ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

قصة: إيزابيل ألليندي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في سن الحادية عشرة، كانت إلينا ميخياس لا تزال فتاة هزيلة ذات بشرة شاحبة كأطفال العزلة، وفم تظهر فيه فراغات لم تملأها بعد الأسنان الدائمة، وشعر بلون الفئران، وهيكل عظمي بارز يكاد يخرج من مرفقيها وركبتيها، وكأنه أكبر بكثير من بقية جسدها. لم يكن في مظهرها ما يدل على أحلامها الملتهبة، ولا ما يُنذر بالكائن الحسيّ الذي كانت ستصبحه لاحقًا. وسط أثاثٍ باهت وستائر ذابلة في منزل والدتها الذي كان يُستخدم كبيت ضيافة، كانت تمر دون أن يلاحظها أحد. بدت كطفلة حزينة تائهة تلعب بين نباتات الجيرانيوم المغبرة والسراخس الضخمة في الفناء، أو تتنقّل جيئةً وذهابًا بين الموقد وطاولات غرفة الطعام لتقديم وجبة المساء.

وعندما كان أحد النزلاء يلاحظ وجودها، نادرًا ما كان ذلك لأمر سوى أن يطلب منها رشّ مبيدٍ للصراصير، أو ملء خزان المياه في الحمّام حين تعجز المضخّة المزعجة عن رفع الماء إلى الطابق الثاني. كانت والدتها، المنهكة من الحرّ ومن أعباء إدارة بيت الضيافة، تفتقر إلى الطاقة اللازمة للعطف، أو إلى الوقت لتمنحه لابنتها، لذا لم تلاحظ حين بدأت إلينا تتحول إلى مخلوق مختلف.

لقد كانت دائمًا طفلة هادئة، خجولة، منغمسة في ألعاب غامضة، تحدث نفسها في الزوايا وتمصّ إبهامها. لم تكن تغادر المنزل إلا للذهاب إلى المدرسة أو السوق، ولم تُبدِ اهتمامًا يُذكر بالأطفال الصاخبين الذين من عمرها والذين كانوا يلعبون في الشارع.

التحوّل الذي طرأ على إلينا ميخياس تزامن مع وصول خوان خوسيه بيرنال، "العندليب"، كما كان يحب أن يُسمي نفسه، وكما أعلن ذلك الملصق الذي علّقه على جدار غرفته بصخب.

كان معظم نزلاء البيت من الطلاب أو من موظفي إحدى الدوائر الحكومية الغامضة. "ناس محترمون بحق"، كما كانت تقول أم إلينا دائمًا، فهي كانت تفخر بأنها لا تقبل في بيتها أيّ كان، بل فقط الأشخاص المحترمين، ممن لديهم مورد رزق ظاهر، ويتّسمون بحسن السلوك، ويملكون ما يكفي من المال لدفع أجرة الغرفة والطعام لشهر كامل مسبقًا، والأهم من ذلك: أن يكونوا على استعداد لاحترام أنظمة بيتها—والتي كانت أشبه بأنظمة معهد ديني أكثر منها بفندق.

" يجب أن تحافظ الأرملة على سمعتها وتحظى بالاحترام، لا أريد أن يتحوّل منزلي إلى ملاذ للمتشردين والمنحرفين"

كانت والدتها تردد ذلك دائمًا، حتى لا تنسى إلينا، ولا أحد غيرها.

وكان من بين مهام الفتاة أن تتجسس على الضيوف وتُبلغ أمها عن أي سلوك مريب. تلك المراقبة الدائمة أضفت على إلينا هالة خفيّة من الغموض، إذ كانت تتحرّك في صمت مطبق، فتختفي بين ظلال الغرف ثم تظهر فجأة كما لو عادت من بُعدٍ آخر.

كانت الأم والابنة تتقاسمان أعمال البيت الكثيرة، تغوص كل منهما في روتينها الصامت، دونما حاجة للكلام. وحقًا، كانتا نادرًا ما تتحدثان، وإن حدث، فخلال فترة القيلولة القصيرة، وكانت الأحاديث دومًا عن النزلاء. أحيانًا، كانت إلينا تحاول أن تلوّن حياة أولئك الرجال والنساء العابرين الذين لا يتركون أثرًا، فتنسج حولهم قصة حب سرية أو مأساة ما، لكنها كانت تصطدم دومًا بحدس والدتها الذي لا يخطئ في كشف الخيال.

كانت والدتها تعرف متى تخفي عنها إلينا شيئًا. كان لديها حسّ عملي لا يُقاوَم، وفهم دقيق لكل ما يدور تحت سقفها. كانت تعرف تمامًا ما يفعله كل نزيل في أي ساعة من الليل أو النهار، كم تبقّى من السكر في خزانة المؤونة، من يُتصل به حين يرن الهاتف، وأين تُركت المقصات آخر مرة.

كانت في شبابها امرأة مرحة، بل وجميلة، لكن فساتينها الرثة بالكاد كانت تحبس نفاد صبر جسدٍ لا يزال شابًا. غير أن سنوات الكفاح في سبيل لقمة العيش استنزفت روحها شيئًا فشيئًا.

لكن حين جاء خوان خوسيه بيرنال يسأل عن غرفة، تغيّر كل شيء، بالنسبة لها... وبالنسبة لإلينا أيضًا.

لقد أسرتها طريقة "العندليب" المتكلفة في الكلام، وتلك الهالة من الشهرة التي أضفاها الملصق المعلّق على غرفته، فتجاهلت قواعدها الصارمة وقبلت به نزيلاً، رغم أنه لا يشبه بأي شكل النموذج المثالي للنزيل الذي كانت تبحث عنه.

أخبرها بيرنال بأنه يغني ليلًا، لذا يحتاج إلى النوم نهارًا، وأنه بين عقود عمل ولا يستطيع دفع الأجرة مقدمًا، وأنه شديد التدقيق في طعامه ونظافته—فهو نباتي، ويحتاج إلى الاستحمام مرتين في اليوم.

كانت إلينا تراقب كل ذلك بدهشة صامتة، دون تعليق أو سؤال، وهي ترى أمها تسجل اسمه في دفتر النزلاء، ثم تصطحبه إلى غرفته، تكاد تترنح تحت ثقل حقيبته، بينما هو يحمل علبة جيتاره والأنبوب الكرتوني الذي يحوي ملصقه الثمين.

من زاويتها المموّهة على الجدار، تبعتهما إلينا على السلالم، ولاحظت النظرة الفاحصة التي ألقى بها النزيل الجديد على تنورة القطن اللاصقة بجسد والدتها المتعرق.

وحين دخلا الغرفة، ضغطت إلينا زر الكهرباء، فانطلقت شفرات المروحة السقفية تدور بصوت معدن صدئ.

كان وصول بيرنال بمثابة إعلان فوري لتغيير روتين المنزل.

أصبح هناك مزيد من العمل، لأن بيرنال كان ينام حتى يغادر بقية النزلاء إلى أعمالهم؛ وكان يحتكر الحمّام لساعات؛ ويستهلك كميات مