء الأجواء مرِحة، لكنه لم يُبدِ أيّ اهتمام. أسرع بحشو فمه ببضع لُقيمات، ثم غسل يديه إشارةً إلى أنه انتهى من الأكل. قدمت له أنجو حبة الهيل المعطرة التي كانت مربوطة بطرف شالها - وهي عادة بعد الأكل - لكنه رفض حتى هذه الهدية النفيسة اليوم. نهض ميبو فجأة...

- اجلس الآن، هيا! لن تبقى بلا زوجة إن فوّتَّ حصاد سنبلتين فقط.

لكن ميبو لم يرضخ لها. ولم يبتسم حتى لمزحتها. قالت:

-اليوم، رؤوس الحَبّ أعزّ عليك من أنجو، أليس كذلك؟

لكن قلب ميبو لم يَلِن. قالت تتوسّل:

- حسنًا، سأزوّجك بعروسك المستقبلية مجانًا! اجلس معي قليلًا فقط… انظر إليّ، على الأقل!

لكن ميبو أدار وجهه إلى الجهة المعاكسة، ومضى نحو سيقان الزرع الناضجة. قالت وهي تهرع إليه:

- انتظر… لماذا لا تستمع إليّ؟

كان مقبض المنجل قد ثُبّت في حزام قميص ميبو،

وكان نصله المُقوّس يتدلّى بتراخٍ حول عنقه — كما هي العادة بين عمّال الحقول حين يتوقفون عن الحصاد لأخذ قسط من الراحة. وفي اندفاعها البريء المليء بالحبّ، أمسكت أنجو بمقبض المنجل وجذبته نحوها قائلة:

- لن تتوقف، أليس كذلك؟

فتوقّف ميبو. توقّف إلى الأبد.بمجرد سحبة صغيرة،غاص ذلك المنجل المشحوذ بماء رانافاف عميقًا في عنقه.وقبل أن ترفع أنجو ذراعها للإمساك بالمقبض، كان ميبو قد ابتسم لها ابتسامة صغيرة، خفيفة. وظلّت تلك الابتسامة — مثل الضحكة المجمدة — عالقة على وجهه إلى الأبد.

في تلك اللحظات الأخيرة، تحققت أمنية ميبو بالزواج. نعم، تزوج ميبو. بذات الثياب الفاخرة التي لبستها يوم الحصاد - ذلك التنّور الأرجواني الداكن المطرّز بقطع المرايا الصغيرة لجلب الحظ، وذلك الرداء القرمزي الطويل الذي تتهادى خيوطه الذهبية - تمدّدت أنجو إلى جانب جثمان حبيبها ميبو على محرقة جنائزية . باركهما إله النار "أجني" بسريرٍ زفافيّ من الجمر المتوهّج، بلون الورود الحمراء.

ومنذ ذلك الحين، يُردّد الناس هذه الأبيات تخليداً لذكرى العاشقين:

منجلٌ حادّ وقوي،

يحصد الأرواح ويكدّسها عالياً.

عذراءٌ في رانافاف، وادعة العين،

تصعدُ إلى فراشٍ مشتعل لتموت طائعة.

ومنذ ذلك الحين، ظلّ بئر رانافاف الشهير مُغلقًا ومدفونًا تحت الأرض ، مدفوناً في أحضان النسيان. واليوم، يقوم نُصُب تذكاري كبير في الموقع الذي كان فيه البئر ذات يوم. لم يعد هناك أي أثر مرئي للبئر نفسه، سوى الأبيات الشعرية المنقوشة التي تحكي قصته، كشاهد وحيد على ما كان.

***

.......................

* ألّف جهـﭭـرتشند ميجاني (1896–1947) ما يقرب من مئة كتاب – بين روايات وسير ذاتية ومجموعات من القصص والقصائد والأغاني والمسرحيات. وقد كرّس حياته للحفاظ على التراث الثقافي المميّز لإقليم سوراشترا – شبه جزيرة كبيرة تمتدّ في بحر العرب من ولاية غوجارات الواقعة غرب الهند، المعروفة بأنها مسقط رأس المهاتما غاندي وآخر موطن طبيعي لأسود آسيا.

في عام 1922، شرع ميجاني في رحلة استمرت عدة سنوات عبر سوراشترا، بهدف توثيق تراثها الشفهي قبل أن تلتهمه قوى الاستعمار والتصنيع والتحضّر والنزعة القومية السابقة للاستقلال.

وقد فرض غياب الطرق المعبدة أو خطوط السكك الحديدية آنذاك على ميجاني السفر عبر تضاريس صعبة على ظهور الخيل أو الجمال أو في عربات يجرها الثيران، ليصل إلى القرى ويلتقي بالفلاحين والمتمرّدين والخارجين عن القانون.

تأتي هذه القصة، "العروس المتوهّجة" ( العنوان الأصلي: "Parnetar")، من الجزء الثاني ضمن مجموعة مكوّنة من خمسة مجلدات بعنوان "جوهـر سوراشترا"، نُشرت بين عامي 1923 و1927.

تدور أحداث القصة في بلدة رانافاف، وهي موقع تتداخل فيه الأساطير المستمدة من ملحمة الرامايانا الهندية القديمة.

في مقدمة "جوهـر سوراشترا"، يؤكّد ميجاني على تصوير شخصياته التاريخية ببساطة وصدق، من دون أي تزويق. وكأيّ راوي فلكلوري بارع، كان يُدرك أن الحكاية الشعبية ما هي إلا "إثنوغرافيا ذاتية" – أي أن الثقافة تحكي عن نفسها، لا كما يصفها الآخرون من الخارج.

وتهدف ترجمتي، كما تقول جيني بهات، إلى الحفاظ على الخصوصيات الثقافية – من الوجبات والملابس وتفاصيل الحياة اليومية، وصولًا إلى الرؤية الكونية الهندوسية التي تُجسَّد في الفصول الأخيرة – مع تقديم قصة يجد فيها القارئ بُعدًا إنسانيًا عالميًا عن الحب والبراءة والحوادث التي قد تشكّل مسار حياتنا.

- جيني بهات (المترجمة)

ملاحظة المؤلف: لقد مُنحت الشخصيات في هذه القصة أسماءً خيالية، حيث تعذّر التأكد من الأسماء الحقيقية. والقصة مُترجمة عن اللغة الغوجاراتية بواسطة جيني بهات، وهي مأخوذة من كتاب: جوهر سوراشترا: حكايات شعبية من غوجارات"، المجلد الثاني.

بقلم: قوبادي جلي زادة

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - حلم

عندما تغفو زوجتي

و هي ممسكة بحافة

دفترها

فإنها تحلم

بقصيدة مجنحة

لا بواجهة محل

الصائغ

**

2 - سقوط

أضناني التعب

فتوسدت حذائي

نائما

عندها حلمت

وقد صار جسدي

ملاذا للأذبة

والجراح

**

3 - شاي بالحليب

لكم هو أبيض

جسدك

كأنه ساقية من حليب

لكم هو أسمر

جسدي

كأنه ساقية من شاي

فليمزج خريرهما

معا

***

...........................

- قوبادي جلي زادة: شاعر كردي عراقي معروف، ومن رواد شعر الهايكو الكردي. ولد عام 1956. خريج كلية القانون والسياسة للسنة الدراسية 1976 / 1977. منح عدة جوائز وكرم أكثر من مرة. نشر (8) مجاميع شعرية. من مؤلفاته (فان إيروتيك مع روستم اغالة، ترجمة أرخوان رسول). له أعمال مترجمة للعربية والإنكليزية والفارسية والتركية. ترجمنا ونشرنا له ضمن مجاميع شعرية مشتركة وفي الصحف والمجلات العراقية والعربية. عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001. 

قصة: سيلفيا مورينو-جارسيا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قِيلَ لها إنها ستعرف دائمًا متى سيأتي حبيبها من خلال تعويذة عرافة. كانت لعبة تلعبها مع فتيات القرية الأخريات — معتقدات غريبة تنتقل من جيل إلى جيل. كانت التعويذة تتطلب أن تخلع العذراء قميص نومها وتضعه تحت وسادتها ليلة اكتمال القمر. فتحلم بوجه رجل، وفي الصباح، تجد شيئًا عند عتبة بابها يعطيها دليلًا عن هوية زوجها المستقبلي. لم تستطع جوديث أن تتذكر الوجه عندما استيقظت. ومع ذلك، بعد أن ارتدت ملابسها في عجلة، بالكاد تكلفت عناء تمشيط شعرها، رأت غصينًا على درجات منزلها. عرفت أنه يرمز إلى الأشجار، إلى الغابة وكان ذلك جيدًا، لأنها كانت تكره القرية وسكانها، وتُفضل بدلاً من ذلك تخيل مناظر الأراضي البعيدة وفي قصور رجالٍ وسيمين من طبقة النبلاء.

وبعد بضعة أشهر، تحققت النبوءة. دخل غريب إلى القرية متعثر الخطى. كان صيادًا، يرتدي معطفًا رماديًا من الصوف وحذاء أسود يصل إلى منتصف ساقه، يتمتم بكلمات غير مفهومة وهو يخطو إلى داخل المتجر. تظلّل وجهه قبعة واسعة الحواف. في الفترة من الربيع وحتى الخريف، كان يُقام سوق للمزارعين كل أسبوعين، لكن في قسوة الشتاء، كان متجر أختها من الأماكن القليلة التي يمكن للمسافر أن يبتاع منها بعض الضروريات.كانت  أليس قد تزوّجت زواجًا جيدًا. وحين مات زوجها، ترك لها بيت الضيافة ذو الباب البنفسجي، والمتجر الملاصق له.

كان هناك نُزل في القرية، لكنه أغلق أبوابه حتى ذوبان الجليد. أما الحانة، فكانت أسرّتها موبوءة بالبراغيث. كل من احتاج مكانًا لائقًا للمبيت في فصل الشتاء، قصد بيت الضيافة. قال الرجل وهو يدخل المتجر ويخلع قبعته:

- قيل لي إنك تعرفين كيف أجد غرفة أقيم فيها.

كان ذا شعر بني فاتح، ووجه وسيم الملامح وقويّ التكوين. أنزلت جوديث الكتاب القديم الذي كانت تقرأه، وأومأت برأسها:

-  أختي تدير بيت الضيافة المجاور. الغرف نظيفة، والطعام وفير.يمكنك أن تلقي نظرة على الغرف قبل أن تدفع، إن أحببت.

قال مبتسمًا:

- أعتقد أنها ستكون مناسبة. تبدين أهلًا للثقة، وإن لم يكن السعر باهظًا، فسأكون راضيًا.

ابتسم لها ابتسامةً كادت أن تسقط الكتاب من يدها. قالت:

- تعال معي.

أرشدت الرجل. وبينما كانا يسيران معًا، فكرت: "إنه هو، إنه هو، إنه هو".

***

كان اسم الصياد ناثانييل، وبقي طوال ذلك الشتاء، يستكشف الغابات والجداول القريبة، ثم يعود محمّلًا بالأرانب والثعالب التي تُسلخ جلودها لاستخدامها في صنع الفرو. كان الضيف الوحيد في المنزل، رغم أن أليس وجوديث والأطفال كانوا يعيشون هناك أيضًا.

قبل أن تتزوج أليس وتلد طفلين، عاشت الشقيقتان مع الجدة في منزل أصغر. كانت جوديث مضطرة لمساعدة الجدة في غسل الملابس التي كانت تتلقاها من الناس، فخشنت يداها منذ كانت طفلة صغيرة. أما أليس، فلم تضطر أبدًا لفرك قطع الصابون على الملابس، لأنها كانت جميلة، وتوقعت الجدة أنها ستتزوج رجلًا نبيلًا. وهذا ما حدث. انتقلت الجدة وجوديث للعيش في بيت الضيوف مع أليس، وبينما استطاعت أليس شراء فساتين مخملية وقفازات تدفئ يديها، وعاشت الجدة بقية أيامها في راحة، ظلّت حياة جوديث كما هي، لم تتغير.

كانت جوديث قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها، لكنها ما زالت تغسل الملابس؛ غير أنها الآن تغسل لأليس، والتوأمين، والضيوف كذلك.

كان اسم الصياد ناثانييل، وكان وسيمًا أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، بعينين جميلتين تعبران عن الكثير وضحكة مُبهجة. كان يحلق ذقنه بدقة ويمشط شعره بأناقة. كان يحكي في العشاء قصصًا تجعل الأطفال يصرخون من الفرح — كان التوأمان في الرابعة — وتجعل أليس تبتسم. كانت جوديث تبتسم هي الأخرى، وتغسل ملابسه بأقصى درجات الحرص، وتفرك أرضية غرفته حتى تبرق، وتنفض الغبار عن أرجاء المنزل لتضمن أنه لن يجد ما يشتكي منه. كان ناثانييل يتمتع بمظهر رجل نبيل، وأرادت أن تعاملَه على هذا الأساس. كان يقول: " صباح الخير، جودي. " كم بدا صوته جميلًا—عميقًا ونقيًا. وكانت تسأله: "صباح النور. ما الذي تأمل في صيده اليوم؟" فيخبرها إن كان يأمل في الحصول على فراء ثعالب أو ظربان، أو شيء آخر. ويتحدث عن قطع الأوتاد أو بناء المصائد، وكيف كان يصطاد في وقت فراغه في شبابه، لكنه الآن يحاول أن يصبح صيادًا محترفًا، فهناك مالٌ يُكسب في هذا العمل إن كان المرء ماهرًا بما يكفي. وكان المال هو ما يسعى إليه. ثم يلوح لها مودعًا بغمزة وابتسامة. وفي مناسبات قليلة، كان يوجه لها إطراءً، كان يقول: "جودي الجميلة، أراك لاحقًا" مما يجعلها تحمر خجلاً.

لسوء الحظ، لم يكن ناثانييل هو الوحيد الذي كان يصطاد ذلك الشتاء. لم تدرك جوديث ذلك إلا بعد فوات الأوان. كانت أليس ترتدي ملابس الحداد منذ عام، وفي أول أيام الربيع، أعلنت أن هذا يكفي. وعادت إلى ارتداء الفساتين الملونة التي تركتها في خزانتها.

وبعد ذلك بوقت قصير، أصبح واضحًا للجميع في البلدة — ما عدا جوديث ربما، التي حجبت أحلامها وخيالاتها الجامحة رؤيتها — أن أليس كانت تفكر في جعل الضيف ضيفا  دائمًا في منزلهم. كان شابًا وسيمًا، وتهامس القرويون: كان زوج أليس الأول مريضًا،دميمًا، وثروته كانت تعويضًا عن قبحه.أما هذه المرة، فالأمر مختلف — الشاب قد كسب ودّ السيدة بسحره ووسامته. ورغم أن البعض رفعوا حواجبهم استغرابًا لهذا الزواج السريع، إلا أن الجميع اتفقوا على أنه لا يمكن توقع أرملة في الثالثة والعشرين أن تدير عملًا ومنزلًا بمفردها. كان الصياد مهذبًا؛ يستطيع القراءة والكتابة والحساب. ويستطيع إجراء أعمال في البلدة لا تستطيع أليس القيام بها. سيكون زوجًا ثانيًا مناسبًا.

كان اسم الصياد ناثانييل، وتزوج أليس في الصيف. انتقل من غرفته في الطابق الأرضي إلى إحدى الغرف في الطابق العلوي. اشترت له زوجته ملابس جديدة، وحقيبة حلاقة من الجلد الفاخر، وساعة جيب مطلية بالفضة. استمرت الحياة كما كانت من قبل، إلا أنه الآن كان يدخل المتجر في أيام معينة لمراجعة الحسابات ويصدر الأوامر للصبي العامل خلف المنضدة.

كان اسم الصياد ناثانييل، وللأسف، لم يكن عاشق جوديث.

في الخريف، جلست جوديث خارج المنزل على نفس الدرجات حيث وجدت ذات يوم غصيناً وظنته نذيراً بالرومانسية. نظرت باتجاه الغابة التي تمتد قريباً منهم، والأشجار تتحول من الأخضر إلى الذهبي إلي الأحمر.

أخبرها ناثانيل وهو ينزل ليقف بجانبها:

- سيكون شتاءً قاسياً.

سألته:

- كيف تعرف؟

قال:

- أستطيع أن أخمن. السماء تحذرنا

لكنها فقدت اهتمامها بالعلامات، فهزت كتفيها بلا مبالاة تجاه تنبؤه. قال:

- نعم، سيكون شتاءً قاسياً. يجب أن تتوقفي عن جمع الفطر. الذئاب ستكون متلهفة لأي لقمة، وقد أصبح الجو بارداً جداً على أي حال،.

ثم، للحظة، انتشرت قشعريرة في جسدها، إحساس خافت بالخوف. هزت رأسها باستخفاف. قالت:

- الذئاب لا تتجول أبداً بهذا القرب منا.. عشت هنا لفترة أطول منك.

استمرت في هز سَلَّتها والزحف إلى الغابة، رأسها منحنية وهي تبحث عن فطر الشانتيريل الذي ينبت حول أشجار الدردار والبلوط. مع تقدم الخريف، اضطرت للذهاب إلى أعماق الغابة، عبر الجدول، حتى وصلت إلى بستان التفاح القديم المليء بالأشجار الميتة.

بجوار البستان كانت هناك كوخ مهجور. تمتلكه عجوز، صديقة للجدة، كانت تعيش هناك، وفي بعض الأحيان كانت جوديث تحمل لها طرداً مقابل حلوى. لكن العجوز غادرت منذ عامين وانتقلت لتعيش مع ابنها. ما زالت تملك الكوخ، لكنها لم تعد تزوره. أوكلت العناية به إلى أخت جوديث، لكن جوديث هي التي اعتنت به. نما النبات وانتشر، يضرب الهيكل الذابل، لكن السقف بقي صلباً. أحياناً كانت جوديث تدخل، تشعل النار وتجلس على السرير الصدئ لتقرأ، هرباً من المتجر ونزل الضيافة.

كانت الجدة توبخ جوديث عندما تمسكها تقرأ، قائلة إن هناك أعمالاً منزلية يجب إنجازها، لكنها لم توبخ أليس عندما كانت تقف أمام المرآة تمشط شعرها، أو عندما تجلس في الصالون تنظر إلى مجلات الموضة. ماتت الجدة، والآن تستطيع جوديث أن تفتح كتاباً حتى يُصدر ظهرها صوتاً، جالسةً بلذة شرسة في دفء الكوخ لبعض الوقت.

في أحد الأيام، بينما كانت تقف خارج الكوخ تعد الفطر الأصفر الكبير في سَلَّتها، مرّ ناثانيل بخطوات واسعة. قال:

-  الوقت متأخر أختك قالت إنه يجب عليّ إحضارك.

أزعجها تدخله، وأزعجها أكثر أن أليس أخبرته أين يمكن أن يجدها. كانت هذه البقعة مكاناً تلعب فيه الفتاتان معاً عندما كن أصغر سناً، قبل أن تتزوج أليس وتتظاهر بالأهمية، تدهن كريماً غالياً من اللوز على وجهها وتعطر مناديلها بالعطور. قال:

- غداً يوم السوق، تريد أليس أن تعودي إلى المنزل وتُهيئي الأسرة. هناك ضيوف سيصلون لقضاء الليل.

كان النزل والفندق والحانة يستقبل المسافرين الذين يبيعون بضائعهم في السوق، ويستضيفون الأعيان والأثرياء منهم. أما المزارعون البسطاء والعمال الشباب، الذين يتجمعون كباقات زهور مكتظة، فكانوا يصلون في الصباح الباكر جداً لبيع أو شراء البضائع بدلاً من السفر في الليلة السابقة. بعضهم كان يبيت عند الأصدقاء، والبعض الآخر كان ينام في الحقول كالمتشردين. سألت جوديث:

- ألا تستطيع هي تهيئة الأسرة بنفسها؟

لم تكن لتعبر عادةً عن أفكارها بهذه الصراحة، ولكن مع تقلص الموسم، كانت أليس تبذل أقل جهد ممكن في المساعدة بأعمال المنزل. لطالما كانت أختها على هذا النحو، لكنها حاولت لفترة قصيرة ذلك الصيف أن تصبح امرأة مجتهدة، ربما في محاولة لإظهار مهاراتها المنزلية لزوجها الجديد. لكن تلك الحماسة لم تدم طويلاً.

لم يجب ناثانيل. بعد أن كُلّف بإعادتها إلى المنزل، لم يكن ليسمح لها بالهرب. مشت معه غاضبةً عائدةً إلى النزل.

في الصباح، استيقظت مبكراً. كان آخر أيام السوق في الموسم. بعد ذلك، ستغلق القرية أبوابها على نفسها، لكن في ذلك اليوم، ولبضع ساعات ثمينة، كانت القرية تعج بالحركة والنشاط. كان هناك بيض للبيع، وأسماك مملحة، وأكياس بطاطس، ولكن أيضاً بضائع فاخرة: صناديق شاي، وفواكه مجففة، وشوكولاتة، وشرائط ودانتيل، وصابون معطر،و تبغ، ومسحوق أسنان. كان ناثانيل يبيع الفراء، وكان من المفترض أن تساعده جوديث.

كم أحبت أيام السوق في السنوات الماضية، لكن في هذا الخريف، أصبح من الصعب تحمل الوقوف بجانب ناثانيل وهو يتحدث إلى الزبائن - الوقوف قريباً منه جداً في كشكهم الصغير وهو يبتسم لها بلطف بينما قلبها يشتعل بعدم الراحة والتململ.

بينما كان ناثانيل منشغلاً بالحديث مع رجل، تسللت جوديث بعيداً. تجولت بين الأكشاك الأخرى، تتمنى لو كان لديها ما يكفي من المال لشراء أمشاط فاخرة أو دانتيل، لكنها لم تحصل من أختها سوى بضع قطع نقدية لقاء عملها، وكانت تلك تُمنح لها على مضض رغم أن أليس اشترت لنفسها أحذية جديدة، وشالاً جديداً، وقطعاً كثيرة من القماش لتجهيزاتها. نفقات لا داعي لها، إذ كانت أليس مجهزة بالفعل، لكنها تصرفت وكأنها عروس لأول مرة.

ركلت جوديث حصاةً صغيرة وتوقفت لتنظر إلى عربة بائع الكتب.

- مرحباً، الآنسة جوديث، هل تبحثين عن قراءة خفيفة؟ لدي تشكيلة جيدة من كتب السيدات:

قال ذلك وهو يربت على كومة من الكتب إلى يساره. ثم رفع كتاباً لحكايات خرافية مصورة.

في الأوقات العادية، ربما كانت جوديث لترضى بمثل هذه الكتب، أو كتب تعليم التطريز التي يعرضها، أو الروايات الخفيفة عن بطلات صابرات ينلن السعادة في الصفحة الأخيرة. لكنها في ذلك اليوم كانت تشعر بالاكتئاب.

قالت مشيرةً إلى صندوق كان الرجل يستند إليه:

-  أريد أن أرى ما لديك هناك.

قال الرجل وهو يستقيم واقفاً

- أوه، لا، هذه الكتب ليست لكِ، هذا كتاب حكايات خرافية مناسبة للشابات، مع شرح المغزى من كل قصة في نهايتها

- ولماذا لا يمكنني الحصول على الكتب الأخرى؟

-  تلك مجلدات صغيرة فاحشة للرجال.

عرفت جوديث ذلك، رغم أنها لم ترَ كتاباً "فاحشاً" عن قرب من قبل. كثير من شباب القرية كانوا يشترون تلك الكتب ويخفونها بسرعة، متجهين نحو الحانة أو أي مكان آخر حيث يمكنهم مشاركة الشراب والضحك على محتوى تلك الكتب.

-  كم ثمن الواحد منها ؟

- لا يمكنني.

أصرت جوديث:

- لدي المال.

قال الرجل:

- أختكِ ستخنقني إذا سمعت أني بعتكِ هذا، آنسة جوديث.

قال رجل:

- دعني ألقي نظرة على أحد تلك الكتب.

تقدم غريبٌ بجانب جوديث. لم يكن مزارعاً ولا تاجراً. بدت ملابسه فاخرةً في يومٍ ما، لكنها الآن متسخةٌ ومرقعةٌ مراتٍ عديدة. معطفه الأسود الطويل كان مهترئاً عند الحواف. كان شعره مربوطاً عند قفاه، ولم يكن يرتدي قبعةً كما يفعل أي رجل محترم، رغم أنه كان يرتدي قفازاتٍ بدت مصنوعةً من جلدٍ جيد. ربما كان نبيلاً سقط من مكانته، أو متشرداً جمع بعض الملابس اللائقة من محسنٍ ما. على الأرجح الاحتمال الثاني.

تردد بائع الكتب، لكنه فتح الصندوق وسلم الرجل كتاباً. تصفحه الغريب وسأل عن السعر. عندما ذكر البائع الثمن، دفع له بعض القطع النقدية.

بدأت جوديث بالابتعاد، لكن الغريب لحق بها بخطواتٍ سريعة. سألها:

- أتريدين قراءة هذا؟

أجابت:

- نعم، لكنك اشتريته، فماذا إذن؟

- سأبيعه لك.

- سترفع السعر."

- أبداً. من الواضح أنكِ أردتيه ولم تتمكني من الحصول عليه دون وساطة. التقي بي خلف الحانة عند الغسق. يمكنكِ الحصول عليه بسعرٍ زهيد "

- أعطيه لي الآن

قال الغريب وهو ينظر خلفها، وابتسم:

- ثمة رجل قادمٌ إليكِ.

التفتت جوديث ورأت ناثانيل يقترب منها. كان يداه في جيوبه وعلامات العبوس على وجهه. أسرع الغريب بالابتعاد، سألها ناثانيل:

- هل كان ذلك المتشرد يزعجكِ؟

-  كان يسأل إن كان يمكنه المبيت في الإسطبل مجاناً. أخبرته أننا لا نستطيع تقديم مثل هذه الصدقة "

قالت جوديث ذلك، عسى ألا يلاحظ ناثانيل كذبها.

***

كان بيت الضيافة يعجّ بالناس، واستغرق الأمر من جوديث وقتًا أطول مما توقعت لتتسلل خارجه. أسرعت خلف النزل، وحين وصلت،  وجدت نفسها وحيدة تحت أغصان شجرة معوجة. ربما كان قد أتى وذهب. لعنت في سرِّها. قال صوتٌ:

- لقد تأخرتِ.

فوجئت برؤية بقعة من الظلام تنزلق بعيداً عن الشجرة. كان الرجل متكئاً بإحكام على جذعها؛ لم تلحظه. عندما أصبح وجهه مرئياً أخيراً، لاحظت ابتسامته الحادة.

رفعت جوديث ذقنها بتحدٍّ.

-  كان لديّ شغلٌ يجب إنجازه. هل معك الكتاب؟

ربت الغريب على معطفه وأخرج الكتاب. عندما حاولت انتزاعه، سحبه بعيداً.

-  سآخذ أجرتي أولاً، يا جوديث ذات الشعر الأسود. أليس هذا اسمك؟

- كم تريد؟ لقد قلت أنه سيكون رخيصاً، أتذكر؟

-رخيص جداً. يمكنك الحصول عليه مقابل قبلة."

-هذا طلب غير لائق. أنت على الأرجح متشرد."

- لست متشرداً.

أضاف:

ومن سيراكِ في الظلام؟ القمر جديد الليلة."

لم يكن هناك قمر، لكن الضوء الخافت المنبعث من نوافذ النزل جعلها تتردد. علاوة على ذلك، كان المقايضة بالقبلات من أجل أغراض تافهة أمراً غير أخلاقي. أخبرته بذلك.

هز كتفيه. سأل:

- هل تريدين الكتاب أم لا؟

قالت:

- حسناً. قبلة واحدة فقط.

لم يكن لها حبيب، رغم أنها قبلت بعض الفتيان من البلدة. أمضت وقتاً طويلاً وهي تتخيل عشيقاً أحلامها لتقبل برجل عادي. فكرت في منحه ما منحته لأولئك الفتيان: قبلة سريعة خاطفة.

أمسك الرجل وجهها بيديه، وشعرت بلمسة الجلد الناعم على بشرتها بينما انحنى ليُقبّلها. انفتح فمها أمام فمه، وسمحت له بجذبها إليه من خصرها، وبنهش شفتها السفلى. لكن عندما حاول لمس صدرها، صفعَت يده بعيداً.

-  لقد وعدت. أعطني كتابي.

- دعيني أرى صدركِ وسأحضر لكِ كتاباً ثانياً. ضعف المتعة."

قالت، بصوت يكاد يكون همساً غاضباً.

- أنت فظّ،.

ضحك، ممدداً ذراعه وعارضاً عليها الكتاب. انتزعته منه وأسرعت عائدةً إلى المنزل. لكنها لم تجرؤ على قراءة الكتاب داخل النزل. بقيت مستيقظة معظم الليل، وفي لحظة ما شعرت بإحساس غريب بأن شيئاً ناعماً مرّ بجانبها في الظلام، رغم أنه لم يكن سوى البطانية التي سقطت على الأرض.

***

مع بزوغ الفجر، أمسكت جوديث سَلَّتها ووضعت الكتاب بداخله تحت منديل أحمر، ثم خرجت إلى الغابة. تساقطت أولى حبات الثلج الموسمية، لكنها كانت لمسات خفيفة من البياض على الأرض. عندما وصلت إلى الكوخ، أشعلت النار وجلست على كرسي مهترئ، تقلب الصفحات.

كان الكتاب بالفعل فاحشاً، يحكي قصة امرأة شابة تترك الدير وتخوض مغامرات غرامية عديدة في العالم. تصور الرسومات التفصيلية كل مغامراتها. لم ترَ جوديث عري الرجال إلا في صفحة من الإنجيل تظهر آدم وحواء يمسكان بأيديها، مع الثعبان ملتف حول أقدامهما. لكن تلك الرسومات كانت بدائية، بينما النقوش في هذا الكتاب صورت الواقع بكل تفاصيله الجسدية، تظهر أعضاء الرجال الطويلة وشعر عانة النساء، بالإضافة إلى عشرات الأوضاع الغرامية المختلفة.

كانت منشغلة بالكتاب لدرجة أنها لم تلحظ وجود أحد عند الباب حتى هبّت رياح باردة حركت شعرها. لم تكلف نفسها عناء قفل الباب.رفعت رأسها وأعادت الكتاب بسرعة إلى السلة، وغطته بالمنديل. سأل ناثانيل:

- ألم تسمعيني؟

هزت جوديث رأسها.

- ماذا تفعلين هنا؟ هل هو معكِ؟

- من؟

قال بغضب:

- لا تتظاهري بالبراءة. رأوكِ خلف الحانة الليلة الماضية تتحدثين مع ذلك الرجل.

أكدت له:

-  أنا وحدي.

ألقى ناثانيل نظرة حول الكوخ، لكنه كان صغيراً، ولا مكان يختبئ فيه عشيق.

- حسناً، دعينا نعود إلى البلدة. رأيت ذئباً أسود كبيراً بالأمس، ليس بعيداً عن هذا المكان. وحش ضخم حقاً. سأصطاده يوماً ما، لكنني لا أريده أن يعضكِ.

أمسك سَلَّتها، ربما ليحملها عنها، وفي لحظة ذعر جذبته نحوه، مما أدى إلى انقلابها. سقط الكتاب على الأرض، والتقطه ناثانيل. حدق في إحدى الصفحات، ثم نظر إليها. احمرّ وجه جوديث. تمتمت:

- إنها مجرد قصة.

سأل ناثانيل.

- هل أعطاكِ إياه ذلك الرجل؟"

- نعم.

- وماذا أعطاكِ أيضاً؟

- لا شيء.

أصر فى حدة:

- ماذا أيضاً؟

كررت

- إنها قصة.

كانت على وشك تقديم تبريرات لا حصر لها، لكنه جذبها إليه وقبّلها، ليس كما فعل الغريب في مزاح، بضحكة على شفتيه، بل بكل ثقل العالم.

سحبها نحو السرير، الذي صرّ بشدة  تحت ثقلهما. سمعت عواء ذئب في المسافة بينما أمسك فخذها من خلال قماش فستانها، الذي بهت لونه من جرّه في برك الغابة وطينها.

كان على جوديث أن تدفعه بعيداً. لكنها بكت صباح زفاف أليس، ولم يكن لديها أي شيء خاص بها، سوى ملابس أختها المستعملة، وسواعد خشنة من الصابون والغسيل. وبشكل غريب، وجدت نفسها تفكر في أن الغريب كان يرتدي قفازات، فلم تتمكن من الشعور بيديه كما قد تريد. هل كانت ناعمة، أم خشنة كيديها؟

ثم قبّلها ناثانيل مرة أخرى، فنسيت الغريب، وأختها، وكل العالم.

***

خبت النار، وابتعد الذئب. ارتديا ملابسهما.

وجدت جوديث صعوبة في تذكر كيفية ربط أربطة حذائها - كانت أصابعها خرقاء - فساعدها في ارتداء فستانها ثم وضع قبلة سريعة على خدها.

- أراكِ لاحقاً.

قالها وهو يمسك ببندقيته المتكئة على الباب ويغادر.

أطفأت جوديث النار وعادت إلى نزل الضيافة، على هدي غريزتها أكثر منها بعقلها الواعي. عند دخولها، وجدت أليس تغلي غضباً، تحاول التعامل مع التوأمين المشاغبين وتوبخ الخادمة في نفس الوقت. قالت أليس لأختها.

- هلا أسرعتِ وغسلتِ الملابس؟

كان بإمكانها إعطاء الغسيل لإحدى نساء القرية، لكن أليس ظلت تكلِّف جوديث بهذه المهمة.

هذه المرة لم تعترض جوديث. غسلت الملابس الداخلية التي كانت ترتديها، وراقبت الماء وهو يتحول إلى اللون الوردي بفعل الدم الذي تسرب من جسدها - الدم ونطفته. كان عليها أن تغسل نفسها قبل مغادرة الكوخ لكنها كانت مشدوهة جداً اكثر من كونها. ساعدها البرد والسير في استعادة وعيها: لا يمكن أن يُكتشف أمرها.

فركت بقوة حتى اختفت كل آثار اللون. ثم أفرغت الماء القذر الملطخ بالدم في الخارج، وتركته يتغلغل في جذور شجرة.

***

عجنت الخبز بأصابع متراخية، بينما شردت أفكارها عائدة إلى ناثانيل، رغم أن أختها كانت بجانبها وخشيت جوديث أن تتمكن أليس من تخمين ما يدور في رأسها. فقد كانت أليس دومًا تمتلك قدرة غريبة على معرفة متى ارتكبت جوديث خطيئة. كانت تسرع لإخبار الجدة، فتعاقبها الجدة لسوء تصرفها. قالت أليس:

- انتبهي لما تفعلين. هذا الخبز لن ينتفخ أبدًا.

فلم تكن لتنزل إلى مستوى لمس الدقيق والزبدة؛ بل كانت تراقب جوديث والخادمة بعينين ثاقبتين كقائد جيش.

- سيكون على ما يرام.

-  لن يكون كذلك. أنت مهملة. عليك أن تتعلمي الطهو جيدًا، وإلا لن تخطبي زوجًا أبدًا. لا عجب أن إليزابيث وراحيل تزوجتا بالفعل.

-   أنا أطبخ جيدًا، ولا يهمني ما يفعله الآخرون.

قالت جوديث ذلك، وهي تفكر في الفتيات اللواتي ألقين تلك التعويذة معها قبل أشهر. كانت إليزابيث حاملًا بالفعل بطفلها الأول وتبدو ضخمة كسفينة شراع، بينما تشتكي راحيل بلا توقف من زوجها كلما زارت المتجر.

لم ترد جوديث أحد أولاد القرية المملين الذين تزوجتهم صديقاتها. لقد أرادت رجلًا وسيمًا، قويًا وبنيانًا. أرادت ناثانيل. وقد شاركته الفراش.

كان على جوديث أن تتوب.

قالت أليس:

-  كل ما تعرفين طهوه هو الحساء. أحيانًا، يريد الرجل حلوى من زوجته. كعكة أو فطيرة.

ردت جوديث بفظاظة:

- أو ساعة جيب مطلية بالفضة.

احمرّت أختها غضبًا، لكن الجميع في البلدة همسوا بأن أليس اشترت ناثانيل. شعرت جوديث بالخزي من نفسها حينها. لم تكن تخون أختها سرًا فحسب، بل وتحدثت إليها بفظاظة. قالت:

-  أنا آسفة.

قالت أليس:

- انهي هذا، أيتها الحمقاء.. لو كان الأمر بيدك، لكنا نأكل عجينة محروقة.

ربما، لكنها فكرت: لقد نلتُ الرجل الذي أريده. وغسلت يديها، راجية أن تطهّر نفسها من أفكارها الخائنة، لكن تلك الأفكار كانت هناك، رغمًا عنها — شعور بالنصر لا يمكن إنكاره، يتلوه ذلك الخزي الصامت.

***

ظلت القبلات التي غرسها على فمها عالقة، عميقة كالجراح في جسدها،  وذكرياتها تسببت في ألم يشع منها. ومع ذلك كتمت هذا الألم، وحاولت محو لمساته من ذهنها. قررت أنها قد تخيلت اللقاء بأكمله، مسكونة بحلم غريب وحمى. يمكنها أن تكون فتاة صالحة، يمكنها أن تنسى، يجب عليها ذلك.

مر يومان ثم آخر. نزل ناثانيل الدرجات، بندقيته معلقة على كتفه. قال:

- صباح الخير، جودي.

أومأت له لكنها أبقيت عينيها على حذائها، متأملة أن تبدو مهيبة بدلاً من مذنبة.

- سأذهب للصيد اليوم. قرابة الظهيرة، قد أستريح في الكوخ المهجور الذي تفضلينه.

قالها  بصوته الخفيف. رفعت جوديث عينيها، لكنه كان ينظر إلى الغابة، لا إليها. حدقت به وهو يبتعد.

لاحقاً، بعد أن ساعدت قليلاً في المتجر، تسللت جوديث إلى الغابة ثم إلى الكوخ.

لم يكن هناك، فوجدت الكتاب الذي تركته ملقى على الأرض. التقطته وجلست على السرير، تحدق عبر النافذة بزجاجها الصغير.لم تعرف هل تضحك أم تبكي، ودلكت يديها وهي تفكر أنها يجب أن تكفر عن ذنبها، بينما تذكرت ثقل جسد ناثانيل عليها.

كانت خطيئة أن تضاجع رجلاً ليس زوجها. كان عليها أن تعترف للكاهن. وقد تكون هرعت إلى الكنيسة أيضاً، لولا أن ناثانيل دخل في تلك اللحظة، وهز رأسه بينما يتساقط الثلج من على كتفيه. سأل:

- أنا أتجمد. ألم تشعلي النار؟

شاهدته وهو يشعل النار، ثم التفت إليها وابتسم. اعترضت بشكل غامض همست:

–  لا يجب أن تشتهي.

لكنه خنق كلماتها بفمه، بينما كانت أصابعها العجلى تعاونه على نزع ثيابه.

***

تجنبته لمدة أسبوع كامل. الآن يكسو الثلج القرية مثل بطانية، خافِتًا كل الأصوات،

كما كانت أشجار الشوكران منحنية تحت ثقل هذا البياض.

ناثانييل، ناثانييل. كان قلبها ملتهبًا، وعيناها تبحثان عنه على مائدة العشاء، ومع ذلك كانت ترغب في أن تبقى فاضلة. إنْ جعلته عشيقها، فمصيرها إلى الجحيم. لقد اقترفت الإثم مرتين. مرتين من الحماقة. مرتين من اللعنة.  لم تكن تنوي فعل الشر حقًا. في المرتين فاجأها الأمر، وكان اتصالهما حميمية يائسة، عفوية.

سلكت الدرب المؤدي إلى الكوخ لكنها حادت عنه، تتوه بين الأشجار، تلتقط غصينًا وتكسره إلى نصفين. سمعت همهمة فتوقفت، ظنًا منها أن ناثانيل هو الذي يتبعها، لكن الصوت لم يكن مألوفًا. سألت.

- من هناك؟ معي سكين.

قال الغريب وهو يخرج من خلف شجرة.

- حسنًا. معي مسدس.

كان يحمل على كتفه حزمة وفي يده اليسرى تفاحة، قضمها بعزم مع صوت قرمشة حاسم. عبست جوديث.

-   ليس هذا مسدسًا.

-   إنه مخبأ. بالإضافة إلى ذلك، لا أرى السكين.

وضعت جوديث يديها خلف ظهرها.

- ماذا تفعل هنا؟

- أبحث عن مكان لأنام."

- اذهب إلى الحانة.

- يطلبون مبلغًا كبيرًا."

- إذن أنت متشرد."

- أنا زائر.

ألقى التفاحة في الهواء والتقطها.

- سمعت أن هناك كوخ حطاب مهجور في مكان ما.

- إنه ليس كوخ حطاب، ولا يمكنك البقاء هناك.

-   لماذا لا؟

- لأنك لا تستطيع. عد إلى البلدة واقتحم إسطبلًا."

- ثم أُطارَد من قبل رجل يحمل بندقية؟

قضم قطعة أخرى.

سرت ابتسامة على وجهه.

- خذيني إلى الكوخ. سأهديك هدية.

- لا أريد قبلة سخيفة أخرى منك.

- ليست قبلة. لن ألمسك،"

قال ذلك، وهو يمضغ وابتلع قطعة من التفاحة قبل أن يتكلم مرة أخرى.

- معي كتاب.

- لن أريك صدريّ مقابل ذلك. بالإضافة إلى ذلك، لدي كتاب بالفعل.

-  لديك كتاب فاحش. ماذا عن كتاب عن وحوش مرعبة وأشباح بشعة؟

ظنت جوديث أنه من الغباء أن تستمع إلى هذا الوغد، لكن من ناحية أخرى،

شغلتها محادثتهما عن مسألة ناثانيل ولعنة روحها.

- تبقى ليلة واحدة، ثم تغادر – أفهمت؟ هذا مكاني وحدي.

وافق على ذلك.وعندما دخلا، أشعلت جوديث النار، وراقبته وهو يجلس على أحد الكراسي وينزع معطفه. كانت هناك حقيبة قماشية رمادية صغيرة تتدلّى من حبل حول عنقه. أخرج من جيب معطفه كتابًا، ووضعه على الطاولة. انحنت جوديث فوقه وبدأت تقلّب صفحاته. كانت الرسومات فيه بالفعل مليئة بوحوش بشعة تقفز من خلف الأبواب، وأشباح تهزّ سلاسلها.قال:

- ما هو شيطانك المفضل؟

قالت جوديث:

- الوحوش التي تسكن البحيرات... تلك التي تخطف الأطفال إذا اقتربوا من الماء.

قال:

- يا لك من مخلوقة شريرة.

سألته:

- وأنت، ما هو شيطانك المفضل ؟

قلب الصفحات ووضع إصبعه المغطّى بالقفاز بلطف على إحدى الرسوم.

قال:

- الذئب البشري- مبدّل الشكل.

نظرت جوديث إلى الصورة. كان رجلاً يمزّق صدره بيديه، ومن تحت الجلد كانت تخرج رأس ذئب، جاهزة لافتراس امرأة ذات شعر طويل منسدل، مستلقية على السرير وتصرخ.

قالت:

- تفاهة. هذا لا يُخيف.

قال وهو يمدّ لها التفاحة التي أكل نصفها:

- هل ترغبين في قضمة؟

قالت:

-  كلا. قل لي، ما الذي تفعله هنا حقًا؟ هل أنت لصّ؟

قال مبتسمًا:

- أولًا متشرد، والآن لص؟

قالت، وهي تفكّر في ناثانيال الممدّد عاريًا على السرير في الزاوية:

- لست صيادًا. ولا أي شيء محترم.

قال:

- أنا نبيل هارب من لعنة رهيبة.

سألته:

- ما نوع هذه اللعنة؟

قال:

- لعنة الجوع... لا يمكن إشباعها. تتذوّق دم الفريسة الطازجة، فتُجبر على الصيد ليلًا. الشر يغلي في جسدك لأنك سرقت أثرًا مقدسًا من أرض بعيدة.

قالت وهي تشير إليه:

- ها أنت ذا. لصّ.

قال:

- إن كان يرضيك أكثر، فقد سحرني ساحر يعيش في كهف.

ضحكت على ذلك، ثم وقفت. كانت قد أطالت الغياب. لا بد أن أختها بدأت تتساءل أين هي، وإن لم تكن هي، فربما ناثانيال. لم تكن تريد أن يجدها برفقة الغريب.

قالت وهي تمسك بغطائها:

- غادر قبل الصباح، أتسمعني؟

قال:

- سأغادر. لكنني سألقاكِ مرة أخرى، في وقت آخر، يا جوديث ذات الشعر الأسود.

كان الغريب قد أنهى أكل تفاحته ورمى اللب في النار، ثم اتكأ بهدوء على كرسيه. أما هي، فخرجت من الكوخ.

***

حاصرها ناثانيال في المطبخ تلك الليلة. بدا شديد الكآبة، وتحدث بصوت منخفض. كان وجهه الوسيم مشوّهًا بالحزن.

قال:

- ماذا فعلتُ؟ ما الأمر؟

أجابت وهي تنظر إلى يديها المرتجفتين قليلًا:

- أنت تعرف ما فعلناه.

قال:

- ألا تحبينني يا جودي؟

الحب! يا له من لفظ بسيط، لا يمكنه أن يحيط بما تشعر به، مشاعرها العميقة والمضطربة التي تخشى أن تغرق فيها لمجرد النظر إليه. كل لحظة من صحوها كانت شوقًا، ولياليها كانت سهرًا ووجعًا. منذ اللحظة الأولى التي كلمها فيها، أحبّته، ثم عاشت عذاب فقدانه. والآن عرفت عذابًا آخر، عذوبة عناقه وثقل الخطيئة.

سمعت جوديث وقع خطوات أختها تنزل على الدرج، والألواح الخشبية تئن تحت إيقاعها المألوف.

قالت له بسرعة:

- لا يمكننا الحديث الآن.

فقال:

- قابليني غدًا، في الكوخ.

***

وافقت على مقابلته، مضطرة لأنها كانت فضولية لتعرف إن كان الغريب سيظل هناك. لم تكن ترغب في مواجهة بين الرجلين، لكنها أرادت أن ترى إن كان الغريب سيوفي بوعده ويغادر الكوخ عند الصباح. يبدو أن ذلك ما حدث، ولم يترك أثراً له خلفه. الكتاب الذي كان على الطاولة اختفى، والنار انطفأت.

لم تكد تدخل حتى فتح ناثانييل الباب. أمسك بها على الفور وألقاها على السرير، يجذب تنورتها. قالت له  بينما كان يقبل عنقها:

-  هذا إثم،  يجب أن نتوقف. أنت متزوج من أختي.

- لم يكن ينبغي لي الزواج من أليس. لم أشعر بأن لدي منزل منذ وقت طويل، وكنتم جميعاً لطيفين جداً، لم أرغب في فقدان ذلك. هي أوضحت أنه إذا لم أتزوجها، يجب أن أغادر. والله يا جوديث، لقد ارتكبت خطأً، لكني أحبكِ أنت، لا هي. أنا وأليس بالكاد نلتقي، أنتِ تعرفين ذلك.

كانت هناك حقيقة في هذا الكلام. كان ناثانييل مهذباً مع زوجته، لكنه لم يكن عاطفياً بشكل خاص، وكان لديهما غرف منفصلة. أليس وزوجها الأول أيضاً كانا يحتفظان بغرف منفصلة، لكن ذلك كان لأنه كان يشخر. حتى أن ناثانييل وأليس لم يقضيا شهر العسل معاً، رغم أن أليس كانت تتذمر من هذا: لقد أرادت السفر، وشراء حلي جميلة في مدينة ساحلية.

أوه، كان ناثانييل سعيداً بما يكفي للجلوس على مائدة أليس ومساعدتها في المتجر. بدا أنه يستمتع بمكانته المرتفعة في القرية، حيث أصبح تاجراً بدلاً من مجرد صياد. لكنه لم يبد أبداً مغرمًا بأليس كما قد تتخيل جوديث أن يكون الزوج الجديد.

قال أهل القرية إن أليس اشترته. ربما فعلت. قال

- إذا استطعت الاختيار مرة أخرى، سأتزوجكِ.

جعلها التفكير في تفضيلها على أختها تشعر بالفخر قليلاً، حتى لو لم يكن ينبغي لها ذلك، تماماً كما لا ينبغي لها أن ترغب في ناثانييل. تمتمت:

-  ما تزال هذا خطيئة.

قال:

-  يجب أن نهرب معاً.. ستجد أليس رجلاً آخر، فهي صغيرة بما يكفي. ستكون بخير ونحن يمكننا البدء من جديد، حيث لا أحد يعرفنا."

- أستفعل ذلك؟

- نعم.

قال ذلك بينما انزلق أصابعه على فخذيها وأغمضت عينيها، حتى وهي تحاول التمتمة عن الفجور والرذيلة. لكنها أحبته كثيراً في السر والصمت، والآن كان هنا. أكذ:

-  سنذهب، في الربيع، مع الذوبان.

كان ذئب يعوي، متحدياً البرد القارس بالخارج. لكنها لم تكن تشعر بالبرد، ليس في قلبها، جسدها مشتعل ورأسها مليء بأفكار عن جميع الأماكن التي قد يذهبان إليها. المدينة، جنوب البلدة، حيث يبنون الكاتدرائيات والقصور العظيمة، حيث البرد لا يكسر العظام. انزلق داخل جسدها، وفكرت ربما كان هناك حقاً لعنات، ولعنتها كانت أن ترغب فيه هكذا، ضد كل منطق وأدب.

قال ناثانييل بعد ذلك وهو يلبس قميصه:

- هذا ذلك الذئب الكبير مرة أخرى،عندما أمسك به، سأصنع لكِ رداءً من فرائه.

- هل فراء الذئب يستحق أي شيء؟

- يجب أن يكون. الشتاء قاسٍ، هناك عدد قليل من الثعالب حولنا، وكل شيء آخر نادر. بالكاد أمسك بشيء. لكن مرة أخرى، أنتِ تشتتيني كثيراً."

- لا أحتاج إلى فراء، فقط أريدك أنت.

أجاب:

- وهذا ما تملكينه بالفعل.

سألته:

- ألا يمكنك البقاء قليلاً؟

تتمنى أن تستكشف ظهره العاري، أن تهمس بأسرار في أذنه، أن تستمع إلى دقات قلبه بينما تغفو.قال:

- سيترقبون عودتي إلى المنزل.

أليس ستترقبه. عضت جوديث على ظفرها وهي تشاهده وهو يعدل معطفه. قالت:

- لقد حلمتُ بك ذات مرة، قبل أن تأتي إلى هذه البلدة. لا يمكن أن يكون خطأً إذا حلمتُ بك، أليس كذلك؟

ضحك.

-  وماذا كان الحلم؟

- لا شيء. قبلني.

طلبت جوديث وهي تتمسك به بيديها اليائستين، عسى أن يبقى دقائقَ أطول. لكنه ابتسم وقال إن عليه المغادرة قبل أن يفتقده أحد.

عندما خرج، ارتمت على السرير، يداها ممدودتان فوق رأسها، وقلبها ما زال ينبض بجنون على إيقاع لقائهما.

***

يُغطي الثلج الأبيض الثقيل سقوف القرية، بينما تميل قمم أشجار الصنوبر قليلاً نحو الشمس الصاعدة. داخل المتجر، كان ناثانييل يُراجع الحسابات بينما تعيد جوديث ترتيب برطمانات المربى. وقد خرج الصبي المُساعد متذمراً من ألم في ضرسه، ووعد بالعودة بعد ساعة، فوجدت نفسها تساعده في أعماله.

رن جرس الباب عند دخول أحدهم، وسمعت همهمة الرجل المميزة وهو يقترب من المنضدة. سأل.

-  هل لديكم تبغ؟

وقفت جوديث متصلبةً وهي تحمل برطماناً بين يديها، ظهرها نحو المدخل، بينما ساعد ناثانييل الزبون. غادر الرجل سريعاً، وبعد دقائق دخل آخر يبحث عن الصابون. فخرجت جوديث من المتجر.

وجدت الغريب على بعد خطوات قليلة من المدخل، مستنداً إلى الحائط، حاملاً عقداً من البصل على كتفه. ابتسم لها. سألته:

- ماذا كنت تفعل هناك؟.

- أحصل على قليل من التبغ. سيجعل هذا البصل أطيب إذا دخنت غليوناً. هذا عشائي، كما ترين، وهو ضئيل جداً.

- كان عليك أن تنفق نقودك على اللحم بدلاً من التبغ.

قال:

- على المرء أن يُدلل بعض رذائله، ألا تملكين كسرة خبزٍ، أليس كذلك؟

-   اغرب عن القرية. اذهب لتتسول في قرية كبيرة.

-  يُعتقل المتسولون في القرى الكبيرة."

قالت:

- وفي الصغيرة أيضاً.

بدا عليه النحول أكثر من أول لقاءٍ بينهما، تبرز عظام وجنتيه تحت جلده. تخيلته تحت ثيابه عظماً أكثر من لحم. قالت:

- عد بعد حلول الظلام، سأعطيك كسرة الخبز حينها."

عاد الصبي، وذهب ناثانييل إلى دار الضيافة. قبل الغروب، أخبرت جوديث الصبي أنها ستُغلق المتجر وحدها. فغادر ممتنّاً كأنما يرقص وهو في طريقه إلى البيت. وحضر الغريب بعد قليل، فأغلقت الباب وقادته إلى المخزن، حيث أخذت برطمان مخلل وآخر من المربى، ووضعتهما في كيس خيش مع رغيف خبز سرقته من المطبخ. توقعت ألا يشكو من جودته، كما تفعل أختها.

قالت:

- خذ. احسب نفسك محظوظاً ولا تزعجني مرة أخرى.

قال، وابتسامته الساخرة الحادة كالعادة. حاد كالسيف كان، وعيناه تشبهان الجليد، براقتين وباردتين:

- أنتِ روح الكرم بذاته.

- أين تنام؟ ليس في الكوخ، آمل. لا يُسمح لك بالعودة هناك."

- لن أدخله إلا إذا دعوتيني.

- جيد. لأنك لو كسرت نافذة وحاولت التسلل، سوف تندم. هل تنام في إسطبل أحدهم؟ تتسلل ليلاً؟

قال:

- ربما أنزلق إلى سرير سيدة عجوز ترتدي قلنسوة نومها وأدفئها أفضل من فراء.

- أنت أحمق وعليك المغادرة. لماذا تبقى هنا؟

قال:

- الشتاء قاسٍ في كل مكان، وكاهن هذه القرية أكرم من غيره، أحياناً يُعطي الرجل صحناً من الحساء مقابل كنس الثلج عن درج الكنيسة. أما في أماكن أخرى، فقد يضربونك بعصا ويطاردونك."

فكّرت أنه لا بد أن تكون حياةً بائسةً أن تتجوّل هكذا من قرية إلى قرية، تتسوّل الفتات وتقوم بأعمال وضيعة، مع تهديد السلطات بسحبك إلى السجن.

جلس الغريب وخلع معطفه وقفازيه الجلديين. لم تبدو يداه خشنتين، رغم أن شعراً داكناً قبيحاً يكسو مفاصله وأظافره طويلة. مع ذلك، بدا أشعثاً من كل مكان، بلحية كثيفة وشعر غزير مجتمع عند قفاه. بينما كان ناثانييل يحلق خديه كل صباح، وهذا ما أعجبها. جعله ذلك يبدو أكثر أناقة من شاب القرية. أميراً، لا متسولاً.

بدأ الرجل يقضم خبزه وهو يهمهم أثناء الأكل، بينما حدّقت في وجهه وفي الحقيبة الرمادية المتدلية من عنقه.

سألت:

- ما هذا؟

- ألا تحبين أن تعرفي.

- هل تحتفظ فيه بمالك أو بإرث خاص؟

-  إذا سمحتِ لي بملء كيس الخيش هذا ببضعة مؤن أخرى، سأخبرك.

فكّرت في عرضه. لن يكون من الصعب إخفاء اختفاء بعض الأشياء، إذا كانت صغيرة وغير مهمة. فأومأت برأسها. فألقت ببرطمان جزر وآخر بفجل أبيض في الكيس.

ركع أمامها، رافعاً الحبل عن عنقه. فتح الحقيبة وأفرغ محتوياتها على كفه. كان هناك ريشة، وعظمة صغيرة لا بد أنها تعود لطائر، وتراب، وحصى، وبتلات زهور مجففة، وخيط. قالت:

- إنه مجرد خردة.

-  إنها تعويذة لتحويلي إلى ذئب في ضوء القمر حتى أستطيع العواء عبر الغابة. ثم أعود إنساناً عند الفجر."

- إذا كنت تستطيع التحول إلى ذئب، لماذا لا تصطاد عشائك؟

-  أفعل، لكن لا أحد يرغب بمضغ عظام أرنب هزيل كل يوم. الشتاء كان سيئاً للصيد. وللمرء ولع ببعض السلع.

هزّت رأسها:

- مثل التبغ. لا أرى كيف تساعدك هذه الحقيبة في التحول إلى أي شيء."

- هذا يدل على مدى معرفتك. خذي بتلات خربق أسود ودهن ذئب، اغليهما لصنع مرهم وادهني به نفسك تحت ضوء القمر عند بلوغك الخامسة عشرة، ومن ثمّ ستستطيعين التحول إلى وحش.

سألت، مشيرة إلى كفه المفتوح.

-  فهمت. وهذه العظمة الصغيرة، ما فائدتها؟

- تُجري السحر، هذا ما تفعله."

أعاد الأشياء إلى الجراب وناوله إياها. أمسكت جوديث به بين يديها وهزّته، سامعة صوت محتوياته تصطك.

- هل هذا سبب كونك متشرداً؟ دهنت نفسك بمرهم وتحولت إلى ذئب. ثم أكلت مواشي الجيران واكتشفت أمرك."

قال، وهو يفرك يديه معاً:

- ربما. أو ربما يكون ارتداء الفراء في الشتاء أكثر دفئاً.

- في السابق قلت أنك سرقت ذخيرة مقدسة، وأن ساحراً في كهف لعنك، والآن تقول أنك تدهن جسمك بمرهم وتلقي تعويذة كافرة. أي القصص صحيحة؟

سأل، وعيناه الغائرتان مليئتان بالأذى:

-  ما رأيكِ، يا جوديث ذات الشعر الأسود؟

قالت، وهي تفحصه بدقة:

-  أنت أكبر مني سناً، لكن ليس بكثير.أعتقد أنك كنت حتى وقت قريب تلميذاً عند خياط أو إسكافي، وهربت بمال من خزنة معلمك."

- ربما مع زوجته، التي اتخذتني عشيقاً لها بتهور.

قالت:

- ليس ذلك. لست وسيماً. ليس لديك عضلات، ولا قوة. وشعرك يشبه عش غراب.

اعتبرت أن عيني ناثانييل رائعتين بالمقارنة به. كان حاجبا هذا الرجل كثيفين جداً؛ وأنفه مكسور. مع ذلك، احمرّت وجنتاها عندما ابتسم لها بابتسامته الملتوبة.

سألت، وهى تحدق فى عينيه رغم الاحمرار على خديها.

-  كيف وجدت هذه القرية؟

- تبعت النهر. فكان يغني لي.

عاد الغريب يهمهم وهو يلقي برطمان آخر في كيس الخيش.

سألت، ضاغطةً على شعرها ومسوّيته للخلف.

- ما هذه الأغنية؟

قال:

-  ألم تسمعيها من قبل؟ إنها مشهورة هذه الأيام. إنها أغنية عن فتاة يسحبها عشيقها الشيطان إلى قاع النهر. ستعجبك.

- لا أعرف. أفضل السيد على الشيطان.

نظر إليها بعينيه الماكرتين

- إذاً، صاحب المتجر بملابسه الأنيقة أفضل؟. الرجل في المتجر هو عشيقك، أليس كذلك؟"

- كنت تتجسس علي!

- ليس تجسساً. كنت أتجول في الغابة، فرأيتكِ وإياه تدخلان الكوخ. لا تقلقي، لم ألصق وجهي بالنافذة لأرى كيف ينزلق بين ساقيك.

رمت الجراب الصغير نحوه ووقفت غاضبة.

- اغرب. ينبغي أن أغلق المتجر.

جمع أغراضه ووضع الكيس على كتفه، ممسكاً إياه بكلتا يديه، بينما رتبت هي البرطمانات على الرف بغضب.

***

نزلت أليس مبكرًا، بينما كانت جوديث لا تزال تتناول إفطارها، أفكارها كئيبة متشابكة بينما جلست إلى الطاولة. كانت رائحة أختها تفوح بعطر كريم اللوز الفاخر، وارتدت فستانًا بنفسجيًا جميلًا. لا بد أن أفكارها كانت كئيبة هي الأخرى، فقد ألقت على جوديث نظرة غاضبة.

- حسنًا، ها أنتِ في المنزل أخيرا.

سألت جوديث:

- وأين عساي أكون؟"

- لقد كنتِ كسولة مؤخرًا. كلما التفتُّ، لا أجدكِ في المنزل، ولا تساعدين في المحل أيضًا.

قالت جوديث

- لقد ساعدت هذا الأسبوع.

- ربما، لكنكِ مهملة في الطعام والمؤن. تستخدمين الكثير من الصابون في الغسيل. ناثانييل لم يحالفه الحظ في جلب الفراء هذا الشتاء، مما يعني أننا بحاجة إلى التقتير.

لم يكونوا بحاجة إلى التقتير عندما أرادت أليس أمشاطًا جديدة أو زوجًا من الأحذية. قالت جوديث:

- سيحصل ناثانييل على فراء الذئب العظيم.لا تقلقي.

-  وماذا لو فعل؟ ليس هذا هو المقصود. أنتِ غير منتبهة هذا ما أعنيه. يقول صبي المحل إنكِ كسرت عدة برطمانات من المعلبات."

تلك كانت الكذبة التي أخبرتها. لم تستطع إخبار أختها أنها أعطتها لمتشرد سمحت له بدخول المحل. تمتمت جوديث:

- أنا آسفة.

قالت أليس:

- خرقاء كالعادة.. تركتِ الحليب يفيض الليلة الماضية. احرصي على عدم تكرار ذلك.

كانت تخاطبها كما تخاطب السيدة الخادمة الحقيرة. لكنهما كانتا غريبتين عن بعضهما منذ زمن طويل، حتى قبل أن تحب جوديث ناثانييل. فقد علمت الجدة أليس المكانة التي يجب أن تحتلها في الحياة، دائمًا بخطوتين فوق جوديث.

استمرت أليس في توبيخها قليلًا، لكنها في النهاية تعبت وتركتها وشأنها. وسرعان ما انطلقت جوديث بين الأشجار؛ كان الدرب الذي يعبر الغابة قد محاه الشتاء، لكنها عرفته من كثرة العادة. كان الجو باردًا جدًا في الخارج؛ ارتفعت أنفاسها من شفتيها، وتذوقت الحرية عندما لامسها ندفة ثلج على جبينها. ابتعدت، ابتعدت عن دار الضيافة، عن أليس، عن الأطفال الصارخين، عن ذكرى الجدة التي أعلنت أن أليس كانت الطفلة الأجمل بلا منازع، هاربة من كل ذلك. بين ذراعي ناثانييل، الذي لم يعنفها قط، والذي غمر وجهها بالقبلات.قالت له:

- أكره هذا المكان. أكره غرفتي والمنزل والقرية. لماذا لا يأتي الربيع عاجلًا؟ أتمنى أن يصبح كل شيء مختلفًا وجديدًا. أتمنى أن أحبك دون خداع أو أسرار. "

قال:

-  التمني لن يحقق ذلك. كوني صبورة، يا حبيبتي.

- أنا خائفة.

كانت كلها مشاعر وحماس. لقد غاب العقل عن جوديث. نسيت معنى الخطيئة أو الفضيلة. لم تعرف سوى معالم جسد حبيبها. ولم تتمن سوى إرضائه.

لكنها أحيانًا كانت تخشى أن أليس تعرف كل شيء عنهما، أو أنها سوف تكتشف الحقيقة قريبًا، مثل النساء اللواتي يقرأن الطالع في رواسب القهوة. أحيانًا، مثل الآن، شعرت جوديث أيضًا بحزن شديد، ووحدة لا يمكن تفسيرها.

قال ناثانييل:

- لا تكوني سخيفة.

عضَّ بأسنانُه شحمةَ أذنها، ثم انزلق إلى كتفها. وفي الخارج، عوى ذئبٌ. رفع رأسه.

- إنه ذلك الوحش اللعين. أحاول اصطياده منذ أسابيع. إنه ذئب ضخم، أؤكِّد لك. هذا المخلوق يسخر مني. لقد نصبتُ له فخاخًا جديدةً - سأمسك به."

سألَتْ، وهي تُلقي نظرةً على بندقيته عند الباب:

- هل ستطاردُه الآن؟

بدا أن ناثانييل يفكر في الأمر للحظة، لكن منظر جسدها كان بلا شكٍّ أشدَّ إغراءً من جلد الذئب، لأنه بدلاً من ذلك شدَّ على أربطة ثوبها. فكَّرَتْ:" دعِ الوحشَ ينوحُ إذن."

***

رسم الشتاءُ صقيعَه على سُقُفِ المنازل، وحوَّل الأرضَ إلى عاجٍ أبيض، وجلَدَ الأشجارَ بقسوته. ثم صَمَتَ. كان الغابُ هادئًا لدرجة أن الثلجَ طَقْطَقَ تحت قدميها، وعندما سقطت حفنةٌ من الثلجِ عن غصنٍ، بدا صداهُ يترددُ عبرَ الغابة. ولعل هذا هو السببُ الذي جعلها تسمعُه يُهمهِمُ قبل أن تصلَ إلى الكوخ بفترةٍ طويلة، حتى قبل أن ترى شبحَه الأسودَ يستندُ إلى الباب.

- ماذا تفعل هنا؟

سألتْه. كانت تحملُ سلةً في يدها، وقد وضعتْ فيها كتابًا وقليلًا من الطعام.

- أحاولُ أن أتأكدَ إذا كنتِ وحدكِ، لأشارككِ الدفء.

قالتْ:

-  لا ينبغي أن تكونَ هنا..

- تخشينَ أن يأتي عشيقُكِ فيضبطنا معًا؟ لن أؤذيه إلا إذا طلبتِ مني ذلك.

قالتْ:

- لن يأتي اليوم..إنه مشغولٌ في المحل.

- إذنِ هربتِ من أجل متعتكِ الخاصة.

نعم، لقد فعلتْ. في الآونة الأخيرة، لم يكن هناك سوى الهروب بالنسبة لها: من ضيقِ دار الضيافة، وأحيانًا حتى من الشهوةِ التي تقيدُها بناثانييل، لأنها أحيانًا كانت تتمنى ببساطة أن تأخذَ وجهه بين يديها وتقبلهُ في وسطِ البلدة، ليراهُ العالمُ أجمع. فتحتِ البابَ ودخلتْ، ثم التفتَتْ نحوه. بدا أكثرَ نحولًا من المرةِ الأخيرة، وعيناهُ محمرتان، ربما من الوقوفِ في البرد. وصوتُه بدا مبحوحًا. قالتْ بينما حلَّتْ وشاحَها عن عنقها:

- أشعلِ النار.

انشغلَ بالمهمة، بينما وضعتْ سَلَّتَها على الطاولة، وخلعتْ معطفَها، ونفضتْ الثلجَ عن حذائها، وهزَّتْ شعرَها ليتمددَ بحرية. وعندما اشتعلتِ النارُ، التفتَتْ نحوه. لاحظتْ جوديثُ على الفورِ الضمادةَ المتسخةَ حول يدهِ اليسرى.

-  ماذا حدث لك؟"

-  وقعتُ في فخ. ظننتُ أن عشيقَكِ سيطلقُ النارَ على رأسي، لكنني استطعتُ الهرب.

- أنت كاذب.

قالتْ ذلك بينما حلَّتِ الضمادةَ وتفحصتْ يده. كان هناك جرحٌ غائر، لكنه لا يمكن أن يكونَ ناتجًا عن مصائدِ ناثانييل الحديدية. لكان فقدَ يدهُ في إحداها. على الأرجح، أصيبَ عندما اقتحمَ إسطبلًا لشخصٍ ما، وجرحَ نفسه بزجاجٍ أو حتى مسمار.

- سأنظفه.

جمعتْ حفنةً من الثلجِ ووضعتها في قدر، ثم علقتِ القدرَ فوق النار حتى غلى الماء. لم يكن لديها ضماداتٌ طبية، لكن هناك الكثيرُ من الأقمشةِ القديمةِ التي يمكنُ تمزيقها واستخدامها لهذا الغرض. وعندما انتهتْ من تنظيفِ يده، لفَّتِ الضمادةَ المؤقتةَ بعنايةٍ حول راحته. قالتْ.

-  الآن أعرفُ بالتأكيد أنك لستَ مستذئبًا.

-  ما الذي فضحني؟

- الطريقة الوحيدة لاصطيادِ مثل هذه الوحوش هي أن يمتطي عذراءُ فرسًا أبيضًا ويتجولَ في البلدة. سيقتربُ الحصانُ من مسكنِ الكائن، وسيتمُّ تقطيعُه وإحراقه. إنهم لا يقعون في مصائدَ عادية. وأنا أعرفُ أيضًا أن الصبيَ يتحولُ إلى ذئبٍ بعد أن يشربَ ماءَ المطرِ من أثرِ قدمِ ذئبٍ في ليلةِ اكتمالِ القمر. قرأتُ ذلك في كتاب، مثل الذي أرَيْتَني إياه. لكنك لم تذكرْ شيئًا عن ماء المطر.

- يا له من إهمالٍ مني."

قالتْ جوديثُ وهي تربطُ العقدة

- أخبرني إذا كان الرباط مؤلمًا.

قالَ وهو يحركُ أصابعه:

- إنه جيد. شكرًا لك.

قالتْ وهي تناولهُ قطعةَ خبزٍ وشريحةَ جبن

-   تفضل..  كُلْ شيئًا.

قال:

- أنتِ لطيفةٌ جدًا لأنكِ تشاركين وجبتَكِ مع كاذب.

جلسا أمامَ النار. مدَّ ساقيهِ وأخرجَ شريطًا أحمرَ من جيبه قال:

- من أجلكِ.

أمسكتْ جوديثُ بالشريطِ بين أصابعها ونظرتْ إليه.

-  لا أستطيعُ قبولَ بضائعَ مسروقة.

-  لم أسرقها. على أي حال، إنها لكِ، لتصبحي مثلَ تلك الأغنية.

-   أية أغنية؟

-  التي سألتِ عنها ذات يوم، عن الشيطانِ الذي يغوي امرأةً حتى هلاكها."

بدأ يُهمهِمُ اللحنَ مرةً أخرى.

"كانت العذراءُ شابةً جميلة، ترتدي شريطًا أحمرَ في شعرها الأسود."

غنى.

"لكنها لم تكن حكيمة، غرقتْ في النهر، وكان ذلك حتفها. فلتكن هذه الأغنيةُ تحذيرًا يبعدكِ عن الشر والخطيئة."

لفَّتْ جوديثُ الشريطَ حول معصمها. كانت عيناها مثبتتين على النار. فكرتْ في ناثانييل. ذلك الشعورُ الخانقُ بالوحدةِ الذي يهاجمُها أحيانًا بدأ ينبتُ من جديد. هزَّتْ رأسها محاولةً إبعاده. أخبرتِ الرجل:

- لا يمكنني أن أعطيكَ شيئًا مقابلَه..

-  إنه مجاني لأنكِ تعجبيني. لديكِ مخالبُ مغروسةٌ في قلبي، يا جوديثَ ذاتَ الشعرِ الأسود. سأرحلُ عندما ينتهي الشتاء، لكني سأعودُ في الخريفِ لأرى كيف حالك. "

- لن أكون هنا الخريف القادم.

قالت ذلك، بينما خطرت في بالها صور المدينة بكنائسها الفخمة ومبانيها العظيمة وساحاتها الواسعة. نهضت ومررت يدها في شعرها.

صر كرسيه صريرا مزعجا عندما أمال ظهره للخلف. أدارت رأسها نحوه. وجهه النحيل بدا متأملاً بينما مرر ظفراً على ذراع الكرسي. سألها.

- هل ستشترين ثوباً حريرياً أحمر مطرزاً بالذهب، وترقصين في قصر أحد النبلاء؟  مثل تلك الكتب التي كان يحاول ذلك الشاب إعطاءك إياها، حيث تُشرح عبرة القصة في الصفحة الأخيرة؟"

-  أنا بالتأكيد لن أعيش في إحدى قصصك عن وحوش المستنقعات والمستذئبين."

قال:

- تعالي هنا

جذبها إليه لتجلس في حجره، فاجتاحها حزن مرير رغم محاولاتها دفعه بعيداً. فكرت مرة أخرى بناثانييل، وكيف عليه أن يعود مسرعاً إلى المنزل بعد لقاءاتهما، وكيف لا يوجد أبداً وقت كافٍ لهما.

احتضنها الغريب. كان شعوراً لطيفاً أن تشعر بدفء شخص آخر وتجلس في صمت، دون عجلة، حتى وهي تفكر في رجل آخر. قال أخيراً.

- قبليني بإخلاص.

أجابت:

- مقابل ماذا؟ الزيف؟  لقد قبلتك مرة واحدة بالفعل، وهذا أكثر مما تستحق.

قال، واضعاً مفاصله تحت ذقنها وأمال رأسها لتتمكن من النظر إليه:

- لم  تكن تلك  قبلة عاشق.

قالت، وهي تلهث قليلاً

-  أنت رجل مغرور لتعتقد أنه يمكنك أن تطلب أي شيء مني،  أنا لا أعرف حتى اسمك.

- ليس لدي اسم.

- كل الناس لهم أسماء.

- كل الناس، لكن ليس كل الأشياء. هل تطالبين الشجرة أو الغراب باسمه؟"

سألها، بينما كان يمسك وجهها بلطف، وإبهامه يمرر على شفتها السفلى ليحدد شكلها. أضاف:

- الاسم لا يهم. أنتِ تعرفينني. ليس لدي حرير أو ذهب، لكني أعدكِ بأن آكل قلب عدوكِ وأمزق رئتيه بمخالبي مقابل قبلة منكِ، يا جوديث العزيزة، وهذا أكثر مما يمكن لأمير أن يعد به."

أحمرت وجنتاها وخفضت نظرها. أربكها، لكنها سرعان ما استجمعت نفسها. وقفت جوديث وانحنت فوق كرسيه وقبلت خده. قالت:

-  هاك،لا داعي لوعود سخيفة.

ثم ضحكت وتراجعت خطوة، دارت كراقصة. ابتسم هو ولم يحاول إقناعها أو جذبها إلى حجره مرة أخرى.

مسحت شعرها عن وجهها وأشارت إلى الباب.

- هيا بنا، لنخرج، أنا إلى القرية وأنت إلى حيثما أتيت.

-  من الغابة، بوضوح. ألا يمكنكِ البقاء لفترة أطول؟

قالت جوديث وهي تتنهد عند تذكر كومة الأعمال المنزلية التي يجب أن تنجزها.

-  حفلة عيد ميلاد أختي بعد أيام قليلة. لدي الكثير من التحضيرات قبل ذلك،"

فتحت الباب وخرجا. بدأت الثلوج تتساقط، فلفت شالها فوق رأسها.قالت له:

- لا تمت جوعاً قبل ذلك وسأحفظ لك بعض الحلويات.

وربتت على ذراعه. ثم، وهي تشعر بنحول جسده النحيف، همست بجدية:

- اعتنِ بنفسك حقاً.

سألها، وهو يمسك يديها بين يديه. الضمادة التي يرتديها دغدغت بشرتها.

- هل سترتدين الشريط الأحمر في شعرك أثناء الحفلة؟"

- نعم.

رفع يدها ووضعها بلطف على شفتيه، في محاكاة ساخرة لقبلة رجل نبيل.

- سأفكر بكِ ليلة الحفلة، يا جوديث، بينما أعدو عبر الغابة وأمزق حلق أيل بعضة واحدة. سأتذكر كيف يطابق لون الشريط الأحمر لون دمه."

قالت، وهي تتحرر من قبضته وتعدل شالها:

-  أنت مجنون. اذهب، الحق القمر، وأخبره بأكاذيبك.

ابتسم وبدأ يهمهم من جديد وهو يبتعد عنها.

***

في ليلةٍ كان القمرُ فيها بدرًا مُحاطًا بهالةٍ متجمدة، أقامت أخت جوديث حفل عيد ميلادها. وكالعادة، كان حدثًا فاخرًا. ارتدت أليس فستانًا جديدًا بلون الكريمة، بينما كانت جوديث ملفوفةً بفستانها المخملي الرمادي الذي ارتدته منذ ثلاث سنوات في مثل هذه المناسبات. كانت جوديث قد نسجت الشريط الأحمر بين خصلات شعرها الأسود، ووقفت وهي تمسك كوبًا من العصير بين يديها، تبتسم ابتسامةً خفيفةً وتحدق في اتجاه ناثانييل، الذي كان يرتدي بدلةً سوداءً كويها بعناية ذلك الصباح. بالكاد نظر إليها، وابتسامته تتجنبها.

قالت زوجة الخباز لجوديث.

عزيزتي، كم تبدين رائعة، نضجتِ كثيرًا!

ردت أليس ببرود

لم تنضج بعدُ بما يكفي..

- هراء! أليس العزيزة، أختك ستتزوج قريبًا - انظري إليها. بيتر كان يتحدث عن هذا.

أجابت أليس

- آمل ألا يكون ذلك قريبًا جدًا. ما زلت بحاجة إلى مساعدة جوديث في المنزل لفترة، خاصةً الآن وأن عائلتنا ستكبر.

لم تسمع جوديث بقية ما قالته زوجة الخباز، فقد كانت مشغولةً بمحاولة إمساك الكوب بين يديها المرتعشتين. في النهاية وضعته جانبًا ورفعت عينيها، لترى أليس تقف بجانب ناثانييل، يدها على ذراعه.

نظرت أليس إلى أختها بنظرة باردة ثابتة.

اقترب أحد التوأمين من جوديث وجذب تنورتها، يطلب قطعة خبز بالمربى. هدأت الطفل، لكنه بدأ بالصراخ.

في منتصف الليل، استيقظت جوديث على صوت عواء. لكنه لم يكن صراخ طفل، بل عواء ذئب في الغابة. دفنت وجهها في الوسادة وبكت بتناغم مع الوحش.

***

في اليوم التالي، توجهت إلى الكوخ. فأين عساها تذهب؟ عرفَت قدماها هذا الدرب، فسلكتاه بلا وعي. كانت قد شدّت الشريط الأحمر في شعرها مجددًا ذلك الصباح، كعلامة على بهجة زائفة، ولمست طرفه بأصابعها وهي تسير.

في الأعلى، نعق غرابٌ ظل يتبعها كظلّ عبر الغابة، حتى بلغت المكان القديم فدخلت، هزّت رأسها، تتساقط رقاقات الثلج من على كتفيها إلى الأرض وتذوب سريعًا. كان هو قد أشعل النار بالفعل، وأضاء الشموع. جلس ناثانييل على الكرسي وابتسم لها. قال:

-  متأخرة قليلاً.أوشك الليل أن يحل.

تمتمت:

- صار الليل دائمًا على الأبواب الآن.

غربت الشمس باكرًا؛ بالكاد بضع ساعات من الدفء كانت تقف حاجزًا أمام الليل. كاد السواد القاتم يكون مخمليًا، يبسط سدوله فوق رؤوسهما، النجوم كالجواهر اللامعة، والقمر قرص فضي، والثلج رداء عاجي..نظرت من النافذة إلى هذا المشهد الجميل وفكرت في الانزلاق مرة أخرى إلى الشفق، إلى الظلام الآتي. لابد أنه خمن أفكارها، فقام فورًا وأمسك بها. طمأنها:

-  سنفر معًا.

لو لم تكن متأكدة من قبل، فقد حسمت كلماته الحقيقة. أو بالأحرى، الأكاذيب. أدركت أنه لم يقصد أيًا من تلك الأشياء التي قالها. لن يكونوا معًا أبدًا. ومع الربيع سيختلق عذرًا، ثم عذرًا آخر.قال:

- أحبك.

صفعته. صرخت.:

- محتال! كذاب!لست لي، بل لها!

-   جوديث، أرجوك، استمعي....

- ليس هذه المرة، لا.

شرح، توسل، هدد، أغراها، حاول أن يقتنعها، توسل مرة أخرى. بكت. في النهاية، أطبقت فمها على فمه لإسكاته. داعب شعرها وقال إنها جميلة، كاملة.

حاولت أن تكذب على نفسها وتصدق أكاذيبه المنسوجة بدقة، في فعل يائس من إحراق الذات. لكن ذلك لم يجد نفعًا، وعندما تحركا نحو السرير، بقيت ضائعة، وحيدة، باردة حتى العظم. كان الأمر كمن يحاول إحياء نارٍ أُطفئت بالماء: لم يبق سوى الدخان.

ظنت أنها سمعت صوتًا خارجًا، حكًا خفيفًا. ربما كانت الرياح تضرب مصراعي النافذة.

لم تجد متعة في عناقه، ولا حتى شرارة منها.

في النهاية تكورت على السرير، تضحك ضحكة مكسورة على نفسها وعلى الفراغ في صدرها. لابد أنه ظن أن هذا رضا حقيقي، لأنه غرق في نوم هانئ وسلمي بينما كانت هي ممزقة بجانبه.

كانت النوافذ مغطاة بصقيع أبيض شبحي، واقتربت من الزجاج، ترسم أشكالًا بأصابعها. بالخارج، لم تستطع رؤية شيء. لا النجوم، ولا الأشجار، فقط الثلج المخيف. مرة أخرى، جاء الصوت، خشخشة خفيفة—فتجهم وجهها.

عوى ذئبٌ خارج النافذة مباشرة.

التفتت جوديث لتوقظ ناثانييل، لكن شيئًا ما أوقفها. ظنت أنها تسمع همهمة تعرفها. هل كان الغريب بالخارج أيضًا؟

اقترب الصوت، وتكرر العواء، لكنه كان أبعد قليلاً الآن؛ حتى ظننت أن الذئب عند الباب.

تحركت نحو المدخل، والبرد يعض جسدها بينما تضع أذنها على الباب.

وقفت جوديث ساكنةً تستمع مرة أخرى.

ارتفع العواء، مما جعل الألواح الخشبية تحت قدميها تهتز.

حدقت في ناثانييل، الذي كان لا يزال نائمًا، إما مسحورًا أو ببساطة منهكًا. كانت البندقية عند المدخل، لكنها لم تكلف نفسها عناء أخذها.

شدت الباب بقوة. هبت الرياح على بشرتها؛ وتطايرت الرقاقات وتشابكت في شعرها الأسود.

دخل الظلام السائل بأسنان تلمع بيضاء كالثلج - ظلامٌ يمتلك عيونًا كالزئبق، تشبه حد السكين. انحنت بعض الشموع واهتزّت، كما لو كانت تحاول الفرار من ذاك المخلوق الهائل،

الذي قرعت مخالبه الأرض بإيقاع جليدي..

لحظة، فكرت في الصراخ صرخةً حادةً غبيةً، لإيقاظ الصياد.

لكن الظلام ابتسم لها، ابتسامة باردة كالجليد، مكونة من مجموعة من الأسنان المسننة التي يمكنها أن تحطم العظام بعضة واحدة.

عرفته الآن.

لطالما علمت أن عشيقها سيأتي من وراء الغابة. أغلقت الباب برفق خلفه، وأشارت إلى السرير حيث وجبة دافئة تنتظره

(النهاية)

***

.........................

الكاتبة: سيلفيا مورينو-جارسيا/ Silvia Moreno-Garcia : روائية وكاتبة قصص قصيرة ومحررة وناشرة مكسيكية-كندية. وُلدت مورينو-جارسيا في 25 أبريل 1981 ونشأت في المكسيك.  وكان والداها يعملان في محطات إذاعية.  انتقلت إلى كندا عام 2004. حصلت مورينو-جارسيا على درجة الماجستير في دراسات العلم والتكنولوجيا من جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر عام 2016. وتعيش حاليًا في فانكوفر.لها أكثر من عشر روايات وأكثر من مجموعة قصصية، وتعد كاتبة غزيرة الإنتاج.

 

بقلم: آلي سميث

ترجمة: صالح الرزوق

***

حان منتصف تشرين الأول، ولا زالت الأوراق خضراء على الأشجار. هذه عطلة نهاية الأسبوع. السبت. يومها ننهض متأخرين. هبطت إلى الأسفل بالبيجاما، وذهبت إلى الغرفة الأمامية لأحمل بعض البرتقال، وأحضر القليل من العصير. فتحت الباب. كانت الغرفة الأمامية مزدحمة بالأطفال. صدمني ذلك نوعا ما، لأننا بدون أولاد، وكان هناك كثير منهم، وكلهم بحوالي ثماني أو تسع سنوات، ويشغلون المقعدين والكنبة. الولد الذي منحني ظهره كان في منتصف المكتبة، يضع قدمه الصغيرة بنعلها على الرف الثاني، بينما الثانية على ذراع الكنبة، وقد مط نفسه على عرض واجهة لوحة القوارب كما لو أنه يريد أن يخفف ثنياتها، وجلس البقية بهدوء وبرزانة مثل حلي من الذهب. وكان عدد آخر  يراقب شاشة التلفزيون المغلق كما لو أنه سيعمل تلقائيا في أي لحظة، ولا يجب تفويت فرصة متابعة البرامج. غادرت من فتحة الباب وأغلقته. وقفت خارجه لحظة. ثم فتحته ثانية. كانوا جميعا هناك. الذي استند على رفوف المكتبة كان يرقد الآن أمامها وعلى طول ظهرها. ذقنه على يده، يراقب التلفزيون المغلق مثل البقية. ويتدلى من قمة إطار صورة القارب شريط سميك فضي المظهر، ماذا كان؟ يبدو من مادة صناعية. ويلمع بضوء شمس الخريف. أغلقت الباب ثانية.

صعدت إلى الطابق العلوي.

قلت: ممتلئ بماذا؟.

قلت: أعتقد أن أحدهم يرتب زينة عيد الميلاد.

ارتديت رداء رسميا. وتجولت حول غرفة النوم بحثا عن ثياب أرتديها. هبطنا كلانا إلى الطابق الأدنى، وفتحنا الباب، ووقفنا على عتباته.

قلت: من هم؟.

ظهرت بجانبي. وعبرت الغرفة.

قلت: مرحبا للجميع.

ردد الأولاد بصوت رخيم: مرحبا.

تفحصت أرجاء الغرفة. كل الصور على الجدران لها إطار مغلف بالمعدن. ويمر من بينها معدن مثبت بشريط لاصق على زر النور. وقفت عند طاولة القهوة وشغلت التلفزيون بالتحكم.   

قالت البنت ذات الرداء الصوفي من تحت خوذة ركوب الحصان: موافقة على ما فعلت. 

قالت البنت ذات ثياب الباليه: شكرا جزيلا.

كان هناك هاتان الاثنتان، ذات ثياب ركوب الحصان والأخرى بثوب الباليه، ومعهما صبي وبنت بثياب روبن هود غريبة مع أطراف مزركشة بإفراط، كأنها أسمال كرتونية. وهناك صبي يشبه البنات أو لعله بنت تشبه الصبيان، يصعب أن تقرر، بالجينز ومعطف من الشاموا حتى الخصر، وبجيوب من الشاموا لها شكل التفاح. وهناك طفلة منذ البداية عند خطاف الصورة، وترتدي شيئا مثل ثياب فرقة الخنافس في شريط "سيرجانت بيبر"، وتجلس القرفصاء على ظهر الكنبة، وتقص أجزاء من ورق مقوى أبيض ومطوي بمقص المطبخ. وبلورات الثلج تسقط من المقص بشكل مثلثات، وتستقر وراء الوسائد.

رائحة الغرفة خانقة وحلوة. ملت قليلا على الباب المفتوح فقاومني الباب. ربما هناك وراءه شخص آخر، ولعله أكثر من شخص. صبي خشن المظهر دفع بنتا رقيقة الهيئة. فدفعته إلى الخلف بقوة مضاعفة. أحد بقية الأطفال طلب منهما أن يتوقفا. كنت أشير إليك. تراجعت إلى الخلف وتغلغلت بينهم وتابعت في الغرفة وتركناهم يستقرون على فيلم جون واين، فيلم كان فيه جون عجوزا، وله عصابة على عينه. 

أغلقت الباب. وقفنا في الجانب الآخر من الصالة قليلا، صامتين. أمكننا سماع جون واين من ورائه يقول: لم أطلق النار على أحد ولست مضطرا لذلك.

جلست في المطبخ عند الطاولة. وأنت على الطاولة جالسة وساقاك تتدليان فوق الأبواب.  

قلت: ماذا يجري؟

قلت: ليس عندي أي فكرة.

قلت ذلك باستسلام. وركلت الأبواب بساقيك.

قلت: ألا يوجد في ذلك الفيلم مشهد عن جحر حية؟.

قلت: رافق البنت مع أنها مديرة مدرسة نوعا ما. ثم هبط على سفح الهضبة نحو الصبيان الأشرار ويداه في الهواء. تذكرين؟. وضع زمامه في فمه وتابع على السفح نحوهم. أعاد تلقيم بارودته وهو يمضي، وتقريبا ألقاها في الهواء، ثم لقمها مجددا وهو يجري بحصانه - شيء مدهش؟ هل تتذكرين؟.

قلت: كلا. كيف دخلوا؟ ألا يجب مخابرة الشرطة أو البلدية أو جهة ما؟.

قلت: انظري. أنت تعرفين ذلك الكتاب.

قلت: أي كتاب؟.

قلت: الكتاب الذي كنت أقرأ فيه الأسبوع السابق. الأسبوع المنصرم. الذي طلبت منك أن تستمعي لأجزاء قرأتها وتحسست منها.

قلت: الكتاب الممل عن سيكلوجيا الاهتمام بالذات.

قلت: الذي قلت عنه إنه سخيف.

قلت: الذي عنوانه "أطلق طفلك الباطني".

قفزت مبتعدة عن الطاولة. اهتزت كل موجودات المطبخ.

قلت: سأعود بعد دقيقة. أنا ذاهبة لأعلمهم كيف يستعملون جهاز التحكم. في حال لم يعجبهم برنامج الحيات.

ألا يعرفون سلفا؟ أليس الأولاد في هذه الأيام يولدون وهم ملمون بالتكنولوجيا؟.

انغلق باب المطبخ. وحين ذكرت كلمة "ملمون" كان المطبخ فارغا.

***

كانوا هناك في وقت الغداء. وفي توقيت الغداء سمعت، من وراء الجدار، أغنية تعلمك كلماتها كيف تحتفظ بالروح المعنوية إذا ضعت في الغابة. وفي توقيت الغداء، حينما قرعت باب غرفتي الأمامية، كما لو أنني غريبة في بيت شخص آخر، ثم فتحته ودخلت، رأيتك بوضع الجلوس أمام الموقد. وحولك الأولاد.

شيء لطيف.

ثم لاحظت أنه تتدلى من النور الكبير في الغرفة الأمامية بلورات ثلج من الورق المقوى بشكل مصيدة من خيوط حمراء براقة ملتفة حول نفسها.

لم يتمكنوا من الوصول وتحقيق ذلك. لا بد أنك قدمت لهم العون.

رأيتني أخيرا.

قلت: هل سيتناولون الغداء؟.

قلت للغرفة: هل أنتم يا شباب بحاجة للغداء؟.

رددوا بتهذيب وفق الأخلاق القديمة: كلا. شكرا لك.

حينما وقفت واقتربت مني، صنعوا نصف دائرة حول التلفزيون الذي يبث. كانوا يستمتعون بأوقاتهم بتقليب المحطات. كان الأمر كأنهم لم يشاهدوا هذا العدد من المحطات. تابعوا التعبير عن دهشتهم. وبدا أنهم مستمتعون بالإعلانات أكثر من غيرها. وحينما انتهت فترة الإعلانات وبدأت البرامج مجددا، قلبوا المحطات باهتمام بحثا عن إعلانات إضافية، وكلما باشر الإعلان الذي يذكر عيد الميلاد، إعلان عن الكنبات، كانت كل الغرفة تتألق بالاهتمام. 

قلت: لا يمكن أن يكون كلهم أبناءك (قلت بهدوء. لم أرغب بتحريضهم). أعني، أن ذلك يشبهك، لكن ماذا عن البقية؟.

أشرت لاثنين بثياب روبن هود.

قلت: أولاد في الغابة.

تمثيل كنت أؤديه حينما كنت بحوالي العاشرة، في المسرح المحلي، ويحتل دور الراوي أو الحطاب رجل من باسيل بروش، وواحدة من تلك الأخوات، الأخوات نولان، كما تعلمين، وهي زوجته. وكانت مغنية جيدة.

انفجر أولاد التمثيلية بالغناء.

في الغابة، في الغابة، لا تبدو الأشياء جيدة.

حينما لا ترى الغابة ولكن الأشجار.

لا تخف، لا تخف، لأنك معي وأنا هنا بجانبك.

أن تضيع في الغابة كالنسائم.

همست ذهبت سبع مرات.

وهذا جعل مني ممثلا.

وجعل والدتي ساخطة.

وأنشد الأطفال: لا تفكروا حتى بالتنظيف. فنحن نحوم حيثما نكون.

وبدأت بالدمدمة. ثم انضممت لي. كانت الكلمات معروفة لك.

معا سنحتفظ لأنفسنا بالأمل. وسيكون الأمل رفيقنا حتى نصل إلى البيت.

أشرت إلى البنت التي ترتدي التوتو - ثياب الراقصة، ثم إلى البنت بثياب المهر. كانتا جالستين على الأرض أمام الموقد، ومعهما اثنتان أخريان،  وتنتقيان منحوتات خشبية صغيرة من علبة كرتون منهكة، لتضعاها حول مهد صغير وفارغ فوق الموقد.

تنهدت.

قلت: ماذا يمكنني أن أقول؟ كنت طفلة متعددة المواهب.

أشرت لمن ترتدي الجاكيت العسكري البراق، التي كانت تهتم بالديكور. كان لها قبعة طويلة مع غطاء يعلوها. وكانت قد أخذت السوط من بنت المهر، وبدأت تحركه بمهارة في الفضاء فوق القلعة. 

قلت: هل كنت تعملين مع فرقة نحاسية أيضا؟.

قلت: لا. ليس لدي أي فكرة. لكن انتظري. أنا أعلم. أعلم من قد تكون. كانت كيتلين بطلة  أكروبات، وأعتقد أنها اعتادت على -

قلت: كيتلين؟ مثل كيتلين طليقتك؟.

قلت: حصلت على جملة من الميداليات، وربحتها حينما بلغت الحادية عشرة، وفي أحد الأيام عرضت علي -

قلت: أنت تتقمصين طفولة طليقتك؟.

قلت: كانت جيدة. وهي لا تزال كذلك حتى في الثلاثينات. في أحد الأيام كنا معا وأخرجت عصاها وخرجت إلى ممشى بيتها و -

قلت: والآن ها هي هنا في بيتي؟.

قلت: بيتنا. كلا. استمعي. كانت جيدة فعلا. ورتبت للعرض هناك في الممشى وخرج كل الجيران من بيوتهم وصفقوا لها.

ولاحظت ملامح وجهي.

قلت: حسنا. يصعب علي أن أطلب منها أن تنصرف. أليس كذلك؟. وتبدو أنها مهمة جدا لحركة الجماعة. أقصد لا أعلم فعليا إن كان بيت كيتلين. ماذا لو أنه بيتي أيضا؟ لنقل ماذا لو أن طفولتها ببساطة أثرت بأحد من -

قلت: ليس هي فقط. أريد منك أن تطلبي منهم أن يغادروا جميعا.

سقط وجهك. ثم نظرت مباشرة نحوي وقمت بهز رأسك هزة خفيفة.

قلت: كلا؟.

وقفت بكامل قامتك وكتفيك، بيأس، والتحدي في عينيك. 

تجاهل الأولاد التلفزيون ودخلوا في نوبة قوقأة حول الصبي الذي يسعى لعراك مع البنت.  وكان كلاهما، الصبي والبنت، يتبادلان المسيح الصغير المنحوت من الخشب بالدور، من يد إلى يد كأنه فأر صغير، أو حشرة مقدسة.

دفعتك عن الطريق، وانحنيت وحملت علبة الورق المقوى القديمة والمهترئة. كان في أسفلها عدة أشكال مطلية، الملوك الثلاث، ويبدو كأنها باقية حتى النهاية. غادرت الغرفة بخطوات منتظمة. وكنت أخشخش بالملوك وأنا أمر بالمطبخ. فتحت الباب الخلفي. وذهبت إلى الطرف البعيد من الحديقة، رفعت العلبة عاليا في الهواء فوق سور الجيران، وفوق المكان الذي كوموا فيه كومة الأعشاب. ثم جعلت أعلاه أسفله. فسقط الملوك.

وقلت: اتبعوا تلك النجمة، لا يوجد ما يمنع.

ثم أفلت العلبة الفارغة بعد ذلك فوق السور.

عدت إلى البيت. وقفت في الغرفة الأمامية. نظرت لما وراءك. ونظفت حنجرتي لأقول: حسنا. تعالوا جميعا. وشكرا لمجيئكم. ولكن حان وقت الانصراف.

لم يتجاوبوا.

قلت بصوت جهوري قدر الإمكان: هيا. اجمعوا أشياءكم. وتأكدوا أنكم تحملون كل شيء أتيتم به.

لا جواب. ثم ضحكة جماعية خفيفة جدا.

قلت: ألا تسمعونني؟.

أحدهم ردد ورائي: ألا تسمعونني؟. واندلعت في الغرفة الضحكة المكتومة.

قلت: حان وقت أن تغادروا جميعا.

حان الوقت لتغادروا جميعا. رددت من كانت ورائي صوتي بنفس النبرة والذي يدل على الإصرار التام.

وانفجرت الغرفة بزعيق فوضوي. التفت لأنظر. كانت سوداء وصغيرة جدا، وأنيقة الملبس، بثياب مدرسية نظيفة، مع أنه يوم السبت. وكانت تجلس وراء الباب وعلى ما يظهر أنه لوح صغير أسود، كأنه صندوق مقوى أو حقيبة - الحقيبة التي نحتفظ فيها بالأدوات الموسيقية.

هززت رأسك.

قلت: لا فكرة عندي على الإطلاق من أين جاء.

****

استيقظت، تقلبت في السرير، شخيرها الخفيف بجانبي، كان صباحا باكرا من يوم سبت، في منتصف تشرين الأول، والأوراق في الخارج لا تزال خضراء. والحرارة في ذلك اليوم 20 درجة، بعد نهوضنا، وتناول الإفطار، نعمنا بيوم خريفي هادئ،  يوم خريفي ذهبنا خلاله بالسيارة إلى الغابة، التي نحمل بطاقة عضويتها، ولذلك بمقدورنا إيداع السيارة في الموقف الخاص بالمجان (حسنا لقاء رسم عضوية سنوي يبلغ 25£ ويدفع مقدما). تجولنا مع بقية الناس في دفء هذا ليس موسمه، ولدى عودتنا في تلك الليلة، جلسنا أمام التلفزيون، وشاهدنا المشاهير في ذلك العام يتعلمون الرقص ومعهم بعض الناس الذين يظهرون في هذا الموسم، بعضهم يمكنه الغناء وبعضهم لا يغني، وكانوا يقدمون الأضحيات السنوية، ويضحون بأنفسهم تحت أضواء ألبرت سبير، والتي كنت تقولين عنها دائما إنها العامل X

ثم في منتصف أحد الإعلانات امتلأ رأسي بموسيقا الفلوت.

حل الصيف. ارفع صوتك بالغناء يا وقواق. وعزفت أيضا نسخة من "وسط المدينة" لبيتيولا كلارك، بالفلوت في فرقة عيد الميلاد المدرسية، وتبعها "طير الثلج"، و"أعلنه على سفح الجبل"، و"في منتصف الشتاء الكئيب"، ولكن بنغمة مختلفة وغير معتادة. وطيلة هذه السنوات نسيت أنني تعلمت فيما مضى العزف بالفلوت.

خفضت صوت التلفزيون.

قلت: هل سمعت هذه النسخة من "في منتصف الشتاء الكئيب".

دندنت بكلماتها.

قلت: كلا. ولكنها جميلة.

ثم رفعنا الصوت كما كان.

مرت الأسابيع. تجمعت الإعلانات في التلفزيون وتحولت إلى قصص. بنت بليدة صغيرة ترتدي ثيابا من فترة الخمسينات، وتعيش في الوقت الحاضر، حضرت البسكويت للمدرسة، بمعونة من بنت جميلة تعمل في المتجر وولد صغير ساعد بطريقا إلكترونيا ليجد حبيبته. وتسلق بعض الرجال المتقابلين في الخنادق، الوحل، ولعبوا كرة القدم  وتبادلوا الشكولاتة فوضعوها في جيوب بعضهم البعض. كانت الإعلانات عن شراء أشياء في المتاجر (غاليبولي، فيردون، يبريس، سومي. مائة وثمانون ألفا، سبعمائة وخمسون ألفا، ثمانمائة وخمسون ألفا، مليون).

مرت برامج دراما خريف - وشتاء، كلها كانت فقط عن قصات شعر ما بعد الحرب العالمية الأولى، ومشاهد جنس عنيفة، وأفعال متوحشة تفرض على النساء والبنات، ولكن دون استفزاز، لأن القسوة كانت تأتي من شباب كنا نعلم بالتأكيد أنهم أشرار. كانت  غيليان أنديرسون بوجهها المكتئب، تبدل بذة الشرطة.  ويبدو أنها أخذت وقتا طويلا لفك أزرار القميص. ربما كان قميصا بعدد غير معتاد من الأزرار، أو لعل بذة الشرطة مزودة بأزرار أكثر من الثياب العادية. ذهبت لتجفيف بعض الأكواب في المطبخ، وبعودتي كانت لا تزال مشغولة بالطرف الأمامي. ولد صغير تعرض للسرقة، وكان أبواه يتخبطان مكسورين بحثا عنه. كل حلقة تقترب قليلا من اللغز، ومن التابو الذي حصل له فعلا. كانت الحكاية مشوقة جدا. ومن المقرر عرضها طيلة هذه الفترة حتى عيد الميلاد.

ثم جاء يوم الجمعة الأسود. ثار الناس في كل المملكة المتحدة بحثا عن تلفزيونات بنصف السعر المعتاد. في الولايات المتحدة، كان الناس مهتاجين لأجل أشياء تتعدى التلفزيونات، ووقف الشرطة المسلحون بصف وهم يلوحون بدروعهم تحت كلمات معلقة على عرض الشارع وهي: تحيات العيد، وكانت تلمع بلون معدني كالنار.

(كل الوقت كانت بجانبي، وشعرت بذلك، قليل من الضغط، شيء بحجم ذات صغيرة فارغة).

كان رجل يصيح في أخبار المساء: حصلت على وقتك.. وحان وقتنا. وقتك انتهى.

تجاهلته. وعدت عبر المطبخ وحدقت بالعتمة المخيمة على الحديقة. الأشجار فوق سور جيراننا عارية ومعلقة بمطر هذه الليلة. الأغصان كالألماس. ولكن لم أشاهد غيري في الانعكاس الضوئي على النافذة. 

(كان الملوك في السماد العضوي. ولا بد أنهم تحت طبقة عميقة من الأوراق. والطلاء على عماماتهم يقشر حتما، وربما تآكلت وجوههم. وتحولت الهدايا في أيديهم إلى رقائق من الخشب).

لقد عبرت.

قلت: ما الموضوع؟.

قلت: الموضوع؟ لا شيء.

عدت معك. جلسنا على كنبتنا معا لنشاهد "دورية الحدود" أو أي شيء بعدها.

***

..................

* آلي سميث Ali Smith  روائية إسكوتلاندية معاصرة. حازت عام 2014 على جائزة غولدسميث التي تقدم بالتعاون مع جريدة نيو ستايتمان.

 

بقلم: كلير جيا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت بكين تعجُّ بالأمل. طوال خريف ٢٠٠٧، كانت "ليان" و"وينيو" تمران بجوار القرية الأولمبية تحت الإنشاء بالحافلة  وهما في طريقهما إلى المدرسة، وشيئًا فشيئًا كانتا تشاهدان ارتفاع ملعب حفل الافتتاح، تلتحم أجنحته المعدنية معًا لتصبح على شكل عش الطائر المنحني. كل لوحة إعلانية ومحطة حافلات كانت تحمل صورًا لرياضيين مبتسمين يحتسون "باد لايت" ويقودون "بنتلي"، بينما تتصارع العلامات الغربية على جذب الانتباه في شوارع المدينة الصينية: "ليو تشانغ" بزي نايكي، و"تشانغ ينينغ" بزي أديداس. سينتزعون الذهب مدعومين برفاهية أمريكية، تاركين الأمريكيين الأصليين في البرد القارس.

أحست "ليان" بحماس المدينة، وحولته إلى طاقتها في تقديم طلبات الالتحاق بالجامعات. مثل رياضية أولمبية، ستكون ممثلة لبلدها في الخارج؛ ستعود بالميدليات الذهبية، وسط حسد وإعجاب كل من تركتهم خلفها.

في المقابل، وقعت "وينيو" في الحب. بدأ ذلك في سنتهما الثانية. كان الحبيب ذلك الفتى المتمرد في الصف، يتدلّى على عينيه، يرفض ارتداء الزي المدرسي، ويظهر بدلاً منه بملابس فضفاضة بألوان صارخة.. بينما كانت ليان تحدق في المرآة، تتدرّب على تعبيرات وجهها، وتصقل مهاراتها استعدادًا لمستقبلها، كانت وينيو تتسلل من حصص التحضير الدراسي بشكل متكرر لتنفّذ مقالب طفولية مع حبيبها الجديد. تراجعت درجات "وينيو" في الترتيب. تحولت سرقات المتاجر الصغيرة في طفولتهما إلى تحدٍ أكثر صلفًا. فجأة، لم تعد "ليان" شريكة "وينيو" الرئيسية في المشاكسة؛ فقد أصبح صديقها أكثر جرأة. بل إنه كان يسرق أشياء أكبر وأخطر — أحذية، ملابس، مشغلات إم بي ثري — دافعًا "وينيو" إلى تحد جديد. أصبحت الآن هي المُتأثرة بدلًا من المؤثرة. وعندما تسببت حماقات الصبي في فصل "وينيو" للمرة الأولى في شتاء سنتهما الثانية، واجهتها "ليان" وتوسلت إليها أن تعيد ترتيب أمورها:

- لماذا تربطين نفسك ب مثل هذا الأحمق؟

أجابت وينيو بحدة وغضب:

- هو أذكى فتى قابلته في حياتي. مقدر له العظمة. يمكنه أن يكون أي شيء يريده. انتظري فقط. فقط لأنه لا يغوص في الكتب ليل نهار مثلك، لا يعني أنه ليس بنفس ذكائك. بل أذكى على الأرجح. وهو لا يحتاج إلى الذهاب إلى أمريكا الغبية ليثبت ذلك.

صرخت ليان:

-  وماذا عن حلمنا؟

ردّت وينيو ببرود لاذع:

- أي حلم؟ كان ذلك مجرد لهو.

لكن في النهاية، لم تكن "ليان" هي من ذهبت إلى "أمريكا الغبية.

في صباح بارد من ديسمبر خلال سنتهما الأخيرة، ظهرت "وينيو" عند باب "ليان" تحمل كوبين من الآيس كريم، يبدوان وكأنهما يتحدّيان قسوة الشتاء ببرودهما القاطع.  كانت ليان منهمكة في كتابة مقال للالتحاق بجامعة هارفارد. "لماذا هارفارد؟" لم لا؟ لطالما رغبت في الإجابة. إنها أفضل جامعة في العالم. من منا لا يرغب بالأفضل؟ فتحت الباب وهي غارقة في أفكارها، والعبارات الإنجليزية لا تزال تتدلى على شفتيها.عادت إلى مكتبها بينما ألقت "وينيو" بنفسها على السرير، وأمسكت مجلة بيد بينما تمسك بكوب الآيس كريم  باليد الأخرى. ثم، ومن دون تمهيد، قالت وينيو بجملة واحدة سريعة غيّرت كل شيء:

- سأنتقل للعيش في  كاليفورنيا.

لم تستطع "ليان" فهم ما تسمعه. استدارت وفمها مفتوحًا على اتساعه.

- صديق أبي يعيش في سان خوسيه، لذا سيدخلوني في مدرسة ثانوية هناك. أليس هذا مثيرًا يا ليانليان؟

قالت ذلك  وكأنها اكتشفت للتو أن فرقتهما المفضلة ستأتي إلى المدينة، أو أن مقهى الشاي المفضل لديهم أصبح يقدم نكهة الليتشي. ليس بنبرة من يخبر صديقته المقربة أنها ستنتقل إلى الجانب الآخر من العالم.

- ظننتُ... ظننتِ أنكِ تكرهين أمريكا...

كان هذا كل ما استطاعت "ليان" قوله.

هزت "وينيو" كتفيها:

- لمجرد أنكِ تحبينها لا يعني أنني أكرهها.

قلبت صفحة المجلة وأخذت قضمة باردة من الآيس كريم. كاد أن يسيل السائل الأبيض أن يسيل على أغطية وسائد ليان النظيفة. قالت وينيو ببرود:

- لن يسمحوا لي بتقديم امتحان القاوكاو. فُصِلتُ من المدرسة مرات كثيرة. فطلب والدي من صديقه أن يساعدني، واتضح أن لديهم غرفة إضافية في منزلهم، وهكذا كان الأمر..

أجابت ليان بصوت خافت، وكأنها تردد صدى كلمات لم تستوعبها تمامًا:

-  هكذا إذًا... حسنٌ، هذا أمر جيد على الأقل...

لقد كان هذا ما تخشاه على وينيو دومًا: أن تنحدر درجاتها إلى حدّ تغلق فيه الأبواب كلها في وجه مستقبلها. لكنّ ما لم تكن تتوقعه هو أن الطريق الوحيد المتبقي سيقودها إلى أمريكا.

اعتدلت وينيو في جلستها وقالت، بابتسامة خفيفة:

- ربما ننتهي كلتانا في كاليفورنيا! نشتري قصرين على شاطئ البحر!

قالت ليان بصوت أقوى، تحاول مجاراة حماسها:

-   نعم، بالتأكيد!

لكنّ شعورًا غريبًا كان يجلدها من الداخل، كريح باردة تهبّ من حيث لا تدري.

كان رحيل وينيو بدافع الضرورة؛ حلمها، محاولتها الأخيرة واليائسة. عادت إلى كتابة مقالها، وفكت غلاف الآيس كريم  بسرعة. شعرت بطعمه حامضًا في فمها.

بعد أسبوعين، وقفت "ليان" في غرفة "وينيو" تشاهدها وهي تحشر الملابس الداخلية والقمصان والفوط الصحية في حقيبتها. كانت وينيو تخشى ألّا تجد فوطًا صحية في كاليفورنيا — فبحسب ابنة عمّها الكبرى، الأمريكيات لا يستخدمن سوى السدادات القطنية.  كان في تصرفات وينيو توتر محموم، طاقة متخبطة. ارتدت أفضل فستان لها لرحلة الطائرة. كان من المفترض أن تغادر إلى المطار خلال ساعة، لكنها لا تزال في حيرة: هل تأخذ معها حذاء المطر أم لا؟. سألت :

- هل تمطر كثيرًا في سان خوسيه؟

سألت، دون أن توجّه السؤال لأحد بعينه.لم تكن أيٌّ منهما تعرف الجواب. ظنت ليان أن وينيو ربما خائفة، لكنها بدت منشغلة بتفاصيل تافهة - كالسدادات القطنية، والمطر - ولم تستطع ليان أن تجد الشجاعة الكافية لتسألها عمّا يدور في داخلها. سألت "وينيو" مرة أخرى، مثبتة عينيها في عيني "ليان":

- أراكِ في كاليفورنيا، أليس كذلك يا ليانليان؟  ستانفورد ستخطفك فورًا.

ردت ليان، وقلبها يخفق بقوة.

- بالطبع!.

حاولت وينيو أن تحشر دمية دورايمون القماشية في الحقيبة، لكنها قفزت مجددًا إلى الخارج، رافضة أن تنضغط.استدارت وينيو وقدّمت دورايمون إلى ليان، عيناها الكرويتان بالأبيض والأسود تحدّقان بها بثبات.قالت:

- اعتني بها.

في النهاية، نصحت "ليان" "وينيو" أن تترك حذاء المطر. لم يكن هناك مساحة كافية في الحقيبة، ويمكنها دائمًا العودة لأخذه لو تبين أن سان خوسيه مدينة موسمية ممطرة. لكنها لم تكن كذلك، ولم ترَ "ليان" صديقتها مرة أخرى.

لم تأتِ رسائل الرفض في سربٍ كما في كوابيسها، بل تسللت واحدة تلو الأخرى في مظاريف نحيلة، تقرض حلمها شيئًا فشيئًا. همست لنفسها مثل تايتانك والجبل الجليدي الخفي"، لم تكن هناك تفسيرات، فقط اعتذارات مبتذلة بأن عدد المتقدمين المؤهلين كان كبيرًا هذا العام.

طوال ذلك الربيع، كانت تفكر في وينيو، وهي تتحول بثبات إلى "فتاة كاليفورنيا".

ذهبت "وينيو" للعيش مع صديق والدها، الذي كان لديه ابنان. غارت "ليان" من أن “وينيو" حصلت على أخوين جاهزين، وكانت "وينيو" ترسل لها أخبارًا عن تصرفاتهما الغريبة، وألعاب الفيديو الصاخبة التي يحبانها ، وقمصان "المتحوّلون" التي كانا يرتديانها باستمرار.

أرسلت “وينيو" ملاحظاتها المباشرة عن الأشجار الغريبة، والمتاجر الضخمة، وعصا الزبدة المقلية التي جربتها في مكان يسمى "المعرض". في البداية، ردت "ليان” بحماس، ضاحكة مع "وينيو" على غرابة التقاليد الأمريكية. تبادلت الفتاتان عبارات الاشتياق، وأخذت "وينيو" تعد الأيام على أحر من الجمر حتى تلتحق بها "ليان" في كاليفورنيا.

كان صديق والد "وينيو" يأخذها في جولات بالمدينة لتذوق عينات الشوكولاتة من متجر "جيرارديلي"، وليتمشيا على جسر "جولدن جيت".  بينما كان حلم "ليان" ينهار، زاد اقتناعها بأنهما قريبًا ستجولان معًا في سان فرانسيسكو.

عندما جاء الرفض الأخير من "بيركلي"، شعرت "ليان" بالراحة تقريبًا. لن يكون هناك "هي ووينيو" في كاليفورنيا، ولن ينقسم حلمها الأمريكي بينهما. الآن، يمكنها أن تكرس نفسها كليًا لامتحان "القوكاو". ستجلس مع آلاف زملائها، تتعرق في فصلٍ حارٍ في يونيو، وستتفوق عليهم جميعًا. ستسلك الطريق التقليدي، الطريق الذي كان متوقعًا منها دومًا أن تبرع فيه. ستلتحق بجامعة من الدرجة الأولى في وطنها، ولن يلومها أحد.

وفعلت ذلك بالضبط. اجتازت امتحان القبول في جامعة بكين للمعلمين، إحدى أعرق الجامعات في البلاد. بينما دخلت "وينيو" جامعة حكومية في كاليفورنيا، وقد أرسلت لها ليان رسالة تهنئة.

لكن ببطء، أصبحت رسائلهما متباعدة. تحولت أخبار "وينيو" من كاليفورنيا فجأة إلى تباه مفرط، وكبرياء زائف، كأنها تلقّي بوجه "ليان" بكل المغامرات التي لن تسنح لها أبداً. وفي النهاية، توقفت "ليان" عن الرد. التقت برجل ذكي وطيب. حصلت على وظيفة مرموقة في شركة أمريكية قبل حتى تخرجها. ألهمت عشرات الطلاب الذين يحملون أحلامًا مثل أحلامها. تناقشوا في الأدب والسينما والسياسة والتاريخ. بينما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا يحكون عن العنف المسلح والعنصرية ونظام صحي معطل. لم تكن تلك أرض أحلامها. أقنعت نفسها أن أمريكا كانت أنسب لـ"وينيو" منذ البداية: أرض بلا قيود أو خجل، مكان لا يحترم التقاليد أو الأعراف. كانت ساذجة لأنها ظنت يومًا أنها مناسبة لها؛ أمريكا كانت دومًا لـ"وينيو"، الفتاة التي سرقت وصرخت وتمردت لأنها لم تكن راضية أبدًا عما منحته لها الحياة. أما "ليان" فاستطاعت أن تكون سعيدة. ستكون سعيدة. لذا ركزت على مسارها الخاص: مهنة، زوج، شقة فاخرة.

وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، حققت كل هذا تقريبًا. لم تكن بحاجة إلى عودة "وينيو" المدوية لتذكيرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.

التقت رجلًا ذكيًا وحنونًا.

حصلت على وظيفة ذات راتب مرتفع في شركة أمريكية حتى قبل تخرجها.

أثّرت في العشرات من الطلاب الذين حملوا أحلامًا تشبه أحلامها.

كانوا يتحدثون عن الأدب، والسينما، والسياسة، والتاريخ.

كما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا ومعهم حكايات عن العنف المسلح، والعنصرية، ونظام رعاية صحية منهار. لم تكن أمريكا أرض الأحلام.

أخبرت نفسها أن أمريكا كانت دائمًا أنسب لوينيو: بلد بلا قواعد، بلا خجل، مكان لا يقدّس التقاليد أو الأعراف.

كانت ساذجة حين ظنت أن ذلك المكان قد يلائمها يومًا؛ أمريكا كانت دومًا لوينيو، تلك الفتاة التي سرقت، وصرخت، وتمردت، لأنها لم تكتفِ يومًا بما منحها إياه العالم.

أما ليان، فبإمكانها أن تكتفي. كانت ستكتفي. لذا ركّزت على طريقها: الوظيفة، الزوج، الشقة الفاخرة في ناطحة سحاب. وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، كانت قد حققت كل ذلك تقريبًا.ولم تكن بحاجة إلى عودة وينيو العاصفة إلى حياتها، لتذكّرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.

***

...................

* مقتطف من رواية الرغبة (Wanting) للكاتبة كلير جيا.

الكاتبة: كلير جيا /Claire Jia كاتبة من ولاية إلينوي. ظهرت أعمالها في عمود الحب الحديث (Modern Love) بصحيفة نيويورك تايمز، وفي ذا رامبس (The Rumpus)، وريداكتريس (Reductress)، وغيرها من المنصات. تكتب أيضًا للتلفزيون وألعاب الفيديو، بما في ذلك لعبة We Are OFK الفائزة بجائزة بيبودي لعام 2024. تعيش جيا حاليًا في لوس أنجلوس مع صديقاتها.

 

بقلم: فرجينيا فاينمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما أخبرتني أمي أن خالتي كلوديا قادمة من المكسيك، شعرت بالتوتر. كان الزلزال الأخير قد أثّر عليها، وكانت بحاجة لرؤية عائلتها. أكلتُ كثيرًا تلك الليلة. تقريبًا كل البيتزا. لم تلاحظ أمي ذلك، ولم تلحظ عدد المرات التي ذهبتُ فيها إلى الحمّام وعدتُ، وفي النهاية قلتُ لها:

- أتخيّل أنهما لن يناما هنا، صح؟

أجابت وهي ترمش

- لا... ـ ـ أعني، نعم، هي وحدها... العم لن يأتي.

هدأت، لأنني في النهاية كنت أحب خالتي، وكنت أشعر بالأسى لأنها تأثرت كثيرًا بالزلازل، وربما أيضًا لأنني، رغم مرور ألف عام، كنت في قرارة نفسي ما زلت أترقّب اعتذارًا. شيئًا ما.

كانت ستبقى أسبوعًا. فقلت لأمي ألا تقلق، وأنني سأجهّز وجبة ترحيب خفيفة: مخبوزات، وقُصاصات محشوة بالحليب المكثف المحلّى والكاسترد، أشياء غير متوفرة لديهم هناك.أومأت أمي موافقة.وقالت لي:

-  يالها من فكرة لطيفة ـ

كانت الخالة كما هي دائمًا. بشعر أشقر طويل، رغم أنها كانت الآن امرأة كبيرة في السن.

قالت لي، رغم أنني أيضًا كنت سيدة كبيرة في السن. وربّتت على رأسي قليلاً :

- أدريانيتا ـ أنتِ دائمًا هنا.

جلسنا. فرشتُ مفرش الطاولة المصنوع من نسيج جوز الهند، وأحضرتُ أيضًا المفارش التي كنت قد طرزتها عندما كنت صغيرة في المدرسة. قالت أمي إنها لا تتناسب مع المفرش.

قلتُ لها:

-   فكّرت في ذلك، لكنني رغبت في وضعها.

نظرت إليّ قليلاً، لكنها تركتها. وذهبت إلى المطبخ.

كانت الخالة تمرّر يدها فوق تطريز الزهور البارزة، الزرقاء والبرتقالية، وتنظر عبر النافذة الكبيرة. عادت إليّ بنظرها، مركّزة عليّ:

-    أدريانيتا، أما رغبتِ يومًا في العيش بمفردك؟

-  بلى ـ

بدأت أضع القطع المحشوة بالحليب المكثف في طبق، جميعها مصطفّة باتجاه واحد ـ.   أضفت:

- لكنني لم أستطع. كنت خائفة.

قالت، وقد أومأت برأسها مرارًا:

-  طبعًا، هذا مفهوم.

- أليس كذلك؟ كنت أريد. حتى إنني أحببت مرة. لكن بعدها بدأت تنتابني نوبات هلع. وهكذا أصبح الأمر صعبًا.

قالت الخالة:

-   طبعًا.

- ربما لو كنت فعلت، لكان لي زوج... وأولاد، لكن لا بأس، أنا مرتاحة.

- نعم، عزيزتي ـ

كانت تبتسم وتنظر إليّ.

جاءت أمي. قدّمت الشاي لنا نحن الثلاثة، وسألنا الخالة عن حالها. كانت في حال سيئة جدًا. لم تعمل صفارات الإنذار الخاصة بالزلازل لأن الزلزال لم يأتِ من البحر، بل من تصدّع في الأرض. شعرت هي بالاهتزاز وبدأت تنزل عبر السلم. اتّضح أن المقاول كان فاسدًا، والسلم لم يكن مثبتًا، بل مستندًا فقط. كان أول ما انهار. لحسن الحظ كانت قد خرجت إلى الشارع.

- الذي عانى أكثر هو العم.

نظرت إلى أمي.

-  العم !

تابعت خالتي بعينين شاردتين ـ بقي وحده في الأعلى. السلم كان قد انهار بالفعل، ولم يكن يعرف كيف ينزل. المصاعد ممنوعة. ثم اهتزّ المبنى من جديد، لعشرين ثانية إضافية، وكان العم ما يزال في الأعلى. ثم اضطر إلى الانتظار حتى وصل أفراد الإنقاذ، لأنه كان من الخطر النزول وحده، كما أن القوانين لا تسمح...

قلتُ:

- عشرون ثانية؟

- نعم،  مسكين العم ...

- فقط عشرون ثانية؟

نظرت إلي أمي. تنهدت وكأنني أضحك.

- مسكين العم بسبب عشرين ثانية؟

قالت الخالة وعيناها دامعتان

- نعم ـ ـ، أترين؟ مسكين...

جمعت الصحون بسرعة. مسحت كلًّا منها بمنشفة ورقية بقوة قبل غسلها. فتحت الماء على أقصى درجة حرارة، وبدأت أفرك الصحون جيدًا بالإسفنجة والصابون. دخلت أمي.

- أخذتها لتنام القيلولة، يجب أن ننزل بطانية، أنتِ أطول...

-  أمي، ألم تتحدثي معها؟

- نعم، لكنها متعبة جدًا.

- ليس الآن. قبل ذلك.

- قبل الزلزال؟

- لا، عندما كلمتك، عندما كلمتك عن العم.

فتحت أمي عينيها كبيضتين مسلوقتين وأغلقت الباب الذي يفصل المطبخ عن غرفة المعيشة.

- أنا...

بقي فمها مفتوحًا قليلًا، ثم نظرت إلى صنبور الماء وقالت:

- أغلقيه إذا انتهيتِ.

-   قلتِ لي إنك أخبرتِيها، وإنها بكت. قلتِ إنك أخذتيها إلى حانة وأخبرتيها، وإنها بكت.

-  لمّحتُ لها.

-  كيف؟

- أننا كنا نثق به، وأننا تركناك معه ليعتني بك.

- و... لا شيء غير ذلك؟

جفّفت أمي يديها، رغم أنها لم تكن قد بللتهما، بمنشفة مطبخ وخرجت. قالت شيئًا عن الزمن، وأن الزمن قد مضى.قلت لها:

–    لقد أخبرتك عندما تذكّرت!

لكن أمي كانت قد أغلقت باب المطبخ عند خروجها.

تركت الماء يجري. ثم أغلقت الصنبور بغضب.

كانت الخالة جالسة على الأريكة تنظر من النافذة الكبيرة. كانت قد ارتدت روبًا منزليًا لأمي، لونه أزرق سماوي. تدخّن ببطء شديد، والدخان يبقى قريبًا منها. قلت لها:

-  صباح الخير، هل ترغبين في شرب شاي الماتيه ؟

-  نعم، يا حبيبتي، صباح النور.

أحضرت الأعشاب وبدأت أجهز الشاي.

- ما أجمل أظافرك يا خالتي.

- نعم .

مدّت يدها الحرة وأبعدتها قليلًا لتنظر إليها .

- هناك يعرفون كيف يعتنون بها جيدًا.

-   تعلمين، البارحة، عندما ذكرتِ العم...

- نعم.

- ظننت أن أمي قد تحدّثت معكِ. منذ زمن. قبل أن تسافرا.

كانت الخالة تبتسم ووجهها محاط بالدخان. كانت تهز رأسها بالإيجاب.

-  حسنًا، إذًا هي أخبرتكِ. بما حدث. عندما كنت صغيرة.

-  نعم، كنتِ جميلة جدًا.

- عندما كان العم يعتني بي.

أمسكت الخالة بيدي وبقيت تمسكها. كانت يدها دافئة وناعمة، وشعرت برغبة في البكاء.

-  لا تتصورين كم كان صعبًا عليّ أن أخبرها، خالتي، ثم...

- هل ترغبين في أن تعملي أظافرك مثلي؟ توجد هنا مانيكورة جاءت من المكسيك.  لقد أعطتني بطاقتها حين أكون في بوينس آيرس. إنها رائعة.

–   لا...

سحبت يدي منها برفق.

-  ستبدين رائعة بها.

ركّزت في تحضير الشاي، لكن غيمًا خفيفًا غطى عينيّ. مسحت عينيّ. واصلت الخالة التدخين والنظر من النافذة الكبيرة.

ذهبت إلى المطبخ وفتحت علبة المخبوزات المتبقية من أمس. أكلتُ الكرات المحشوة بالحليب المكثّف، واثنتين من القطع بالكاسترد، و تشوروس محشوة. تركتُ قطعة مربعة، نصفها كاسترد والنصف الآخر جيلي السفرجل. أردتُ أن أترك شيئًا. أكلتُ جزء الكاسترد فقط. ثم ثم جيلي السفرجل. وتركت القطعة الصغيرة في المنتصف. لففتها. ثم فتحت العلبة مجددًا وأكلت القطعة الصغيرة أيضًا. رميت الورق في سلة المهملات. دخلت الحمام وأغلقت الباب. قالت الخالة:

- هذا أستور، كلبٌ لطيف. في بيت الكلاب، أطلقوا عليه اسم والدورف أستوريا، هل يُعقل؟ لقد غيّرنا اسم بيت الكلاب. لحظة، انتظري، ريثما أجد الكلب الذي أردتُ أن أُريكِ إياه.

كانت جالسة أمام حاسوب أمي المحمول، تحرّك الفأرة بصعوبة فوق مفرش قماش جوز الهند، قالت لها أمي:

–  إنه يتجعّد، سأجلب لكِ شيئًا.

بدأت الخالة تبحث بينما كانت تقول:

- ها هي، ها هي. هذه "ديلي".

كانت أمي تمشي ويداها ممدودتان، تنظر إلى الأسفل وإلى الجانبين. بقيتُ واقفة في مكاني؛ فكادت أن تصطدم بي.

–  ماما.

-  آه، ألا تعرفين أين يمكن أن أجد شيئًا أضع عليه الفأرة حتى لا تتعطل بسبب المفرش؟ لوحًا صغيرًا، أو...

- لا، لا أعرف .

وتحركتُ لأستلقي على الأريكة.

كانت الخالة تقول:

-  في المزرعة أطلقوا عليها اسم "ديليريو" (هذيان). نحن غيّرناه. العم هو من اقترح "ديلي"، حتى تظل تستجيب. ديليريو – ديلي، ليس فرقًا كبيرًا.

قلتُ من مكاني على الأريكة.

- خالتي، ألا تعلمين أنه لا يجب شراء الحيوانات؟ من الأفضل تبني تلك التي في الشارع.

عادت أمي من المطبخ بلوح تقطيع ووضعته تحت فأرة الخالة. قالت إن كل الحيوانات طيبة، وكلها تستحق الحب. وإن كل شخص يفعل ما يراه صائبًا. فذهبتُ إلى الحمام من جديد.

ظلت الخالة عدّة أيام وهي ترتدي ذلك الروب الأزرق السماوي. كانت تدخن كثيرًا، وتقول إن السرير يتحرك تحتها أثناء الليل، كما حصل وقت الزلزال. وأنها هي والعم لم يتمكنا من النوم بسلام منذ ذلك الحين. كانا يتناولان الحبوب. حتى أستور وديلي كانا في حال سيئة.   وكان الخال يعطيهما زهور باخ لتهدئتهما. وكانا يصعدان إلى السرير معهما، لكن إذا تحرك غصنٌ في الخارج، كانا يبدآن في النحيب.

في تلك الليلة كانت الخالة تقطع الخضار في المطبخ.

- يسلّيني هذا. مثل المسلسلات. وأنتِ بما أنكِ تبقين في البيت كثيرًا، فستعجبكِ. ألم تقرئي شيئًا لفلورنسيا بونيلي؟ تمزج الحب بعلامات الأبراج، بالعاطفة، بالرومانسية.

-  لا، لا أحب هذه الأشياء.

كانت تقطع الجزر إلى شرائح رقيقة جدًا. أنهت واحدة وأخذت أخرى وبدأت بتقطيعها بنفس الطريقة.

-  مرة وقعت في الحب، خالتي. هل تذكرين عندما قلتِ لي؟

كنتُ أنظر إليها، لكنها كانت تنظر إلى الجزرة .

- هل تذكرين عندما سألتيني؟ وقلت لكِ إنني مرة أحببت؟ كان شابًا يعمل في كشك على بُعدين من هنا، كنت أراه عندما أذهب للتسوق.

-  نعم.

-  بدأنا نتحدث. أحيانًا كنت أبقى في الكشك أساعده، أو أستمع إلى الراديو معه.

كانت الخالة تقطع الجزر إلى شرائح متقنة. وكان وجهها يشبه من يستمع إلى موسيقى كلاسيكية. قالت لي:

-  كم هو جميل، أدريانيتا

ودَفعت الشرائح بسكينها إلى قدرٍ أمامها.

–  ذات يوم قبّلني.

- جميل، حبيبتي .

وبحثت عن مزيد من الجزر.

- بدأ جسمي كله يرتجف. وانغلق حلقي. وأصبح كل شيء حولي أسود.

-  نعم، هذا من شدة العاطفة. هذا ما أقوله لكِ عن الروايات، أنها ستعجبكِ.

-  لم أستطع أن أتنفس، وكأنني على وشك الإصابة بنوبة قلبية. كنت أختنق.

اقتربت الخالة بيدها من طبق الجزر لتتابع تقطيعه، لكنني سبقتها وأمسكت به. أخذت كل الشرائح. قالت لي

–  هذا للمرق...

- كنت أعتقد أنني سأموت. لم أكن أستطيع التنفس.

-  أعطيني إياها، حتى أطبخ.

-  كنتُ أريد تقبيله، لكن لم أستطع...

وقفت العمة ممسكة بالسكين في يدها، تنظر إلى الجزرة التي كنت أقبض عليها. بقوة.

-  قلتُ له إن كان يمكنه أن ينتظرني قليلاً... إنني عندما كنتُ صغيرة، حصلت لي مشكلة.

- هل تعطيني الجزر؟

- قلت له إنني عندما كنت صغيرة، حصلت لي مشكلة.

اقتربت مني.

-    هل تعطيني إياها، أدريانيتا؟

أعطيتها الجزر.

لم أرغب في أكل شيء من اليخنة. انتظرتُ حتى ذهبا للنوم ورميتُ ما تبقى. صنعتُ خليطًا من الحليب المجفف والمربى والماء، وأكلتُه من العلبة. ثم أكلتُ عدّة أرغفة خبز بالجبن، وبعدها فتحتُ علبة أخرى من الحليب المجفف. أضفتُ إليها ماءً وسكرًا، وأكلت الخليط حتى أصبتُ بتسارع في نبضات القلب. بعدها ذهبتُ إلى الحمّام.

بدأت الخالة تتحسن. أصبحت ترتدي ثيابها، وتنام طوال الليل. في أحد الأيام جهزت حقيبتها وقالت إنها مستعدة، وإنها ستعود إلى المكسيك. أخرجت وشاحًا حريريًا ورديًا بنفسجيًا ولفته حول عنقي.

- يليق بكِ جدًا.

قالت أمي:

- يليق بها جدًا  وتحتاج لشيء أكثر أنوثة.

حمل كل واحدة منّا حقيبة، ورافقناها إلى الأسفل حتى وصول سيارة الأجرة. بدأت تشكرنا. قالت إنه لولا دعم العائلة لما كانت تمكنت من تجاوز الأمر. نحن كنّا ملاذها، مصدر عاطفتها، حبلها الذي يربطها بالأرض. تذكرت أمي علبة حليب الدُّلسي دي ليتشي من ماركة شيمبوتي التي أرادت أن تهديها لها. يبدو أنها كانت تخبئها عني. طلبت أن نصبر ثانيتين حتى تصعد وتحضرها. وعندما أُغلِق المصعد، سارعتُ بالكلام.

- خالتي، أريد أن أقول لك شيئًا.

- نعم، حبيبتي، لا تتصورين كيف أثر فيَّ الزلزال. لا زال صداه يتردد في رأسي.

- عندما كنتُ صغيرة، أنتما كنتما تذهبان إلى العمل...

كان  هناك رجل يطرق زجاج باب العمارة. ركضت الخالة إليه. ثم استدارت وقالت لي إنه سائق سيارة الأجرة. حملتُ الحقيبتين إلى الباب. الرجل حمّلهما وألقى إحداهما فوق الأخرى في صندوق السيارة.

-  اسمعيني .

حاولت إيقافها.

صعدت إلى السيارة وأغلقت الباب. وصلت أمي وفي يدها علبة حليب شيمبوتي، وناولتها للخالة من النافذة. أبعدتُ يد أمي، وأدخلتُ رأسي داخل السيارة، وأمسكتُ بيدي الخالة. قالت الخالة:

- حبيبتي، من وقت الزلزال وأنا ضائعة.

أغلق سائق السيارة صندوقها بعنف.

- كان العم يقول لي إنني حبيبته.

–  مسكين العم… حاله مثل حالي.

-  قال إنني حبيبته، هل تفهمين؟

- بالكاد نستطيع التركيز، بالكاد نتحدث.

وعندما بدأت السيارة تتحرك، قالت لي إنها سترسل له تحياتي.

***

........................

الكاتبة: فيرجينيا فاينمان/ VIRGINIA FEINMANN  (بوينس آيرس، الأرجنتين، 1972)   صدرت لها رواية بعنوان كل أنواع الأشياء الممكنة (Mulita، 2016)، ومن المقرر صدور كتابها التالي عن دار Emecé. تم تحويل العديد من قصصها القصيرة جدًا إلى برامج إذاعية، ومسرحيات، وعروض سرد شفهي.

قصة: فرانز كافكا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنت في حيرة شديدة: كانت تنتظرني رحلة عاجلة؛ مريض بحالة خطيرة كان في انتظاري في قرية تبعد عشرة أميال؛ عاصفة ثلجية شديدة كانت تملأ الفراغ الواسع بيني وبينه؛ كان لدي عربة، خفيفة، ذات عجلات كبيرة، تمامًا كما يلائم طرقنا الريفية؛ وقد ارتديت معطفي المصنوع من الفرو، وحملت حقيبة الأدوات بيدي، ووقفت جاهزًا للرحيل في فناء الدار؛ لكن الحصان كان مفقودًا، الحصان. حصاني الخاص نفق الليلة الماضية، نتيجة للإرهاق الشديد في هذا الشتاء القارس؛ وكانت خادمتي تجوب القرية الآن، تحاول استعارة حصان؛ لكن الأمر كان ميؤوسًا منه، كنت أعلم ذلك، وكنت أقف هناك بلا جدوى، يغمرني الثلج أكثر فأكثر، وأصبح عاجزًا عن الحركة. عند البوابة ظهرت الخادمة، وحدها، تلوّح بالفانوس؛ بالطبع، من الذي سيعير حصانه الآن لمثل هذه الرحلة؟ مشيت مرة أخرى في أرجاء الفناء؛ لم أجد أي حل؛ وبانزعاج وتشوش، ركلت بقدمي باب الزريبة المهترئة التي لم تُستعمل منذ سنوات. انفتح الباب وتحرك على مفاصله يفتح ويغلق. انبعث منه دفء ورائحة تشبه رائحة الخيول. تمايل فانوس إسطبل ذو ضوءخافت معلق بحبل في الداخل. ثمة رجل منحني داخل الحظيرة المنخفضة أظهر وجهه المكشوف بعينين زرقاوين.

"هل أُعِدُّ الجياد؟"

سأل وهو يزحف على أربع ليخرج. لم أعرف ما أقول وانحنيت فقط لأرى ما يوجد أيضًا في الإسطبل. وقفت الخادمة بجانبي.

"لا يعرف المرء ما يخبئه بيته من أشياء، "

قالت ذلك فضحكنا نحن الاثنان. صاح الرجل:

"هيًا، أيها الأخ، هيًا أختي!"

ثم ظهر حصانان، حيوانان ضخمان قويان، يتقدمان الواحد خلف الآخر، بأرجل ملتصقة بأجسادها، ورؤوسها المُشَكَّلة بدقة تنحني مثل الجمال، لا تخرج من فتحة الباب إلا بقوة التواءات جسديهما، ملأته بالكامل. لكنهما سرعان ما وقفا منتصبين، بقوائمها الطويلة، تبعث من جسديهما أبخرة كثيفة. قلت:

"ساعديه، "

فأسرعت الخادمة المُستعدة لتناول لجام الخيل إلي الرجل. لكن بالكاد وصلت إليه حتى ضمها وضغط وجهه على وجهها. صرخت وفرت إليَّ؛ ظهرت على خد الخادمة آثار صفين من الأسنان محفورة باللون الأحمر. صرخت غاضبًا:

"أيها الحيوان! أتريد أن تذوق السوط؟

لكني تذكرت فورًا أنه غريب؛ لا أعرف من أين أتى، وهو يساعدني طواعيةً بينما يعجز الجميع. وكأنه يعرف أفكاري، لم يتأثر بتهديدي، بل التفت نحوي مرة واحدة، وهو منشغل بالخيل. قال بعد ذلك:

"اصعدا، كل شيء جاهز. "

لم يسبق لي أن قدت عربة بخيول بهذا الجمال، كما لاحظت، فصعدت فرحًا. قلت:

"لكنني سأقود أنا، فأنت لا تعرف الطريق، "

أجاب:

"بالطبع، لن أصحبك، سأبقى مع روزا. "

"كلا!"

صرخت روزا وركضت إلى المنزل، وكأنها تشعر مقدَّرًا بحتمية مصيرها؛ سمعت صوت سلسلة الباب تُغلق والتي وضعتها للحماية؛ سمعت القفل ينغلق؛ ورأيتها في الممر ثم وهي تندفع عبر الغرف تُطفئ كل الأضواء كي لا يُعثر عليها. قلت للرجل:

"ستصحبني، وإلا سألغي الرحلة، مهما كانت ملحة. لا يخطر ببالي أن أدفع الخادمة ثمناً للرحلة. "

"هيًا!"

صفق سايس الاسطبل بيديه؛ فانطلقت العربة كأنها خشبة في تيار الماء؛ ما زلت أسمع باب منزلي ينكسر ويتحطم تحت ضربات الحطاب، ثم امتلأت عيناي وأذناي بطنين متواصل يخترق كل حواسي. لكن ذلك لم يدم إلا لحظة، لأنه، وكأن فناء مريضي انفتح أمام بوابة منزلي مباشرة،

وصلت على الفور؛ وقفت الخيل بهدوء؛ توقف تساقط الثلج؛ أضاء القمر المكان؛ هرع والدا المريض خارج المنزل؛ تتبعهما أخته؛ كادوا يرفعونني من العربة؛ لم أفهم شيئًا من كلماتهم المضطربة؛ في غرفة المريض، كان الهواء بالكاد قابلًا للتنفس؛ موقد الحطب المُهمَل ينفث دخانًا؛ قررت فتح النافذة؛ لكني أردت أولاً رؤية المريض.

كان الفتى نحيلا، لا يعاني من الحمى ولا البرد ولا الدفء، بعينين خاويتين وبدون قميص، عار تقريبا، نهض الفت تحت الفراش، تعلّق بعنقي، وهمس في أذني:

"دكتور، دعني أموت. "

نظرت حولي؛ لم يسمعه أحد؛ كان والداه واقفين بصمت، منحنين إلى الأمام، ينتظران حكمي؛ وأخته قد أحضرت كرسياً لحقيبتي الطبية. فتحت الحقيبة وأخذت أبحث بين أدواتي؛ كان الفتى يمد يده باستمرار من السرير نحوي، ليذكّرني برجائه؛ أمسكت بملقط، فحصته على ضوء الشمعة، ثم وضعته جانبًا. فكرتُ بسخرية، نعم، في مثل هذه الحالات، تتدخل الآلهة، ترسل الحصان المفقود، وتضيف، بسبب العجلة، حصانًا ثانيًا، وتمنحني، زيادة على كل ذلك، سايس الخيل" —

عندها فقط تذكرت روزا من جديد؛ ماذا أفعل؟ كيف أنقذها؟ كيف أخلّصها من تحت هذا السايس، وأنا على بُعد عشرة أميال منها، والحصانان الجامحان أمام عربتي؟

الآن فقط تذكرت روزا مرة أخرى؛ ماذا أفعل، كيف أنقذها، كيف أُبعدها عن ذلك السايس، وأنا على بعد عشر أميال منها، وأمام عربتي حصانان جامحان؟ تلك الخيول التي أفلتت عُقُدها بطريقة ما؛ والنوافذ، لا أعرف كيف، انفتحت من الخارج؛ يخرج كل حصان رأسه من نافذة، دونما اكتراث بصرخات العائلة، ينظر إلى المريض. فكرت، "سأعود فورًا، " وكأن الخيل تُطالبني بالرحيل، لكني سمحت للأخت، التي ظنت أن الحرارة أذهلتني، أن تنزع عني معطفي. أُحضر لي كأس من الروم، والعجوز يربت على كتفي، كأن تخلّيه عن كنزه يبرر هذه الألفة. هززت رأسي؛ في أفق أفكاره الضيق سأشعر بالغثيان؛ ولهذا السبب فقط رفضت أن أشرب.

تقف الأم عند السرير وتشير لي؛ اتبعتُها ووضعت رأسي على صدر الفتى، الذي ارتعد تحت لحيتي المبتلة بينما صهل أحد الخيول بصوت عالٍ نحو سقف الغرفة. تأكد لي ما أعرفه: الفتى سليم، فقط دورته الدموية ضعيفة قليلًا، وقد أغرقته الأم القلقة بالقهوة، لكنه سليم والأفضل انتزاعه من السرير بدفعة. لستُ مصلحًا للعالم، فتركته مستلقيًا. أنا موظف لدى الدائرة الصحية، وأؤدي واجبي إلى أقصى حد، حتى الحد الذي يكاد يكون مفرطًا. براتب ضئيل، إلا أني كريم ومستعد لمساعدة الفقراء.

لا يزال عليّ أن أقلق على روزا، ثم ربما كان الفتى محقًا، وربما أرغب أنا أيضًا في الموت. ما الذي أفعله هنا، في هذا الشتاء الذي لا نهاية له؟ لقد نفق حصاني، ولا أحد في القرية مستعد لإعارتي حصانه. اضطررت لاستخراج فرسي من حظيرة الخنازير؛ ولو لم يكونا، بالصدفةً، حصانين، لوجب عليّ السفر بخنازير! هكذا الأمر.

وأومأت برأسي للعائلة. هم لا يعرفون شيئًا من هذا، ولو عرفوا، لما صدّقوا. كتابة الوصفات أمر سهل، كتابة الوصفات الطبية أمر سهل، لكن التواصل مع الناس في كل ما عدا ذلك صعب. حسنًا، ها قد انتهت زيارتي، لقد أزعجوني مرة أخرى دون داعٍ، وهذا أمر اعتدت عليه. جرس الليل يُعذبني بطلبات من كل أنحاء الدائرة، لكن أن أضطر هذه المرة إلى التضحية بروزا أيضًا، تلك الفتاة الجميلة التي عاشت في بيتي سنوات دون أن ألاحظها تقريبًا — هذه التضحية كبيرة جدًا، ويجب أن أبررها لنفسي بتعقيدات ذهنية مصطنعة، لكي لا أنفجر في وجه هذه العائلة، التي، حتى لو أرادت بكل حسن نية، لا يمكنها أن تعيد لي روزا. / ويجب أن أبررها لنفسي بحيل ذهنية ما كي لا أنقض على هذه العائلة، التي حتى لو أرادت بأحسن نية، لا تستطيع إعادة روزا لي.

ولكن حين أغلقت حقيبتي ولوّحت بطلب معطف الفرو، وكانت العائلة مجتمعة، الأب يشمّ الكأس التي في يده ويشمّ رائحة الروم، والأم، التي قد يكون خاب ظنها بي – نعم، ما الذي يتوقعه الناس؟ – تعضّ شفتيها باكية، والأخت تلوّح بمنشفة ملطخة بالدم بشدة، شعرتُ أنني، في ظل هذه الظروف، مستعدّ، بشكل ما، لأن أُقِرّ بأن الفتى قد يكون مريضًا حقًا. أتجه إليه، فيبتسم لي وكأني أحمل له ألذ حساء! — آه، الآن يصرخ الحصانان؛ يبدو أن الضوضاء، بتوجيه من قوى أعلى، مُعدة لتسهيل الفحص — وهنا اكتشفت: نعم، الفتى مريض بالفعل. في جانبه الأيمن، عند مفصل الورك، انفتح جرحٌ بحجم راحة اليد، وردي اللون بتدرجات متعددة، غامق في العمق، فاتح عند الحواف، ذو ملمس ناعم، مع تجمعات دم غير متساوية، مفتوح كمنجم على سطح الأرض. هكذا يبدو من بعيد. أما عن قرب، فالمشهد أكثر إثارة للاشمئزاز. من يستطيع رؤية هذا دون أن يصفر من الدهشة؟

ديدان، بسمك إصبعي الصغير وطوله، وردية بطباعها، ومرشوشة بالدم أيضاً، تتلوى في عمق الجرح، مثبتة برؤوسها البيضاء وأرجلها الكثيرة، تخرج نحو الضوء. يا ولدي المسكين، لا أمل في شفائك. لقد اكتشفت جرحك الكبير؛ هذه "الزهرة" في جنبك ستودي بحياتك.

العائلة سعيدة، تراني منهمكاً في عملي؛ تنقل الأخت الخبر للأم، والأم للأب، والأب لبعض الضيوف الذين يدخلون على أطراف أصابعهم، وهم يمدون أذرعهم لتحقيق التوازن، عبر ضوء القمر الساطع من الباب المفتوح. يهمس الولد باكياً، مأخوذاً تماماً بالحياة التي تعجّ في جرحه:

"هل ستنقذني؟"

هكذا أهل قريتي: دائماً يطالبون الطبيب بالمستحيل. لقد فقدوا إيمانهم القديم؛ القسيس يجلس في بيته يمزق ثياب القداس واحداً تلو الآخر؛ بينما يتوقع الجميع من الطبيب أن يحقق المعجزات بيده الجراحية الرقيقة! حسناً، كما تشاؤون: أنا لم أتطوع لهذا؛ إذا كنتم تستخدمونني لأغراض مقدسة، فسأسمح بذلك أيضاً. ماذا أريد أكثر من ذلك، أيها الطبيب الريفي العجوز، بعد أن سُلبَت مني خادمتي! وها هم يأتون - العائلة وشيوخ القرية - ليجرّدوني من ملابسي؛ وتقف جوقة مدرسية بقيادة المعلم أمام المنزل، يغنون لحناً بسيطاً جداً بكلمات تقول:

" جردوه من ثيابه فيشفيكم،

وإن لم يُشفِكم فاقتلوه!

إنه مجرد طبيب، مجرد طبيب. "

ثم جردوني من ثيابي، فوقفت وأنا أعبث بلحيتي، ورأسي منحنٍ، أنظر إلى الناس في هدوء. كنت مستعداً تماماً، متفوقاً عليهم جميعاً، وظللت كذلك رغم أن ذلك لم ينفعني بشيء. إذ أخذوني من رأسي وقدمي وحملوني إلى السرير. ألقوا بي بجوار الجرح عند الحائط. ثم خرج الجميع من الغرفة؛ وأُغلِق الباب؛ واختفى صوت الجوقة؛ وحجبت السحب ضوء القمر؛ دثَّرني الفراش الدافئ؛ وتمايلت رؤوس الخيول كالأشباح في فتحات النوافذ.

سمعتُ صوتًا يهمس في أذني:

" أتعلم؟ ثِقتي بك ضئيلة جدًّا. أنت مجرد غريب مطرود من مكان ما، لم تأتِ على قدميك. بدل أن تساعدني، تضيّق عليَّ فراش موتي. وما أشد رغبتي في اقتلاع عينيك!"

قلت:

"صحيح إنها مهانة. لكنني طبيب. ماذا عساي أن أفعل؟

"صدقني، الأمر ليس سهلاً عليَّ أيضًا. "

"وهذه هي الأعذار التي يجب أن أكتفي بها؟ آه، لا بد لي من ذلك، دائمًا يجب أن أكتفي بالقليل. لقد وُلدت بجرح جميل؛ كان ذلك كل ما أملك. "

قلت:

" يا صديقي الشاب، خطؤك هو أنك لا ترى الصورة كاملة. أنا الذي زرت كل غرف المرضى في هذه النواحي، أقول لك: جرحك ليس بالسوء الذي تظن. مِن صنع ضربتين بفأس، بزاوية حادة. كثيرون يُقدِّمون جنوبهم، ولا يسمعون حتى صوت الفأس في الغابة،

فما بالك باقترابها منهم!"

"أحقًا هذا ما تقول، أم أنك تخدعني في هذياني؟"

"حقًا، خذها كلمة شرف من طبيب القرية الرسمي. "

فأخذها، وسكت.

لكن الآن حان الوقت لأن أفكّر في خلاصي. ما زال الحصنان ثابتين في مكانهما.

جمعت ملابسي، ومعطف الفرو، وحقيبتي بسرعة؛ لم أرغب في تضييع الوقت في ارتداء الملابس؛ فإذا أسرعت الخيول كما فعلت في الذهاب، فقفزتي من هذا السرير إلى سريري الخاص ستكون مضمونة.

انسحب أحد الخيول من النافذة طائعًا، رميتُ الحزمة في العربة، لكن الفراء طار بعيدًا،

لم يُمسك به إلا كمٌّ عالقٌ بخطاف. جيد بما فيه الكفاية. قفزتُ على صهوة الحصان. الأحزمة مرتخية، حصان بالكاد مربوط بالآخر، العربة تترنّح وراءهما والمعطف آخر ما تبقى، يجرّه الثلج.

قلت:

"انطلقا!"

لكن الانطلاق لم يكن نشيطًا؛ سار الحصنان ببطء كالعجائز، عبر صحراء الثلج، بينما ترددت خلفنا أنشودة الأطفال الجديدة، الخاطئة:

"ابتهجوا أيها المرضى،

فقد ألقي بالطبيب في فراشكم!"

لن أعود إلى بيتي أبدًا بهذه الطريقة؛ ممارستي الطبية التي كانت مزدهرة، ضاعت؛ خلفني خليفة يسرقنيلكن عبثًا، فهو لا يمكنه أن يحلّ مكاني، وفي منزلي يعيث السايس القذر فسادًا؛ روزا ضحيته؛ لا أريد حتى أن أتخيّل ذلك.

أنا، العجوز العاري، اترنح معرّضاً لصقيع أتعس العصور، بعربة أرضية وخيول ليست من هذا العالم. بينما معطف الفرو يتدلّى خلف العربة، لكنني لا أستطيع الوصول إليه أبدًا، ولا أحد من هذا القطيع المتنقل من المرضى يحرك إصبعًا لمساعدتي. خُدعت! خُدعت! لقد أجبتُ نداء جرس الليل المضلل مرة واحدة - ولا سبيل لإصلاح ما حدث أبداً.

(النهاية)

***

..................

المؤلف: فرانز كافكا (3 يوليو 1883 - 3 يونيو 1924) كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، رائد الكتابة الكابوسية. يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة تُصنّف أعماله بكونها واقعيّة عجائبية. عادةً ما تتضمّن قصصه أبطالاً غريبي الأطوار يجدونَ أنفسهم وسطَ مأزِقٍ ما في مشهدٍ سرياليّ، يُعزى ذلك للمواضيع النفسية التي يتناولها في أعمالِه مثل الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثيّة. أكثر أعماله شُهرةً هي رواية المسخ، والمحاكمة، والقلعة. وقد ظهر في الأدب مصطلح الكافكاوية رمزاً إلى الكتابة الحداثية الممتلئة بالسوداوية والعبثية. ولد كافكا في 3 يوليو 1883 في براغ التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى تنحدر من أصول يهودية أشكنازية. عمل موظّفاً في شركة تأمين حوادث العمل، مما جعله يُمضي وقت فراغه في الكتابة. على مدار حياته، كتب كافكا مئات الرسائل للعائلة والأصدقاء المقربين، بما في ذلك والده، الذي كانت تربطه به علاقة متوترة وسيئة. خَطب بضعة نساءٍ لكن لم يتزوّج أبداً. توفي عام 1924 عن عمر يناهز الـ40 بسبب مرض السل. نشر خلال حياته بعض الكتابات، تشمل الكتابات المنشورة مجموعة قصصية تحت اسم تأمل وأخرى بعنوان طبيب ريفي، وقصص فرديّة هي المسخ التي نُشرت في مجلّة أدبية ولم تحظَ باهتمام. نُشِرت باقي الأعمال بعد موته على يد صديقه المقرب ماكس برود، الذي لم يستجب لطلب كافكا بإبادة كل كتاباته.

بقلم: وينج تيك لوم

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: قصيدة (حملة النقالات)

عند بلوغنا منتصف

الطريق

الواقعة أسفل التل

اكتشفنا بأن رفيقنا المحمول

على نقالة الجرحى

قد فارق الحياة

فأنزلناه

ودحرجناه

بعيدا عن الشجرة المهشمة

على مضض

رغم رغبتنا في إعادة جثمانه

إلى الوطن

ليتسنى لنا إخلاء

أحد جرحانا

في طريقنا نحو أعلى التلة

لقد آلمنا الأمر

ولكن لا يهم

فقد انتقل رفيقنا

إلى العالم الآخر

و كان لابد لنا

أن نواظب على الأمر

***

ثانيا: (قصائد هايكو)

(1) - قميصي مخضب بالدم

كأنه دم شخص غيري

ما زلت على قيد الحياة

***

(2) - نلجأ إلى استخدام خوذهم

لم تزل الخوذة التي بحوزتي تسرب الماء

ثقب رصاصة نظيف

***

(3) - أجفف قدمي المبللة

المتورمة

آن لي أن أقلم أظفارها

***

.......................

- وينج تيك لوم: شاعر أمريكي من أصل آسيوي. ولد عام 1946 في (هونولولو) في هاواي. خريج جامعة (براون) 1969 ويحمل شهادة في الهندسة. حاصل على شهادة الماجستير في اللاهوت 1973. نشر معظم أعماله الأدبية في مجلة (نيو يورك الفصلية). منح عدة جوائز أدبية في الولايات المتحدة الامريكية، منها جائزة ديسكفري ذا نيشن 1970 وجائزة الكتاب الأمريكي 1988 وجائزة إليوت كايدز للأدب 2013.من مؤلفاته (شرح النقاط المشكوك فيها 1987، مذابح نانجينغ – 2012). للاطلاع على المزيد من شعر الحرب العالمي ينظر (قبلة أخيرة قبل الذهاب إلى الحرب: مختارات من شعر الحرب العالمي) للمترجم، مطبعة بشوا، أربيل – العراق 2022. 

شعر: عزت گوشه گیر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما يُرَشُّ الدَّمُ

على الباب، على الجدار، على التربة، على الهواء،

تكون السذاجةُ

هي أن نرى فقط طَرَفَ أنوفنا.

سنينَ طويلةً في زنازين أبراج إمبراطوريّاتِ الخرسانة،

وراء الأبواب الموصَدة،

قُلوبُ البشر والمباني

مثل فراشاتٍ في شرانقَ

مُثَبَّتةٌ بدبابيسَ على خرائطَ جدرانٍ.

الإمبراطورياتُ

تعرِفُ جيدًا صوتَ كلِّ ساعةٍ،

لحظةَ شروق الشمس،

تواضعَ الغروب،

وغموضَ الليل،

وتعرِفُ كيفَ تحَقنِ بأيِّ دواءٍ

لتحوِّلُ الفراشاتَ إلى خفافيش.

*

عندما يُباع جوهرُ الإنسان الداخلي

بِحَفْنَةٍ من ذهبٍ،

بِسيارةٍ،

بِفيلا،

وبِدَلوٍ مملوءٍ بالكريمة والشوكولاتة،

فالإمبراطورياتُ تعلمُ

أنها بهذا الشكلَ

قد مزجتِ الخوفَ

بِرغبةِ الهيمنة.

يا للسذاجةِ أن نعتقدَ

أننا بحاجةٍ إلى مُنقِذٍ

لنرى طيرانَ الحمامِ،

أو نسمعَ زقزقةَ العصافيرِ،

أو نشمَّ عبقَ الياسمينِ الأزرقِ،

أو نُقبِّلَ شعرَ مَن نحبُّ،

أو نتذوَّقَ رغيفَ خبزٍ طازجٍ

في هواءٍ غيرِ مُحتلٍّ!

فنستندَ في راحةٍ زائفةٍ

إلى أكتافِ مَنْ

حلموا لسنواتٍ بدوسِ قصائدِ شعرائنا،

واغتصابِ بيتِ أسطورتنا،

والسيطرةِ على الجذورِ المدفونةِ في أعماقِ ترابنا.

ما هي الجذورُ؟

ما هي إلا لحمٌ ودمٌ وعظمٌ

لآبائنا وأمهاتنا وإخوتنا،

دمُ الأشجارِ والديناصوراتِ والكلابِ والقططِ،

دمُ الطيورِ،

الممتزجُ ببعضه،

في رطوبةِ سوائلِ أجسادهم

التي انتصرتْ على الغزاةِ في حروبِ القرونِ والألفيات،

أو هُزمتْ في مواجهتهم.

نحنُ نُمجِّدُ الذين صمدوا،

ونحفظُ دماءهم.

بتكريمِ حكمتهم وقوتهم نستمدُّ العزةَ.

لذلكَ نحفظُهم في الذاكرةِ دوماً،

ونردِّدُ:

"قويٌّ مَنْ كانَ عالماً، بالعلمِ يُشبَعُ القلبُ الفتى!"

أحياناً ننسى أن ناصرَ خسرو، شاعرَ القرنِ الخامس، قال:

"حينَ تمسكُ السيفَ، لا تستطيعُ قتلَ الناس...

رأى عيسى في الطريقِ قتيلاً مُلقىً،

فأُخذَتْهُ الدهشةُ، وَعضَّ على إصبعهِ،

وقال: 'مَنْ قتلتَ حتى تُقتَلَ هكذا بائساً؟

سيأتي مَنْ يقتلُ قاتلكَ!'"

أولئكَ الذينَ وقفوا على الأرضِ

قهرُوا ريحَ السلطةِ والعواصفَ

بأغصانهم وأوراقهم،

فهم يعرفونَ ما تعنيهِ الشجرةُ،

وما تعنيهِ الريحُ والعاصفةُ!

وقد طردوا الريحَ،

وطردوا العاصفةَ،

بقوةِ أغصانهم المكسورةِ.

يا لسذاجتنا!

نسينا أن نقرأَ الشعرَ،

شعرَ عظمائنا،

وشعرَ مجهولينا،

الذينَ شاركونا أفكارَهم ورحلاتِهم

بلا طلبِ مجدٍ أو ثناءٍ.

نسيناهم بسهولةٍ!

ونسينَا حِكَمَنا!

وما أعظمَ قولَكَ:

"ما الفرقُ بينَ الحميرِ والزعفرانِ؟!"

بدونِ الشعرِ،

الإنسانُ الجشعُ يمزقُ الآخرَ بلا رحمةٍ

لأجلِ رغيفِ خبزٍ،

أو طبقِ أرزٍ،

أو دلوِ كريمةٍ وشوكولاتةٍ،

أو أيِّ شيءٍ يتلهَّفُ عليه!

ما أفظعَ أن يمزقَ الإنسانُ الجشعُ صدرَ آخرَ،

وينتزعَ قلبَه من جسدِه،

ليأكلَه نيئاً،

فقط ليسمعَ

خطواتِ غرباءَ على أسفلتِ شوارعِ أرضٍ

رَضِعَ فيها الحليبَ

من ثديِ أمٍّ أرضعتْهُ،

أو شربَ حليبَ البقرِ والغنمِ والماعزِ

من زجاجةِ الرضاعةِ،

وتعلَّمَ المشيَ،

ونطقَ بلغاتٍ: "مرحباً.. سلاماً!"

مَنْ يُمْكِنُهُ أنْ يُفَتِّحَ ذراعيهِ

لِوُلاةِ الأمْرِ

الذينَ يُجيبونَ على تَحِيَّاتِهِ بِكَلِماتٍ غريبةٍ

بِاسْتِعلاءٍ: "سَلامٌ.. سَلامٌ!"

لِأَجْلِ رَغيفِ خُبزٍ،

أَوْ صَحنِ أرُزٍّ،

أَوْ دَلوٍ مِنْ كريمةٍ وَشوكولاتةٍ،

أَوْ فيلا،

أَوْ.. مَاذا أَعلَمُ! لِأَيِّ شَيءٍ يَهْفو قَلْبُهُ!

"فُرُوغ"ُ الحَيَّةُ الَّتي تَنامُ تَحْتَ التُّرابِ

قالَتْ قَبْلَ سِنينَ:

"أَنا أَعرِفُ أَسرارَ الفُصولِ،

وَأَفْهَمُ لُغَةَ اللَّحَظاتِ،

الْمُنْقِذُ نائِمٌ في القَبْرِ."

ما أَحْمَقَ الحَياةَ حينَ يَكونُ الإِنسانُ تابِعاً فَحَسْبُ،

ويَنتَظِرُ مُنْقِذاً

ليَكونَ صَوتَهُ الزَّائِفَ!

مَنْ هُوَ المُنْقِذُ؟

إِلّا ذاكَ الَّذي يَكونُ في اللِّسانِ صَديقاً،

وفي الفِعلِ،

يَحْبِكُ حَبْلَ المِشْنَقَةِ!

"فُرُوغ"ُ العَظيمةُ قالَتْ:

".. هَذا العالَمُ كَعُشِّ الأَفاعِي،

وَهُوَ مُمْتَلِئٌ بِأَصْواتِ خُطُواتِ قَوْمٍ

يُقَبِّلونَكَ بَينَما

يَحْبِكُونَ حَبْلَ إِعدامِكَ في أَذْهانِهِمْ!"

يا لِلسَّذاجَةِ أنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَستَطيعُ

أَنْ يُسْكِتَ أَصْواتَ كُلِّ أُولئكَ

تَحْتَ التُّرابِ وَفَوقَهُ،

كُلَّ أُولئكَ المَسْجونينَ خَلْفَ الأَبْوابِ المُوصَدَةِ،

كُلَّ الأَطْفالِ بِلا أَيْدٍ وَلا أَرْجُلٍ،

كُلَّ النِّساءِ وَالرِّجالِ وَالعُجُزِ،

كُلَّ الجِياعِ وَالمَشْدودينَ بِالبَرْدِ وَالحَرِّ،

المَلْدُوغينَ بِالعَقارِبِ وَالحَيَّاتِ،

أَنْ يَحْبِسَهُمْ في صُنْدوقٍ وَيُقْفِلَهُ بِإِحْكامٍ!

فَما هُوَ الصَّوْتُ إِذاً،

هذا الَّذي يَتَسَرَّبُ خارِجاً

ويَعْصِفُ في أَعْماقِ الرِّيحِ؟

وما هِيَ الأَحْلامُ؟

وما النَّوْمُ؟

وما الكَوابيسُ؟

وَالأَحْلامُ جانِباً،

ما البَصَرُ؟

ما التَّخَيُّلُ؟ ما الفَنُّ؟

ما الكَلِمَةُ؟ ما الغِناءُ؟ ما الأَلْحانُ؟

يا لِلسَّذاجَةِ أَنْ يُغَرِّقَ الإِنسانُ رَأْسَهُ في الثَّلْجِ

أَوِ التُّرابِ أَوِ الهَواءِ أَوِ الماءِ

لِكَيْ لا يَرَى الحَقيقَةَ!

ما قُدِّرَ أَنْ يَحْدُثَ،

سَيَحْدُثُ.

وَالصَّمْتُ وَالدَّهْشَةُ،

وَالصُّراخُ وَالاسْتِنْكارُ،

هِيَ بَدايَةُ رَدِّ فِعْلِ الإِنسانِ!

*

خِيارُ الضَّغْطِ،

وَالتَّشَتُّتُ وَالتَّرَكُّزُ،

وَانتِشارُ الحادِثَةِ،

قَانُونٌ فِيزِيَائِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ فِي حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ!

حِينَ يَحمَرُّ اللِّسَانُ فَجْأَةً،

تَتَفَرَّقُ الجُزَيئَاتُ المُتَرَاكِزَةُ،

فَتَنْتَشِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ،

وَتُطرَدُ مِنْ نُقطَةٍ فِي العَالَمِ إِلَى نُقطَةٍ أُخرَى.

هَذَا هُوَ بِدَايَةُ التَّحَوُّلِ.

بِدَايَةُ الدَّمَارِ.

وَالدَّمَارُ لَا قَرْنَ لَهُ وَلَا ذَنَبَ!

الدَّمَارُ هُوَ الدَّمَارُ!

هُوَ أَنْ يُذْرِيَ اللِّسَانُ الأَحْمَرُ الأَخْضَرَ فِي الرِّيحِ!

هُوَ أَنْ تَصِيرَ رُوحُكَ بِلا قِيمَةٍ.

وَأَنْ لَا تَكُونَ أَنتَ سِوَى أَدَاةٍ!

*

أستطيعُ أن أتحدثَ ساعاتٍ

عن أناسٍ وقفوا منذ ألفياتٍ

أقوياءَ كأشجارِ السيكويا الألفية،

يترنّمونَ بالشِّعر.

ولكنّها قد تكونُ سذاجةً إن فتحتُ فمي لأتحدثَ عن المستقبل.

لا أرى المستقبلَ القريبَ سهلاً.

ويخبرني حدسي

أنّ في ثنايا جسدِ العالم،

هناكَ من يعيدُ ولادةَ "جنينِ الدين"،

ذاك الذي نُقِعَ لسنواتٍ في الخلِّ والملح.

وحروبٌ صليبيةٌ جديدةٌ في الطريق.

وفي هذه اللحظات،

يتضايقُ قلبي كصماماتِ القلبِ المتشنِّجة،

حزناً على قبيلتي،

على إخوتي وأخواتي، وأطفالِهم وأحفادِهم،

على كلِّ تلك العظامِ تحت التراب

التي كانت تمشي وتأكلُ وتتشاجرُ وتحبُّ قبلَ إعدامها...

على كلِّ تلك العيونِ التي مزَّقها الرصاصُ المعدني،

وتلك الوجوهِ الباسمةِ التي أذابها الحمض،

على كلِّ مَنْ هم قبيلتي..

وهنا، في هذا الجزء من العالم،

أشتاقُ أيضاً إلى ماركس،

إلى سيمون دي بوفوار ومارجريت أتوود،

وأسترجعُ فجأةً في ذهني روايةَ "حكاية الجارية".

إذا سلبوني عينيَ وأذنيَ ولساني وفضولي،

فما عسايَ أكونُ إلا جثةً شبهَ حيةٍ على التراب،

تحتضرُ كدجاجةٍ مذبوحة!

يا لسذاجةِ الظنِّ بأن "مارييت"،

صديقتي المسيحية الفلسطينية التي فقدت أخبارها منذ سنوات،

ربما تذكرني هذه الأيام!

إن تذكرتني حقاً،

فستغرقُ في شعورٍ متناقض.

ربما أخبرتها خلال صداقتنا التي دامت بضع سنوات،

قبل أكثر من عشرين عاماً،

أنّي حين كنتُ في الخامسة عشرة،

امرأةٌ فلسطينية مهاجرة

طلبت مني ماءً في طريق المدرسة،

لرضيعها الملفوف بخرقة سوداء،

في حرّ شهر مايو في خوزستان.

قالت: "ماء.. ماء"،

بشفتين يابستين كتربة الطريق المتشققة بين الأهواز والخرمشهر.

وربما أخبرتها أني في الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية،

في شهري سبتمبر وأكتوبر،

تركتُ ابني الصغيرَ في أزقة طهران،

لأعالجَ جرحى الحرب في المستشفيات الميدانية بشادكان والأهواز.

كان ابني يناديني في الأزقة،

مرتعباً،

وحيداً،

مذعوراً.

كنت أسمع صوته تحت النخيلِ المقطوعة الرؤوس،

بين أصوات النساء والفتيات العربيات

اللاتي كنّ يخاطبنني بعيونهنّ بالعربية.

وربما أخبرتُ "مارييت"

أنّي كلما سمعتُ ابني ينادي: "ماما"،

أتناثرُ ألفَ قطعةٍ من شعوري بالذنب!

ربما أخبرتها...

دمُ عشتار يجري في عروقي

هدوءاً.. ذعراً..

وأحفادُها العربُ عبر ستة آلاف عامٍ

يتناغمونَ معَ قلبي.

يَحْتَلُّونَ تحتَ جفوني.. فوقَ عينَيَّ.

ربما أخبرتُها

كم أفهَمُ ألمَ كونها فلسطينية.

ولا أدري إن كانت في غزة أم في القدس،

حيّةً أم ميتةً.

لكنني أعلمُ أنني لم أخبرها

كيفَ علقَ ألمُ تلكَ المرأةِ الفلسطينيةِ المسلمةِ

في عظامي إلى الأبد.

لا أدري إن كانت أختي الكبرى

وأطفالُها وأحفادُها

أحياءٌ أم أموات.

ولا أدري إن كانت أختي الصغرى

حيّةٌ أم ميتة.

ولا أدري عن إخوتي الأربعة،

ولا عن كل أبناء العمِّ والخالةِ والعمةِ والخال،

ولا عن قبيلتي كلها،

ولا عن أصدقائي،

ولا عن جيراني،

ولا عن كل أناسِ الحاراتِ والشوارع،

ولا عن شعبي..

أحياءٌ هم أم أموات.

شعبي..

الذي اسمُ كلِّ فردٍ فيهَ: إيران.

التاسع عشر من يونيو عام 2025

***

...........................

الشاعرة: عزت گوشه گیر/ Ezzat Goushegir: كاتبة مسرحية، وقاصة، وناقدة سينمائية، وشاعرة. حصلت على شهادة في الكتابة المسرحية والأدب الدرامي من كلية الفنون الدرامية في طهران، وعلى درجة الماجستير في الفنون الجميلة من قسم المسرح بجامعة آيوا.نُشر لها حتى الآن أربعة عشر كتابًا باللغة الفارسية، من بينها مجموعات قصصية مثل: تلك المرأة، تلك الغرفة الصغيرة والحب، ووفجأة صرخ النمر: امرأة؛ وتلك المرأة التي ودّعت دون أن تقصد. كما نشرت مجموعة شعرية بعنوان الهجرة إلى الشمس، ومجموعتين من المسرحيات بعنوان التحوّل وحمل مريم.وقد قُدمت أعمالها المسرحية من قبل فرق مسرحية مختلفة، من بينها مسرحية حمل مريم التي فازت بجائزة "ريتشارد مايباوم"، وكذلك مسرحية من وراء الستائر (المستوحاة من حياة قرة العين)، والتي فازت بجائزة "نورمان فلتون".وحاليًا، تقوم عزت گوشه‌گیر بتدريس كتابة القصة والشعر الكلاسيكي في جامعة ديبول في شيكاجو – إلينوي. 

بقلم: آلي سميث

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في غيابك أتخيلك.

عائدة إلى البيت بعطلة عيد الميلاد، من أجل تلك السخافات التي تكرهها حتى الآلهة، باستثناء أنها ليس سخافات أبدا، لأنك بدون ذلك الهراء المستمر.. الأمان والدفء والاستقرار.

تقولين في داخل رأسي: مستقرة. ها نحن نبدأ. ولذلك ستكون قصة عيد ميلاد.

نظرت من الجزء الأعلى، الجزء الذي يسمح بالرؤية، وهو نافذة الحمام. كان صباحا مشرقا في منتصف فصل الشتاء. الوقت باكر. السماء صافية ليلة أمس، وكما أرى، كل أسطح الأكواخ والمرآبات، وكل أسطح العليات والاستوديوهات، وأسطح البيوت، بيضاء يغطيها الجليد. الأشجار راكدة وعارية من الأوراق. والأعشاب رقيقة وهشة في الحدائق الخلفية. ولكن نعم، هي جميلة.

قلت لي: يظهر عليك الكثير من هيئة عيد الميلاد.

الناس، الحشود، والمرأة المسكينة على الحمار، منهكة، وعلى وشك أن تضع مولودا؟.

النجمة، الرعاة، الملوك؟. هذا العام؟ أعياد ميلاد سعيدة بعد حقيقية، أعياد ميلاد بيضاء (سوبرمانية)، وخمس وستون مليون شخص يعبرون عالما بلا شواغر في فنادق أعياد الميلاد، مع أمنية عيد ميلاد سعيد منا جميعا لثماني عائلات من سوريا! (لهذا السبب العديد من اللاجئين تأخذهم هذه المدينة ذات سقوف بيوت عيد الميلاد الأبيض، وعليهم أن يتلاءموا مع التعليمات، ويكونوا لاجئين مستحقين قبل قبولهم، مهما كان معنى ذلك). بعيدا في معلف بلا سرير من أجل حلب، ولكنه عيد ميلاد فيس بوك سعيد، عيد ميلاد يو تيوب، وعيد ميلاد غوغل. أخطار موت تويتر الفصلية المرحة انطلقت فعلا. في الليلة السابقة على عيد الميلاد، روح عيد الميلاد، عيد ميلاد صغير بهيج، في منتصف شتاء مخيف. رياح جليدية. أنين. حديد. حجر. أوراق العشب تبرق قدر ما تشاء. ويحصل ذلك بسبب البرد، وهذا كل شيء.

في هذا التوقيت من العام المنصرم شاهدنا معا السنة القديمة تنصرف، ورحبنا بالجديدة فتناولنا الشمبانيا وأطلقنا الألعاب النارية كالعادة. وبدأنا مع السنة كائنات بشرية، والآن ننهيها مثل شيء ينتمي لأحد طرفي الفاصل العريض جدا والذي جعل الوادي الكبير يبدو مثل شيء يمكن التحكم به. شكرا 2016 لهذه التجديدات التي يتخذها الفلك. هذا عام مؤخرة الحصان.

غادرت البيت. ولم أكلف نفسي عناء إقفاله مرتين.

لن أهتم إذا اقتحمه أحد.

في طريقي إلى العمل اندلعت أغنية عيد ميلاد من تسجيلات باوند لاند. أغنية تجمع بينغ كروسبي مع دافيد بوي. بوي مات ورحل، ولكنه ها هو بكل حال، موجود في هاي ستريت، لم أكن أحب هذه الأغنية كثيرا، لأنها دائما تجعلني أفكر بقصيدة توماس هاردي. وفيها يلقى بجثمان الصبي هوج قارع الطبل المشارك بحرب مرت عليها عهود، على ضريح، ودون تابوت. ميت وشاب ولا شيء فوقه سوى كواكب تلمع بعيون غريبة. هوج المسكين. يمكنه أن ينتهي من بوي، أمير النظرات العجيبة، والعارف بغربتنا، والرجل الذي جعلنا جميعا غرباء ولكن حقيقيين، في فيلمه عن القزم الضاحك، حينما قدم برنامج "أفضل الأغاني الشعبية"، وكان قاسيا وملونا ومضحكا وغريبا وجعل فتاة من مدرسة أمك تدخل بنوبة صرع، وتنقل إلى المستشفى. بوي الحامل لخط متعرج على وجهه جعل بطريقة ما شارعي، وكل شارع في الضواحي، بألوان الآخرين، حافلا باحتمالات مجهولة، وأغنيته عن الفتاة ذات شعر الجرذان، الذاهبة إلى السينما، جعلتنا نرى أين نحن حقا - كأن ستارة الصالة القديمة المغبرة المتحركة التي تغطي عيوننا قد ارتفعت ببساطة.

نسيت أن بوي سجل تلك الأغنية، ومع بينغ كروسبي من بين جميع الآخرين.

أعادتني، وأنا في الطريق إلى العمل، في هذا الصباح من كانون الثاني، إلى الوقت الذي انفصلت به عن أولى حبيبة، كان ذلك في عيد ميلاد عام 1982، الهواء بارد ومنعش،

وسقوف المدينة التي كنا نعيش فيها، بيضاء يتخللها علامات سوداء خلفها ذوبان الجليد حول المداخن. استأجرت معها شقة صغيرة رطبة ومتجلدة فوق متجرين بطابقين، متجر للرقائق وآخر للتسجيلات، وكانت تفوح من متجر الرقائق روائح الدسم بغض النظر عن الوقت من يوم العمل، أما متجر التسجيلات فقد كان يعزف ويكرر على ما يبدو، وطيلة الوقت كنا منفصلتين (كل الوقت نواصل الصمت سواء صاعدتين أو هابطتين على السلالم المغطاة بالموكيت، أو إحدانا جالسة في المكان الخاص الوحيد هناك، وراء باب موصد لمرحاض خارجي مكانه على منعطف السلم، ودائما تلاحظ أن أحدهم صنع في وقت ما دائرة رمادية محترقة خلفها ثقب حريق سيجارة على الستارة المعلقة على الباب الخلفي)، وتأتي أغنية بوي وبينغ با.. روم.. با.. بوم.. بوم، مع الأغنية الأخرى، والتي يعزفها الشاب مالك المتجر طيلة الوقت، وهي: حصان بلا اسم للفرقة المعروفة باسم أمريكا.

لم تعجبني معزوفة بوي/كروسبي، وقل إعجابي بها لأنه تعين علي أن أسمعها باستمرار حين لا أكون سعيدة، مع أن اتجاه فرقة "أمريكا"، يميل للقديم منذ عام 1982، وهناك أغنية جعلتنا نتفق، كلتانا، معززة الشعور بالتباهي قليلا - بلحظة نادرة، بومضة ضوء، مثل شق في بساط متسخ، ومن خلاله أمكننا أن نكون متحضرتين أمام بعضنا البعض، أقصد بين تمزيقها للصفحات الأخيرة من كتبي (وهو أسوأ ما تضمره لي، وبين أسوأ ما أستطيع أن أضمره لها - الأمر الذي جعل متجر التسجيلات في الأسفل، تحت شقتنا، يبدو عمليا جيدا تماما. لكن بوي وكروسبي وغناؤهما معا، ما اعتبرناه حينها من المسلمات، كان بوضوح طرفة، انحراف، ومن الظاهر أن بوي يلوم عيد الميلاد، ويرى أنه علامة بلا معنى. أخيرا انفصلنا. ومنذئذ لم أبدل أسلوبي بالاستماع لأي من الأغنيتين ثانية.

في هذا الصباح أذرع بخطواتي شوارع عيد ميلاد بائسة، وذلك بعد أكثر من ثلاثين عاما، وربما استغرقت ثلاثين عاما لأستوعب ذلك، ولكنني أسمع شيئا غير متوقع، شيئا مثيرا، في أغنية أرى أنها بديهية مستقرة فينا، ولا أبذل أي جهد للانتباه إليها، كان بوي يفتتح الأغنية بينما يتابعها كروسبي، وفي غضون ذلك يبدأ ذلك الجزء المتوائم والمحلق، ويخلف كلاهما الأغنية وراءهما، أو يتخللها غناء أغنية مختلفة.

جميل.

ثم تذكرت شيئا نسيته منذ فترة بعيدة، وتعبرني الذكرى، كما أفترض، إذا جاز القول، مثل مرور الأشباح. كنت في بواكير سنوات المراهقة، في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة. تموز. حر في الخارج. أمي تقرأ أخبار الهاي لاند وهي على طاولة الإفطار. طوت قفا الصفحة الأولى نصفين وقدمتها لي.

قلت: ماذا؟.

قالت: عن أصدقائك. أليس كذلك؟.

كانت صورة لبناتنا. بنات المدرسة كما اتضح لي. وكلهن من صفوف أعلى من صفي. تلك هي شونا. وتلك جانيس. عرفتهما فقد كان بيننا تحيات وسلامات. وأعرف اثنتين إضافيتين. وكن واقفات في الصورة بحلقة صغيرة وعلى ما يبدو في حقل فارغ. ودون أي ابتسامة. تراجيديا بنات تفكرن بحصان. ذكرت الصحيفة قبل أسبوعين أن البنات ذهبن إلى مزاد وإحداهن (شونا جايلز، 16) اشترت حصانا بنقود وفرتها من عملها في يوم عطلة السبت في حانة "كاسل سناك".

وكنت أعلم أنها توفر لتتمكن من شراء حصان في أحد الأيام. وكل من عرفها يعرف هذا عنها. وكنت أعلم أن حانة "كاسل سناك" تدفع لمن يعمل هناك مبلغا سخيفا فعلا لقاء ساعات عمل طويلة. وذكرت الصحيفة أنها ذهبت إلى ساحة المزاد لترى كيف يبدو، لأنها لم تشاهد مزادا ولأنها ذات يوم ستشتري حصانا توفر المال لأجله. وقررت بقية البنات مرافقتها. أول حصان ظهر أمام جمهور مواشي يوم الجمعة كان رماديا، هزيلا ومسكينا، نحيفا، عجوزا، القوائم متعبة، الظهر محني، عين سوداء والثانية ضبابية. ولكن حالما رأته، ولاحظت أن الجزار المحلي يساوم عليه، ولا يوجد مشترون آخرون، رفعت شونا يدها في الهواء.

سألها منظم المزاد عن عمرها. وسألها هل هي متأكدة مما تريد. ونصحها أن لا تتابع. ولكنها رفعت يدها في الهواء. وتركتها مرفوعة حتى هزمت عرض الجزار بخمسين بنسا كاملة.

جلست في المطبخ أقرأ الصحيفة وأفكر، أين ستحتفظ بحصان؟. فهي تعيش في حي مثل حينا. وهم مثلنا، عائلتها، لا يمتلكون شيئا من قبيل حقل أو ما شابه. وكل ما لديهم لدينا مثله، ولا يمكننا إيواء حصان، ولا حتى أي حصان صغير، حتى في حديقة خلفية من مساكن البلدية.

ذكرت الصحيفة: أن مزارعا في السوق، عرض عليها استعمال حظيرة صغيرة مجانا على أرضه حتى تجد مكانا، فأقرضتها بقية البنات بعض نقودهن لتدفع لشخص يمكنه تسليم الحصان في المزرعة. وغادرن جميعا، وشاهدنها من البوابة وهي تقود حصانها الجديد العجوز فوق الوحل والأعشاب.

ثم بعد شرائه بأسبوع بالضبط، ذكرت الصحيفة أن شونا ذهبت إلى المزرعة للاطمئنان على حصانها، ولكن كانت الحظيرة فارغة. ثم شاهدت قوسا رماديا على الأرض. وتبين لها أنه حصانها الميت مرميا على جانبه في وسط الحظيرة.

وقال المزارع لأخبار هاي لاند أن هذا متوقع وحتمي. وكل من لديه منطق وشاهد الحصان توقع ذلك. وهذا ما أشعر به للأوانس. كان ذلك هدرا للنقود. ونقلت الصحيفة أنه تكفل بالتخلص من بقايا الحصان.

نظرت إلى الصورة ثانية. كانت صورة البنات على ما أفترض مأخوذة في الحظيرة الفارغة حاليا، ما لم يكن الصحافيون قد نقلوهن إلى حقل قديم من أجل الصورة لتبدو مثل الحقل الذي مات فيه الحصان.

أعدت الصحيفة لوالدتي.

قلت: ولكنهن لسن صديقاتي.

كان الوقت في شهر تموز. كن محظوظات. لأننا لو كنا نداوم في المدرسة حينما نشرت الصحيفة الخبر، ستمر البنات بكل تأكيد بوقت سيء لعدة أسابيع. ومع ذلك انشغل الناس بهن لفترة طويلة. وحالما يحين وقت المدرسة بعد خمس أسابيع من الآن، سيمحو النسيان الحكاية.

كأنك تضرب حصانا ميتا بالسوط.

قضية صغيرة وتافهة.

وبدأت أفكر: كن حينها بنات حلوات.

راهنت البنات الحلوات بكل نقود يوم السبت على حصان عجوز، ولكن ضاع كل شيء حينما دقت الساعة المشؤومة.

عندما أعمل أعلق معطفي على مسند الكرسي، وأحمل أحد الكومبيوترات المحمولة، وإحدى السماعات، وأتسلل إلى دورة مياه السيدات، وأغلق على نفسي في المكان المخصص لذوي العاهات، وأضع السماعة في أذني، وأفتح صفحة البحث الخاصة على الشاشة.

في دورة مياه السيدات عام 2016، كان بوي عام 1977 تقريبا، غير واضح، متهكما، رقيقا، من فصيلة الهررة، الجميلة والمؤنثة. وحوله جو مشحون قليلا، وتمثيلي. وكروسبي عام 1977 تقريبا كان كبيرا بالعمر كما نتوقع، والخطوط مرتسمة على وجهه كأنه طوي عدة مرات. وكان تقريبا مهذبا بشكل مبالغ به، وصغيرا على نحو غير متوقع، وصدره نحيف.

نهاية قرن تلتقي مع قرن آخر. هل كان بوي يعرف شخصا تتكرم عليه بقرش؟ هل سمع كروسبي أي شيء عن الأبطال؟.

تبع الواحد الآخر على طول طريق عيد الميلاد الإنكليزي التقليدي، مرورا بشجرة عيد الميلاد حتى البيانو. وتبادلا في الطريق كلاما جاهزا. بوي قال لبينغ إنه يعيش في نهاية الشارع. وأخبره بطرفة عن الطابق الأعلى والأسفل، وقال له إنه غالبا يأتي إلى هنا لاستعمال البيانو حينما يكون سيد البيت غائبا. وتظاهر أنه لا يعرف من هو بينغ. وتظاهرا أنهما يقلبان أوراق نوطة موسيقية على البيانو. واختارا أغنية. وهي "الطبال الصغير".

لاحقا، وعلى ما يظهر، أخبر بوي شخصا يجري معه لقاء، أنه أقام العرض لأن أمه تحب بينغ كروسبي. وحينما وصل إلى الأستوديو، وأخبروه أنه عليه أن يغني "الطبال الصغير"، انسحب بالحال تقريبا. وقال إنه يمقت فعلا تلك الأغنية، ولن يغنيها. ولمنعه من مغادرة الأستوديو، حينها، أضافوا لها عدة سطور جديدة. وحينما عزفوا الإضافة أومأ بالموافقة. ثم تمرنا وسجلا الأغنية كلها بحوالي ساعة من الوقت.

على كل طفل أن يفهم، وأن يهتم، وأن يمنح الإنسان، كل الحب الذي بالإمكان.

مات كروسبي بعد أقل من خمس أسابيع من الحفل. وعرض الاسكتش في عيد الميلاد، عام 1977، هناك في أمريكا، وهنا في المملكة المتحدة.

وأطلقت الأغنية في عيد الميلاد، بتسجيل منفرد، بعد خمس سنوات، عام 1982.

كانت غير متوقعة. وتشبه المستحيل. وتفوقت على نفسها. وأصبحت الأغنية القديمة كأنها جديدة.

نزعت السماعة من أذني. وأعدت الشاشة إلى الصفحة الرئيسية. غادرت مقعد دورة المياه. غسلت يدي. وضعت الكومبيوتر تحت ذراعي وعدت إلى المكتب.

كان الجميع متعبين. وأنا أمر بالطاولات ابتسم معظمهم لي فابتسمت بالمثل.

****

هذه قصة عيد ميلاد، في خاتمة المطاف. ثنائية. وبجزئين، فقرة للصيف وفقرة للشتاء.

هل تصغين لي؟ هل تسمعينني؟.

أحدها عن الدماثة اليائسة. حصان هدية.

وها هي الثانية: كان عيد ميلاد في الجنة. جرس الباب يدق. نظف بينغ كروسبي يديه في الصالة ثم ذهب ليفتح الباب.

كان دافيد كروسبي هناك على العتبة المثلجة وذراعاه ملفوفان حوله مثل كل من يشعر بالبرد، ولكن كان تمثيل الفيلم في أيلول عام 1977. والجو غير بارد على الإطلاق.

هذه كذبة.

هذا تزييف.

هذا تمثيل.

وكلاهما جعلانا ندرك ذلك، وهما يعلمان بالأمر أيضا.

ثم غنى لنا كلاهما أغنية عيد الميلاد.

***

..............................

* آلي سميث Ali Smith روائية إسكوتلاندية تجريبية. من جيل ما بعد الحداثة.

بقلم: دورثي أليسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في نُزْهة في مزرعة خالتي، المرة الوحيدة التي تجمّعت فيها العائلة بأكملها، طاردت أنا وأختي بيلي الدجاج إلى حظيرة المواشي. اندفعت بيلي مباشرةً عبر الباب المفتوح وخرجت منه مجدداً، بينما توقفتُ أنا، مأخوذةً بظلّ يتحرّك فوقي. ابن عمي تومي، ذو الثماني سنوات مثلي تماماً، كان يتأرجح تحت أشعة الشمس بوجهٍ أسودَ كحذائه - الحبل المشدود حول عنقه يمتدّ نحو السقف المشمس للحظيرة، مشهدٌ يخطف الأنفاس ويقشعرّ له الأبدان. ألم يكن يسبقنا في الجري؟ اقترب أحدهم من خلفي. بدأ أحدهم بالصراخ. أمسكتْ بي أمي برأسي وحوّلتْ نظري بعيداً.

أنا وجيسي عشاقتان منذ عام الآن. تحكي لي قصصاً عن طفولتها، عن والدها الذي يذهب يومياً إلى الجامعة، وعن والدتها التي كانت تخيط كل فساتينها، وجدتها التي كانت تفوح منها رائحة خبز الشبت والفانيليا. أنصت إليها وفمي مفتوح، غير مصدّقةٍ لكنني متعطّشة، تتألم روحي للحكاية الخيالية التي تظنّ أنها حياة الجميع.

" وبم كانت تشبه رائحة جدتك؟"

أكذب عليها كما أفعل دائماً، كذبةً مسروقةً من كتاب. "كرائحة الخزامى"، بينما تتقلّب معدتي لذكرى العرق الحامض والنشوق.

أدرك فجأةً أنني لا أعرف حقاً كيف تكون رائحة الخزامى، ويتملّكني خوفٌ للحظة أن تسأل شيئاً آخر، سؤالاً قد يفضحني. لكن جيسي انزلقت لتعانقني، وتضع وجهها على أذني، ، وتهمس:

"كم هو رائع أن تكوني جزءاً من عائلة كبيرة بهذا الشكل."

أعانقها بدوري وأغمض عينيَّ. لا أستطيع النطق بكلمة واحدة.

وُلدتُ بين أبناء وبنات العم الأكبر سنًّا والأصغر سنًّا، في فجوةٍ زمنية بين دفعات الأطفال، ولهذا كنت دائمًا خارج الدائرة، أراقب فقط. ذات مرة، قبل موت تومي بزمن طويل، دُفعتُ إلى خارج المنزل وجلستُ على الدرج بينما كان الجميع واقفًا يُنصت إلى ابنة عمي باربرا.كانت صرخاتها تتصاعد وتنخفض في الجزء الخلفي من البيت. أحضرت ابنة عمي كورا دلاءً مملوءة بخرقٍ دامية لتحرقها. ركض بقيّة أبناء العم للّهو بالشرر أو لنبش النار بعصيّ خشب الدوغوود. أما أنا فجلستُ على الشرفة أؤلف كلمات على وقع الصيحات من حولي. لم أكن أفهم ما الذي يجري.بعض أبناء العم الأكبر سنًّا كانوا يفهمون، ملامحهم الغريبة كانت تتشقق بضحكات أغرب.كنت قد رأيتهم وهم يُساعدونها على صعود السلالم، والدم الكثيف ينهمر على ساقيها.وبعد وقت، صار الدم على الخِرَق خفيفًا، مائيًا، ورديًا تقريبًا.رمت كورا الخِرَق في النار، ووقفت ساكنة وسط الدخان الكريه الرائحة.

قال راندال وهو يمرّ إن هناك طفلًا سيُولد، كبيضة مكسورة تُرمى مع الخِرَق، لكن لم يكن هناك شيء. راقبت المشهد بدقة، ولم أر شيئًا سوى الدم، يتناقص بيأس، والبيت يغرق تدريجيًا في الصمت. ساعات من الصراخ تحولت إلى أنين واهن، مكتوم تحت سحابة الدخان. خرجت خالتي رايلين إلى الشرفة، وكادت تسقط فوقي، لم ترني، لم تر شيئًا. راحت تضرب أحد أعمدة الشرفة بقبضتيها حتى تركت فيه حفراً بحجم المفاصل في الطلاء المتقشر، تضربه كأنه يملك إحساسًا، تسبّه وتسبّ نفسها، وتلعن كل طفل في الفناء، تئن بصوت مرتجف صاعد وهابط: "اللعنة، اللعنة على تلك الفتاة... بلا عقل... اللعنة!"

لديَّ هذه الصور التي أعطتني إياها أمي – مطبوعاتٍ بُنيَّة مُلوَّثة لساحات ترابية عارية، وشُرُفاتٍ من الألواح الخشبية، وصفوفٍ لا تنتهي من الأطفال – أبناء العم، والأعمام، والعمات؛ ألغاز. اللغز هو كم منهم لم يعد أحد يتذكرهم. أعرضهم على جيسي دون أن أذكر من هم، وعندما تضحك على الأسنان المكسورة، والملابس الممزقة، والتراب، أشُدُّ أسناني على ما لا أريد أن أتذكره ولا يمكنني نسيانه. كنا كثيرين لدرجة أننا كنا بلا عدد، ومثل شراغيف الضفادع، إذا اختفى واحد منا بين الحين والآخر، فمن كان ليهتم؟

كانت لديَّ جدةٌ عظيمة من طرف أمي أنجبت إحدى عشرة ابنةً وسبعة أبناء؛ وجدتي أنجبت ستة أبناء وخمس بنات. كلُّ واحدٍ منهم أنجب ستة على الأقل. وبعضهم أنجب تسعة. ستة في ستة، أحد عشر في تسعة. استمروا يتكاثرون كجدول الضرب. ماتوا ولم يُفتقدوا. أنا من عائلة ضخمة ولا أستطيع أن أحكي نصف قصصهم. وبطريقة ما، دائمًا ما بدا الأمر وكأنهم قتلوا أنفسهم: حوادث سيارات، بنادق صيد، حبالٌ متربة، صراخ، سقوط من النوافذ، أشياء بداخلهم. أنا قمة هرم، أنزلق للخلف تحت ثقل الذين جاءوا بعدي، ولا يهم أني مثلية، التي لن تنجب أطفالًا .أحكي القصص فيخرج الأمر مضحكًا. أشرب البوربون وأُجبر نفسي على الإطالة، وأحكي كل تلك القصص القديمة المضحكة. دائمًا ما يبدو أن هناك من تسألني: "مَن كان ذلك؟" أُريهم الصور فتقول:

"ألم تكن هي تلك التي في قصة الجسر؟"

أُخفي الصور، أشرب المزيد، ودائمًا ما يجدها أحدهم، ثم يقول:

"يا للهول! كم كان عددكم بالضبط؟"

لا أجيب.

كانت جيسي تقول: "لديكِ هذا الانجذاب الغريب نحو العنف. لديكِ كل هذه القصص المروعة." قالتها بفمها الناعم، وذقنها الذي لم يُصفع قط، وأنا أحب ذلك الذقن، لكن حين قالت جيسي ذلك، ارتجفت يداي ولم أرغب في شيء بقدر ما رغبتُ في أن أحكي لها قصصًا مروعة. صنعتُ قائمةً وقلتُ لها: تلكَ فقدت عقلها – وضربت أخاها الصغير بقضيب معدني؛ هؤلاء الثلاثة شقّوا أذرعهم، ليس عند المعاصم بل عند العروق الأكبر قرب المرفق؛ أما هي، فقد خنقت الشاب الذي كانت تضاجعُه وأُرسلت إلى السجن؛ وتلكَ شربت الغسول الكاوي وماتت تضحك بلا صوت. في عامٍ واحد، فقدتُ ثمانية من أبناء عمومتي. كان العام الذي هرب فيه الجميع. أربعةٌ اختفوا ولم يُعثَر عليهم أبدًا. واحدٌ سقط في النهر وغرق. وواحدٌ صُدم وهو يطلب توصيلةً شمالًا. وواحدٌ أُطلق عليه الرصاص وهو يعدو عبر الغابة، بينما غريس، الأخيرة، حاولت السير من غرينفيل إلى غرير لسببٍ لا يعرفه أحد. سقطت من الجسر العلوي على بُعد ميلٍ من مستودع سيرز آند روبك، وبقيت هناك تموت من الجوع والحر والعطش.

فيما بعد، وأنا بين النوم واليقظة، وجدتُ يديّ تحت ذقن جيسي. تقلبتُ بعيدًا، لكنني لم أبكِ.أنا بالكاد أسمح لنفسي بالبكاء.

في أغلب الأحيان، كنا نتعرض للاغتصاب، أنا وأبناء عمومتي. وكان ذلك نوعًا من المزحة أيضًا.

'ما هي العذراء في كارولاينا الجنوبية؟'

" فتاة في العاشرة تستطيع الركض بسرعة.'"

لم يكن الأمر مضحكًا بالنسبة لي وأنا في سرير أمي مع زوج أمي؛ ولا لابنة عمي بيلي في العليّة مع عمي؛ ولا لوسيل في الغابة مع ابن عم آخر؛ ولا لداني مع أربعة غرباء في موقف سيارات؛ ولا لـبامي، التي وصلت قصتها إلى الصحف. قرأتْها كورا بصوت عالٍ:

مرارًا وتكرارًا على يد أشخاص مجهولين." وبقوا مجهولين، لأن بامي لم تنطق بكلمة بعد ذلك.ثقوب، وجروح مفتحة، وكدمات، ورضوض. سمعتُ كل الكلمات... كلمات كبيرة، كلمات صغيرة، كلمات مُروعة لدرجة لا تُصدَّق.

"ميتة بفعل فاعل."

والقضيب لا يزال بداخلها...

مقشة المكنسة، وغصن الشجرة، ومسدس الشحوم...

أشياء، أشياء لا تُعقَل...

زجاجات ويسكي، وفتّاحات علب، ومقصات العشب، زجاج، معدن، خضروات...

تقول جيسي:

" لا يُعقل، لا يُعقل. لديكِ موهبة في الكلمات."

أتوسل إليها:

"لا تتحدثي .. لا تتحدثي."

وهذه المرة، احتضنتني بصمتٍ مُبارك.

أخرجتُ الصور، حدّقتُ في الوجوه. أيّها كنتُ؟ أعلم أن الناجين يكرهون أنفسهم، من فرط حبّهم الشديد لأنفسهم، لا يفهمون أبدًا، ويتساءلون دائمًا: "لماذا أنا وليس هي، وليس هو؟" هناك غموضٌ كبيرٌ في الأمر، وقد كرهتُ نفسي بقدر ما أحببتُ الآخرين، وكرهتُ حقيقةَ بقائي. بعد أن نجوتُ، هل يُفترض بي أن أقول شيئًا، أو أفعل شيئًا، أو أكون شيئًا؟

كنتُ أحب ابن خالتي "بوتش". كان له رأسٌ كبيرٌ عجوز، وشعرٌ أشقر خفيف، وعينان واسعتان زائغتان. كل أبناء خالتي كانوا كذلك، لكن رأس بوتش كان الأكبر، وشعره الأبهت. أما أنا، فكنت الوحيدة ذات الشعر الداكن. بدا بقية العائلة كنسخ باهتة من بعضهم، بدرجات مختلفة من الأشقر، لكن لاحقًا تحول شعر الجميع إلى البني أو الأحمر، ولم أعد أبدو مختلفة كثيرًا. لكن بوتش وأنا كنا مميزين – أنا لأني كنت سريعةً وسوداء الشعر، وهو بسبب ذلك الرأس الكبير والأفعال المجنونة التي كان يفعلها.كان بوتش يتسلق خلف شاحنة عمي لوسيوس، يفتح خزان البنزين ويمد رأسه فوقه، يتنشق بعمق، يختنق، يتقيأ، ثم يعاود التنفس. كان الشعور يغوص فيك حتى يُنمّل أصابع قدميك. تسلقتُ خلفه وجربتُ ذلك بنفسي، لكني كنت صغيرةً جدًا على أن أتحمله طويلاً، فسقطت على الأرض بثقل، أشعر بالدوار وأنا أضحك. أما بوتش فكان يستطيع الصمود، يغمس يده في الخزان ويخرج كفًا مجوفًا مليئًا بالبنزين، يستنشق بعمق ويضحك. ثم ينزل بخفة، يتأرجح من مقبض الباب، يترنح وهو يضحك، تفوح منه رائحة البنزين الكريهة.

لكن أحدًا رآه ذات يوم. أحدهم ألقى عود ثقاب.

" سأعلمك الدرس."

وهكذا، بكل بساطة، انتهى قبل أن تفهم.

أستيقظ في الليل وأنا أصرخ: "لا، لا، لن أفعل!"

مياه قذرة ترتفع في مؤخرة حلقي، لغة سائلة من رعبي وغضبي.

"عانقينى. عانقيتى."

تتدحرج جيسي فوقي؛ يداها تمسك بعظام وركي بقوة.

تكرر:

"أحبك. أحبك. أنا هنا"

أحدق في عينيها الداكنتين، حائرة، خائفة.آخذ نفسًا عميقًا، وأرسم ابتسامة باهتة على وجهي.

أضحك، وأتدحرج بعيدًا عنها.

"هل خدعتكِ؟"

تلكمني جيسي بمزاح، وأمسك بيدها في الهواء.

"حبيبتي"،

تهمس، وتلتف حولي، وتغمض عينيها.

أرفع يدي أمام وجهي وأراقب المفاصل، والأظافر وهي ترتعش، وترتعش.

أراقبها لفترة طويلة بينما هي نائمة، دافئة وساكنة بجواري.

فقد جيمس بصره.

أحد الأعمام ألقى الكحول محلي الصنع على وجهه.

تسلقت لوسيل من النافذة الأمامية لمنزل العمة رايلين وقفزت.قالوا إنها قفزت. ولم يقل أحد لماذا.

كان العم ماثيو يضرب الخالة رايلين.تعهد التوأم مارك ولوك بمنعه، جرّاه إلى الفناء ذات مرة، يرميانه بينهما ككيس رخو من الحبوب.صرخ العم ماثيو كخنزير يُساق للذبح.

أدخلت أختاي إلى سقيفة الأدوات لأحفظهما، لكنني بقيت أراقب. خرج الصغير بو مسرعًا من المنزل، قافزًا من الشرفة، مباشرة بين ذراعي والده. بدأ العم ماثيو يلوح به كمنجل، يطارد الولدين الكبيرين، ورأس بو يصطدم بأكتافهما، وأفخاذهما. بعدها، زحف بو في التراب، والدم يسيل من أذنيه ولسانه متدلٍ من فمه، بينما نجح مارك ولوك أخيرًا في إسقاط أبيهما. مر وقت طويل قبل أن أدرك أنهم لم يخبروا أحدًا بما حدث لبو.

حاول راندال أن يعلمني ولوسيل المصارعة.قال:

" ارفعي يديكِ".

كانت ساقاه متباعدتين، وجذعه يهتز لأعلى وأسفل، ورأسه يتحرك باستمرار. ثم لمعت يده تجاه وجهي.رميت بنفسي إلى التراب، وبقيت ساكنة.التفت إلى لوسيل، لم يلاحظ أنني لم أقم.

لكمها وهو يضحك.لفت يديها حول رأسها، وانحنت حتى لامست ركبتاها حلقها. صرخ.

" لا، لا!"

"تحرّكي مثلها".

التفت إليّ:

"تحرّكي".

ركلني.تكومت كالكرة، وتجمدت.

" لا، لا!"

ركلني مرة أخرى.تأوهت، ولم أتحرك.التفت إلى لوسيل.

" أنتِ".

أسنانها كانت تصطك، لكنها بقيت ساكنة، ملفوفة على نفسها كشرائح اللحم المقدد.

صاح.

" تحرّكي!"

لكن لوسيل فقط ضمت رأسها بقوة وبدأت تنتحب. تمتم راندال، وهو يمشى بعيدًا.

"أولاد العاهرة"، لن تنجحا أبدًا في شيء".

وقفنا ببطء، محتارتين، تنظر إحدانا إلى الأخرى. كنا نعرف.إذا قاومت، سيقتلونك.

كانت أختي في السابعة من عمرها. كانت تصرخ. حملها زوج أمي من ذراعها اليسرى، أدارها إلى الأمام والخلف. فانخلع المفصل.تعلقت الذراع بشكل مرتخٍ. واستمرت في الصراخ فحسب. لم أكن أعلم أنه يمكن كسرها بهذه الطريقة.

كنت أجري في الرواق. وكان خلفي مباشرة.

"ماما! ماما!"

أطبقت يده اليسرى - كان أعسراً - على حنجرتي، ودفعتني نحو الحائط، ثم رفعني بهذه الطريقة. ركلت، لكنني لم أستطع الوصول إليه. كان يصرخ، لكن الضجيج في أذني كان شديداً لدرجة أنني لم أسمعه.

"أرجوك يا أبي. أرجوك يا أبي. سأفعل أي شيء، أعدك. أي شيء تريده يا أبي. أرجوك يا أبي."

لم يكن بإمكاني قول ذلك. لم أستطع الكلام بسبب قبضته على حنجرتي، لم أستطع التنفس. استيقظت عندما سقطت على الأرض. نظرت إليه.

"إذا عشت طويلاً بما يكفي، سأقتلك بحق الجحيم."

رفعني من حنجرتي مرة أخرى.

"ما خطبها؟"

"لماذا تلاحقك دوماً؟"

لم يكن أحد يريد إجابات حقاً.

زجاجة فودكا كاملة ستقتلك عندما تكون في التاسعة من عمرك والزجاجة من حجم الكوارت. كان ابن عم ثالث هو من أثبت ذلك. تعلمنا ما يمكن لهذا وأشياء أخرى أن تفعله. كل عام كان هناك شيء جديد.

" أنت تكبرين. فتاتي الكبيرة."

كان هناك مورفين في الخزانة، ودواء باراجوريك لأسنان الطفل، وويسكي، وبيرة، ونبيذ في المنزل. جيني أحضرت إلى البيت مادة إم دي إيه، وبي سي بي، وحمض (إل إس دي)، بينما جلب راندل الحشيش، والسبيد، والميسكالين. كل ذلك كان يُخفف من حدة الأمور، ويقتل الوقت.

كانت السرقة وسيلة لقتل الوقت أيضا. أشياء نحتاجها، وأشياء لا نحتاجها، بدافع التحدي، أو الغضب، أو الحاجة. "أنت تكبر"، كنا نقول لبعضنا. ولكن عاجلاً أم آجلاً، سيقبض علينا جميعاً. ثم جاء دور "متى ستتعلم؟".وعندما نُقبض علينا، تحدث الكوابيس. "يائس مثل الخنزير البري" كان تشخيص الرجل في مزرعة المقاطعة حيث أُرسل مارك ولوك في سن الخامسة عشرة. حلقوا رؤوسهما، وقطّعوا شحمة أذنيهما.

" ما مشكلتك يا فتى؟ ألا تستطيع تحمله؟"

أما جان، فقد أُلقي القبض عليها في السادسة عشرة وأُرسلت دار رعاية الفتيات في مقاطعة جيسوب، حيث تم تبني الطفلة، وقامت بقطع معصميها بزنبرك السرير.

أُلقي القبض على "لو" في السابعة عشرة واحتُجز في مركز الشرطة وسط المدينة، واغتُصبت على أرضية زنزانة الاحتجاز.

"أأنت صبي أم فتاة؟"

"على ركبتيك، يا صغير، هل تستطيع تحمله؟"

أُلقي القبض على "جاك" في الثامنة عشرة وأُرسل إلى السجن، وعاد بعد سبع سنوات بوجه خالٍ من التعبير، لا يفهم شيئًا. تزوج فتاة هادئة من خارج البلدة، ورُزق بثلاثة أطفال في أربع سنوات. ثم عاد جاك إلى المنزل ذات ليلةً من مصنع النسيج حاملاً إحدى تلك المقابض الكبيرة لآلة المغزل عالية السرعة. استخدمها لضربهم جميعًا حتى الموت، ثم عاد إلى العمل في الصباح.

تزوجت ابنة العم ميلفينا في الرابعة عشرة، وأنجبت ثلاثة أطفال في سنتين ونصف، وأخذتهم الرعاية الاجتماعية جميعاً. هربت مع ميكانيكي سيرك، وأنجبت ثلاثة أطفال آخرين قبل أن يتركها من أجل بهلوان دراجات نارية. أخذتهم الرعاية الاجتماعية أيضاً. لكن الطفل التالي كان مصاباً باستسقاء الرأس، طفلاً صغيراً "برأس مائي" تركوه معها، وكذلك الثلاثة الذين تبعوه، حتى ذلك الذي كانت تكرهه بشدة - الذي أنجبته بعد سقوطها من الشرفة ولم تتذكر من أبوه. سألتها:

"كم طفلًا لديكِ؟"

أجابت:

"أتعني الذين عندي، أم الذين كانوا لي؟ أربعة، أو أحد عشر."

****

حاولت عمتي، التي سُميتُ على اسمها، أن تذهب إلى أوكلاهوما. كان ذلك بعد أن فقدت أصغر بناتها وأخبروها أن "بو" لن يصبح أبدًا "طبيعيًا". حزمت البسكويت والدجاج البارد والكوكا كولا؛ والكثير من الملابس الفضفاضة؛ و"كورا" وطفلها الرضيع "ساي"؛ وأصغر أربع بنات. انطلقوا من "جرينفيل" في الظهيرة، على أمل الوصول إلى أوكلاهوما بحلول نهاية الأسبوع، لكنهم لم يصلوا إلا إلى "أوجستا". وهنال انهار الجسر تحتهم. قال عمي.

" قضاءٌ وقدرٌ"

زحفت عمتي و"كورا" إلى خارج النهر، وظهرت اثنتان من البنات بين الأعشاب، تصرخان بصوت عالٍ بما يكفي ليتم العثور عليهما في الظلام. لكن إحدى البنات لم تخرج أبدًا من تلك المياه المظلمة، و"نانسي"، التي كانت تحمل "ساي"، وُجدت ما زالت ملتفة حول الرضيع، في الماء، تحت السيارة. قالت عمتي:

" قضاءٌ وقدرٌ، لدى الرب حس فكاهي لعينٌ جدًا."

أنجبت أختي طفلها في سنة سيئة. قبل ولادته، كنا قد تحدثنا عن الأمر. سألتها:

"هل أنتِ خائفة؟".

أجابت، غير مدركة قصدي، متحدثة بدلًا من ذلك عن الخوف الآخر.

"سيكون بخير .. أليس لدينا تقليدٌ في إنجاب الأطفال غير الشرعيين؟"

كان بخير، طفلٌ صغيرٌ قويٌ قبيحٌ تقليدي بتلك الخصلة البيضاء التي تميز الكثيرين منا. لكن بعد ذلك، جاءت تلك السنة البائسة مع إصابة أختي بالتهاب الجنبة، ثم التهاب المثانة، وبدون عمل، بدون مال، واضطرارنا للعودة إلى المنزل مع زوج أمي قاسي العينين. كنت أعود لرؤيتها، من عند المرأة التي لم أستطع الاعتراف بأني كنت معها، وأحمل ابن أختي الهش للغاية وأضمه، أهزه، وأهز نفسي.

ذات ليلة، عدت إلى المنزل لأسمع صراخًا — الطفل، أختي، لا أحد آخر هناك. كانت واقفة بجانب السرير الصغير، منحنية، تصرخ بوجه أحمر.

"اصمت! اصمت!"

مع كل كلمة، كانت قبضتها تضرب الفراش قرب أذن الطفل.

"لا تفعلي ذلك!"

أمسكت بها، جذبتها للخلف، محاولة أن أفعل ذلك بألطف ما يمكن كي لا أكسر غرز جراحتها. كان ذراعها الآخر مضغوطًا على بطنها ولم تستطع المقاومة أبدًا. استمرت في الصراخ.

"ذلك الوغد الصغير لا يتوقف عن الصراخ. ذلك الوغد الصغير. سأقتله."

ثم استوعبت الكلمات، ونظرت إليّ بينما استمر ابنها في البكاء وركل قدميه. بجانب رأسه، كان الفراش ما زال يحمل أثر قبضتها.

"أوه لا"، أنت، "لم أكن لأصبح هكذا. لقد وعدت نفسي دائمًا."

بدأت تبكي، تمسك ببطنها وتنتحب.

"لسنا مختلفين. لسنا مختلفين."

تلف جيسي ذراعها حول بطني، وتضغط بطنها على ظهري. أسترخي بين ذراعيها.تسألني:

"هل أنت متأكدة أنكِ لا تستطيعين إنجاب الأطفال؟ أود حقًا أن أرى كيف سيكون أطفالك."

أتصلب، وأقول:

" لا أستطيع إنجاب الأطفال. لم أرغب بالأطفال أبدًا."

فتقول:

" مع ذلك، أنتِ جيدة جدًا مع الأطفال، لطيفة جدًا."

أفكر في كل المرات التي انقبضت فيها يداي إلى قبضتين، عندما كدت أفقد السيطرة. أفتح فمي، أغلقه، لا أستطيع الكلام. ماذا يمكنني أن أقول الآن؟ كل المرات التي لم أتكلم فيها من قبل، كل الأشياء التي لم أستطع إخبارها بها، الخجل، وكراهية الذات، والخوف؛ كل ذلك يقف بيننا الآن — جدار لا أستطيع هدمه.

أودُّ أن أستدير وأتحدث معها، وأقول لها... "في رأسي نهرٌ من الغبار، نهرٌ من الأسماء يتكرر بلا نهاية. يتصاعد هذا الماء القذر في داخلي، كل أولئك الأطفال يصرخون بحياتهم في ذاكرتي، فأصبح شخصًا آخر، شخصًا حاولتُ جاهدة ألا أكونه." لكنني لا أقول شيئًا، وأعلم، كما أعلم أنني لن أنجب طفلًا أبدًا، أن صمتي هذا يُديننا، وأنني لا أستطيع الاستمرار في حبك وكرهك بسبب حياتك الخيالية، لعدم سؤالك عما ليس لديك سبب لتتخيله، بسبب تلك البراءة ذات الذقن الناعمة التي أحبها

تضع "جيسي" يديها خلف رقبتي، تبتسم وتقول: "أنتِ تروين أطرف القصص."

(تمت)

***

........................

الكاتبة: دوروثي أليسون / Dorothy Allison (11 أبريل 1949 – 6 نوفمبر 2024) كاتبة أمريكية نسوية ركزت كتاباتها على الصراع الطبقي، والإساءة الجنسية، وإساءة معاملة الأطفال، والنسوية، وقد اشتهرت بروايتها السير ذاتية الأكثر مبيعًا:"ابنة غير شرعية من كارولاينا" (Bastard Out of Carolina.ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان:نفاية (Trash ( وُلدت دوروثي أليسون في الحادي عشر من أبريل عام ١٩٤٩ في غرينفيل، بولاية ساوث كارولينا، لأمٍّ تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، تُدعى روث جيبسون أليسون. عاشت طفولةً صعبةً اتسمت بالفقر والاعتداء الجنسي والجسدي والعاطفي. تخرجت من المدرسة الثانوية، ثم حصلت على درجة البكالوريوس من كلية فلوريدا المشيخية (كلية إيكارد حاليًا) بدعم من منحة الاستحقاق الوطنية. حصلت على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا من المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك.وقصة (نهر الأسماء) المترجمة اليوم هي القصة الأولى من تلك المجموعة نفاية / Trash( الطبعة الثانية 2002 )

بقلم: ليزا ثورنتون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنا نشاهد الشرائح المعروضة على جدار غرفة المعيشة عندما تمطر أو لا يكون هناك شيء جيد على التلفزيون. كان والدي يقلب الصور بإبهامه، ينتقل بجهاز العرض من ذكرى إلى ذكرى. كانت أخت أمي المتوفاة تَظهَر في الصور مع الجميع أمام شجرة الكريسماس الخاصة بجدّيَّ. كان ابن عمي الذي وجدوه مُعلقًا في الكافتيريا واقفًا خلفي، ويداه على كتفي.

كانت اللقطات من كيب تاون مليئة بالرياح والرمال. قصب يهب هنا وهناك خلف والديّ وأختي، عندما كانت رضيعة ولم أكن قد ولدت بعد. كنت أحب أن أنظر إلى عائلتي قبل أن أكون فيها. كنت أحاول أن أتبين: هل كانت أمي متعبة قبل مجيئي؟ هل كان أبي لا يزال شجاعًا آنذاك - هل كان يثق بصوته؟ هل كانت أختي مليئة بعدم الأمان، أم أنني أنا من جلب ذلك لهم؟

ضحكنا على صورة أختي وهي تجلس على البطانية الخضراء التي أحضرها والدي من الجيش. تلك التي كنا نلف بها الدمى ونحن نحملها عبر عواصف خيالية ونهرب من اضطهاد خيالي، ونجلس عليها لمشاهدة الألعاب النارية بجانب البحيرة. شعرتُ بخدشها الصوفي على مؤخرة ساقيّ بينما كانت تومض على الجدار.

امتدت ساقا أختي الصغيرتان أمامها على البطانية، ومفاصل ركبتيها كخرزات بلاستيكية من السبعينيات بألوان الأحمر والأصفر والأزرق الزاهية، وخيوط قبعة الشمس مربوطة بإحكام تحت ذقنها. ارتفعت الكثبان الرملية خلفها. تخيلت أمي منزوية، ذراعها على أهبة الاستعداد في حال بدأت صغيرتها البكر في السقوط

كان أبي يردد في كل مرة تتضح فيها هذه الصورة: "يا إلهي، ها هو ذا" ، "ها هو الرجل تحت البطانية." برز حذاء كونفيرس أسود من القماش الأخضر، تركه أبي بلا شك، وهو يركض نحو الأمواج. كانت الزاوية التي التُقطت بها الصورة تجعل الحذاء يبدو وكأن هناك رجلًا ممددًا تحت الرمل، تحت البطانية، تحت أختي. قدم واحدة فقط ظاهرة. كانت أمي تضحك. "آه، ذلك الذي دفنّاه!" "ذلك الرجل على الشاطئ."

وكانت أختي تبتسم لصورتها العملاقة بخديها الورديين، وكنت أغمض عينيّ نصف إغماضة لأزيد من هذا الشعور: ذلك الذي اجتاحني عندما فكرت في عائلتي تقتل شخصًا على الشاطئ، غريبًا، وتدفنه تحت أختي. تحت بطانيتهم المفروشة. عندما أفكر في عائلتي تضحك على جريمتها بعد سنوات، أمي تقضم حبّات الفشار من أكبر وعاء في البيت، وأبي يقهقه وهو ينتقل إلى الصورة التالية.

(تمت)

***

....................

الكاتبة: ليزا ثورنتون/ Lisa Thornton: كاتبة وممرضة. لها أعمال في مجلات SmokeLong Quarterly وBending Genres وHippocampus وPithead Chapel وغيرها من المجلات الأدبية. رُشِّحت لجائزة باث للقصص القصيرة وجائزة بريدبورت للقصص القصيرة. فازت بجائزة WestWord في فئة القصص القصيرة عام ٢٠٢٣، ورُشِّحت لجائزة Pushcart وجائزة Best of the Net. ليزا خبرة في الصحافة المحلية، وحاصلة على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة ولاية كولورادو، وبكالوريوس في التمريض من جامعة لويزيانا في لافاييت. تعمل كمحررة مساعدة في قسم القصص القصيرة في مجلة JMWW،

 

بقلم: لوسيل كليفتن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

أ لن تحتفلوا معي

بما قمت بتشكليه

كنوع من انواع الحياة؟

لم يكن عندي نموذج أحتذيه.

بعد ان ولدت في بابل

ليس بيضاء وايضا امرأة

ما الذي شاهدته يتكون سوى ذاتي؟

انا الذي خلقتها

هنا فوق هذا الجسر

بين ضوء النجوم والطين،

احدى يديّ تمسك

بالأخرى بقوة؛

تعالوا واحتفلوا معي بأن كل يوم

يحاول شيء ان يقتلني

ويفشل.

***

..........................

* لوسيل كليفتن (1936-2010) شاعرة أميركية من مواليد مدينة نيويورك. يتميز شعرها باحتفائه بالتراث الأميركي الأفريقي، وبتناول قضايا المرأة وحقوقها ومساواتها مع التركيز على الجسد الأنثوي. نشرت أول مجموعة شعرية لها بعنوان (زمن حسن) عام 1969 أدرجتها صحيفة نيويورك تايمز ضمن قائمها لأفضل عشرة كتب لذلك العام. نشرت بعد ذلك مجموعتها الثانية بعنوان (أخبار جيدة عن الأرض) عام 1972 ثم (امرأة عادية) في 1974 توالت بعدها مجاميعها الشعرية التي كان آخرها بعنوان (أصوات) عام 2008 ، فضلا عن تأليفها مجموعات قصصية عديدة وكتبا في أدب الأطفال. حازت كليفتن على جوائز عديدة ورشحت مرتين لنيل جائزة البوليتزر.

قصة: أليسا ناتينج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

النص التالي مأخوذ من مجموعة أليسا ناتينج "وظائف غير نظيفة للنساء والفتيات". تحكي المجموعة قصص 17 امرأة وفتاة منبوذات يعملن في وظائف غريبة منتشرة عبر الزمان والمكان ومستويات مختلفة من الواقع. أليسا ناتينج أستاذة مساعدة في اللغة الإنجليزية بكلية جرينيل. وهي مؤلفة روايتي "تامبا" و"مصنوعة للحب".

***

أفضل صديقاتي، جارلا، عارضة أزياء من مكان ما يشبه السويد؛ عندما يحاول الناس تحديد أصلها، تصرخ فقط: "فودكا!" أو إذا كانت في مزاج أفضل: "فودكا، فهمت؟" مما يوحي بأنها ربما روسية، لكنها في الحقيقة تريد فقط أن تشرب. أينما كانت، تعيش جارلا الآن في فقاعة عالم عارضات الأزياء. أتمنى لو عشت هناك أيضًا، لكن أقرب ما يمكنني الوصول إليه هو التسكع مع جارلا، وهو أشبه بقضاء عطلة في شقة مشتركة في ذلك العالم.

تعرفنا عليها في حفلة في تشيلسي ذهبت إليها بقفزة غير مدروسة. بالتأكيد لم أُدعَ. ذهبت مع صديقة أصيلة إلى حفلة غير ممتعة، ثم غادرت مع صديقتها إلى حفلة أفضل، حيث قابلت غريبة أخذتني إلى حفلة مشتعلة. هناك قبلت المصور الذي اصطحبني إلى حفلة جارلا. لم تكن هي المضيفة، لكنها كانت حاضرة، وأينما تذهب جارلا تصبح الحفلة حفلتها.

أعتقد أن السبب الوحيد الذي جعلني أراها مرة أخرى هو أنني كنت ثملة بما يكفي لأقول لها الحقيقة. كانت تجرب ملابس غريبة — كان هناك رداء يبدو فضائيًا لكنه طبي، مثل الثوب الذي قد ترتديه لإجراء مسحة عنق رحم على المريخ. ثم ارتدت فستانًا مكرمش بطريقة توحي بوجود تورم غريب في جانب رقبتها الأيسر، ثم تمايلت نحوي. كنت أمسك رأسي جيدًا بجوار النافذة، عسى أن ينعشني الهواء بما يكفي لأتمكن من المشي إلى نهاية الغرفة، حيث قد أستعيد وعيي بما يكفي للوصول إلى المرحاض والانبطاح على الأرض. هناك، ربما، قد يتصل بي أحد المعارف عبر ضغط خدي على هاتفي ليرتب لي سيارة ويضمن ألا تنتهي رحلتي الحياتية في هذه الليلة. لكني لم أكن متأكدة، وعندما رأيت جارلا أمسكت رأسي بقوة أكبر، لأنها بدت وكأنها تتجه نحوي لتمزيقه.

قالت:

"أنتِ"

قمت بتهذيب وقفتي كتلميذة مدرسة. تقيأت في فمي لكنني لم أفتح شفتي لأسأكبه على الأرض.

"هل يعجبك هذا؟"

ثم أدت دورًا أنيقًا ومبتكرًا، مستحيل التقليد بالنسبة للحضور، لكنه بالنسبة لها كان مجرد حركة خرجت منها عفوية كريح صغير.

قلت:

"يجعلك تبدين حاملاً في ظهرك"

مستخدمة فم زجاجة الجعة لحك ظهري، حيث تنتفخ خياطة فستانها بلا سبب. عبست وولّت مسرعة. ظننت أنها شعرت بالإهانة حتى عادت تحمل وعاءً مموهاً بمفاتيح سيارات الضيوف.

قالت: "

"استعملي هذا للقيء"

ثم أضافت:

"خُذي الهاتف"

وألقت جهازًا مرصعًا بالكريستال في حقيبتي. أعتقد أنه في تلك اللحظة، ظهر كلبان رماديان كبيران بجانبها كما لو كانا سحرًا، وانطلق الثلاثة نحو المطبخ. قلت لنفسي: "أنتِ تحبين الكلاب ولديكِ ميل لتخيلها"، بينما كنت أتعثر نحو الحمام. نظر الضيوف الراقون برعب بينما أتمسك بالأثاث والنباتات لأثبت خطواتي نحو غرفة صغيرة فيها أرضية باردة وحوض. فكرت: "لماذا دائمًا أكون غريبة الأطوار في الحفلات؟ أنا في الثلاثينيات من عمري، وكان عليّ أن أتعلم على الأقل" كيف أتظاهر؟

المشكلة في حمامات الحفلات أنها لا تبقى حمامات؛ تبدأ كذلك، ثم تتحول إلى غرف تقبيل أو غرف شم كوكايين أو غرف استحمام جماعي. عندما اندفعت إلى الداخل وأنا أمسك بطني، بدا أن ثنائيًا نحيلًا يستخدم الغرفة كـ"غرفة انتظار قبل ممارسة الجنس الفموي المتبادل"، يشربان نبيذًا أحمر قاتم ويجلسان على حافة البانيو، يرسمان بأصابعهما على السيراميك الأبيض. أثار صوت القيء "بررراب" فضولهما. كانا في العشرينيات من العمر، وشعرت بنظراتهما الحقيقية والثاقبة. لم تكن نظرة شفقة بقدر ما كانت فضولًا؛ بدا أنهما يتساءلان كيف يمكن لشخص أن يفقد السيطرة بهذا الشكل. قال الشاب:

"لا أفهم لماذا يستخدم الناس القيء في الفن"

فردت الفتاة:

"لكن الأمر ليس هكذا عندما يفعلون"

أي ليس مثلي، بل مثل جارلا وهي تتقيأ طلاءً ورديًا على تمثال راكون من السيراميك الفيروزي.

تمتمت:

" أحتاج إلى تاكسي "

فتعاطف الشاب لكنه كان حازمًا:

"لن ألمسك."

أكدت:

" لا بالطبع، سأوصل نفسي إلى الباب".

استغرق ذلك وقتًا طويلاً. في لحظة ما تساءلت إن كان عليّ البحث عن جارلا لإعادة الهاتف، لكنني رأيت وميضًا عبر غرفة المعيشة فإذا بها هناك، فلاش الكاميرا يرتد عن فخذها المدهون، وقدمها داخل حوض الأسماك الاستوائي للمضيف. الجميع أرادوا تصوير حذائها الجلدي المربوط وسط المرجان الصناعي: الهواتف المحمولة والكاميرات الاحترافية والأجهزة الرقمية الرقيقة مرفوعة في الهواء. كانت جارلا تقول للجميع: "أسماك مداعبة!" مما أثار ضحكات متتالية من الحضور. لم يكن بإمكاني مناداتها وجذب كل ذلك الانتباه نحو جسدي. بالإضافة إلى أنني لم أكن أرغب حقًا في إعادة الهاتف. هاتف عارضة أزياء! كنت كالفضلات في جوف من ابتلع خاتم خطوبة بالخطأ: رغم أنني لاشيء بذاتي، إلا أنني أحمل الآن شيئًا فريدًا.

سقطت بسهولة على الدرج، وقبل أن أتمكن من النهوض، وقد فاجأني تمامًا، وصل التاكسي. صرخت: "شكرًا!" نحو الثنائي في الحمام، لكنها خرجت كغرغرة، وكانا على الأرجح مشغولين بالاستعداد لاستخدام شبابهما وجمالهما لمنح بعضهما النشوة المتبادلة بلا نهاية فكرت: "لماذا دائمًا أكون غريبة الأطوار في الحفلات؟ أنا في الثلاثينيات من عمري، وكان عليّ أن أتعلم التحمل على الأقل.

احتفظت بالهاتف على مكتبي عدة أيام وأنا أتساءل ماذا أفعل به. كان هناك خطب ما فيه؛ لم يرن. هاتف جارلا كان سيرن، أليس كذلك؟

لم يرن حتى اليوم الرابع. "مرحبًا، وومان." كانت جارلا. بدأت أشرح كيف أنني نويت إعادة الهاتف، وكيف أنني بالتأكيد لم أتصل بمتاجر الرهونات لمعرفة سعره (كذبت!)، لكنها قاطعتي:

"هذا هاتفك، مني. سأتصل بك عليه" .

كان بإمكاني قول الكثير، مثل أن لدي هاتفًا بالفعل، أو أنني خائفة جدًا من أن أُقتل بسبب هذا الهاتف المرصع إن رآني أحد أتحدث به في حيّي، لأنني لست غنية ولا أي من جيراني، لكن كثيرين يحتاجون المال بشدة، والضرورات تبيح المحظورات.

قالت:

"سآخذكِ لعرض أزياء، الليلة السابعة والنصف".

بدافع من كبرياء ما، أردت التأكد أنها لا تقصد أنني سأشارك في العرض، وأن الأمر ليس مزحة حيث يتنافس "الجميلون" على اختيار "القبيحة" الأبشع وتزيينها للفوز.

سألت:

"تقصدين أن أذهب لمشاهدته معكِ؟"

فقالت:

" ها"

ثم بدا وكأنها أشعلت سيجارة أو شيء ما وقالت:

"ها. ها. أعني هذا"

وأخبرتني أين ألقاها.

منذ تلك الليلة، تغيرت حياتي بطرق عديدة. ما زلت لا أحد، إلا عندما أكون مع جارلا، فأصبح "مرافقة جارلا"، هوية جديدة مثيرة تجعل كل شيء تقريبًا ممكنًا، إلا أن أكون جذابة بذاتي. إلا أن أكون مهمة عندما لا أكون معها.

في بار الأكسجين، صفعتني جارلا ثلاث صفعات قوية على خدي. دائمًا ما تتحرر بجرأة جادة في مثل هذه التصرفات. قالت: "سأضعكِ في نعش خاص"، وهي كلمة تدليل منها لكنني لا أعرف معناها بالضبط. أحب أن أعتقد أنها إشارة إلى بياض الثلج، وأنني عزيزة عليها لدرجة أنها تريد حفظ جسدي في صندوق زجاجي بجانب أريكتها، نائمة إلى الأبد. رغم أنه قد يعني أيضًا أنها تريد حبسي في "عذراء حديدية".

تجلس جارلا أمام حاسوب محمول موصول بشاحن شمسي، رغم أن الجو ممطر بالخارج ونحن في غرفة مظلمة. جارلا ليس لديها آراء في الأشياء؛ فهي ليست من النوع المؤيد أو المعارض. الآن، هي ضد الاحتباس الحراري لأنها تعرف أن ذلك مشكلة عصرية. إما أن يكون الشيء مشكلة عصرية أو لا، وإذا كان عصرية فهو لجارلا. قالت:

" الإنترنت لا يعمل."

أشرت:

"شاحن شمسي... لا شمس."

ردت:

"احتباس حراري" .

غالبًا ما تذكر عناوين وسائل الإعلام للمواضيع والأحداث عشوائيًا، مثل "أزمة دارفور"، ثم تشرب وتصمت لساعات.

دخلت النادلة مرتدية رداءً من القنب تحمل خزانَيْن وقناعَي تنفس، وربطت جارلا أولاً. بالقناع، بدت كطيّارة من المستقبل، ربما مولدة بالحاسوب. بشرتها المثالية تشبه شاشة بلازما.

سألت النادلة:

"هل أنتِ من السويد؟"

أجابت جارلا:

" فودكا، تعرفين؟"

وتجهمت عينا النادلة؛ ربما كانت حديثة الحقن بالبوتوكس لأنني رأيت رغبتها في التعبير لكنها فقط رمشت.

قلت:

" هل يمكنها الحصول على كأس فودكا؟"

ذكرت المرأة أن الكحول لا يُستهلك عادة خلال الجلسة. لكنها مع ذلك ذهبت لإحضارها، وعادت بكأس لي أيضاً.

أصبح القناع ثقيلاً بعض الشيء عندما بدأ الأكسجين النقي يضربنا مع الفودكا. أمسكت جارلا بيدي. لا أعرف إن كنت منجذبة إليها أم أنها ببساطة جميلة. أعتقد أنها الأخيرة لأنها لا تتحدث كثيراً، وما تقوله لا يُعقل كثيراً. لكن الناس لا يحتاجون للتكلم أو المنطق ليحبهم الآخرون. انظري إلى الكلاب والأطفال.

صرخت جارلا:

"سحابة فودكا!"

فهمت أنها تريد كأساً آخر لأنني أريده أيضاً، فرفعت إصبعين للنادلة بينما أشير إلى ثلجنا الذائب. بقيت أصابعي على وضعية "السلام". بالقناع، تخيلت أننا في أفعوانية متطرفة تصعد إلى طبقة الستراتوسفير، ونجتاز الكاميرا التي تلتقط صورة نشتريها لاحقاً، وأنا أقول: "هذه أنا وجارلا. سلام."

جعلتني "غريبة أطوار" بشكل مبالغ، أنيقة في الحفلات على الإطلاق. ذات مرة، ألبستني بنطالاً من السلاسل فلم أستطع الحركة، ولا حتى كالروبوت. فحملتني جارلا - بكعوب ستيلتو بارتفاع ست بوصات - وصعدت بي الدرج إلى الحفلة، وأسقطتني بجوار حوض أسماك آخر، إما لأشاهد شيئاً أو لأنها علمت أن جزءاً من جسدها سيدخل الحوض لاحقاً، وأرادتني هناك لأقول: "جارلا يجب أن تذهب الآن" عندما تمل.

لم يكن هناك حديث عن تعييني مساعدتها. ببساطة بدأت أتحدث عندما كان منطقياً، مثل حين سأل المخرج إن كان يمكنه تصوير نفسه وهو يجرح ذراعها قليلاً بسيف كاتانا مصمم، ويَلحس دمها من النصل، فأجابته بصوت خافت: "نعش خاص."

كنت أقول: "علينا المغادرة يا جارلا"، لكنني تعلمت أن "جارلا يجب أن تذهب" أفضل، لأنها تبدو وكأنها لا تملك خياراً.

الليلة، ذهبنا لعرض أزياء آخر. بما أن جارلا عارضة فيه، انتظرت خلف الكواليس على كرسي مكياجها. أكثر من مرة سأل الناس عن سبب وجودي. قلة منهم أرادوني أن أغادر؛ معظمهم كانوا فقط في حيرة.

بعد العرض، ذهبنا إلى منزل عارضة أخرى، حيث شاهدت جارلا تشرب نفسها إلى بحر عميق. تشرب بنظام إيقاعي. يمكنني عد الكؤوس في الساعة، كإيقاع موسيقي، وأعرف بالضبط مدى سكرها في أي لحظة. أما أنا فعلى العكس؛ السكر لديّ ضيف زفاف غامض قد يبكر، وقد يتأخر، أو لا يأتي أبداً.

بحلول الرابعة صباحاً، كانت جارلا مستلقية على منضدة المطبخ. أحدهم نثر حديقة رمل بوذية مصغرة على بطنها، وكان يدور الرمل حول سُرّتها بمشط خيزران صغير. رأسها يتدلى من المنضدة، مقلوب كعلبة حلوى "بِز". اقتربت منها، وكانت بيننا هذه اللحظة السكرى.

"أعلم أنكِ أكثر"، قالت عيناي الثملتان. قالتها بنَفَسٍ متردد، يوحي بأنها استغرقت وقتاً طويلاً لتجرؤ على قول ذلك، دون كلمات مع ذلك.

" نعم"، أجابت عينا جارلا، وككل إجاباتها، كانت لؤلؤة غامضة بدأت في تقييم قيمتها الكاملة على الفور. رفعت رأسها بيديَّ لتستوي مع المنضدة، ممسكة بها. نظرت إليها كجراحة.

قالت جارلا: "نوع من السجق"؛ إنها تحب اللحوم المقددة. للحظة، انتابتني الرغبة في إسقاط رأسها. تذكرت طفولتي على الشاطئ، والأصداف التي كنت ألتقطها ثم أعيدها. دائماً ما بدت أكثر قيمة من بعيد، وهي تحت الماء.

ما زلت أتساءل إن كانت جارلا ستطلب مني ترك وظيفتي كمصححة نصوص والانضمام إليها بدوام كامل في عالم عارضات الأزياء. وكالتها تعاملها بلطف، لكنني أعرف أنها بحاجة إليّ، أو على الأقل يمكنها الاستفادة مني أكثر مما تفعل الآن. وهذا يقودني إلى سؤالين: هل لدى جارلا آخرون مثلي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكم عدد "أنا" الموجودة؟ وهل تحتاج إليّ حقًا؟

الأمر مع جارلا هو أنها دائمًا ستكون بخير. بغض النظر عما يحدث، جارلا ستكون على ما يرام. أنا فقط أسّرع وصول "الما يرام" لها قليلًا، لأضمن حدوثه في الوقت الفعلي.

رغم أن حياتي أصبحت تحوي أشياء رائعة أكثر بكثير منذ تعرفي على جارلا، إلا أنني بدأت أشعر قليلًا بأنها تستغلني. ولا يمكنني إنكار أنني أريد المزيد منها. إنها مادة نادرة، ولو فقط بسبب الدور والسلطة التي تتمتع بهما في مجتمعنا، وليس بسبب أي شيء كامن فيها. المواد النادرة تجعل الناس يشعرون بالأنانية والجشع، وجارلا ليست استثناءً. وأنا أيضًا لست استثناءً.

بدأت أمل قليلًا من هاتف جارلا الخاص بي، لكنه باهظ الثمن وهو الوحيد الذي ستتصل منه بي. تخلصت من هاتفي الآخر ولم يعد لدي سوى الهاتف الذي أعطتني إياه جارلا، ربما لأنني أعرف أنها قصدت أن أستخدمه فقط عندما تتصل هي. وهذا تمرد صغير من جانبي. لكن جارلا لا تلاحظ التمردات، كبيرة كانت أم صغيرة. فهي لا تحتاج إليها.

قررت أن أسألها إن كان بإمكاني أن أصبح مساعدتها بأجر، لأنها على الأرجح لن تقول "نعم" أو "لا"، وسأفسر صمتها كموافقة. على أية حال، بتركي لوظيفتي وقضاء وقت أكثر معها، سأحصل على هدايا إضافية يمكنني بيعها عبر الإنترنت، ومقتنيات جارلا تدرّ عليّ أضعاف ما تدره علي وظيفتي الحالية.

انتهزت الفرصة ونحن في المقعد الخلفي لسيارة في طريقنا إلى جلسة تصوير خاصة لمصمم أزياء. كانت جارلا ممتدة على حجري، وشعرها الأشعث الأشقر يتدلى فوق ركبتي. شعرها أنعم من ساقي بعد الحلاقة.

قلت:

" جارلا، سأترك وظيفتي وأصبح مساعدتك. لا داعي لأن تدفعي لي شيئًا يذكر. فأنا لا أجني الكثير أساسًا."

توقفت للحظة ثم مدّت لي مشطًا ذهبيًا صغيرًا، أفترض أنها تريدني أن أبدأ بتمشيط شعرها. وأفترض أيضًا أن هذا يعني "نعم"، كإيماءة مقايضة. اتصلت برئيسي في العمل على الفور عبر هاتف جارلا، واستقلت بأعلى صوت ممكن دون أن أبدو عدائية، فقط لأحفر هذا الحدث بصورة أعمق قليلًا في ذاكرة جارلا.

سارت جلسة التصوير على ما يرام. بعد ذلك، قدمت لها كؤوسًا من الفودكا المثلجة التي بدت كالماء المنعش، وتطلعنا على الصور الجميلة. وغادرنا بحقائب ضخمة مليئة بملابس باهظة الثمن لم ندفع ثمنها ولم نطلبها.

أشعر بأنني أصبحت أكثر وضوحًا مع كل ثانية. ربما، أفكر، يجب أن أنتقل للعيش في شقة جارلا. بهذه الطريقة سأكون دائمًا هناك لاحتياجاتها، ولن يكون هناك اتصالات هاتفية في منتصف الليل؛ يمكنها ببساطة أن تصرخ أو تهمهم. رغم أنني لم أسمع جارلا تصرخ قط. الجميع بالفعل منتبهون لها.

لكن صباح اليوم التالي، لا ترد جارلا على مكالماتي. ولا تتصل بي.

يستمر هذا لأكثر من أسبوع. أتقمص دور العارضة المتذمرة بحق: لا آكل، أشرب كميات مهولة من الفودكا، أقص شعري بنفسي بمقص كليل في الحمام ثم أندم. وفي الصباح التالي أفكر في الذهاب إلى صالون فاخر لإصلاحه، لكنني لا أملك المال الكافي، خاصة الآن بعد أن أصبحت بلا عمل. لهذا، أحتاج جارلا.

هذا هو جذر ألمي: أقنعت نفسي أنها تحتاجني أنا تحديداً، بينما في الحقيقة، أي شخص يمكنه القيام بما فعلته - ملاحقة شخص فاتن، الحصول على الهدايا، وتسمية الأمور الصادمة بمسمياتها. أي لمسة أناقة أضفتها لهذا الدور؟ بينما أنظر في المرآة إلى قصّة شعري الكارثية، أدرك أن ملابسي الفاخرة الجديدة ما زالت تبدو غريبة الأطوار لأنها لا تناسبني. ولن تناسبني أبداً.

"وكالتها تعاملها بلطف، لكنني أعرف أنها بحاجة إليّ... هل لدى جارلا آخرون مثلي؟ كم نسخة منّي موجودة؟ هل تحتاجني حقاً؟"

عندما يضيء هاتف جارلا أخيراً ويعزف نغمته الاصطناعية، يصبح كصفارة إنذار. أتجمد من الخوف لكن الوحشة واليأس تمزقني. أصرخ:

" أين كنتِ؟ اتفقنا أن أكون مساعدتك! تركتُ عملي! لم أرَكِ منذ عشرة أيام!"

تشرح جارلا.

" رأس فودكا"

أريد التظاهر بأن كل شيء على ما يرام:

"أنا لست مساعدة سيئة... أنا جيدة مما يعني أنني أحتاج أن أكون حيث تكونين، لمساعدتك."

تقول:

" لاحقاً، حفلة"

أسمع صرخات فرح في الخلفية، حِدّتها تُطعنني. أعرف أن هذه الصرخات تعود لأناس عديمي الجدوى، وأكره أنها فضلتهم عليّ. أسأل:

" في أي وقت؟

لكنها أغلقَت الخط بالفعل.

في النهاية ترسل لي عنوان الحفلة. أتوقف في بار قريب لأحتسي بعض المشروبات وحدي أولاً. يتشربني السُخط أمام الكأس في مكان عام. كيف سمحت لنفسي بالانكشاف هكذا؟ قبل جارلا، كنتُ حصنًا منيعًا. كنتُ سأراها قادمة من بعيد. حياة ما قبل جارلا تبدو فجأة شيئاً رائعاً؛ لم أكن أعرف حتى ما كنتُ أفتقده.

عندما أغادر البار وأرفع بصري نحو الشرفة حيث الحفلة، أراها فعلاً. أشعر بأنني متطفلة لكني أظل واقفةً أراقب، حتى يبدو كلانا غريباً عن الآخر. حتى من هذه المسافة وتحت أضواء الديسكو، يبقى هيكلها العظمي المبهر واضحاً.بالمقارنة بها، أنا مثل شطيرة. كائن غير بشري وغير ضار. أحاول تذكر شطيرة أكلتها في الصف الرابع ولا أستطيع. لا أتذكر حتى واحدة من شهر مضى. جميعنا يجب أن نكون مثل شطائر الصف الرابع بالنسبة لها.

لا أدرك أن هذه هي نفس الشقة التي التقينا فيها لأول مرة إلا بعد دخولي إلى السوييت والتجول فيها. يجفف هذا يديّ وقدمي بسرعة؛ الخط المستقيم يتحول إلى دائرة.

مع تقدم الليل، أشعر أنني أعود بالزمن إلى الوراء. عندما أدخل، تحتضنني جارلا وتقبّل خدي، لكنني أريد تعويضًا. تركتُ عملي وعشتُ أسبوعًا من الجحيم، وهي لن تعيد إلى حياتي بمجرد ابتسامة عابرة أو عبوس. ربما أكون قابلة للاستبدال، لكن ليس عليّ أن أكون سعيدة بذلك.

أعود إلى مقعدي القديم بجوار النافذة وأبدأ بالشرب بشراهة. تتغير الأضواء بألوان توحي بأنني أتحرك بسرعة كبيرة، وهذه بالضبط السرعة التي أريدها. إنه اندفاع كالقفز بالمظلة. أطلِق إلى جارلا نظرات عبوس تقول: "انظري، أنا لا أتمسك بأي شيء. أنا في سقوط حر." إنها تفرك قطع الشوكولاتة على شفتيها كمرطب، بينما يجذبها الرجال إلى جانبها كالمغناطيس. وجه جارلا هو جهاز طرد مركزي يفصل الواثقين عن الضعفاء والغيورين، وقد تم طردي إلى الخارج.

أتعثر نحو الحمام، أخرج هاتف جارلا المرصع. جزء مني يريد رميه في المرحاض، أو على الأقل اختبار ما إذا كان سينزلق من فتحة القاع. أريد التقيؤ عليه لكنه لامع جداً، مع كريستالاته المتلألئة ورؤيتي الثملة المشوشة، فلا أصيب الهدف. بدلاً من ذلك، يسقط القيء في الماء ويهوي الهاتف على الأرض. عندما أنهي وألصق خدي بالأرض، يبدو الهاتف كنزاً خلف مكبس المرحاض. أمسكه وأفتحه، أطرق عليه عشوائياً، آملاً أن يتصل بصديق سيأتي لإنقاذي.

لكنه هاتف جارلا، لذا يتصل بها. أغلق الخط، لكن بعد دقائق تقف فوقي بوضعية أمازونية، ساق على كل جانب من جسدي. "سأضعكِ في نعش صغير"، تقول بينما تلف ورق التواليت وتضربه على خديّ الرطب.

"أتمنى لو فعلتِ."

لم تُعجبها شفقتي على نفسي. أشاهدها وهي ترمي كأس المارتيني من النافذة إلى الباحة، حيث ينكسر.

"اذهبي إلى المنزل واستريحي يا دكتورة التلفاز."

بعد مغادرتها، يدخل حارس شخصي ويحملني بنظرة ممتعضة، كأنه يُفرّغ وعاءً ممتلئًا بالبول. يساعدني في دخول التاكسي، وأنا أغادر، أرى خيوط أضواء جارلا الملونة تلمع في الباحة بالطابق العلوي.

أتحقق من حقيبتي في ذعر لأتأكد من وجوده: هاتف جارلا، الجوهرة. الكنز الملعون الذي جلب المصائب مع الثروة. يتلألأ في حجري، جميل أكثر من أن يُوثَق به. يقترب التاكسي من شقتي، وأشعر برغبة في ترك الهاتف خلفي على المقعد ليجده شخص آخر. لكنني لن أفعل. بدلاً من ذلك، سأذهب للمنزل وأنتظر اتصالها لتحولني إلى شيء مميز طالما أرادت، وهذه المرة لن أنسى أن أكون ممتنة.

(تمت)

***

........................

الكاتبة: أليسا ناتينج / Alissa Nutting (مواليد 1980) كاتبة أمريكية وأستاذة للكتابة الإبداعية وكاتبة سيناريو تلفزيوني. حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة فلوريدا وماجستير الفنون الجميلة من جامعة ألاباما. خلال وجودها في جامعة ألاباما، شغلت منصب محررة في "بلاك واريور ريفيو". درّست ناتينج الكتابة الإبداعية في جامعة جون كارول وجامعة نيفادا، لاس فيغاس وكلية جرينيل. نُشرت كتاباتها في مجلات "تين هاوس" و"فينس" و"بومب" ومجموعة الحكايات الخيالية "أمي قتلتني، أبي أكلني".

 

تاليف: فرجينيا وولف

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل حوالي خمسين عامًا، كانت السيدة غيج، أرملة مسنة، تجلس في كوخها في قرية تدعى سبيلزبي في يوركشاير. على الرغم من كونها عرجاء وضعيفة البصر، كانت تبذل جهدها لإصلاح زوج من الأحذية الخشبية، إذ لم يكن لديها سوى بضعة شلنات تعيش عليها أسبوعيًا. وبينما كانت تدق على الحذاء، فتح الباب ساعي البريد وألقى بريدًا في حجرها. كان الخطاب موجهًا إلى: "السادة ستاغ وبيتل، 67 الشارع الرئيسي، لويز، ساسكس."

فتحته السيدة غيج وقرأت:

"عزيزتي السيدة، نكرمك بإبلاغك بوفاة أخيك السيد جوزيف براند."

قالت السيدة غيج: "يا للهول! أخي جوزيف العجوز رحل أخيرًا!"

وتابع الخطاب: "لقد ترك لك كل ممتلكاته، والتي تشمل منزل سكنى، وإسطبل، وأكواخ الخيار، وآلات تقطيع، وعربات يدوية، وما إلى ذلك في قرية رودميل، قرب لويس. كما أوصى لك بكامل ثروته؛ أي: 3000 جنيه إسترليني.

كادت السيدة غيج أن تقع في النار من شدة الفرح. لم تَرَ أخاها منذ سنوات طويلة، وبما أنه لم يرد حتى على بطاقات عيد الميلاد التي كانت ترسلها له كل عام، ظنت أن عاداته البخيلة، التي عرفتها منذ الطفولة، جعلته يبخل حتى بطابع رد عليها. لكن الآن، تحول كل شيء لصالحها. بثلاثة آلاف جنيه، ناهيك عن المنزل وما إلى ذلك، يمكنها وعائلتها العيش في رفاهية إلى الأبد.

قررت زيارة رودميل فورًا. أقرضها قس القرية، القس صموئيل تالبويز، جنيهين وعشرة جنيهات إسترلينية لدفع أجرة سفرها، وفي اليوم التالي اكتملت جميع الاستعدادات لرحلتها. كان أهمها رعاية كلبها شاج أثناء غيابها، فرغم فقرها، كانت مولعة بالحيوانات،وغالبًا ما كانت تقتطع من طعامها كي لا تحرم كلبها من عظمه.

وصلت إلى لويز في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء. في تلك الأيام، يجب أن أخبرك، لم يكن هناك جسر فوق النهر في ساوثيز، ولم يكن الطريق إلى نيوهيفن قد شُق بعد. للوصول إلى رودميل، كان يجب عبور نهر أوز عبر مخاضة، لا تزال آثارها موجودة، لكن هذا كان ممكنًا فقط عند انخفاض المد، عندما تظهر الحجارة في قاع النهر فوق الماء. كان المزارع السيد ستيسي متجهًا إلى رودميل بعربته، وعرض عليها أن يأخذها معه. وصلا إلى رودميل حوالي التاسعة مساءً في ليلة نوفمبر، وأشار السيد ستيسي بلطف إلى المنزل في نهاية القرية الذي تركه لها أخوها.

طرقت السيدة غيج الباب. لم يجب أحد. طرقت مرة أخرى. صرخ صوت غريب جدًا وعالٍ: "ليس في المنزل!" اندهشت لدرجة أنها لو لم تسمع خطوات قادمة لفرت هاربة. ومع ذلك، فتحت الباب امرأة عجوز من القرية تدعى السيدة فورد.

سألت السيدة غيج:

"من الذي صرخ 'ليس في المنزل'؟"

أجابت السيدة فورد بضيق، مشيرة إلى ببغاء رمادي كبير:

"اللعنة على هذا الطائر! يكاد يصم أذني بصراخه. يجلس طوال اليوم منحنيًا على مجثمه مثل تمثال يصرخ 'ليس في المنزل' كلما اقتربت منه."

كان طائرًا جميلًا، كما رأت السيدة غيج، لكن ريشه كان مهملًا. قالت:

"ربما يكون حزينًا، أو جائعًا."

لكن السيدة فورد قالت إنه مجرد طباع سيئة؛ فهو ببغاء بحار تعلم لغته في الشرق. ومع ذلك، أضافت أن السيد جوزيف كان شديد التعلق به، وأطلق عليه اسم جيمس، ويُقال إنه كان يتحدث معه كما لو كان عاقلًا.

سرعان ما غادرت السيدة فورد. على الفور، ذهبت السيدة غيج إلى حقيبتها وأحضرت بعض السكر الذي كان معها وقدمته للببغاء، قائلة بألطف نبرة أنها لا تقصده بأذى، بل هي أخت سيده القديم، جاءت لتمتلك المنزل، وسوف تتأكد من أنه سعيد قدر الإمكان. ثم أخذت فانوسًا وتجولت في المنزل لترى نوع الممتلكات التي تركها لها شقيقها.

كانت خيبة أمل مريرة. كانت هناك ثقوب في جميع السجاد. سقطت قيعان الكراسي. ركضت الفئران على طول رف الموقد. كانت هناك فطريات كبيرة تنمو في أرضية المطبخ. لم يكن هناك قطعة أثاث بقيمة سبعة بنسات ونصف بنس؛ ولم تفرح السيدة غيج إلا بالتفكير في الثلاثة آلاف جنيه إسترليني الموجودة بأمان في بنك لويز.

قررت أن تتوجه إلى لويز في اليوم التالي للمطالبة بمالها من المحاميين ستاج وبيتل، ثم تعود إلى منزلها بأسرع ما يمكن. عرض عليها السيد ستيسي، الذي كان ذاهبًا إلى السوق ببعض الخنازير من سلالة بيركشاير الجيدة، أن يأخذها معه مرة أخرى، وحكى لها قصصًا مرعبة عن شباب غرقوا أثناء محاولتهم عبور النهر عند المد العالي.في مكتب السيد ستاج، كانت خيبة أمل كبيرة تنتظر المرأة المسكينة. قال لها بجدية:

"تفضلي بالجلوس، سيدتي. الحقيقة هي أنه يجب عليك الاستعداد لسماع أخبار غير سارة للغاية. منذ أن كتبت إليك، راجعت أوراق السيد براند بعناية. أأسف لأنني لم أجد أي أثر للثلاثة آلاف جنيه. ذهب شريكي، السيد بيتل، بنفسه إلى رودميل وفتش المكان بدقة. لم يجد شيئًا على الإطلاق – لا ذهبًا ولا فضة ولا أي أشياء ثمينة – باستثناء ببغاء رمادي جميل أنصحكِ ببيعه بأي ثمن. لغته، كما قال بنجامين بيتل، شديدة الوقاحة. لكن هذا ليس مهمًا الآن. أخشى أن رحلتك كانت دون جدوى. العقار متداعٍ، وبالطبع نفقاتنا كبيرة."

هنا توقف، وعرفت السيدة غيج أنه يريدها أن تغادر.

كانت على وشك الجنون من خيبة الأمل. لم تكن قد اقترضت جنيهين وعشرة شلنات من من القس صموئيل تالبويز فحسب، بل ستعود إلى منزلها خالية الوفاض،  إذ ستضطر لبيع الببغاء جيمس لدفع أجرتها. كان المطر يهطل بشدة، ومع ذلك يضغط عليها السيد ستاج للبقاء، وكانت غارقة في الحزن لدرجة أنها لم تهتم بما تفعله. على الرغم من المطر، بدأت تمشي عائدة إلى رودميل عبر الحقول.

كانت السيدة غيج، كما ذكرتُ سابقًا، تعاني من عرج في ساقها اليمنى. في أفضل الأوقات، كانت تمشي ببطء، والآن، مع خيبة أملها والوحل على الضفة، كان تقدمها بطيئًا للغاية. بينما كانت تسير ببطء، أظلم النهار أكثر فأكثر، حتى بالكاد استطاعت البقاء على الطريق المرتفع بجانب النهر لعلك سمعتها تتذمر وهي تمشي، وتشكو من أخيها الماكر جوزيف، الذي سبب لها كل هذا العناء. قالت: «أرسلني في مهمة خاصة فقط ليضايقني، كان دائمًا طفلًا قاسيًا عندما كنا صغارًا. كان يستمتع بتعذيب الحشرات المسكينة، وقد رأيته بعيني يقص شعيرات يرقة بشعة بالمقص أمامي مباشرة. وكان بخيلًا لدرجة لا تُحتمل. كان يخفي مصروفه في شجرة، وإذا قدّم له أحدهم قطعة كعك مغطاة بالسكر في الشاي، كان يقطع الجزء المسكّر ويحتفظ به لعَشاءه. لا أشك لحظة في أنه الآن يتلظى في نار جهنم، ولكن ما الفائدة من ذلك بالنسبة لي؟»

وبالفعل، لم يكن هناك عزاء يذكر، إذ اصطدمت فجأة ببقرة كبيرة كانت تسير على الضفة،   وسقطت في الوحل.

نهضت بقدر ما تستطيع وواصلت السير. شعرت كما لو أنها تمشي منذ ساعات. كان الظلام الآن دامسًا، وبالكاد تستطيع رؤية يدها أمام أنفها. فجأة تذكرت كلمات المزارع ستيسي عن المخاضة. قالت: " يا إلهي، كيف سأجد طريقي للعبور؟ إذا عاد المد، فسأدخل في مياه عميقة وأُجرف إلى البحر في لمح البصر! غرق الكثيرون هنا؛ ناهيك عن الخيول والعربات وقطعان الماشية وأكوام القش."

في الواقع، مع الظلام والوحل، وجدت نفسها في مأزق صعب. بالكاد كانت ترى النهر نفسه، ناهيك عن معرفة ما إذا كانت وصلت إلى المخاضة أم لا. لم تكن هناك أضواء مرئية في أي مكان، لأنه، كما قد تعلم، لا يوجد منزل أو كوخ على ذلك الجانب من النهر أقرب من "آشام هاوس"، مقر السيد ليونارد وولف سابقًا. بدا أنه ليس لديها خيار سوى الجلوس وانتظار الصباح. لكن في عمرها، ومع الروماتيزم في جسدها، قد تموت من البرد القارس. ومن ناحية أخرى، إذا حاولت عبور النهر، فمن شبه المؤكد أنها ستغرق.كانت في حالةٍ من البؤس لدرجة أنها لَتَتمنى لو أصبحت بقرةً في الحقل! لم يكن في مقاطعة ساسكس كلها عجوزٌ أكثر بؤسًا منها؛ واقفةً على ضفة النهر، لا تدري أيَخيرٌ تختار: أن تجلس، أم تسبح، أم تتقلب في العشب المبتلّ وتنام – أو تتجمد حتى الموت – فليكن ما قدّر القدر!

في تلك اللحظة، حدث شيء عجيب. انطلقت في السماء كتلة ضخمة من النور، كشعلة هائلة، أضاءت كل عشبة، وكشفت لها عن المخاضة التي لم تكن تبعد عنها أكثر من عشرين ياردة. كان المد منخفضًا، وكان العبور سيكون سهلاً لو لم ينطفئ الضوء قبل أن تعبر.

قالت وهي تتعثر عبر الطريق:

"لا بد أن هذا مذنب أو شيء غريب من هذا القبيل!"

استطاعت أن ترى قرية رودميل بوضوحٍ أمامها.. صاحت:

"يا ربنا! هناك منزل يحترق – الحمد لله!"

فقد حسبت أن احتراق المنزل سيستغرق دقائق على الأقل، وفي ذلك الوقت ستكون قد وصلت إلى القرية.قالت وهي تسير ببطء على الطريق الروماني:

"حتى الريح العاصفة تنفع بعض الناس."

وبالفعل، كانت ترى كل شبر من الطريق، وكانت على وشك الوصول إلى شارع القرية عندما خطر لها لأول مرة: "ربما يكون منزلي أنا هو الذي يحترق أمام عيناي!"وكان حدسها صحيحًا تمامًا.طفل صغير يرتدي بيجامة نوم قفز نحوها صارخًا:

"تعالي وانظري إلى منزل جوزيف براند العجوز يحترق!"

كان كل القرويين واقفين في حلقة حول المنزل، يمررون دلاء الماء المملوءة من بئر مطبخ "منزل الرهبان"، ويرمونها على النيران. لكن النار كانت قد اشتدت، وفي اللحظة التي وصلت فيها السيدة غيج، سقط السقف.

صاحت:

"هل أنقذ أحد الببغاء؟"

قال القس جيمس هوكسفورد:

"كوني ممتنة أنكِ لستِ داخل المنزل، سيدتي. لا تقلقي على المخلوقات البكماء. لا أشك أن الببغاء قد اختنق برحمة على مجثمه."

لكن السيدة غيج كانت مصممة على أن تتأكد بنفسها. اضطر القرويون إلى منعها، وقالوا إنها لا بد أن تكون قد جنَّت لتعرض حياتها للخطر من أجل طائر.

قالت السيدة فورد:

"المسكينة العجوز، لقد فقدت كل ممتلكاتها، ما عدا صندوقًا خشبيًا قديمًا به ملابس نومها. لا شك أننا كنا سنصاب بالجنون لو كنا في مكانها."

وهكذا، أخذت السيدة فورد بيد السيدة غيج وأخذتها إلى كوخها، حيث ستبيت الليلة. وقد انطفأت النيران، وذهب الجميع إلى منازلهم ليناموا.

لكن السيدة غيج المسكينة لم تستطع النوم. ظلت تتقلب في فراشها، تفكر في حالتها البائسة، وتتساءل كيف ستعود إلى يوركشاير وتسدد للقس صموئيل تولبويز المال الذي تدين به. وفي الوقت نفسه، كانت أكثر حزنًا على مصير الببغاء جيمس. فقد أعجبت بالطائر، وظنت أنه لا بد أن يكون لديه قلب حنون ليكون حزينًا إلى هذا الحد على وفاة جوزيف براند العجوز، الذي لم يفعل معروفًا لأحد في حياته. لقد كان موتًا فظيعًا لطائر بريء، فكرت؛ ولو أنها وصلت في الوقت المناسب، لخاطرت بحياتها لإنقاذه

كانت مستلقية على السرير تفكر في هذه الأمور، عندما فاجأها صوت طرق خفيف على النافذة. تكررت الطرقة ثلاث مرات. نهضت السيدة غيج من سريرها بأسرع ما يمكن وتوجهت إلى النافذة. هناك، ولدهشتها البالغة، كان هناك ببغاء ضخم يجلس على حافة النافذة.

كان المطر قد توقف، وكانت ليلة مقمرة جميلة. شعرت بالذعر في البداية، لكنها سرعان ما تعرفت على الببغاء الرمادي، جيمس، وغمرتها السعادة بنجاته. فتحت النافذة، وداعبت رأسه عدة مرات، وأمرته أن يدخل. لكن الببغاء رد بهز رأسه بلطف من جانب إلى آخر، ثم طار إلى الأرض، ومشى بضع خطوات، والتفت كما لو كان يتأكد من أن السيدة غيج ستتبعه، ثم عاد إلى حافة النافذة حيث كانت تقف مذهولة.

قالت لنفسها: "هذا المخلوق يفهم أكثر مما نعرف." ثم قالت بصوت عالٍ، وكأنها تخاطب إنسانًا:

"حسنًا يا جيمس، سأتبع إرشادك. فقط انتظر لحظة حتى أرتدي شيئًا مناسبًا."

وهكذا، ربطت مئزرًا كبيرًا، ونزلت بهدوء على أطراف أصابعها، وخرجت دون أن توقظ السيدة فورد.

كان الببغاء جيمس راضيًا تمامًا. بدأ يقفز بضع ياردات أمامها في اتجاه المنزل المحترق. تبعته السيدة غيج بأسرع ما تستطيع. قفز الببغاء، وكأنه يعرف طريقه تمامًا، إلى الجزء الخلفي من المنزل، حيث كانت المطبخ في الأصل. لم يبقَ منه الآن سوى الأرضية من الطوب، التي كانت لا تزال تقطر بالماء الذي أُلقِيَ لإخماد الحريق.

وقفت السيدة غيج مذهولة بينما كان جيمس يقفز هنا وهناك، ينقر بمنقاره، كما لو كان يختبر الطوب. كان منظرًا غريبًا، ولولا أن السيدة غيج اعتادت العيش مع الحيوانات، لربما فقدت صوابها وهربت عائدة إلى المنزل.

لكن أغرب الأشياء لم تحدث بعد. طوال هذا الوقت، لم ينطق الببغاء بكلمة واحدة. فجأة، دخل في حالة من الإثارة الشديدة، رفرف بجناحيه، ونقر الأرض بمنقاره مرارًا، وصاح بصوت حاد: "ليس في المنزل! ليس في المنزل!" لدرجة أن السيدة غيج خافت أن يستيقظ كل سكان القرية.

قالت وهي تهدئه: "لا تبالغ يا جيمس، ستؤذي نفسك." لكنه كرر هجومه على الطوب بعنف أكبر من قبل.

قالت السيدة غيج وهي تفحص أرضية المطبخ بعناية:

"ما الذي يمكن أن يعنيه هذا؟"

كان ضوء القمر ساطعًا بما يكفي ليريها عدم انتظام بسيط في وضع الطوب، كما لو أنه نُزِع ثم أُعيد وضعه بشكل غير مستوٍ. كانت قد ثبتت مئزرها بدبوس أمان كبير، فاستخدمته لتحريك الطوب، ووجدت أنه كان مرصوصًا بشكل غير محكم. سرعان ما رفعت أحد القوالب  بيديها.

ما إن فعلت ذلك حتى قفز الببغاء إلى الطوبة المجاورة، ونقرها بمنقاره بذكاء، وصاح: "ليس في المنزل!" مما فهمت السيدة غيج أنه يأمرها بنزعها أيضًا. وهكذا، استمرا في نزع الطوب تحت ضوء القمر، حتى كشفا مساحة طولها ستة أقدام وعرضها أربعة أقدام ونصف.

بدا أن الببغاء يعتقد أن هذا يكفي. لكن ماذا بعد؟

استراحت السيدة غيج، وعقدت العزم على أن تتبع سلوك الببغاء جيمس تمامًا. لكنها لم تُترك لترتاح طويلاً. بعد أن خدش الأرض الرملية لبضع دقائق – كما تخدش الدجاجة الأرض بمخالبها – كشف عن شيء بدا في البداية ككتلة صفراء مستديرة.

أصبح الببغاء في غاية الإثارة، لدرجة أن السيدة غيج ساعدته. ولسوءتها، وجدت أن المساحة التي كشفوها كانت مليئة بلفائف طويلة من هذه الحجارة الصفراء المستديرة، مرصوصة بانتظام لدرجة أن تحريكها كان مهمة صعبة. لكن ما هذه؟ ولماذا خُبئت هنا؟ لم يعرفا الحقيقة إلا بعد أن نزعا الطبقة العليا بأكملها، ثم وجدا تحتها قطعة من القماش المشمع. عندها ظهر أمام أعينهما منظر معجز – آلاف الجنيهات الذهبية الجديدة اللامعة، مصفوفة في صفوف متتالية، تلمع تحت ضوء القمر!

كان هذا، إذن، مكان اختباء البخيل؛ وقد تأكد من أن لا يكتشفه أحد من خلال اتخاذ احتياطين استثنائيين: أولا بنى موقدًا فوق المكان الذي خبأ فيه كنزه، بحيث لا يمكن لأحد أن يخمن وجوده إلا إذا دمر الحريق الموقد.وثانيا غطى الطبقة العليا من الجنيهات بمادة لزجة، ثم لفها بالتراب، بحيث لو كُشِفَت واحدة بالصدفة، لظنها أي شخص حصاة عادية.وهكذا، لم يُكتَشَف خداع جوزيف العجوز إلا بفضل المصادفة الغريبة – الحريق وذكاء الببغاء.

عملت السيدة غيج والببغاء بجد، ونقلا الكنز كله – الذي كان ثلاثة آلاف جنيه بالضبط – إلى مئزرها المفروش على الأرض. وعندما وُضِعَت القطعة الأخيرة، طار الببغاء في الهواء منتصرًا، وحط برفق على رأس السيدة غيج. وهكذا عادا إلى كوخ السيدة فورد، بخطى بطيئة جدًا، لأن السيدة غيج عرجاء، كما قلت من قبل، والآن كان مئزرها مثقلاً بالذهب. لكنها وصلت إلى غرفتها دون أن يعلم أحد بزيارتها للمنزل المحترق.

في اليوم التالي، عادت إلى يوركشاير. قام السيد ستيسي مرة أخرى باصطحابها إلى لويز، وكان مندهشًا بعض الشيء من ثقل الصندوق الخشبي للسيدة غيج. لكنه كان رجلاً هادئًا، فخلص إلى أن أهل رودميل الطيبين أعطوها بعض الأشياء المتفرقة لمواساتها في خسارتها الفادحة لجميع ممتلكاتها في الحريق.بدافع من طيبة قلبه،عرض السيد ستيسي شراء الببغاء منها بنصف كراون؛ لكن السيدة غيج رفضت بعنف، قائلة إنها لن تبيع الطائر حتى لو عُرض عليها كل ثروات الهند. مما جعله يستنتج أن العجوز قد فقدت صوابها من شدة ما مرّت به من مصائب.

كل ما تبقى قوله هو أن السيدة غيج عادت إلى سبيلسبي بسلام، وأخذت صندوقها الأسود إلى البنك، وعاشت مع الببغاء جيمس وكلبها شاج في راحة وسعادة حتى سن متقدمة.

لم تُخبر رجل الدين (ابن القس صموئيل تولبويز) بالقصة كاملة إلا وهي على فراش الموت، مضيفة أنها متأكدة أن الببغاء جيمس هو الذي أشعل النار في المنزل عمدًا، الذي أدرك الخطر الذي يتهددها على ضفة النهر، فطار إلى المطبخ وقلب موقد الزيت الذي كان يُبقي بعض الفتات دافئًا لعشائها.   بهذا الفعل، لم ينقذها من الغرق فحسب، بل كشف عن الثلاثة آلاف جنيه، التي لم يكن من الممكن العثور عليها بأي طريقة أخرى. قالت:

" إن هذا هو جزاء الإحسان إلى الحيوانات."

ظنّ القسّ أن عقلها قد بدأ يذهب. ولكن المؤكد أنه في اللحظة ذاتها التي فارقت فيها أنفاسها الحياة، صرخ الببغاء جيمس بصوت عالٍ: «ليس في المنزل! ليس في المنزل!» وسقط عن مجثمه ميتًا كالحجر. أما الكلب شاغ، فقد مات قبل ذلك بعدّة سنوات.

يمكن لزوار رودميل اليوم أن يروا أنقاض المنزل الذي احترق قبل خمسين عامًا.

ويقول البعض إنك إذا زرته في ضوء القمر، قد تسمع ببغاءً ينقر بمنقاره على المصنوعة من الطوب، بينما رأى آخرون امرأة عجوز تجلس هناك مرتدية مئزرًا أبيض.

(تمت)

***

...................

المؤلفة: أديلاين فرجينيا وولف (25 يناير 1882 - 28 مارس 1941) كاتبة إنجليزية، تُعدّ فرجينيا وولف من أبرز كُتّاب الحداثة وأكثرهم غزارة في الإنتاج، حيث كتبت تسع روايات، ومسرحية واحدة، وأكثر من خمسة مجلدات من المقالات والبورتريهات والمذكرات والمراجعات، وأكثر من أربعة عشر مجلدًا من اليوميات والرسائل، وستًا وأربعين قصة قصيرة. طوّرت وولف في رواياتها أسلوبًا في الكتابة يُتيح للقارئ التفاعل مع بنية الرواية ومحتواها. منذ اللحظة التي بدأت فيها الكتابة، وضعت وولف خطةً لمسيرتها الأدبية: إعادة صياغة الرواية كما كانت تُعرف آنذاك. وتُعدّ كل رواية من رواياتها شاهدًا على التطور الواعي لفرجينيا وولف ككاتبة تجريبية. اشتهرت بتطوير تقنية "تيار الوعي" في السرد الأدبي، والتي غيّرت شكل الرواية الحديثة. . من أبرز أعمالها الروائية:  السيدة دالواي (1925) و إلى المنارة (1927و أورلاندو (1928) وغرفة تخص المرء وحده (1929) .

 

بقلم: أليكسيس ستراتون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

- هل لديكِ حبيب؟

كان هذا من أول الأسئلة التي طرحها عليّ طالباتي عندما وقفت أمام صفهم في اليوم الأول من العام الدراسي. ثلاثون رأسًا بشعرٍ داكن، ثلاثون زوجًا من العيون السوداء، ثلاثون زيًا باللونين الأزرق والأبيض، ثلاثون فتاة يتهامسن ويضحكن.

قلت مهدئةً ضحكاتهن:

- لا بأس، لا، لا يوجد حبيب.

رفعت فتاة أخرى يدها. وعندما أشرت إليها بالكلام، همست لزميلتها الجالسة بجانبها. تبادلتا حديثًا قصيرًا، ثم تكلمت الثانية:

- هي تريد أن تعرف عن الحب الأول. أول حب للمعلمة.

- الحب الأول؟

التفتُّ نحو السبورة، ثم نظرت إلى السقف، أفكر في ما يمكنني قوله.

- حسنًا، كان هناك شاب أحببته في فترة الجامعة.

تنهدت ثم استدرت مجددًا لأواجههن.

- كنا صديقين مقرّبين، لكن في يوم ما، كان علينا أن نقول وداعًا.

- لماذا؟

سألت الطالبات، بالإنجليزية والكورية معًا.

- لماذا، يا معلمة؟

- كان من بلد آخر. وكان عليه أن يعود إليه.

تنهدت الطالبات جميعًا تقريبًا في نفس واحد، وهنّ يومئن برؤوسهن، وكأنهن فهمن.

- محزن جدًا، يا معلمة.

أومأت الفتاة التي طرحت السؤال أيضًا، ثم نظرت إلى الورقة على مكتبها.

***

كانت تجلس عند البار، تسند ذقنها إلى يدها. شعرها الأسود مربوط على شكل ذيل حصان فوضوي، لكنه من ذلك النوع الذي يبدو مقصودًا أن يكون فوضويًا. خصلة من الغرة تنسدل على جبينها.

كانت تجلس وحدها عند البار. ظننتُ أنها ربما أمريكية-كورية أمريكية. حتى في أماكن مثل "كاسا كابانا"، نادرًا ما يجلس الكوريون بمفردهم.

- ما اسمك؟

في صوتها لمحة خفيفة من لكنة كورية، كلماتها مشوهة قليلًا. من حولنا، وخلفنا، كانت أغنية بوب أمريكية تنساب من مكبرات الصوت، من ذلك النوع الذي اعتاد والداي تشغيله خلال رحلات السيارة الطويلة عبر البلاد.

- هايدن. هايدن بيري.

- أليس هذا اسمًا لصبي؟

- إنه اسم عائلي.

حاولت ألا ألاحظ ابتسامتها وسط ظلال الإضاءة الخافتة في البار. زوايا شفتيها الورديتين ارتفعت قليلًا، وانتظرت أن تظهر أسنانها، لكنها لم تفعل. قالت:

- اسمي مينجي، هان مينجي.

كانت هاريسو رجلًا في السابق. إنها من أجمل الكوريات اللواتي رأيتهن في حياتي. وُلدت باسم لي كيونغ-يوب، لكنها في نهاية التسعينيات أصبحت امرأة تُدعى هاريسو. في إحدى الليالي، اكتشفها وكيل أعمال في نادٍ ليلي، وسرعان ما أصبحت عارضة أزياء خارقة ونجمة مشهورة في كوريا وخارجها. أصدرت خمسة ألبومات منذ عام 2000، وتزوجت من حبيبها آنذاك ميكي جونغ في 2007، وكانت ثاني شخص في كوريا يغير جنسه قانونيًا.عندما أعلن العارض والممثل الكوري كيم جي-هو عن هويته المثلية في عام 2008، تدفق مستخدمو الإنترنت على موقعه ومدونته، وأمطروه بالإهانات والمضايقات. رفضت وكالته تجديد عقده، وألغت البرامج التلفزيونية استضافته.في العام نفسه، عُثر عليه مشنوقًا في منزله في سيول، وكان يبلغ من العمر 23 عامًا—واحدًا من أربعة نجوم كوريين انتحروا في نفس الشهر. كتب في رسالته أنه يشعر بالوحدة وكان يمرّ بمرحلة صعبة. في "كاسا كابانا"، في الليلة التي تلت وفاة جي-هو، وقف النادل دقيقة صمت احترامًا لروحه، ورفعنا جميعًا كؤوسنا لذكراه.

كان لها أسلوب معين في إزاحة غرتها خلف أذنها اليسرى—دائمًا تلك الجهة. لكنها لم تكن طويلة بما يكفي، فكانت تسقط مجددًا على جبينها، فتعيدها مرة أخرى.يدها على يدي، أطراف أصابعها ناعمة. ضحكة شخص ما في الخلفية.أصابعها على شفتيها، في لحظة تفكير—عبارة قرأتها في مكان ما، أو مثل كوري لا أعرفه بعد، أو ربما كتاب التقطته من مكتبة إنجليزية الأسبوع الماضي—وسألتني: "هل قرأتيه؟"

بشرتها الناعمة على بشرتي، وتساءلت في داخلي: هل تعزف البيانو؟ أخبرتني أنها تفعل، منذ سنوات.في إحدى الليالي، أبعدت خصلة من شعري عن وجهي، وكفها تلامس وجنتي. قالت: "أنتِ جميلة. مثل نجمة سينما." لكنني كنت أعلم أنها تقول ذلك فقط لأنني أمريكية، لأنني بيضاء، لأن هذا ما يُقال—يقولون أنني أشبه ميغ رايان، يقولون جودي فوستر، يقولون...

هززت رأسي وانسحبت مبتعدة، استدرت على المقعد، لكن يدها بقيت على ذراعي أصابعها تضغط على جلدي. تخيلتها بين ذراعيّ، تخيلتنا نحتضن بعضنا في الحديقة، تخيلتنا متشابكتين على أرضية الأوندول الدافئة في نزل قريب.

- رجاءً.

أطراف أصابعها على جلدي، في شعري.

- دعيني أشتري لكِ مشروبًا.

- أنا حقًا أحب أسلوبك، يا معلمة.

كان ذلك بعد الحصة. جاءت ثلاث طالبات للحديث معي—كن يأتين عادة أثناء وقت الغداء. إحداهن، تُدعى "آ-ريم"، كانت تحلم بأن تُصبح معلمة لغة إنجليزية، أرادت أن تعيش في أمريكا وتتقن اللغة. لمست كمّ قميصي. أعجبها أسلوبي. بقي لها عام ونصف، ثم تتخرج—ثم تحقق أحلامها. كانت تعرف ذلك. أخبرتني بهذا في أحد الأيام. أخبرتني أنها تحب أسلوبي.

لم أكن أدرك أن لي "أسلوبًا".

لمست كمّ قميصي الأسود.

- إنه فقط... مختلف تمامًا عن معلماتنا هنا."

أومأت صديقاتها موافقات.

أصبحت ألاحظ هذا بعد حديثنا—المعلمات يرتدين قمصانًا مزركشة بالكشكش، بالتطريز أو الخرز أو الزينة اللامعة، وتنورات مكشكشة أيضًا، مع مساحيق التجميل والأقراط. أما المعلمون فبالقمصان ذات الياقة أو الرسمية، أو بالبدلات والبنطال الرسمي.

سألت آ-ريم، وعيناها تلمعان بالفضول:

-هل يرتدي الناس هكذا في أمريكا؟ هل الكثير من الفتيات يقصصن شعرهن قصيرًا؟

شعرت بيدها على ذراعي. نظرت إليها، وإلى العيون الأخرى التي كانت تترقب إجابتي. صديقاتها فضوليات.

- أعرف الكثير من الناس يلبسون هكذا، نعم. وبعض الفتيات يقصصن شعرهن قصيرًا.

رنّ الجرس. واختفين.

كان النادل يقول لها شيئًا بالكورية، نكتة لم أفهمها، فضحكت. أنصتُ إلى الموسيقى، وتطلعتُ حولي إلى الوجوه - الرجال والنساء، كل تلك البشرة المختلفة، كل تلك الألسنة المختلفة.عندما غادرنا، كانت الشوارع لا تزال مزدحمة، حتى في ساعة متأخرة من الليل. كانت تتكئ عليّ، ذراعها متشابكة مع ذراعي. أضاء نور النيون وجهها، وهجًا أحمر.

-هل تريدين اسمًا كوريًا؟

شعرت بتأثير الشراب على شفتيّ، في خطواتي. ابتسمت.

- ماذا، لكي أصبح أكثر كورية؟ هل تقولين إنني لا أندمج؟

كانت تعمل في شركة أمريكية في سيول - شركة كبيرة كانت ترسلها إلى شيكاغو مرة في السنة لحضور مؤتمر سنوي. في أمريكا، كانت تخبر الناس أن ينادوها "ميني" - "مثل نجمة السينما."

- أحيانًا يأخذ الكوريون أسماء أمريكية في دروس الإنجليزية، كما تعلمين. يمكنك أن تأخذي اسمًا كوريًا.

لافتة نيون مكتوب عليها "نوري بانغ" جذبتنا أقرب فأقرب، وسمعت صوت رجل عجوز خشن يصدح بأغنية كورية من مكان ما في الداخل. نظرتُ إلى أسفل الزقاق، فرأيت المزيد من الأضواء وشممت رائحة الزيت الحلو لطعام الشارع، البائع في نهاية الشارع يبيع كعكات على شكل سمكة محشوة بالفاصوليا الحمراء، يتصاعد البخار من عربته - نهاية مثالية ليوم بارد أو ليلة سكر. ارتعشت رغم سترتي السميكة:

- حسنًا. ماذا ستسمينني؟

أدارتني نحوها ووضعت يديها الباردتين على خديّ. التقطت عيناها عينيّ، وعرفت أن أي شيء ستقوله سيكون حقيقيًا، سيكون ملكي، سيكون ملكنا. قالت:

- "هانول"،  تعني 'الجنة."

***

في ليالي السبت في سيول، تزدحم الحشود في الشوارع، أكتاف تدفع أكتافًا، لا "اعذريني"، لا "آسف". يذهب الشباب إلى النوادي في شينتشون؛ كنت آخذ القطار كل عطلة نهاية أسبوع وأتوجه إلى إيتاوان أو هونغداي أو جونغنو. كنت أترنح نحو "كاسا كابانا" في إيتاوان، الحي الأجنبي، وقد ثملت قليلًا. كانت الوجوه على طول الطريق تصدمني - تشكيلة الألوان، الأصوات، اللهجات، اللغات. لكن بمجرد وصولي إلى "الكاسا"، كما كنا نسمي المكان بحب، كان كل شيء على ما يرام. كنت أرقص على أنغام الموسيقى، أشرب الجعة، أبتسم وأضحك وأفكر، ها أنا ذا. ربما ينتهي بي المطاف في غرفة موتيل مع أحدهم، أو شقة، أو ربما أكتسب أصدقاء ونذهب إلى بار آخر، مكان قريب يمكننا فيه التحدث أو الضحك أو الرقص أو المعرفة، أن نُعرَف.لا يوجد الكثير من الأماكن مثل هذا المكان هنا"، كان الناس يقولون دائمًا عن "الكاسا". وكان هناك كوريون وأجانب وكوريون لا ينتمون إلى كوريا وأجانب لا ينتمون إلى أي مكان، وكنا ندرك جميعًا أن لا أحد منا ينتمي إلى أي مكان، لا أحد منا. إلا هناك - في "الكاسا"، كنا جميعًا ننتمي.وهناك قابلت مينجي.

- ماذا لو فعلت؟

قالتها عندما سألتها إذا كانت ستأتي معي إلى المنزل. أمسكت كأس السوجو الصغير بأناملها برقة، وشفتاها تبتسمان.

***

- هل يعرف والداك؟

- لا، بالطبع لا. في كوريا - حسنًا، لا يمكنك. كما تعلمين.

كانت دائمًا تنظر إلى الأسفل عندما نتحدث عن عائلتها. كانت عيناها تتبعان عروق الخشب في منضدة البار

- لكن الأمور تتغير.

المشهد نفسه، يوم مختلف، البشرة، الوجوه. ألسنة وأصوات وغناء.

- نعم. لكن ببطء.

****

قال لي أخي:

- معظم حالات الانتحار تحدث في سيارات الإيجار.

كان قد حصل للتو على وظيفة في "هيرتز"، وكان يخبرني كثيرًا بقصص عن الأشياء التي يجدها في السيارات المسترجعة - نظارات شمسية باهظة، حذاء منفرد، حمالة صدر على علم الكونفدرالية.قلت:

- هذا كلام فارغ.

كنا نتحدث على الهاتف، بفارق اثنتي عشرة ساعة، من كوريا الجنوبية إلى نورث كارولينا.

- لا، أنا جاد.

كنت أفتش في ثلاجتي عن الفطور.

-    يا إلهي، تريفور.

-    لا يريد الناس أن يفعلوا ذلك في سياراتهم الخاصة. ستفسدها أو شيء من هذا القبيل.

سحبتُ عبوة حليب.

- هل اضطررت لتنظيف دماء أو شيء ما؟

- ماذا لو فعلت؟

***

كانت تهز رأسها.

- الدم مهم جدًا هنا. العائلة مهمة جدًا.

لكن كانت هناك أشياء لن أفهمها أبدًا، أشياء لا يمكن للغة ولا الزمن ولا المكان أن يمنحوني إياها. لا "الكاسا"، ولا الليل، ولا برودة الجو.

- لكن ماذا عن الحب؟ والجنس؟

ثم كنت أنظر إلى سماء الليل، أشعر بوهج النيون البارد كأمواج المحيط تصطدم برأسي، صناجات تصدح وصامتة في آنٍ واحد. قلت:

- أعني، ماذا يفترض بكِ أن تفعلي؟ أن تضاجعي رجلًا أو شيء من هذا القبيل؟

- لا أعرف. لديك عائلة. هذا كل شىء.

***

  • هل أنت ولد أم بنت؟"

صدر الصوت من الأعلى، بالكورية، من مجموعة طالبات في زي موحد - أزرق وأخضر زاهٍ يلمع تحت أشعة الشمس - يتجمعون على طول السور. الفتاة التي قالت ذلك كانت أطول من البقية، تنورتها المزركشة الزرقاء تلامس ركبتيها.كنت في زيارة لدار أيتام في ريف كوريا. في ذلك اليوم الحار بالتحديد، قررت المساعدة في بعض أعمال البناء. كنت أرتدي بنطالًا مبقعة بالإسمنت وقميصًا باليًا.

أجبرت نفسي على الابتسام.

- بنت.

صرختُ عليهن، كانت إجابتي أيضًا بالكورية.

لمست فتاة أكبر سنًا ذراعي. هي وصديقتها كانتا تتحدثان معي معظم الصباح - يسألانني عن أمريكا، ويخبرانني عن أحلامهما، مستقبلهما.

- لا، لا - أنت تبدين كفتاة. من الغباء ألا يميزين."

قالت صديقتها:

- هذا لأنك تعملين بجد.

- نعم، تبدين كفتاة، أيتها المعلمة.

ابتسمنَ لي. نظرتُ مرة أخرى إلى صف الأطفال الذين ينظرون إلي من الأعلى، بشرتي مغطاة بالأوساخ والسخام.

***

سكبتُ لها كأسًا آخر من السوجو.

-هم يعتقدون أن الأمر بيولوجي.

رفعت الكأس إلى شفتيها وتوقفت.

- لكن الآباء لا يعتقدون ذلك عن أطفالهم. لا يعتقدون أن هذا يحدث في كوريا. لذا يمكنكِ أن تكوني كذلك، لكن لا يمكنني أنا.

شربت، عيناها مغمضتان من حدة المشروب. كانت قد شربت أكثر من اللازم، قالت إن يومها في العمل كان صعبًا. وضعت ذراعي حول كتفها؛ تحت الطاولة، لامست ركبتانا بعضهما بالكاد.

فتحت عينيها على اتساعهما بينما تبتلع المشروب، لكنها لم تكن تنظر إلي.

- تعرفين، والداي يريدانني أن أتزوج.

- والداي أيضًا.

دوّرت الكأس بين أناملها، عيناها مثبتتان على شاشة التلفاز، بعض برامج الكوميديا المليئة بالمغامرات مع ضحكات مزعجة مسجلة.

- لديهما شخص يريدانني أن أقابله.

***

سألني سائق التاكسي بالكورية.

- هل أنتِ متزوجة؟"

هززت رأسي نافية.

- صديق؟

مثل هذا الحوار حدث من قبل. وسيتكرر مرة أخرى. هززت رأسي.

- لا. لا يوجد صديق."

تعبير دهشة على وجه سائق التاكسي. ابتسم:

- لماذا لا؟

هززت رأسي وشاهدت لافتات النيون تمر بسرعة.

- لا أعرف.

** **

ما أتذكره هو ذوبان الثلج، المياه المتجمعة على الأرصفة، خطواتي في البرك التي بللت جواربي. أشجار الكرز ببراعمها الوردية المشدودة تقف بثبات على أغصان تبدو هشة. رغبتي في أن أضمها بين يديّ، لأدفئها، لأجعلها تتفتح.

"إلى أين أنت ذاهبة؟"

الليل ويدي على ذراعها. قبسة مسروقة تحت قوس مظلم. التعثر على الدرج. الحرارة المتصاعدة من أرضية الشقة، يداي على خصرها، على ملابسها، في شعرها.

-    لا مكان.

-    مينجي، لا تفعلي. ابقي."

وجهها منعطف عني، يداها تحجبانه، تغطيه. شعرها منحل، كتفاها عاريان.

- لا أستطيع.

***

قال تريفور:

- يجب أن تخبري أمي وأبي..

تجاهلت الأمر، لكنه بالطبع لم يرَ. خارج النافذة، كان المارة يتنقلون تحت المطر، مظلاتهم تتهادى كفسيفساء ملونة.

- على الأرجح أنهم يعرفون بالفعل، هايدن.

- كيف ذلك؟

تنهد من طرف الخط الآخر.

- ليس كما لو أنكِ تستطيعين إخفاء الأمر.

***

في غرفة "نوري بانج"، كانت دائمًا تختار أغاني الحب الأمريكية. في إحدى الليالي، طلبت منها أن تغني أغنية كورية سمعتها، فقالت فقط إذا غنيتها معها. كان صوتها حلوًا ورقيقًا مقارنة بقوتي غير المصقولة. شعرت بحروف العلة الكورية ثقيلة ومتعثرة في فمي.

انتهت الأغنية، وسكتت السماعات، لم يتبق سوى همسة الشاشة في الجو، قالت.

- أحبكِ.

صوتها خافت في الصمت المفاجئ للغرفة، المايكروفون بجانبها.

أمسكتُ بالمايكروفون بشدة، الزر يخترق جلدي.

- لا تقولي ذلك.

- لكنني أحبك بالفعل

كانت تومئ برأسها، واستمرت في الإيماء. سقط المايكروفون من يدها على الأرض، يداها مرتخيتان.تقدمت خطوة نحوها.

- مينجي. أرجوك.

حدقت في الأرض لكنها لم تتحرك - كتمثال، باستثناء رأسها المومئ.اقتربتُ منها وأحطتها بذراعي، هناك في الغرفة المظلمة، وشعرت بوجهها يضغط على كتفي. دفء أنفاسها على جلدي، دموعها الدافئة تتسرب عبر قميصي.

كان هناك رجلان يمسكان بأيدي بعضهما في وقتٍ متأخر من الليل في حي إيتايوون، يتعثران تحت تأثير الشراب — رجلان عجوزان، أجوشي، وجوههما مجعدة بالتجاعيد. كانا يبتسمان، يميل أحدهما على الآخر، يتمتمان بكلمات كورية متلعثمة. عضضت شفتي وأنا أراقبهما يمران، أقدامهما تتفادى البرك المتبقية على الطريق.

قالت لي آ-ريم عندما سألتها عن الأمر بعد الحصة ذات يوم

- هذا لا بأس به، فقط بين الأولاد والبنات لا يجوز. لكن لا بأس بين الأصدقاء. والعائلة.

- وماذا يحدث إذا أمسك ولد وبنت بأيدي بعضهما؟

- حسنًا، هذا يحدث أحيانًا. الأمور تتغير. خاصة في سيول.

**

- وماذا لو فعلتُ أنا؟

هززت رأسي.

- لا تتكلمي هكذا

كانت تخطو ذهابًا وإيابًا، شعرها مبلل من المطر، قطرات تتعلق بأطرافه قبل أن تسقط على قميصها القطني.

- لكن ماذا لو فعلت؟ لا أستطيع— لا شيء... لا شيء...

- توقفي. بالله عليكِ، مينجي— لا يستحق الأمر- حبيبتي -

**

كان تريفور صامتًا على الطرف الآخر من الهاتف.

- تريفور، هل أنت بخير؟

أتناول الحليب وحبوب الإفطار مجددًا. كنت متأخرة.

تنحنح قليلًا.

- أجرنا سيارة لرجل، وهو... واليوم...

أنصتُ لأنفاسه.

ارتجف صوته عندما تحدث مرة أخرى.

- كان لديه ثلاثة أطفال. كان لديه ثلاثة أطفال، وهو...

***

- لا أظن أن بإمكاني رؤيتك مجددًا...

كانت جالسة على سريري، ساقاها متقاطعتان. كان المطر يهطل خارجًا.

- لماذا؟

أخذت وجهي بين يديها، دفعت خصلة شعر عن جبيني.

- عليّ أن أفعل.

- لكنني لا أفهم.

كان شعرها الأسود ينساب على الوسادة، وجهها يبتسم، أسنانها ظاهرة من بين شفتيها. هذا ما أتذكره. يدها في يدي، شفاهها على كأس السوجو، الأغاني في الهواء، ورائحة شعرها، وطريقة سقوط المطر في ذلك الصيف — كان قاسيًا ومروعًا، يغمر الشوارع بجداول لا تنتهي وبرك عميقة. كنت أحمل مظلتي وأمشي في شوارع سيول، وأراها في كل وجه - الشعر الأسود الناعم، العيون الداكنة التي تنظر بعيدًا، ابتسامة خجولة لا تكتمل أبدًا. طلبت منها أن تأتي إلى بيتي، طلبت منها- يدها الصغيرة تضغط على جلدي. ابتسمت لي، لكن بشفتيها فقط:

- هانيول. أنتِ جميلة.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: أليكسيس ستراتون/ Alexis Stratton كاتبة أمريكية من ولاية إلينوي، لكنها عاشت في أماكن عديدة طوال حياتها، من كارولاينا إلى كوريا. تقيم حاليًا في كولومبيا، ساوث كارولاينا، حيث تعمل وتدرّس وتكتب. ظهرت أعمالها مؤخرًا في مجلات أدبية مثل

The Drum Literary Magazine وPure Francis وApparatus Magazine وKorea Infusion.

https://twohawksquarterly.com/2010/09/20/saturday-nights-in-seoul-by-alexis-stratton

بقلم: سالي روني

ترجمة: صالح الرزوق

***

تحدثا في الطريق إلى العيادة السنية عن زيارة عيد الميلاد. كان هذا شهر تشرين الثاني وماريان اقتلعت ضرس العقل، وكونيل يقودها إلى العيادة لأنه صديقها الوحيد الذي يمتلك سيارة، وكذلك الشخص الوحيد الذي تلجأ له في الحالات الطبية المزعجة مثل سن مصاب. وأحيانا يقودها إلى عيادة الطبيب كلما احتاجت لمضاد حيوي ضد عدوى القنوات البولية، وهو حدث متكرر. وحينها كانا في الثالثة والعشرين. توقف كونيل عند زاوية العيادة، فصمتت الإذاعة تلقائيا. كان قد حصل على إجازة صباحية من العمل ليقود ماريان إلى هذا الموعد، ولكنه لم يخبرها بذلك، وبادر بهذا العمل جزئيا وهو تحت الإحساس بالذنب. قبل أسبوع أنبأته ماريان في شقته بالمشكلة، وبعد ذلك اشتكت من وجع في فكها، وأوشك أن يسألها: هل من عادتك التشكي والتذمر؟. ثم تجادلا. وكان كلاهما مخمورا قليلا. تذكرت ماريان الحادث بشكل مختلف. فهي حسب علمها اشتكت لكونيل من الكنبة، ثم صمتت بسبب وجع في فمها. وكان موقفه إيجابيا، ثم مارسا الجنس على مقعد طويل آخر. ولاحقا حينما عاودت الكلام عن فمها، قال كونيل: أنت تشتكين أكثر من الآخرين. وكانا يستلقيان متجاورين على الكنبة. قالت له: هل تقصد بالآخرين صديقاتك الأخريات؟. قال كونيل: لا. وهو يعني الناس، أو أي إنسان آخر. وتابع: أنه لا يعرف أحدا يتذمر أكثر منها.

قالت ماريان: لا تحب الاستماع لشكاوى الناس لأنك عاجز عن التعبير عن تعاطفك.

قال: ولكن أخبرتك أنني متأسف منذ اشتكيت لأول مرة.

قالت: أنت تحب النساء الصابرات لأنك لا تنظر إلى النساء كمخلوقات كاملة.

قال: كل مرة أنتقدك فيها، تحولين الموضوع إلى شيء له علاقة ببغض النساء.

حينها عدلت ماريان من وضعها وجلست، وجمعت شعرها بشكل لفافة، وبحثت عن حباسة لتثبيته، وقالت: أشتبه أنك تعقد علاقات مع أشخاص لا تعرف كيف تحاورهم.

قال: أنت منزعجة وتصبين جام نقمتك علي. ولكنني لست غبيا تماما.

لمست شعرها بيديها لتتأكد أنه مرتب، ثم عادت لتستلقي بجانبه. كانت الكنبة رديئة، وعليها رسوم زهور بنية. قالت: أنت تراني إنسانة راشدة. ولذلك لست منجذبا لي.

- بل منجذب.

- جنسيا وليس عاطفيا.

راقبته وهو ينظر إلى السقف. وكان وجهاهما متقاربين.

قال: أتصور لو أنني متعلق بك عاطفيا لن أتقبل فكرة وجود أصدقاء آخرين لك.

- رغم ذلك في الحقيقة أنت لست مغرما بي.

- أنا لا أحب ذوقك باختيار الأصدقاء. وهذا شيء مختلف.

قالت: هل تعرف ماذا حصل لدانييل. أخبرته أنني أحلم بالزواج، فقال، مني؟. قلت له كلا. من صديقي كونيل. وبقية الجدال لم يكن عنك. ولكن عن أشياء أذكرها عمدا لأزعجه لأنني أستمتع برؤيته وهو مستاء من نفسه.

- آه.

ذهبت ماريان بعد ذلك إلى البيت، متسائلة إن تشكت كثيرا. وفي وقت عودتها إلى شقتها، كان كل رأسها يؤلمها. أخذت زجاجة جين من داخل باب الثلاجة، وصبت القليل في فمها لتجربه. وغرغرت بالكحول البارد حتى غسلت لثتها، فارتفع ألم مبرح في فكها، وترقرقت دموع عينيها. لفظت الجين في مغسلة مطبخها وبدأت تبكي.

في الصباح التالي ذهبت إلى العيادة السنية بمفردها. وفي طريقها فكرت كيف ستخبر طبيب الأسنان عن إحساسها بآلام فكها. وتخيلت نفسها تقول: إنه ليس قويا كل الوقت، ولكنه لا ينفع للجنس الفموي. أخذ الطبيب نظرة سريعة من فمها، ووصف لها مضادات حيوية لعلاج ما وصفه أنه عدوى "بغيضة فعلا". وقال طبيب الأسنان: لا أستغرب أنك تتألمين. فذلك السن مغروس في خدك مثل سكين في الزبدة. وكتب شيئا على ورقة ونظر إليها وأضاف: ما أن تخف العدوى، سأخلصك منه بلا عواقب. وسترتاحين.

وشعرت ماريان بالسعادة العميقة لعلاج ألمها على يد محترفين. والآن لم يبق غيرهما في غرفة الانتظار العلوية. المقاعد بلون النعناع الأخضر الباهت. قلبت ماريان في نسخة من "ناشيونال جيوغرافيك" ولمست سنها بطرف لسانها. نظر كونيل إلى غلاف المجلة، وهي صورة قرد بعينين واسعتين. في تلك الليلة من الأسبوع السابق، اتصلت ماريان به أولا لتخبره أنها انفصلت عن دانيال. كان كونيل في الحمام حينما رن الهاتف فرد باري، شريكه في الشقة. وحينما عاد كونيل، قال باري ببراءة: هيي. ما اسم البنت الغنية التي رافقتها في المدرسة؟ أنت تعرفها. البنت التي رغبت بنكاحها.

رد كونيل وهو يظن أن السؤال بريء: ماريان؟ لماذا؟.

بعد ذلك ألقى باري الهاتف نحوه وقال: أرادت أن تكلمك.

حينما رفع كونيل الهاتف سمع صوت ضحكها.

في غرفة الانتظار كان كونيل يفكر بلورين، صديقته منذ قرابة عشر شهور. فقد انتقلت إلى مانشستر في أيلول ومنذ أسبوعين ضاجعت شخصا آخر وكانت مخمورة. وعندما اعترفت له، لم يخامر أعصابه أية مشاعر، وتساءل إن بقي لديه أي اهتمام بها.

ولعدة أيام، شعر على نحو غامض أنه كئيب ومرهق، ثم نام مع ماريان، التي اتهمته أنه لا ينظر للنساء ك "كائنات كاملات التكوين". ثم أدرك أنه في الحقيقة لا ينظر إلى لورين ك "مخلوقة كاملة الخلقة"، ولكن كشخصية ثانوية في حياته الخاصة. ولهذا السبب، ما تفعله خارج المسرح، لا يعنيه. وبعد أن غادرت ماريان في تلك الليلة، فتح صفحة جديدة في متصفحه وطبع عليها: لماذا أنا متبلد الشعور. في الصباح التالي اتصل بلورين بواسطة السكايبي وأخبرها أنه عليهما أن ينفصلا. وافقته، دون إملاءات. قالت: استمتعنا بوقتنا، ولكن علاقة بعيدة الأجل لم تكن لتنجح. وكان لهذا التصور لمسار علاقتهما القليل من التشابه مع أي شيء فكر أو شعر به. ولذلك هز رأسه وقال: نعم. بالضبط. لم يخبر ماريان بمكالمة سكايبي هذه. كانت دراما سنها مستمرة ولم يود أن يبدو أنه اتخذ قرارا صعبا بعد نومه معها. كانت تقول كلما تكلما: كالزبدة أنا أعاني. والحقيقة أن كونيل لم يفهم الرمز الحقيقي للزبدة وقرر الآن أن الوقت تأخر ويمكنه أن يسأل.

قال: ما هذه الزبدة التي تواصلين الكلام عنها؟.

قالت: أن خدي كالزبدة.

قال: أنت ماذا؟.

- تذكر أن طبيب الأسنان قال إن السن يقطع خدي مثل الزبدة.

حدق كونيل بها من فوق طرف الناشيونال جيوغرافيك الأصفر الذي بيدها.

قال: اللعنة، هل كان فعليا يقطع خدك؟.

- ألم تسمعني؟ كنت أكلمك عنه قرابة أسبوع.

- أحيانا أعتقد أنني فقدت الإرسال معك.

عادت إلى المجلة مستغربة.

قالت: مهارة الحياة.

هل تعلمين أنني قطعت علاقتي مع لورين. هل سمعت بذلك؟.

تظاهرت أنها تقرأ. ولكنه رأى أنها تفكر ماذا تفعل أو تقول. كانت حركة ذهن ماريان شفافة بنظره، وتلمع بومضات سريعة هكذا قبل أن يتابعا.

قالت: لم تذكر الموضوع.

- نعم. هذا حصل.

سعل، ولكنه لم يكن بحاجة لذلك. هذه علامة ضعف، وهو يعلم أن ماريان ترى ذلك، مثل الدم بالماء.

قالت: متى حصل الأمر كله؟.

- قبل أسبوع.

- آها.

لم تنطق "آها". أغلقت المجلة فقط وأعادتها إلى الطاولة الزجاجية الصغيرة بحركة تمثيلية. ابتلع كونيل لعابه. لماذا يبتلع؟ كانت ماريان سيئة في أيام الدراسة ومكروهة من الجميع. وكان يحب التفكير بذلك بطريقة سادية كلما اعتقد أنها ستتغلب عليه في الحوار. في سنته الأخيرة في الجامعة فض بكارتها ثم طلب منها أن تكتم السر، ولكنه لا يعتز بهذه المشاعر الآن. استلقت هناك كأنها تفكر ولماذا أخبر الآخرين بالسر؟ ورأى أن ذلك محير قليلا. شعرت ماريان بالإهانة لأن كونيل لم يخبرها بلورين حتى الآن. وتسترت على هذه المشاعر بتركيز انتباهها الممتعض ببطء على ما يحيط بها. وتساءلت إذا كان كونيل لم يبلغها لأنه يعتقد أنها يائسة. فماريان بنت الثالثة والعشرين عرضة أحيانا لنفس القلق المقيت الذي يميز حياتها البالغة. وفي سنوات جامعتها لم تكن تحتقر الآخرين، ولكن بنفس الوقت تحكم بها الخوف من احتقار الناس. وكان كونيل أول إنسان أعجب بها، ومع ذلك لم يكلمها بحضور أصدقائه. كانت تقلل من قيمة الأشياء لتحتفظ بحبه، ولكنها تتظاهر أن الأشياء لا تقلل شأن شيء. واحتفظت بهدوئها خلال المكالمات التي يجريها.

قال: نعم. توقعت أنك سمعت. كانت قطيعة على السكايبي. ونسبيا سرتها القطيعة.

- لورين بنت ثابتة الجنان.

- قد يكون هذا صحيحا.

نظر من النافذة وحاول أن يتثاءب. كان يمقت نفسه. ولم تكن لديه فكرة عن أفكار ماريان.

رغما عنه وبدوافع ذاتية فكر أنه طيلة وقته مع لورين، لم يدعها إلا بالصدفة. ولكنه مع ماريان يجد الفرصة سانحة على الدوام. وبسيطة لدرجة عظيمة تشبه الحماقة. وطبعا هو يدرك أن هذا لا يدل على أي شيء.

قالت ماريان: حسنا. لا تقلق. نعلم كلانا أننا بمفردنا. ولكنني لا أطلب منك أن تكون شريكي.

- لن أقلق من ذلك. يا للغرابة.

فتح الباب، وخرجت الممرضة تقول: ماريان؟. جاهزة.

نظرت ماريان إلى كونيل، وبادلها النظر. كرهته لدقيقة ولكن الشعور السلبي يزول دائما. لم يتعمد أن ينبه هذه الحاجة الماسة فيها. مع دانييل تشعر بالحرية والتسلط، لأنها لم تتعامل معه بجدية على الإطلاق. ورغبته في إلحاق الأذى بها تؤكد فقط أنه يعتمد عليها. ولكن كونيل ليس بحاجة لشيء، وبرفقته تشعر بالضعف. لمست وجهها بيدها، وتبعت الممرضة إلى غرفة الجراحة. وبعد إغلاق الباب، نهض كونيل ومشى إلى النافذة. نظر إلى الشارع، ورؤوس المارة. كان يوما مشرقا، باردا وأزرق مثل قطع الجليد. وحاول أن لا يفكر بأوجاع ماريان. وهو يعلم أنهم سيخدرون الجزء الضروري من فمها، ولكن أثاره ذلك أيضا. فماريان لم تعرب عن خوفها من معاناتها الفيزيائية. رأى كونيل أشياء سيئة تحدث لها. ومع ذلك، آلمه حين قالت إنها لا تريد أن تكون شريكته، جزئيا لأن ذلك يشبه نكران الجميل. ولكنه لم يزمع أن يطلب منها ذلك. بدأ يقضم إبهامه. حتى شعر أنها احمرت وأصبحت طرية وفقدت قوامها في فمه. في البداية أسعده قطيعتها في آخر الأمر مع دانيال. كان واحدا من مصممي الغرافيك النحيلين بنظارات ذات إطار سميك، وكلام مسهب عن الجندر. جاوره كونيل في البار يوم حفلة عيد ميلاد ماريان، وخلال المحادثة شاهدا مباراة بورنماوث - شيلسي على شاشة كبيرة.

سأله دانييل: هل يهمك من يخسر ويربح؟

قال كونيل: حسنا. شيء من ذاك. سيتراجع بورنماوث إلى مرتبة أدنى إذا خسروا هذه المباراة.

قال دانيال: أقصد من ناحية فلسفية.

كانت هذه محادثة جادة بينهما.

ثم ضحك دانيال قائلا: الذكورة شيء هش.

لم يلمح كونيل لبعض الأمور التي تصادف أنه يعرفها عن سيئات دانيال. لم يذكر مثلا أنه

 يحب أن يربطها ويضربها بالحزام. أراهن أن هذا يجعلك تبدو رجلا قويا.

في قسم الجراحة أعطوا ماريان المخدر. وأدخل طبيب الأسنان أداة حادة في لثة ماريان ليرى إن كانت تشعر بها، ولكنها لم تشعر بشيء. بعد ذلك استعد لخلع السن. في البداية أمكنها سماع صوت طحن. وانعكس ضوء مصباح أبيض متوهج على عينيها من المرآة المعلقة فوقها، ثم شعرت بطعم سادو مازوشي من مطاط قفازات طبيب الأسنان. تلولب شيء ما، وملأ فم ماريان سائل غريب ورقيق. لم يكن له طعم الدم. ثم شعرت بشيء ينزلق على لسانها، شيء ناعم وثقيل، وفجأة انتصبت بجلستها فقال طبيب الأسنان: ابصقيه. بصقت شيئا في يد طبيب الأسنان. كان جزءا صغيرا أصفر من جسمها. والآن شعرت بطعم الدم، ومعه شيء آخر. وآلمها رأسها. التمع السن في راحة طبيب الأسنان مثل القشدة. قال طبيب الأسنان: امرأة ممتازة. أطراف السن مثل شقائق النعمان. وارتجفت ماريان.

يخشى كونيل أنه إنسان فارغ عاطفيا. حاول أن ينظر في عدد الناشيونال جيوغرافيك الموجود على الطاولة. ولكن أعوزه التركيز، وعاود التفكير بأوجاع ماريان. ورطت ماريان نفسها بأمور لا تسعدها. وهذا رأي يشعر كونيل بالذنب حياله. وكان يعلم أنها تجلب على نفسها اللوم بسبب أخطاء لم ترتكبها ببساطة لقوة شخصيتها. كان الآخرون يغشون ماريان وربما بتواطؤ منها، مع أن المفروض أن توقفهم عند حدهم. وأخبرته بأشياء أجبرها دانيال على القيام بها. أشياء يمكن رؤيتها. وقالت: أعلم أنها حماقات. ولم أستمتع بها. ثم ضحكت. وكره ضحكتها تلك.

وضع طبيب الأسنان في فم ماريان ضمادة وطلب منها أن تعض. شعرت بالضعف، كأن سنها طفل مريض ولدته. وتذكرت أن كونيل في صالة الانتظار، وغمرها إحساس بالامتنان، فغرقت بالعرق. احتكت الضمادة بلسانها النائم وامتلأت عيناها بالدموع. انتهى الجانب الطبي من الزيارة. وأعانوها على اقتلاع نفسها من الكرسي كأنها صفحة من جريدة. وفتح باب الجراح والتفت كونيل من النافذة.

أشارت ماريان بحماقة إلى فمها. أعادوا إليها سنها في علبة زجاجية هزتها بوجهه ليخشخش السن في داخلها. كان وجهها مضلعا وغير منتظم مثل خيمة منهارة. وشعر بمشاعر مختلطة. في الجامعة اعتاد أن يتخيل نفسه وهو يلقي ملاحظات ثقافية أو حكيمة أمام ماريان. وهي تخيلات لا يزال يعود إليها مكرها في لحظات الإجهاد. وضحكاتها المتخيلة تهدئ أعصابه.

قال: هل انتهيت تماما؟.

هزت رأسها، وحاولت أن تبلع. شعرت بخطأ في فمها، وأنها دخلت في جسم لا يعود لها.

قال: مر الوقت بسرعة. كيف تشعرين؟.

نفضت كتفيها. وشعرت بالرجفة التي اختزلتها بتنهيدة، وحاولت أن تكبت هذا النوع الخاص من القبح. وبكت تقول: تأخر الوقت. وفركت بحماقة عينيها وأنفها والحفرة المخدرة في خدها الأيمن. انتفضت مجددا. ولكن أصبح بكاؤها، على الأقل، صامتا.

شاهد كونيل ماريان تبكي من قبل مرة واحدة، حينما كانا مراهقين. كان لأمها في ذلك الوقت صديق حميم، يدعى ستيفن. وكان يأتي أحيانا في الليل إلى غرفة ماريان ل 'يتكلم'. ذهبت إلى بيت كونيل في إحدى الليالي بعد ما حصل، وبكت قائلة: أحيانا أعتقد أنني أستحق الأسوأ، لأنني إنسانة سيئة. لم يسمع أبدا شخصا يتكلم هكذا. انتابه الغثيان، ومنذئذ لم يفارقه الغثيان، حتى لو لم يشعر به. كان شيئا لا يتحكم به وخارج سيطرته.

قال: دعينا نذهب إلى السيارة.

في السيارة كانت صغيرة ووحدها. بيد تحمل الإناء وفيه سنها، وباليد الأخرى لفافة إضافية من الشاش لأجل فمها. وضعت الاثنين في حضنها بحرص، ومدت يدها إلى الواقي الموجود فوق مقعدها لتنظر بالمرآة.

قال: لا ضرورة لذلك.

توقفت ويدها على المرآة.

قالت: هل أبدو سيئة لدرجة مريعة؟

كان صوتها مكتوما وعميقا.

قال: بنظري لست سيئة. ولكن يبدو أنك هشة ولا أريد أن أخيفك.

واعتقد أولا أنها تسعل، ثم لاحظ أنها تضحك.

قالت: أبدو سيئة. لماذا لم تعترف لي عن لورين؟.

عجن المقود بيديه. وراقبته يفعل ذلك. مسحت بكمها دمعة تهدد عينها اليسرى، بتكتم.

قال: هذا الكلام المختصر الذي تلقينه على مسامعي عن النظر للنساء ككائنات بشرية. أقلقني بالفعل نوعا ما.

- ماذا، لهذا السبب انفصلت عنها؟.

أثاره هذا السؤال، بطريقة من الطرق، بالإضافة إلى أن ماريان كانت تبكي فعلا. كان يفكر، دون قصد منه، بجسمها العاري. كان ينظر إليه مثل صورة تدل على الضعف وليس الجنس، وربما كان يشعر بالاثنين معا. وهو يعلم أنها ببساطة تبكي بسبب رواسب ألم حقيقي، ولم يكن يستمتع بذلك. غير أن رغبتها أن تكون موضع عنايته لمس شيئا فيه. أوهام وتخيلات تشير بلامبالاتها الباردة ظاهريا لشيء ما. ولاحظت أنه لا يرد على سؤالها المباشر.

راقب حركة المرور كأنه يفكر بشيء آخر. وأملت أن فضولها المفرط يبدو إنكاريا. وهذه استراتيجية ديناميكية تتبناها لتخفي عن كونيل مشاعرها تجاهه. وما تشعر به لا يمكن التعبير عنه بسهولة. الناس يحبون أشياء كثيرة: أصدقاءهم، ذويهم. وسوء التفاهم حتمي.

قال: لا زلت تبكين، أليس كذلك؟.

قالت: يعاودني نفس الشعور. هذا كل شيء.

***

...........................

* سالي روني Sally Rooney كاتبة إيرلندية معاصرة. من أهم أعمالها "محادثة مع الأصدقاء"، و"أناس طبيعيون". القصة مترجمة عن "ذي وايت ريفيو". العدد 18، 2016.

قصة: بوب ثوربر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ليلة الأربعاء، أنا مستلقٍ على الأريكة، أشعر بدوار خفيف من زجاجتين من شراب "روبيتوسين" للسعال، رأسي ينبض وأذناي تشتعلان بتنميل. أشعر بنشوة، لكنها نشوة بائسة، وللأسف هي النشوة الوحيدة التي سأحصل عليها الآن بعد أن وضعت أمي قفل دراجة على خزانة الخمور. أُسند رأسي على مسند الذراع، وأغمض عينًا واحدة، وأتظاهر بمشاهدة كرة السلة مع "والتر"، الذي قدمته أمي على أنه "صديقها الجديد الذي يعيش معنا". أكره مشاهدة أي رياضة على التلفزيون ما عدا التنس، الذي كنت ألعبه سابقًا. لكنني وعدت أمي أن أكون مهذبًا مع والتر طيلة وجودي في المنزل، رغم أن الرجل يشبه نسخة غير مضحكة من الممثل الكوميدي "دون ريكلز" - والذي، بغرابة وسخرية القدر، يزعم والدي أنه أظرف رجل على وجه الأرض.

رسميًا، أنا في المنزل لبضعة أيام فقط، رغم أنني مؤخرًا أفكر جدّيًا في الاستسلام، وإيقاف دروسي، وإنهاء الأمر، لأنه - لنواجه الحقيقة - من الواضح أنني لا أفلح كطالب في إحدى جامعات النخبة.

والتر، الذي تتباهى أمي بأنه مليونير عصامي، يمتلك مستودعًا للوازم السباكة، وأتساءل إن كان بإمكانه أن يوفر لي وظيفة. حتى لو كانت بدوام جزئي، سيكون ذلك جيدًا. أحاول جمع ما يكفي من اللعاب في فمي لفك لساني المتشبث بسقف حنكي، لأسأله إن كان العمل جيدًا، ثم فجأةً، اقترحت أمي عليّ دعوة ضيف إلى عشاء الغد.

تطلق هذا الاقتراح الغريب في اللحظة الأخيرة من مطبخها، حيث تقف وهي ترتدي رداءً ورديًا، ونعالًا وردية، ومئزرًا طويلاً، تعدّ طعامًا يكفي لكتيبة كاملة.

الرائحة الكثيفة للقرع والقرفة الممزوجة بحرارة الفرن العالية وأواني الطبخ البخارية كادت أن تُدخلني في النوم، فأتثاءب وأقول:

- ترجمة من فضلك. عمّ تتحدثين؟

يبدأ الخلاط بالعمل، صوته أعلى من جزازة العشب، ثم يتوقف فجأة. تقول أمي:

- عليك أن تدعو أحدًا، هذا كل شيء.

والتر، الذي يراهن مبلغًا كبيرًا على نتيجة المباراة، يضغط على الزر. ينخفض صوت التلفزيون. أراقبه وهو يزيل الوبر من أكمام بيجامته السوداء المطوية.

تقول أمي:

- أحضر شخصًا يحب الأكل. لا يهمني من يكون.

والتر، الذي لا يزال ينظر إلى التلفزيون، يتحرك في كرسيه ويقول:

- تقصدين 'مَن'، وليس 'من'.

يبتسم بفم مفتوح - ليس لي، بل لنتيجة المباراة غير المتكافئة. فريقه يفوز.عندما يلتفت ليُظهر لي أسنانه البيضاء الناصعة بفعل الليزر، أمدّ رقبتي لأرى خلف الأريكة.

- أعطيني مثالاً يا أمي. من عليّ أن أتصل به ليلة عيد الشكر وأدعوه؟

بصوت ناعم كالعسل والسكر، وكأنها أبعد مما هي عليه، تجيب:

- أي شخص تريده يا عزيزي. أحضر شخصًا لديه شهية صحية.

ألتفت إلى والتر وأقول:

- حسنًا، ما القصة؟ ماذا تدبر الآن؟

تظهر أمي في المدخل، ثلاث لفات وردية من بكرات الشعر ملفوفة بإحكام حول رأسها، بينما تمسك ملعقة خشبية. وعلى مئزرها كُتب: "أنا الطاهية، لا خادمتكم، فلا تطلبوا مني شيئًا!

تقول:

- لماذا تهمس؟ لا تسأله. ماذا يعرف هو أصلاً؟"

يركز والتر بشدة على جواربه المزخرفة. تقول أمي وهي تحدق في والتر:

- إنها مسألة حسابية بسيطة، مجرد ثلاثة منا يجلسون لتناول مأدبة بهذا الحجم الذي أعدّه سيكون خطيئة مميتة.

تؤكد على كلمة "مأدبة" بنعومة، وتنطق كلمة "خطيئة" بقوة حتى أنني أستطيع أن أشعر باهتزاز الهواء.

ينحني والتر ليحك بقعة في السجادة. أقول:

- أدعو من؟ من حولنا ليس لديه خطط لعيد الغد؟

ينظر والتر لأعلى.

- ألا تكره عندما تفعل هذا؟"

ترد عليه:

-  اصمت! لم يسألك أحد عن شيء..

يغمض والتر عينيه ويقطب وجهه وكأنه تلقى ضربة مطرقة، تقول أمي:

- ضيف عشاء، شخص آخر لنشاركه عطلتنا. هذا كل شيء. نهاية القصة. لا تجعل منها قضية اتحادية. لا يهمني من ستجلب.

- إذاً ما تقولينه، لأكون واضحاً، هو أنني يمكنني دعوة أي شخص على الإطلاق؟

يزيد والتر من تعابير الألم على وجهه. تقول أمي:

- أنا متأكدة أن لديك قائمة طويلة من الفتيات لتختار منهن.ضع كل أسمائهن في قبعة واختر واحدة فقط."

- أوه، تريدينني أن أحضر فتاة؟ هل هذا ما تعنينه يا أمي؟"

والتر، الذي هو أصلع بشكل أساسي ما عدا هلالاً من تجاعيد صبغت بالأسود، يتظاهر بجذب شعر غير موجود.

- إنها تريدك أن تستقر وتتزوج. ألا ترى؟ إنها قلقة عليك وحيداً في تلك الجامعة الكبيرة. نتحدث معا- تخبرني أشياء - كل آمالها في الحياة معقودة عليك. أما أنا فلا تخبرني ما تريده.

وبينما يتحدث، تطلق أمي عليه سيلاً من النظرات القاتلة حتى ينكمش مرة أخرى في كرسيه السمين. يقول:

- من الأفضل أن أُغلق فمي الآن.

لا أهتم البتة بوالتر، لا يهمني أنه لديه بعض المال في البنك أو أن أمي تتصرف وكأنهما متزوجان بالفعل. لا يهمني أن لدى والتر زوجة بالفعل. أقول:

- أحضر أي شخص أريده؟ أي شخص؟ أنت جادة؟ تقصدين هذا حقاً؟

تقول أمي:

- سيكون شرفاً لنا أن نستضيفه، أليس كذلك يا والي؟

- نعم، نعم. بالتأكيد.

يقولها والتر وعيناه على التلفاز. فريقه يخسر الآن. أعلن بنبرة انتصار:

-حسناً. إنها صفقة .

ختمت عليها بقبلة ، تقول أمي وهي تقبل الهواء.

- لكن ليس أكثر من واحد.

يقول والتر:

- لن أدفع لإطعام جيش كامل

لست متأكدًا تمامًا، لكن تخميني الأفضل هو أن الشخص الذي تتوقعه أمي أن أدعوه هو تلك الطالبة الجميلة في تخصص الأنثروبولوجيا، أبيجيل، التي أحضرتها إلى المنزل في عيد الفصح. كانت فتاةً ذات شعر عسلي مذهل وساقين طويلتين كعارضة أزياء، ومنذ أن هجرتني وأنا أعاني بشدة. آخر ما سمعت، كانت أبيجيل مخطوبةً للاعب بيسبول في الدوري الثانوي. لذا بدلاً منها، قررت دعوة والدي البيولوجي، بوب الأب، الذي لم تلتقِ به أمي أو تتحدث إليه منذ ما يقارب الثلاث سنوات.

كان بوب الكبير ساحرًا كعادته. وصل صاحيًا وبقي هكذا إلى حد كبير. خلال حديث ما قبل العشاء، تناول النبيذ الأبيض برشفات خفيفة وبقي مهذبًا، محترمًا، وساحرًا بكل معنى الكلمة. وعندما جلس الجميع لتناول الطعام، وقف ليؤدي صلاة الشكر. لا أحد يؤدي صلاة الشكر بسلطة أكبر من والدي.

عندما انتهى، صفقت وحدي. لم أقف رغم أني شعرت أن التصفيق وقوفًا كان مناسبًا. قالت أمي:

- لا تتصرف كالأحمق فقط لأن والدك هنا.

أجبت:

- هل هو هنا؟ أين؟ من سمح له بالدخول؟

فتبسم والداي لبعضهما.

والتر، ومنحيه حقه، قام بتقطيع الديك الرومي بمهارة الجراح.

قال بوب الأب:

- طائر شهي المظهر يا ريتا. كل شيء، كل شيء يبدو فاتحًا للشهية.

فاحمرت وجنتا أمي بينما تضع البطاطس المهروسة في الصحن.

خلال معظم الوجبة، لم يكن هناك سوى صوت خدش شوكات وهم يقطعون الطعام وخرير أربعة أفواه تمضغ، وجميع الأعين مثبتة على الأطباق. تعليقات والتر المتقطعة، كلها تافهة وسطحية، محاولات يائسة للمزاح، تموت سريعًا في صمت. بين القضمات، ظلت أمي تدفع خصلة شعر خلف أذنها. صمت مشحون يطن في الجو؛ وكثف الغلاف الجوي للغرفة ليصبح كثيفًا كالمرق.

وفي لحظة ما، أغمضتُ عينيّ ودعوتُ بأمنية صامتة. تمنيتُ أن يُخرج والدي أسنانه الاصطناعية ويجعلها تقفز بين الأطباق والصحون، معيدًا أداءه الذي قدمه العام الذي حصل فيه عليها، حوالي عام ٢٠٠٣.

لكنّ الحظّ لم يحالفني.

في كل مرة يملأ فيها بوب الأب كأسه، أشكّ في دوافعي لدعوته.

يقول والتر بعد إخلاء الطاولة، رغم أنه لا يبدو منزعجًا حقًا. إنه يؤدي دوره، ذلك الدور الذي كلّفه لنفسه:

- كانت هذه خدعة قذرة.

يقول وهو يحدق بي من فوق نظارته القرائية:

- أمك محقة، أنت وغدٌ ماكر، مثله تمامًا.

أسطوانة أمي الغنائية لعيد الميلاد تعزف بصوت عالٍ في وضع التشغيل العشوائي. ما زال هناك قهوة وفطيرة وآيس كريم بانتظارنا. أجلسُ على مسند قدم، مواجهًا والتر، وظهرُني إلى المدفأة، وأحتسي شيئًا مذاقه يشبه نبيذ البورت. والتر يدخن أحد السيجار الرفيع الذي استعاض به عن السجائر. نلعب الكاناستا بأوراق من مجموعتين، أوراق مقامرة مستعملة مثقوبة من الوسط. أمي وبوب الأب في المطبخ، يتحدثان همسًا بجورب الحوض. يقول والتر وهو يسحب ورقة من المجموعة:

- وأنت جاسوس فوق ذلك كله..

ليس رجلًا ضخمًا. بالكاد يصل إلى ذقني. لديه بعض المال في البنك، لكنه شبه عودٍ أمام والدي. وكأغلب الأشياء، يأخذ اللعبة بجدية مفرطة، ممسكًا بأوراقه ملتصقة بصدره.

- أتعرف يا بوبي؟ أنت لا تساعد أحدًا. قد تظن أنك تفعل، لكنك مخطئ. أنت تراهن على الفريق الخاطئ، يا بوبي. لاحظ ما أقوله لك يا بني. لا تنحرف أبدًا عن الفائز المضمون. ولا تراهن أبدًا على حصان ميت.

أستطيع رؤية أمي وبوب الأب من خلال المدخل. يقفان بزاوية جانبية، يمسكان طبق عشاء مليئًا بالرغوة بينهما، منخرطين في لعبة شدّ حبل مصغرة. بوب الأب يبتسم، وأمي تميل برأسها وتنظر إليه وكأنها لم ترَ شيئًا بهذا الروعة من قبل. أرتّب أوراقي، وألعق أسناني ببطء قبل أن أبتسم لوالتر. ثم ألقي ما أعتقد أنه يدّي الفائزة.

(النهاية)

***

.......................

الكاتب: بوب ثوربر/ Bob Thurber وُلد بوب ثوربر عام 1955 ونشأ في فقر مدقع، قضى عقدين من الزمن يعمل في وظائف وضيعة بينما يدرس ويُتقن فن الكتابة القصصية. خضع لفترة تدريب طويلة، حيث كتب تقريبًا كل يوم لمدة عشرين عامًا قبل أن يقدّم أعماله للنشر. منذ ذلك الحين، حصلت قصصه القصيرة على قائمة طويلة من الجوائز الأدبية والتقديرات، منها جائزة باري هانا للرواية. ظهرت أعماله في أكثر من 70 مختارات أدبية. ألف بوب ستة كتب، منها "فتى توصيل الجرائد: رواية غير تقليدية". يعيش حاليًا في ماساتشوستس.

* تعليق على القصة من محكمة المسابقة، ديانا نادين:

لا أتردد في تكرار ما قلته العام الماضي عن مدى استمتاعي بقراءة جميع المشاركات. إنه دائمًا لمن دواعي السرور، ولا أنفكّ أبدًا عن الدهشة من الخيال والإبداع الذي تتسم به العديد من القصص. لكن ما أثار إعجابي بشكل خاص في قصة "عيد الشكر 2010" هو الحوار الذكي للغاية والوصف الدقيق للمشاهد. كانت الصور حيةً لدرجة أنها تَمثلت في مخيلتي أشبه بكوميديا أمريكية على شاشة التلفزيون أو السينما، وليس مجرد قصة قصيرة. دائمًا ما نقول "اعرض ولا تُخبِر"، والفقرة التالية مثال رائع على ذلك، حيث تقدم لمحة عن شخصية والدة الراوي بكلمات قليلة: "تظهر أمي في المدخل، ثلاث لفات وردية من بكرات الشعر ملفوفة بإحكام حول رأسها، بينما تمسك ملعقة خشبية. وعلى مئزرها كُتب: "أنا الطاهية، لا خادمتكم، فلا تطلبوا مني شيئًا!"

على السطح، تبدو هذه قصة قصيرة مضحكة عن عائلة مضطربة تحتفل بعيد الشكر، لكن ما يميزها ويجعلها تستحق الفوز هو الذكاء والتبصر الذي يكشف لنا ما يحدث حقًا خلف الكواليس. النص سهل القراءة، لكن من الواضح أنه نتاج صياغة مدروسة بعناية.

قصة: فيرجينيا فاينمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

مرة أخرى أراد زوجي الانفصال عني. لم آخذ الأمر بجدية لأنني أعلم أننا لن ننفصل أبداً. نحن نحب بعضنا كثيراً. السبب كان كالعادة: قلة وتدني مستوى العلاقة الجنسية.

قال لي:

- أنتِ لا تشتهينني، عندما أقترب منكِ تتشنجين.

شرحت له كما لو كان طفلاً:

- لكني أشتاق إليك. وماذا عن يوم عيد ميلادك، ألم نكن معًا؟

- أيجب أن يكون عيد ميلادي حتى يحدث ذلك؟

بدأت أفتّش في ذهني عن تواريخ أخرى، قبل وبعد عيد ميلاده. كانت هناك أيام... كانت.

- وماذا عن تلك المرة التي...؟

قاطعني:

– دائمًا كأنك تقطرينها لي بالقطّارة، كأنها صدقة. عمري أربعة وأربعون عامًا وأشعر أنني ميت.

قلقت.

في اليوم الأول، خرجت لأتسوق، نظّفت البيت، حضرت العشاء، شغّلت برنامج كابوسوتو. تحدثت عن مزايا المودة، والحب غير المشروط، ومعرفة أن هناك شخصاً يمكنك الاعتماد عليه في كل شيء. رد عليّ.

- لهذا أفضّل أن أذهب لأعيش مع أختي.

في اليوم الثاني، حدّثته عن أزواج آخرين نعرفهم، مضى على زواجهم أكثر من خمسة عشر عامًا مثلنا، ورأيت كم هم منسجمون؟ لا يمارسون الجنس أبدًا. وهم يعتنون بأطفالهم و يذهبون إلى السينما والمسرح، ويسافرون… العلاقة لا تُنهار بسبب هذا...

قال لي:

- لا شان لي بالآخرين.

في اليوم الثالث، حدثته عن البيت، بيتنا الجميل، وعن تعقيد بيعه، وتقسيمه... قال:

- سأرحل أنا.

- لكن حبيبي، لديك آلاف القطع من الأثاث، ومجموعات من المجلات، والأرشيفات.

أمسكت بيده ونظرت إليه، منتظرةً أن يقول لي إنه يحبني، وأننا سنتراجع عن القرار. نظر بثبات إلى حمامة على النافذة.

في اليوم الرابع قلت:

- حسناً، سأرحل أنا.أنا امرأة مستقلة، لا أحمل أعباء، أكره الاستهلاك، أكتفي بأشياء قليلة، لا أحتاج حتى ثلاجة، سأستأجر غرفة صغيرة، ولكن كيف سأدفع كل هذا: تأمين، وشهر مقدم، وعمولة شهرين للسمسار، والمصروفات المشتركة التي أصبحت باهظة جداً، بالإضافة إلى أننا اشترينا هذا المنزل معاً. أتذكر كم أقرضتنا أختي من المال؟ أتذكر كيف أعجبنا بالفناء الصغير لنشرب الماتيه و...؟

قال:

- سأدفع لكِ إيجار الغرفة حتى بيع المنزل.

في اليوم الخامس بكيت على القطة، حملتها طوال الوقت، جروتنا الصغيرة، طفلنا المشترك، سأفتقدها، انظر كيف تمدّ كفّها الصغير إليّ. قال:

- خذيها معكِ.

– كيف؟ ألا تحبها؟ إذًا لم تحبّها أبدًا؟

دموعي على فراء القطة التي تهتز في حجري.

- سأفتقدها، لكن إذا أردتِ، خذيها معكِ.

في اليوم السادس اقترحت أن نحدد يومًا ثابتًا في الأسبوع للجنس، الجمعة، صباحًا وظهرًا ومساءً، مع مشروب، وجل، وملابس داخلية مثيرة، وألعاب....

-  ما رأيك ؟

- قلتِ هذا من قبل ولم نفعل شيئًا.

في اليوم السابع:

- هل تعتقد أن الجنس هو كل شيء يا مارتن؟ هل لأنك تمارس الجنس جيداً مع شخص ما ستحصل على ما كان بيننا طوال هذه الـ15 سنة؟ هل تعرف كل الأشياء الجيدة بيننا، التي ترميها في القمامة؟ هل تظن أن العلاقة تُبنى فقط على الجنس؟

- لا، لكن حين أبني علاقة جديدة، سيكون الجنس فيها أمرًا مهمًا.

حينها حزمت حقيبتي وخرجت. وعند الباب قلت له:

- يوم الاثنين ذهبت للتسوق.

-   نعم، عرفت.

- اشتريت أعواد ثقاب. علبة من نوع "غران فراغاتا". فيها أربعمئة عود.

-   "......"

- لا أحتمل أن تعيش أعواد الثقاب أكثر مني ستشعل بها سخان الماء لتغتسل بعد أن تكون مع امرأة أخرى.و ستشعل بها الموقد لتُعد لها فنجان قهوة.

نكس رأسه. بدأ في البكاء. أدخل حقيبتي، عانقني، قبّلني قبلة طويلة. قال لي:

-دعينا نحاول.. إلى أن تنفد أعواد الثقاب.

(انتهت)

***

....................

الكاتبة: فرجينيا فاينمان/ Virginia Feinmann: (بوينس آيرس، 1971) كاتبة وصحفية ومترجمة.

https://www.audiocuento.com.ar/una-vez-mas-mi-marido-se-quiso-separar-de-mi-virginia-feinmann

من الأدب الكردي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - الشبك

حدقت إلى السماء

فلم تقع عيني

على أي زرزور

من تلك الزرازير

التي هاجرت العام الماضي

فاستغربت ذلك

وتساءلت مع نفسي

منذهلا

ترى هل من شباك

في المهجر؟

**

2 - تفادي

إن هذا البلبل يتجنبني

ويوكر بعيدا عني

دون أن يعلم

بوجود آلاف البلابل

الجميلة الصداحة

مثله

تغرد في قلبي

**

3 - ورد

من أجل عينيك

تتفتح كل هذه الورود

وتغتاظ

إن لم أقطفها لك

فلا تعاود الأنتشار

في السهول

في الربيع المقبل

وسوف تكف

عن التفتح

***

....................

نوزاد رفعت: شاعر كردي من مواليد 1951 أربيل – العراق

عاما بعد صراع مع مرض السرطان   (72) وافاه الأجل في عام 2022 عن

كتب الشعر منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي

نشر في العديد من الصحف والمجلات الكردية

الكتب التالية: صدرت له

(غابة ذلك السفح) 1978

(القلق) 1985

(الثلج الدافيء) 1992

- عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

بقلم: يان جي

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في البداية كانت نانا أول من ذكر اليابانيين. كان يوما ماطرا في بالينا. الريح الباردة والرطبة تهب من الشاطئ الغربي، وتزمجر عبر البلدة، وتجرف معها آخر ما تبقى من الصيف الأخضر. كنا في حجرة جلوس نانا. النار مشتعلة. وأكواب الشاي في أيدينا. البسكويت على الطاولة. قالت نانا إن الطقس الآن أبسط مما كان عليه في طفولتها. أضافت: حينها كنا على الأقل ننعم بعشرين يوما من الصيف. وكنت مفتونة آنذاك بالجيرانيوم الموجود على حافة النافذة. رأيت أصيصين منه، أحدهما بزهور وردية، والثاني بلون أحمر قرمزي، وكلاهما مزهر بطريقة سريالية ومنعشة، كما لو أن هذه الأيام هي بداية الصيف. وأدهشني، تقريبا، استفزني، مناعة الجيرانيوم تجاه الطقس، حينما سمعت نانا تقول: صادفتهم عدة مرات، هؤلاء اليابانيين، في الثمانينات بلا شك.

قال توماس: نعم. اعتادوا زيارة البلدة كثيرا.

هل تتذكرينهم أنت أيضا؟.

شعرت نانا قليلا بالدهشة وقالت: طبعا أتذكرهم. رافقت واحدا منهم في المدرسة.

واستدارت نانا نحوي وأخربتني لأبقى في دائرة الحديث: هؤلاء اليابابانيين الذين نتحدث عنهم كانوا يعملون في مصنع كيلالا. استثمر المصنع في الثمانينات أو أواخر السبعينات شركة يابانية كبيرة. ولكنه أغلق أبوابه من فترة طويلة.

سألتها: هل لا زالوا يعيشون هنا؟.

قال توماس: لا. رحلوا منذ عهد بعيد.

قالت نانا: لا يمكن أن تعلم. لا بد من وجود بعضهم هنا. سمعت بافتتاح سوبر ماركت آسيوي كبير للتو في سليغو. هل تصدق ذلك؟.

لاحقا تركنا نانا في المطر الرذاذي. واختصرنا طريقنا من خلف محطة الوقود لنصل إلى البيت بسرعة. رأينا بعض المراهقين يتسكعون وراء جدار إحدى الحدائق الخلفية. صبيان وثلاث بنات. ويدخنون. وعندما تخطيناهم، نظرت لي بنت بشعر أزرق كأنني مشبوهة. والتقطت رائحة الحشيش. ابتعدنا بهدوء، وانعطفنا عند نهاية الشارع.

سألت توماس: كيف كنت تعيش هنا في أيام مراهقتك؟.

قال: ألعب كرة القدم في المدرسة. وأتبادل النكات… الروتين المعتاد كما أفترض.

حينما وجدت في شقة توماس نسخة من “مطاردة الغنمة البرية” لموراكامي شعرت بالاستغراب. وقلت له: توقعت أنك لا تحب قراءة الكتاب اليابانيين.

قال: بل أقرأ كل شيء. ثم إنه ليس كاتبا يابانيا بالضبط.

كان يجلس على الكنبة بسرواله القصير فقط، ويسكب لنفسه الويسكي. ترك الزجاجة، ورفع الكأس، وأخذ رشفة. حصل ذلك سابقا عندما كنا في نيوجرسي. ومرت علينا خمسة شهور ونحن نلتقي، وخرجنا معا ست مرات. تناولنا العشاء. شاهدنا الأفلام والعروض المسرحية وسوى ذلك من وسائل تجفيف النقود. وسريعا بدأنا نشتري الخضار، ونتفحص الكتب، ونقتني التسجيلات، كل ذلك معا. واحتفظت بحقيبة اللوازم النسائية في بيته. وفعل هو المثل. باختصار تعلق الواحد منا بالآخر. وقال طلاب كلية الأدب الإنكليزي في جامعة آر - والتي استضافتنا بصفة كتاب مشاركين ببرنامج الكتابة الدولي. قلت له وأنا أجلس على طاولة الطعام وأقلب الصفحات: آسفة. لكنه أهم كاتب ياباني في المرحلة الحالية. ألا تعرف ذلك؟.

نعم. ولكنه متأمرك جدا. وشائع جدا. وذوقه استهلاكي جدا.

فكر لثانية خاطفة وقرر أن ينهي كلامه بقوله: على نحو ما.

قفزت من الطاولة وأنا أقول: إأفهم أنه لديك اعتراض عليه.

قال: كلا. كلا. ليس عندي مشكلة معه. هو كاتب جيد. ولديه رؤية وطموحات. ونثره أنيق. ولكنني غير مرتاح للطريقة غير الناضجة التي يستهلك بها نفسه. نوع من أنواع التعلق بالذات. تسلسل الذات. هناك خط رفيع بين التكرار الشعري والإنتاج التجاري. وأعتقد أنه تجاوز ذلك الخط منذ وقت بعيد.

جلست بجواره وسألته: هل تشير إلى أعمال موراكامي الرابحة؟.

ملأ فمه بالويسكي وقال: كلا ونعم. يمكن القول لتفسير معنى ما ذكرت .. له علامته الخاصة، كليشيهاته، طرائفه…

ترك الكأس الفارغ وتابع: والسرد الموازي، البطل وخياله القرين، غرائبه والتماعاته، والإحساس المستمر بالبلوغ والظهور المتكرر لكل هذه العناصر..

أضفت: ولا تنس البنات التوائم والصدور المتشابهة تماما.

تابع يقول: ونعم. الجنس. الجنس في كتبه دائما تعبر بقوة عن وجهة نظر وإحساس الذكور. وهذه مشكلة وليست حلا. وهي شائعة بين الكتاب الذكور.

ملت نحوه وقبلته. وهمهمت: أنت تعلم أنني أشتعل حينما تكون جادا.

عانقني وقبلني. وذهبنا إلى السرير ثانية.

سألت توماس في ذلك اليوم: هل تتذكر وقتنا في برينستون. حينما تكلمنا عن موراكامي؟. يبدو كأنه مرت عليه أوقات طويلة.

كان على الكنبة، يقرأ الصنداي تايمز، وحوله أكوام من الصحف. لم يرد حتى مر وقت. وقال: لا تكوني سلبية وعدوانية.

زادت غزارة المطر، وضرب نافذة مطبخنا مثل رصاص صغير الحجم، ثم سال على الأرض. وبصعوبة أمكنني رؤية أشجار التفاح في الحديقة الخلفية. سألته وأنا أغسل البطاطا: هل أخبرت شون برسالة قصيرة أن العشاء سيتأخر؟.

قال توماس وهو في كرسيه ذي المسندين يقرأ: لا تقلقي. لن يتذمر أحد.

في تلك الأمسية، جاء من سوينفورد شقيق توماس المدعو شون مع صديقته بالسيارة، وانضما إلينا على العشاء. وحالما التأم شملنا توقفت الأمطار.

سألت شون: كيف كان شكل توماس في مراهقته.

آه. قالت سارة صديقة شون وهي ترفع يدها. ابتلعت ملء فمها البيذ الأبيض وقالت: كان نحيفا جدا ويرتدي بلوزات فضفاضة وزوجا من النظارات السميكة. ولا يتكلم مع الفتيات. وأعني ذلك. على الإطلاق.

ضحكت ونظرت إلى توماس قائلة: حقا؟.

كان يقطع شرائح الخنزير بحرص. قال: نعم. كان بليدا نوعا ما. لا يحب الرياضة، ولا الموسيقا. أحب الكتب فقط على ما أفترض.

قلت: يبدو لي أيضا بليدا.

عاد المطر. وجلد السطح بقوة.

كان كذلك. هل تتذكرين صديقتي بولين؟. كانت المسكينة مغرمة بتوماس لبعض الوقت. وكلما أتيت لرؤيتك ترافقني، وتتسكع حول البيت وتبذل جهدا لتلفت اهتمام توماس. بنت مسكينة.

أنهت سارة كأسها وأومأت طلبا للمزيد.

قدم لها شون الزجاجة وقال: بولين من؟. بولين موراي؟.

كلا. ليس بولين موراي. أنتم أيها الشباب لم تكونوا بمجموعتها. أعني بولين أوكالاغان. أحد أخوتها لاعب روكبي.

ضحك شون بصوت مرتفع وقال: آه. آل أوكالاغان. بالتأكيد أذكر بولين. كانت تحب توماس؟ حقا؟ متى كان ذلك؟.

ضيقت سارة عينيها وقالت: ربما في السنة الثالثة أو الرابعة من المدرسة الثانوية. وأعتقد في ذلك الصيف حينما اختفى الصبي الياباني. صبي من مدرستك. ماذا كان اسمه؟.

قال شون: آه. أتذكر الآن. ذلك الصيف كان سيئا. ماطرا وتعيسا فقط. نعم وخرج الحراس بحثا عنه لعدة أيام. ماذا كان اسمه يا توماس؟. ألم يكن في صفك؟.

نظرنا جميعا إلى توماس الذي كان ينهي طبقه بطريقة الجراح.

سأل شون مجددا وابتسامة عريضة على وجهه: هل تتذكر اسمه؟.

أفلت توماس أدوات طعامه وشرب من الكأس. ثم قال: تيتسويا. اسمه إيتا تيتسويا.

أول جملة نطق بها توماس معي كانت: هل أنت يابانية؟. كان ذلك في يومي الثاني في أمريكا. وكلانا كنا في مكتب التسجيل في جامعة آر - بانتظار إصدار بطاقة الجامعة.

قلت له وأنا أغلق كتابي: كلا. لست يابانية. أنا صينية.

وحينها كنت أقرأ “الضجة البيضاء” لدون داليلو. والتقطتها من رفوف صديقي تانغ قبل أن أغادر بكين. كان تانغ يمتلك مجموعة كبيرة من الكتب الإنكليزية الأصلية، وكلها هدايا من والده، الذي يعمل في وزارة التربية ويسافر إلى الخارج بانتظام لحضور مؤتمرات مختلفة. وسمح لي تانغ باختيار كتاب واحد هدية وداع قبل السفر فاخترت داليلو. تذكرته كيف زمجر وقال: آه. لا. لماذا أخذت الضجة البيضاء؟. فقد قرأته عدة مرات. قلت له: اخترته لكن ليس للقراءة.

تنهد قائلا مثل امرأة ريفية: إذا لماذا؟.

لأنه الكتاب الذي يعبر عن موقف احتجاج دائم، منارة لا يراها غير عيون البحارة المتشابهين، ويترك علامة تدل على وجودي في الغابة، كي يجدني رفاقي وينقذونني. وباعتبار أنني كنت ذاهبة إلى برينستون في نيوجيرسي كان لا بد أن أختار كتاب “الضجة البيضاء”. بعد أن قلت ذلك لتانغ أصبح وجهه حزينا وغريبا. وقال: أعيديه لي بعد عودتك. لم أفعل ذلك. في مكتب التسجيل نظر توماس لكتابي وقال: هذه روايتي المفضلة من بين أعمال داليلو.

حقا؟. أنا معجبة بها أيضا. وربما هذه خامس أو سادس مرة أقرأها.

هل أنت طالبة هنا؟.

كلا. كلا. تجاوزت مرحلة الطلبة. ولكنني كاتبة زائرة في قسم الأدب الإنكليزي.

آه. هل أنت كوان. لحظت أنك مألوفة. شاهدت صورتك في موقع البرنامج. أنا توماس كيني. الكاتب الإيرلندي.

وأشرقت ملامحه بشكل واضح. وتعرفت عليه. كان الشاب الإيرلندي الذي اعتقدت أنه حسن المظهر عندما نظرت في قائمة الكتاب الزوار.

قلت له: أنت لا تشبه صورتك.

آه. كيف؟.

قلت له: تبدو غامضا في الصورة.

ضحك وقال: بسبب الطقس الإيرلندي.

ولم نخرج معا إلا بعد عدة أيام. عقد القسم حفلة عشاء للترحيب بالكتاب الزائرين. بعدها ذهبنا إلى بار قريب وطلبنا المزيد من البيرة والناشو. قال الكاتب الأنغولي وهو يتناول قطعة ناشو من كومة جبنة سائلة صغيرة: كيف لا يمكن لأحد أن يحب أمريكا؟.

جرع توماس شراب البودفايزر الذي قدموه له قائلا: نعم. وكيف لا تحب بيرتهم؟.

كان معنا محاضرة شابة من قسم الأدب الإنكليزي جاءت مع حلقة شباب قابلتهم، قالت: ولكنك لم ترد على السؤال يا توماس؟ كيف أصبحت كاتبا؟.

زفر توماس قائلا: ها. كما ترين. أنا من الجزء الغربي من إيرلندا. المزدحم بالكتاب. ولدينا في البلدة التي أعيش فيها كتاب أكثر من الجزارين.

سألته المحاضرة: رائع. هل من سبب لذلك؟.

هز توماس رأسه ووقف وهو يقول: الطقس فقط. وأنا ذاهب إلى البار. من يريد ويسكي؟.

رفعت يدي قائلة: أنا. هل يمكنك أن تسألهم إن كان لديهم يامازاكي؟ الويسكي اليابانية.

نظر نحوي لحظة. مبهوتا على نحو معتدل. ابتسم وقال: أنت مندفعة جدا نحو هذه المدينة يا سيدتي. وسأحاول جهدي. أحيانا كنت أفتقد لتوماس في نيوجرسي. ليس لأنه يبدو أفضل من صورته ولكن لأنه أقرب للإنسان حين يتكلم معه، وشعرت برقته عند تبادل القبلات. ولذلك هو مؤهل للكلام عن إيتو تيتسويا، بالطريقة التي ناقشنا بها موراكامي بحماس. وكنه حاليا يبدو قليل الاهتمام. أبعد طبقه وسأل: ماذا يوجد للتحلية؟.

قالت سارا: أحضرنا تورتة التفاح.

وقف وقال: ممتاز. سأخفق القشدة.

سألت شون وهو في طريقه إلى الثلاجة: وهل وجدوا الصبي الياباني في النهاية؟. أين كان؟ ولماذا اختفى؟.

قال شون: لا أذكر الآن.

قالت سارة: يمكنك البحث في أرشيف الجريدة المحلية. وأنا متأكد أن لديهم حكايات من تلك الفترة.

عاد توماس مع القشدة وبدأ البحث عن الخلاطة وقال: لماذا هذا الاهتمام المفاجئ باليابانيين؟.

لا أعلم. ربما يمكنني كتابة قصة عنهم. أشعر بالقرب منهم.

أخذ الخلاطة من الجرن وقال: لماذا؟ أنت لست يابانية؟.

قلت حينما صب توماس القشدة في طبق كبير وشغل الخلاطة: أقرب لهم من هنا.

ملأت الضجة الكهربائية المطبخ. في تلك الليلة كنت أتابع القراءة حينما جاء توماس إلى السرير. قال وهو يرفع طرف اللحاف من جانبه: علي أن أذهب إلى سليغو في الغد. هل ترافقينني؟.

قلت: ربما كلا. علي أن أذهب إلى المكتبة لأفحص الصحف القديمة.

التفت نحوي. وشعرت بأنفاسه وهي تجرف الفراغ بيننا، استنشاق. زفير.

قال: أنت جادة؟.

ولم لا؟. أنا مهتمة. ربما أجد حكاية وأكتبها. كان اليابانيون في التسعينات يعيشون في مايو. لماذا لم تذكر ذلك أبدا؟.

ولكنك لم تطلبي مني أن أقدم لك تقريرا عن كل الشرقيين الذين وضعوا قدمهم في هذا المكان. بعض البورميين يعيشون في محيط البلدة. هل ستذهبين لإجراء لقاء معهم؟.

انزلق قليلا. واتخذ موضعه المناسب، وأغلق عينيه. واصل المطر الهطول طيلة الليل. وتوقف قبيل الفجر. وعندما غادرنا البيت كان الطقس صافيا ومشرقا. ظهرت الجبال بنفسجية في سماء زرقاء كالكريستال. قادني توماس إلى البلدة قبل أن يغادر إلى سليغو. وأنا أغادر السيارة قال: نلتقي لاحقا.

كانت علاقتي ودية مع مدير المكتبة. اسمه بول. قال: هويا كوان. بكرت اليوم. الطقس ممتاز في الخارج.

ابتسمت وأنا أقول: نعم. تماما. هل بمقدوري أخذ نظرة من الصحف القديمة؟.

جر بول أرشيف المنطقة الغربية 1990 - 1999. عشر أعوام مضغوطة في إسطوانة فيلم بحجم راحة اليد. وعلمني كيف أستعمل جهاز الإسقاط في غرفة القراءة. وقال: الآن خذي وقتك.

وفعلت. الكثير وقع في التسعينات. كل مرة، وكلما رحلنا أكثر نحو الماضي تبدو لي حياة توماس غريبة أكثر والعكس بالعكس. في عام 1992 كان توماس في غرب إيرلندا مراهقا بشعر طويل، بينما كنت أنا تلميذة صينية ذات سبع سنوات. ويوميا يقودني جدي إلى المدرسة بدراجته ثم يعيدني بعد الظهيرة. وأكتب واجباتي المدرسية في غرفة نومهما حينما كانت الجدة تطهو العشاء على الشرفة. كان العالم صامتا تماما. عندما وجدت في النهاية حكاية إيتو تيتسويا لم أكن متيقنة أنها التي أبحث عنها. ورد في العنوان: تم العثور على مراهق من سكان المحلة بعد ست أيام. لحسن الحظ، كانت توجد صورة. ورأيت صبيا له مظهر شرق آسيوي. تيتسويا. وكان يضحك بحرارة بطريقة لا توائم الموضوع. مثل أحد كلاب شيبا إينو الشهيرة. وقف وسط عدة أولاد. وبعده مباشرة زوجي توماس كيني. وشعره يتدلى مقدار بوصتين تحت كتفيه. ملقيا على وجهه ظلا طويلا مستطيلا. ولم يكن يبتسم ولا يضع نظارات. وظهر غامضا وبعيدا كما لو أنه أقحم على الصورة. البطل وخياله التوأم. سمعت صدى صوته يتردد في رأسي. في برينستون كان مكان زيارتي هو مكتبة لبيع الكتب وتدعى “المتاهة”.

وهو في ناسو ستريت. وغير بعيد عن مبادلات تسجيلات برينستون المشهورة عالميا. والتي يغرق فيها توماس نفسه لساعات، بحثا عن قرص لكينغ توبي أو ساينتست. وفي كل مرة، وهو بطريقه إلى متجر التسجيلات، يزورني في مركز الرعاية مع فنجان قهوة ويقول قبل أن يغادر: أراك لاحقا. ولاحقا يعني بعد فترة طويلة. عموما أحيانا ينتهي مبكرا ويأتي لينضم لي في “المتاهة”. تذكرت أنه في أحد الأيام وكنت جالسة على الأرض، وأقلب بكتاب، وجاء، وسألني عما أقرأ. عرضت عليه الكتاب، وهو “راقصة إيزو” لكاواباتا. وقلت: كاتبي المفضل في كل العالم.

قال: آه. كاتب ياباني. لم أقرأ بالفعل لكتاب يابانيين. كيف أسلوبه؟.

قلت وأنا أعض شفتي بعض الوقت بحثا عن كلمة مناسبة: هو مثل… ممتاز على نحو لا يصدق. حزين لدرجة مذهلة. و… مع لمسة إيروتيكية خفيفة.

هممم. وجلس توماس بجانبي وتابع: أنا أصغي الآن.

هذه القصة هي عنوان المجموعة. وبحثت عن الصفحة من أجله. تابعت: ها هي. وهي ميلانكولية فعلا. وتدور حول الحب الأول.

قلب عدة صفحات وقال: آه. حقا؟. هل يمكننا الذهاب لتناول البيتزا. أنا نصف جائع.

أمام منصة البيتزا سألته: والآن خبرني. متى تصادف أول حب لك؟.

قطب وجه وابتلع البيتزا. وأخيرا قال: بعمر 17 تقريبا.

سبع عشرة؟. ومن هي حسنة الحظ؟.

ابتلع بعض البيرة وقال: بولين.

بولين؟.

نعم. بولين من سوينفورد. لا شيء مذهل أو ميلانكولي. بنت محلية فقط.

وعاد إلى طعامه. أكلنا بهدوء لبعض الوقت وبعد شريحتي بيتزا استعاد نشاطه وقال: وماذا عنك؟.

قلت له: أول حبيب لي كان تانغ. قابلته في مسابقة شعرية، مناسبة نصف رسمية أعدها قسم الأدب الإنكليزي. اقتحم تانغ المكان فجأة. وقفز على المسرح وزمجر ببعض أشعار بابلو نيرودا. تأثر نصف الحضور بينما صفق النصف الآخر. لاحقا، حينما خرجت للتدخين جاء وكلمني وتبادلنا أرقام الهواتف. وترافقنا لبعض الوقت ثم انتبهنا أن الحال عرضة لمزيد من التدهور فتوقفنا. وعدنا صديقين. وكان تانغ صديقا ممتازا. وكان بلا جدال مركز دائرتنا الاجتماعية. وأفضل شيء أنه كان المفضل. ولد أحمر إن صحت العبارة. عدا عن رفوف الكتب الإنكليزية، وأقراص تسجيلات فينتاج، كان يقدم لنا ويسكي يامازاكي المستورد باستمرار مع علب أصلية من مارلبورو وايت. وفي اليوم السابق لسفري إلى أمريكا، حجز تانغ جناحا في فندق بينينسيولا لإقامة حفل وداع. وجاء كل الأصدقاء. جلسنا على السجاد، وتبادلنا زجاجة يامازاكي 12 عملاقة، وقرأنا الشعر معا. وفي وقت ما صاح تانغ: أنت مغادرة غدا إلى أمريكا. ويجب أن تدخني أول سيجارة حشيش في أرض الوطن.

وفعلت ذلك. وأتذكر أنني شعرت بالسعادة لبعض الوقت ثم تقيأت. في اليوم التالي، ذهبت إلى المطار ولم أقابل تانغ منذئذ.

بعد نهاية المنحة في جامعة آر - تجولت أنا وتوماس في الولايات لثلاث شهور. وخلال تلك الفترة سمعت من صديق مشترك أن تانغ توفي بحادث سيارة قبل اعتقال والده بتهمة الفساد. وعموما تلك قصة أخرى.

بالعودة لقصتنا. اختفى طالبان من جامعة سانت مورداك في الرابع من آب. وأبلغ السيد كيني الحرس عن الحادث في السادس من آب، وهو والد أحد الطالبين. بحث حراس ومتطوعون من بالينا وكيلا لثلاثة أيام عنهما وأخيرا وجدوهما في البئر المقدس لسانت ماري قرب روسيرك آبي. ومن غير الواضح كيف شقا طريقهما إلى البئر وبقيا هناك حوالي ست أيام. وبالأخص أن الأيام الأخيرة كانت ماطرة جدا. وبفضل الحراس والمتطوعين عادا إلى البيت سالمين، وبرعاية مناسبة من عائلتيهما… وانتبهت مجددا أنه لا يسعنا الاعتماد إلا قليلا على ذكرياتنا. بالنهاية الذكريات هي اعترافات في محكمتنا. كنا نختار ما يخدمنا، ونغض البصر عن اللحظات غير المريحة ثم ننسج معا المواد لنستعملها في صالحنا. وأنا أغادر المكتبة، تذكرت نقاشا مع توماس حول اسمي.

سألني: ماذا يعني كوان بالصينية؟.

يعني النبع. أو البئر. مياه تتسلل من تحت الأرض.

تنهد وقال: آه. هذا جميل. وقبل يدي.

ملت عليه، وألقيت رأسي على كتفه. وقلت: هذه كلمة بسيطة. ويوجد كلمات صينية أجمل كثيرا.

اذكريها. اذكريها لي.

قلت: لا يمكنني. لا يمكنني شرح جمال اللغة. وهذا شيء يصعب شرحه بيننا.

قبل يدي مجددا وقال: حسنا. لا تكوني متفائلة جدا. لا بد هناك أشياء كثيرة لا يسعنا تناولها بالكلام بيننا.

عدت إلى البيت بمحاذاة ضفاف نهر موي. لم تمطر ليوم كامل. البارات امتلأت قبل موعد العشاء. أشياء لا يمكننا تداولها بيننا. ماذا يعني بالضبط بذلك؟. هل يفكر بإيتو تيتسويا بالطريقة التي أتذكر بها الماضي. في الحقيقة يجب أن أعترف أنه لا يمكنني التأكد إذا كنا تكلمنا فعلا. مضى على ذلك فترة طويلة في أمريكا. بعد قص الحكايات والتعب والضنى مرات كثيرة، أصبح توماس في نيوجيرسي شخصية خيالية بنظري. من سيحدثني، بعد الجنس المضمخ بالروح، عن الأدب والموسيقا والبلاد واللغات بالإضافة لأشياء تافهة أخرى. ومع ذلك هناك ما يجب أن يحدث في القصة التي سأكتبها. قصة اليابانيين. ستكون حكاية مثالية. عندما رجعت إلى البيت شاهدت توماس قد عاد. وأدهشني أنه في المطبخ يطبخ.

سألته وأنا أتخلص من معطفي: ماذا تفعل؟.

قال ومغرفة كبيرة في يده: في طريق العودة إلى البيت ذهبت إلى السوبر ماركت الآسيوي الذي ذكرته نانا وحصلت على بعض الجايوزي. توقعت أنك ربما تفضلين تناول طعام صيني.

أسرعت إلى القدر لأفحصه قائلة: هل وضعتها؟ وهل غليت الماء أولا؟.

لاحقا تناولنا الجايوزي في وقت العشاء وأثنينا على أشجار التفاح الموجودة في الحديقة الخلفية. وهي تلمع تحت شمس الغروب الملتهبة. انتهى اليوم دون عناء، وترك فقط آثارا بلا شكل ولا ظل، كأنها قصة أخرى لهاروكي موراكامي.

***

...............................

يان جي Yan Ge  الاسم المستعار للكاتبة الصينية داي يوشينغ. وهي من سيشوان. تعيش في دبلن. لها 11 كتابا. منها “الحصان الأبيض” رواية قصيرة، “صورة الشيطان بالمرآة” رواية قصيرة، عائلتنا، وغيرها. حصلت على جائزة إذاعة الصين الأدبية. الترجمة من آيريش تايمز 2017.

 

بقلم: سالي روني

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

وقف ناثان قرب شجرة عيد الميلاد الفضية في صالة القادمين من مطار دبلن، ويداه في جيبيه. كان المدرج الجديد مضاء ونظيفا، ويحوي عدة سلالم متحركة. كنت للتو قد نظفت أسناني بالفرشاة في حمام المطار. حاولت حمل حقيبتي الدميمة على نحو مضحك. وعندما رآني ناثان سألني: ما هذا، حقيبة تبعث على الضحك؟.

قلت: تبدو بحالة طيبة.

أخذ الحقيبة من يدي. وقال: آمل أن لا يعتقد الناس أنني أحملها لأنها لي.

كان ما يزال بثياب العمل، بذة بحارة نظيفة جدا. ولا يمكن لأحد أن يعتقد أن البذة له. هذا واضح. وكنت أرتدي جوارب نسائية طويلة مثقوبة فوق أحد الركبتين، ولم أغسل شعري منذ غادرت بوسطن.

قلت: تبدو بحالة طيبة لدرجة غير معقولة. مظهرك أفضل من المرة الماضية التي رأيتك بها. توقعت أنني أتدهور. مع العمر. لكن شكلك جيد. ولا زلت شابا. كيف تتصرف، تمارس اليوغا أم ماذا؟.

قال: كنت أجري. وركنت السيارة هنا بالجوار.

في الخارج كانت الحرارة تحت الصفر، وتشكلت طبقة رقيقة من الجليد على زوايا لوح الزجاج الأمامي لسيارة ناثان. فاحت من داخل سيارته رائحة معطر الهواء، مع ماركة عطر الحلاقة التي يستعملها وهي “إيفينتس”. لم أكن أعرف اسم عطر الحلاقة ولكن عرفت شكل الزجاجة. كنت أراها أحيانا في الصيدليات وحين يكون يومي سيئا أفتح السدادة.

قلت: أشعر فيزيائيا أن شعري غير نظيف. ليس غير مغسول فقط ولكن متسخ عمليا.

أغلق ناثان الباب، ووضع المفاتيح في بادئ الحركة. اشتعلت اللوحة بألوان اسكندنافية لطيفة.

قال: ليس لديك أخبار خاصة لتخبريني بها شخصيا. أليس كذلك؟. 

وهل يفعل الناس ذلك؟.

هل ليك شيء من قبيل التاتو السري أو ما شابه؟.

قلت له: لو لدي لكنت أرسلتها كمرفقات بصيغة JPEG. صدقني.

كان يقود إلى الخلف ليخرج من باحة موقف السيارات، باتجاه الزقاق المرتب المضاء الذي يفضي إلى المخرج. وضعت قدمي على المقعد الأمامي، ليمكنني حضن ركبتي ولمس صدري بهما بصعوبة.

ثم قلت له: لماذا تسأل؟. هل جد جديد؟.

نعم. نعم. لدي صديقة الآن.

أدرت وجهي لمواجهته ببطء شديد، درجة بعد درجة. كما لو أنني شخصية في فيلم رعب بطيء.

قلت: ماذا؟.

قال: في الحقيقة سنتزوج. وهي حامل.

ثم أدرت وجهي كما كان بالسابق لأحدق في الزجاج الأمامي. طاف لون المكابح الأحمر الأمامي في السيارة  على الجليد مثل فعل الذاكرة.

قلت: حسنا. هذا شيء طريف. نكاتك مرحة دائما.

قال: ولكن يمكن أن يكون لي صديقة. نظريا.

سألته: عن ماذا سوف نضحك إذا معا فيما بعد؟.

نظر لي بينما الحاجز يرتفع من أجل سيارة أمامنا.

قال: هل هذا هو المعطف الذي اشتريته لك؟.

نعم. أرتديه ليذكرني أنك شخص حقيقي.

فتح ناثان نافذته، ووضع تذكرة في الآلة. من نافذة ناثان جاء هواء الليل اللذيذ والجليدي. نظر نحوي مجددا بعد أن أغلقها.

قال: أنا سعيد برؤيتك لأنني أعاني من مصاعب لو تكلمت بلهجتي الطبيعية.

هذا شيء جيد. كنت أتخيلك طيلة الوقت وأنا على متن الطائرة.

أتشوق كي تروي لي ذلك وأسمعه منك. هل تودين أن نشتري طعامنا ونحن في الطريق إلى البيت؟.

لم أخطط للعودة إلى دبلن في عيد الميلاد، ولكن والدي فرانك كان تحت العلاج من اللوكيميا في ذلك الوقت. وقد توفيت أمي من مضاعفات الولادة ولم يعاود فرانك الزواج، ولذلك، والكلام شرعا، كان هو عائلتي الوحيدة الحقيقية. وقد وضحت في إيميلي بعنوان “عطلات سعيدة” والذي أرسلته إلى زملاء الصف المستجدين في بوسطن أنه يموت الآن.

عانى فرانك من الوصفات الطبية. في طفولته كنت مرارا ما أمكث برعاية صديقاته، وكن لا يمنحنني محبتهن، ويهملونني، ولذلك أنطوي على نفسي وأقضم مثل النيص. كنا نعيش في المنطقة الوسطى، وعندما انتقلت إلى دبلن للدراسة في الجامعة، كان فرانك يخابرني، ويكلمني عن والدتي الراحلة. وأخبرني أنها ليست “قديسة”. ثم بدأ يطلب اقتراض بعض النقود. وفي السنة الجامعية الثانية لم يتبق معي مدخرات ولم يعد بمقدوري دفع الإيجار، فبحثت عائلة الوالدة على من يمكنني أن أعيش معه ريثما أنتهي من الامتحانات.

كانت أخت ناثان الأكبر متزوجة من أحد أعمامي، ولذلك انتقلت لأعيش معه. وكنت حينها بالتاسعة عشرة. كان هو يبلغ أربعا وثلاثين سنة ولديه شقة بغرفتي نوم جميلتين، ويعيش بمفرده، والشقة مجهزة  بمطبخ مطعم بالغرانيت. وفي تلك الفترة بدأ يعمل مع “برامج سوفت وير مسلكية”، وهو عمل له علاقة بمشاعر  وتصرفات الزبون. وأخبرني ناثان أن واجبه يتلخص بتحريك شعور الناس بالأشياء: ليشتروا أشياء سيحين دورها لاحقا. وجاء الوقت الذي اشترت غوغل فيه الشركة. والآن يربح الجميع رواتب مجزية ويعملون في بناء  تحتوي حماماته على مجففات يدوية عالية الثمن.

ارتاح ناثان لحياتي معه: ولم يطرأ شيء غريب عليه. كان نظيفا، ولا يثير المشاعر الجنسية. وكان طاهيا جيدا. ونشأ لدى كل واحد فينا اهتمام بالآخر. وكنت أقف معه كلما واجه خلافا حقيقيا في مكتبه، واشترى لي أشياء كنت أراها في نوافذ المتاجر وتعجبني. وكان المفروض أن أنتظر معه حتى نهاية الامتحانات في الصيف الماضي. ثم انتهى الأمر أن أبقى برفقته تقريبا ثلاث سنوات. عشق زملائي في الجامعة ناثان، ولم يفهموا لماذا ينفق كل هذه النقود علي. أنا تفهمت الموضوع كما أظن. ولكن لم أتمكن من توضيحه. أما أصدقاؤه على ما يبدو افترضوا وجود نوع من الترتيبات الشائنة، لذلك حينما يغادر الغرفة يتبادلون الغمزات.

قلت له: يعتقدون أنك تدفع لي لقاء شيء ما.

شجع ذلك ناثان على الضحك.

قال: ولكنني في الحقيقة لا أجني شيئا يعادل بقيمته ما أنفقه عليك من نقود. أليس كذلك؟. حتى أنك لا تغسلين ثيابك اللعينة.

في عطلة الأسبوع شاهدنا “القمتان التوأم” ودخنا الحشيش معا في غرفة معيشته، وعندما تأخر الوقت طلب طعاما لا يمكن لأي منا أن يأكله كله. في إحدى الليالي أخبرني أنه يستطيع تذكر يوم تعميدي. وقال إنهم قدموا الكيك. وكان فوقه ولد صغير من القشدة.  وأخبرني أنه طفل ظريف.

قلت: أظرف مني؟.

حسنا. نعم. أنت لست أظرف منه.

دفع ناثان نفقات سفري بالطائرة من بوسطن إلى البيت. وكل ما توجب علي أن أستفسر. في الصباح التالي بعد الحمام وقفت وشعري ينقط على السجادة في الحمام. وتفحصت مواعيد الزيارة المدونة في هاتفي. كان فرانك قد أصبح في مستشفى دبلن للعلاج الداخلي من عدوى ثانوية أصابته خلال العلاج الكيميائي. كان عليه تلقي المضادات الحيوية في  السيروم. بالتدريج في الحمام، وحينما كان البخار الحار يتلاشى، تغطي جسمي طبقة رقيقة من البثور الجلدية. وعلى المرآة اتضح انعكاس صورتي وأصبح رقيقا حتى أمكنني رؤية مسامي. في أيام الأسبوع كانت ساعات الزيارة من 6 حتى 8 مساء. وبما أنه تم تشخيص حالة فرانك قبل ثماني أسابيع، أنفقت ما توفر لي من وقت بالاطلاع على معلومات في الموسوعة عن سرطان الدم الليمفاوي المزمن. ولم يبق تقريبا شيء لم أطلع عليه. تجاوزت المنشورات المطبوعة من أجل المرضى، ووصلت إلى النصوص الطبية المعمقة، واتصلت بحلقة حوار عن السرطان في الإنترنت، وقرأت pdf المقالات المحكمة. ولكن لم أتوهم أنني ابنة طيبة، أو أنني أقوم بذلك كرمى لفرانك. كنت بطبعي أنكب على المجلدات الضخمة التي تقدم المعلومات في وقت الأزمة. كما لو أنني أتأقلم مع المشاكل وأسيطر عليها بالثقافة. وبهذه الطريقة علمت كيف أنه من غير المحتمل لفرانك أن يعيش. ولم يكن مستعدا ليخبرني بذلك. رافقني ناثان بالتسوق لأجل عيد الميلاد بعد الظهيرة، قبل زيارة المستشفى. زررت معطفي ووضعت قبعة فرو كبيرة لأبدو غامضة من خلال واجهات المتاجر. كان صديقي الأخير، والذي التقيت به في جامعة بوسطن، يقول عني “الصلبة”. ولكنه أضاف: “لا أقصد ذلك بالمعنى الجنسي”. ولكنني جنسيا، كما أخبرت صديقاتي،  دافئة جدا ومعطاءة. أما الصلابة فتأتي في السياق المعاكس بالضبط.

ضحكوا، ولكن على ماذا؟. كانت هذه هي نكتتي، ولذلك لم يمكنني أن أستفسر منهن.

كان لقرب ناثان الفيزيائي مني تأثير معوق. وكلما انتقلنا من متجر إلى آخر، يمر الوقت من جانبنا مثل المتزلج على الجليد. لم يسبق لي أن زرت مريضا بالسرطان من قبل. عولجت أم ناثان من سرطان الثدي في وقت ما من التسعينات. وكنت شابة وصغيرة جدا ولا يسعني أن أتذكر التفاصيل. وهي الآن معافاة، وتلعب الغولف كثيرا. وكلما قابلتها، تخبرني أنني تفاحة بعين ابنها. وتستعمل تلك المفردات بالذات. وكررت تلك العبارة، ربما لأنها بدون معنى شرير. ولعل هذا ينطبق علي لو أنني صديقة ناثان المقربة، أو ابنته. واعتقدت أنه بوسعي أن أحتل مكاني في طيف  يبدأ بصديقة وينتهي بابنة. ولكن سمعت ناثان في إحدى المناسبات يعرفني بصفة ابنة خاله، وهي طريقة استبعاد أمقتها.

ذهبنا من أجل غداء في شارع سوفولك، ووضعنا الحقائب الفخمة بما فيها من مشتريات تحت الطاولة. سمح لي أن أطلب النبيذ الفوار وأغلى وجبة رئيسية لديهم.

سألته: هل ستتفجع علي حال موتي؟.

لا يمكنني سماع كلمة مما تقولين. امضغي طعامك.

امتثلت له وابتلعته. راقبني في البداية ثم صرف نظره. قلت له: هل ستكون فاجعة كبيرة إذا مت؟.

أكبر مأساة يمكنني التفكير بها. نعم.

لن يحزن غيره.

قال: الكثيرون سوف يحزنون. أليس لديك زملاء دراسة؟.

منحني اهتمامه الآن، ولذلك قضمت لقمة أخرى من شريحة اللحم وابتلعتها قبل أن أتابع.

قلت: أنت تتكلم عن صدمة. ولكنني أقصد فاجعة.

وماذا عن صديقك السابق الذي أمقته؟.

دينيس؟. ربما سيعجبه أن أموت.

قال ناثان: حسنا. هذا موضوع آخر.

أنا أتكلم عن فاجعة كاملة. معظم من يبلغ أربعا وعشرين عاما يتركون وراءهم الكثير من المعزين، وهذا كل ما أقوله. ولكن في حالتي لا يوجد غيرك.

يبدو أنه فكر بذلك وأنا مشغولة بشريحة اللحم.

لست مرتاحا لهذا الكلام بيننا وإلحاحك على أن أتخيل موتك.

ولكن لماذا؟.

كيف سيكون شعورك إذا مت؟.

قلت: أردت أن أعلم أنك تحبني.

حرك بعض السلطة في طبقه بأدوات طعامه. كان يستعمل أدوات طعامه مثل البالغين، ولم يرمقني بنظرة ليتأكد إذا كنت معجبة بأسلوبه. ولكنني دائما أرمقه بنظرات نفاذة.

قلت: هل تتذكر ليلة رأس السنة قبل سنتين؟.

لا.

لا بأس. أيام وقفة العيد رومنسية جدا.

ضحك لذلك. كنت ماهرة بإضحاكه حتى لو أنه لا يرغب بالضحك.

قال: تناولي طعامك يا سوكي.

سألته: هل بوسعك أن تقودني إلى المستشفى في السادسة.

نظر ناثان لي كما لو أنه يوحي أنه مستعد للأمر. كان الواحد منا يتوقع الآخر. مثل نصفين في دماغ واحد. أمام واجهة المطعم بدأ سقوط البرد، وتحت ضوء الشارع البرتقالي ظهرت رقاقات الثلج كأنها علامات ترقيم.

قال: بالتأكيد. هل تريدين مني أن أدخل معك؟.

كلا. سوف ينفر من حضورك بكل الأحوال.

لست مهتما به. ولكن لا بأس.

في السنوات الأخيرة، وهو تحت قبضة أدوية تتضمن الأفيون، كانت حالة فرانك الذهنية غير مستقرة، وتماسكه متذبذب كما يمكنك القول. وأحيانا كان يستعيد نفسه على الهاتف: فيتشكى من تذاكر مواقف السيارات، أو أنه يسمي ناثان بأسماء ساخرة مثل “السيد راتب”. كانا يتبادلان البغضاء، وكنت أتوسط بين هذه الكراهية المتبادلة بطريقة جعلتني أبدو فيها أنثى ناجحة. في أوقات غيرها، كان يحل محل فرانك رجل آخر، شخص بلا ميزة وبريء بطريقة ما، ويكرر الأشياء بلا معنى ويترك فترات صمت طويلة أحاول ملأها. ولكنني كنت أفضل الأول، لأن لديه على الأقل أخلاق مرحة. قبل تشخيص اللوكيميا، كنت أمزح وأصف فرانك ب “الأب المستبد” كلما حان وقت الموضوع في حفلات الجامعة. وينتابني الإحساس بالذنب قليلا الآن. كان غير متوقع، ولكنني لم أكن أرهب جانبه، ومحاولاته في التلاعب، مع أنها ثقيلة، لم تؤثر بي. لم أكن مكشوفة له. وعاطفيا، كنت أنظر لنفسي مثل كرة ناعمة ولكن صلدة. لم يمكنه شرائي. وكنت أنأى بنفسي. وفي أثناء المكالمات الهاتفية، زعم ناثان أن التباعد استراتيجية أتبعها للتأقلم. كان التوقيت في بوسطن، حينما خابرته، الحادية عشرة ليلا. وهذا يعني أنه الرابعة صباحا في دبلن، ولكن ناثان يرد على الاتصال دوما.

قلت له: هل أبتعد عنك؟.

قال: كلا. لا أعتقد أنني أضغط عليك كثيرا.

آه. لا أعلم. هيا أخبرني هل أنت في السرير؟.

الآن؟. بالتأكيد. أين أنت؟.

كنت أيضا في السرير. وليست هذه أول مرة أتصل به من السرير، وضعت يدي بين ساقي، وتظاهر ناثان أنه لم ينتبه. قلت له: يعجبني صوتك. وبعد عدة ثوان من الصمت المطبق، أجاب: نعم. أعلم أنه يعجبك.

طيلة حياتنا المشتركة معا، لم يكن لديه صديقة، ولكنه يأتي أحيانا إلى البيت متأخرا، ويمكنني سماع صوته من وراء جدار غرفة نومي وهو يعاشر الامرأة الأخرى. ولو تصادف وقابلت المرأة في الصباح التالي، أتأملها خفية لأقرر إذا ما كان هناك أي تشابه فيزيائي بيننا.

بهذه الطريقة وجدت أن الجميع بمعنى من المعاني متشابهون. لم أشعر بالغيرة. وفي الحقيقة كنت متحمسة لهذه المواقف بالنيابة عنه. ولكن لست متأكدة تماما إذا كان يسعده ذلك كثيرا.

لعدة أسابيع متتالية الآن كنت أنا وناثان نتبادل الإيميلات عن تفاصيل رحلتي الجوية، وخططنا لعيد الميلاد، وإن كنت أتصل بفرانك. أرسلت تفاصيل قراءاتي، واقتبست من مقالات أكاديمية أو من مواقع مؤسسات السرطان. وذكرت المواقع أنه في اللوكيميا الوعائية تنضج الخلايا جزئيا ولكن ليس كليا. وتبدو هذه الخلايا طبيعية ولكنها ليست كذلك. 

حينما وصلنا إلى أمام المستشفى في تلك الليلة، ذهب ناثان إلى موقف السيارات، فقلت: أنت انصرف. سأعود مشيا إلى البيت. نظر نحوي ويداه على المقود بالوضع المتأهب، كما لو أنه في امتحان القيادة، وأنا أفحصه. قلت له: اذهب. المشي ينفعني. أعاني من إرهاق الطيران.

نقر بأصابعه على المقود. وقال: حسنا. اتصلي بي إذا عاود المطر بالهطول. اتفقنا؟.

غادرت السيارة، وابتعد بها دون أن يلوح لي. شعرت بحب جارف ومستنفذ له، حتى أصبح من المستحيل أن أراه كما هو بوضوح. إذا ابتعد عن اتجاه نظري لأكثر من ثوان قليلة، لا يمكنني أن أتذكر شكل وجهه. قرأت أن صغار الحيوانات ترتبط بأشياء غير معقولة أحيانا، مثل الصقور حين تسقط بغرام مربيها، أو الباندا حين تتعلق بحارس حديقة الحيوانات، أشياء من هذا النوع. في إحدى المناسبات أرسلت إلى ناثان قائمة بمقالات عن هذه الظاهرة. أجابني: ربما تعين علي أن لا أحضر حفل تعميدك.

قبل عامين من الآن، حينما كنت بعمر سنتين، رافقته إلى حفلة عيد أول العام وعدنا إلى البيت بسيارة أجرة وكنا ثملين جدا. وحينها كنت أعيش معه، وأعمل على إنهاء درجتي الجامعية. وراء باب شقته، قبلتي ونحن نستند على جدار يحمل خطاف المعطف. انتابتني الحمى وشعرت بالغباء مثل إنسانة عطشانة وفجأة انسكب ماء غزير في فمها. ثم همس في أذني: ليس علينا أن نفعل هذا حقا. كان في الثامنة والثلاثين. وهكذا قضي الأمر. وذهب إلى السرير. لم نتبادل القبلات ثانية. حتى أنه نفى ذلك حينما تكلمت عن الموضوع بطرافة، وكانت هذه أول مرة لا يلتزم معي بالأصول والدماثة. قلت له بعد أسابيع: هل أخطأت بشيء معك؟. ولم تكمل ما بدأنا في تلك المرة. كان وجهي يحترق، وشعرت بالأمر. قطب وجهه. ولكنه لم يرغب بإيذائي. فقال: كلا. وانتهى الأمر. وهكذا.

كان للمستشفى باب دوار، وتفوح منه روائح المطهرات. ولونت المصابيح السجادة بلون رمادي، وكان الناس يثرثرون ويبتسمون، كما لو أنهم في صالون مسرح أو جامعة وليس بناء للمرضى والمحتضرين.

قلت لنفسي: يحاولون أن يكونوا شجعانا. ثم أضفت: وربما بعد قليل ستكون هذه هي الحياة. تبعت الإشارات إلى الطابق العلوي وسألت الممرضات عن غرفة فرانك دوهيرتي. قالت الممرضة الشقراء: لا بد أنك ابنته. سوكي. أليس كذلك؟. اسمي أماندا. بوسعك أن تتبعيني. 

 أمام غرفة فرانك، ساعدتني أماندا بارتداء مريول بلاستيكي حول وسطي، وربطت كمامة طبية ورقية خلف أذني. وقالت إن هذا لمصلحة فرانك وليس من أجلي. فجهاز مناعته أصبح ضعيفا ولكنني لست كذلك. طهرت يدي برشة كحول بارد ومرطب. ثم فتحت أماندا الباب. قالت له: ابنتك هنا. رأيت رجلا صغيرا يجلس على السرير بقدم مضمدة. كان بدون شعر وجمجمته مستديرة مثل كرة مسبح زهرية اللون. وكان فمه متورما. قلت: آه. حسنا. كيف الحال.

في البداية لم أعلم إذا تعرف علي، ولكن حينما ذكرت اسمي كرره عدة مرات. جلست. سألته هل جاء إخوته وأخواته لزيارته. لم يكن يبدو أنه يتذكر. وحرك إبهامه إلى الأمام والخلف قسرا، أولا باتجاه، ثم باتجاه آخر. وعلى ما يبدو أخذ ذلك اهتماما كبيرا منه، ولم أتأكد إن كان يصغى لي. قلت: بوسطن ممتازة. باردة جدا في هذا الوقت من السنة. آل شارلز كانوا متجمدين عندما غادرت. وشعرت كأنني أقدم عرضا إذاعيا عن الرحلات وذلك لجمهور غير مهتم. حرك إبهاميه إلى الخلف والأمام. ثم إلى الأمام والخلف. قلت: فرانك؟. دمدم بشيء، وفكرت: حسنا. حتى القطط تعرف أسماءها.

قلت: كيف تشعر؟.

لم يرد على السؤال. هناك جهاز تلفزيون مثبت على الجدار بمكان مرتفع.

قلت: هل تشاهد التلفزيون في النهار لأوقات طويلة.

وتوقعت أن لا يرد، ولكنه من حيث لا أدري قال: الأخبار.

قلت له: تتابع الأخبار؟.

لم يتأثر.

قال فرانك: أنت مثل أمك.

حدقت به. وشعرت أنني أبرد أو ربما أسخن. شيء غير مفيد طرأ على حرارتي.

ما المعنى؟.

قال فرانك: لديك فكرة أي نوع من الناس أنت. أليس كذلك؟. كل شيء عندك تحت السيطرة. زبونة جيدة. حسنا. سنرى مدى تماسكك وبرودك حين تتركين وحدك. إممم؟. ستكونين هادئة جدا على الأرجح.

كان يبدو أن فرانك يخاطب بكلامه الإبرة المغروسة في عروق جسمه الخارجية من ذراعه الأيسر. وكان يتابع بلامبالاة مميتة وهو يتكلم. وانتبهت لارتعاش صوتي مثل مشاركة سيئة في كورال.

قلت: ولماذا يجب أن أبقى وحدي.

قال: لأنه سينصرف وسيتزوج.

من الواضح أن فرانك لم يتعرف علي. وأدركت ذلك، فتراخيت قليلا، ومسحت طرفي عيني بالقناع الورقي. كنت تقريبا أبكي. ربما كنا غريبين نتكلم عما إذا كانت ستثلج أم لا؟.

قلت: ربما سأتزوجه.

ضحك فرانك على ذلك. تمثيلية بدون سياق واضح، ولكنه أمتعني بكل حال. كنت أحب أن أجني من كلامي ضحك الآخرين.

سيفقد الأمل. وفي النهاية سيجد إنسانة شابة.

أصغر مني؟.

حسنا. أنت تفهمين أليس كذلك؟.

ضحكت. منح فرانك أنبوب السيروم ابتسامة ودودة.

قال: ولكنك بنت مستقيمة مهما قالوا.

بهذه الهدنة الغامضة انتهى حوارنا. حاولت أن أكلمه أكثر، ولكن بدا أنه غير قادر على التواصل، أو أنه ضجر جدا. مكثت ساعة، مع أن وقت الزيارة ساعتان. وحين قلت إنني مغادرة، لم يلاحظ كلامي على ما يبدو غادرت الغرفة. وأغلقت الباب بحرص. وأخيرا تملصت من قناعي الورقي ومن المريول البلاستيكي. ضغطت على زر منفذ السائل المطهر حتى ابتلت يداي. كان باردا. ولدغني. دعكتهما حتى جفتا. وغادرت المستشفى. كانت تمطر في الخارج. ولكن لم أتصل بناثان. ومشيت كما لو أنني قررت ذلك، وغطيت بقبعتي المصنوعة من الفرو رأسي حتى أذني ووضعت يدي في جيبي. وأنا أقترب من تارا ستريت رأيت حشدا صغيرا يحيط بالجسر من جانبي الطريق. الوجوه وردية في الظلام وبعضهم يحمل المظلات. وفوقهم صالة ليبرتي ممدودة بشكل قوس  يشبه الأطباق الصناعية.  كانت تمطر بضباب رطب وغريب، وجاء قارب إنقاذ على طول النهر بأنوار مشتعلة. في البداية كان الزحام يبدو كأنه كتلة واحدة غامضة، وتساءلت هل يجري عرض باحتفال ما، ثم رأيت ما ينظر إليه الجميع: شيء يطفو على النهر. ولاحظت جوانبه والقماش التي يتسرب منه. وكان له حجم كائن بشري. ولم يعد للحشد إيحاء بتجمع أو احتفال. اقترب الزورق بشعلته البرتقالية التي تدور بصمت. ولم أقرر المغادرة. وتوقعت أنني لا أرغب برؤية جسم إنسان ميت، وهو يحمل من نهر ليفتي بقارب إنقاذ. ولكن انتظرت. وقفت بجوار زوج اثنين آسيويين، امرأة حسنة المظهر بمعطف أسود أنيق ورجل يتكلم بالهاتف. ظهرا لي زوجا رائعا، شخصين انجذبا إلى هذه الدراما ولكن ليس بسبب المتعة الرخيصة، وإنما بسبب التعاطف. وتحسن شعوري حيال وجودي هناك حينما انتبهت لهما.

وضع رجل من قارب الإنقاذ قضيبا بخطاف في الماء، بحثا عن أطراف الشيء. ثم بدأ يجره. خيم علينا الصمت: وحتى أن الرجل صمت عن مكالمته بالهاتف. وظهرت قطعة القماش بصمت مطبق، وخرجت مع الخطاف فارغة. ودبت الفوضى لدقيقة: هل تم تعرية الجسم من ثيابه؟. ثم أصبحت الصورة واضحة. القماش هو الشيء ذاته. وكان كيس نوم يطفو على وجه النهر. عاد الرجل إلى مكالمته بالهاتف. والمرأة ذات المعطف بدأت بتوجيه إشارة له عن شيء ما كأنك تقول: تذكر أن تسأل عن الوقت. وبعدئذ أصبح كل شيء طبيعيا وبسرعة.

ابتعد قارب الإنقاذ، وانتظرت وكوعاي على الجسر. وجهاز دورتي الدموية يعمل بشكل اعتيادي، وخلاياي تكبر وتموت بمعدل طبيعي. لا شيء في جسمي يحاول أن يقتلني. وطبعا كان الموت شيئا طبيعيا محتملا. وبمرحلة ما تيقنت من ذلك. ومع ذلك وقفت بانتظار رؤية الجثمان في النهر. متجاهلة الأحياء الذين تحلقوا حولي، كما لو أن الموت معجزة تتجاوز معجزة الحياة. كنت معتادة على البرد. وكان الجو أبرد مما يسمح بالتفكير بالأشياء القادمة. وحتى وقت عودتي إلى الشقة تخلل المطر معطفي، وفي الردهة رأيت قبعتي بالمرآة كأنها فأرماء قذر وقد يستيقظ بأي لحظة. تخليت عنها مع المعطف. قال ناثان من الداخل: سوكي.

رتبت شعري بشكل لائق. قال: كيف تم الأمر؟. دخلت. كان على الكنبة، وفي يده اليمنى ريموت التلفزيون.

قال: أنت مبتلة جدا. لماذا لم تتصلي بي؟.

لم أرد.

أضاف ناثان: هل من أمر سيء؟.

هززت رأسي. كان وجهي باردا، يلتهب بالبرد، وأحمر كإشارة مرور. ذهبت إلى غرفتي، وتخلصت من ثيابي المبتلة، وعلقتها. كانت ثقيلة، وتتمسك بشكل جسمي في ثنياتها. سرحت شعري وارتديت ردائي الفضفاض  المطرز وشعرت بالنظافة والتماسك. فكرت: هذا ما تصنعه الكائنات البشرية بحياتها. أخذت نفسا عميقا للتماسك ثم غادرت إلى غرفة المعيشة. كان ناثان يشاهد التلفزيون، ولكنه ضغط على زر كاتم الصوت حينما رجعت. جلست على الكنبة بجانبه وأغلقت عيني وحينها مد يده ليلمس شعري. اعتدنا على مشاهدة التلفزيون هكذا، وهو يلمس شعري بهذه الطريقة تماما. دون انتباه. وكان شروده مريحا لي. بطريقة ما أردت أن أعيش فيه، كأنه مكان بحد ذاته، حيث لا يشعر أنني دخلت. وفكرت أن أقول: لا أريد العودة إلى بوسطن. وأريد أن أعيش معك هنا. ولكن قلت: شغل الصوت إذا كنت تشاهده، فأنا لا أمانع.

ضغط على الزر مجددا، وعاد الصوت، موسيقا صاخبة تلدغ السمع، وصوت أنثى تشهق. فكرت: جريمة وحينما فتحت عيني رأيت مشهدا جنسيا. وكانت على يديها وركبتيها والشخصية المذكرة وراءها.

قلت: أحبه هكذا. من الخلف. أقصد. بهذه الطريقة يمكنني أن أتخيل أنه أنت.

سعل ناثان، وأبعد يده عن شعري. ثم قال بعد ثانية: عموما أنا أغلق عيني. انتهى المشهد الجنسي. وأصبحا في صالة محكمة. سال لعاب فمي. وقلت له: هل يمكننا أن نتناكح؟. ولكن بجدية.

نعم. كنت أعلم أنك ستقولين ذلك.

هذا سيحسن شعوري كثيرا.

قال ناثان: يا للمسيح.

ثم مال للصمت. وكنا متأهبين لمتابعة حوارنا. لكنني بردت. ويمكنني الإحساس بذلك. لمس ناثان كاحلي، وبدأت أهتم بدون تركيز بحبكة الدراما التلفزيونية.

قال ناثان: هذه ليست فكرة حسنة.

لماذا؟. أنت تحبني أليس كذلك؟.

على نحو شرير.

قلت له: ولكنه طلب منة صغيرة واحدة.

كلا. دفع نفقات عودتك بالطيارة كان منة صغيرة. ولن نتجادل حول هذا. فهي ليست فكرة جيدة.

في السرير في تلك الليلة سألته: متى سوف نعلم إن كان هذا فكرة سيئة أم لا؟. ثم هل علينا أن نعلم؟. كل شيء يبدو حاليا على ما يرام.

قال: كلا. الوقت مبكر جدا. وأعتقد أنه حينما تعودين إلى بوسطن سيكون لدينا وجهة نظر أخرى.

لن أعود إلى بوسطن. لكن لم أقلها. هذه الحوارات قد تبدو طبيعية. ولكنها ليست كذلك.

***

......................

سالي روني  Sally Rooney روائية معاصرة من إيرلندا. أحدث أعمالها رواية صدرت عام 2024 بعنوان “الاستراحة بين الفصلين”.

الصفحة 1 من 8

في نصوص اليوم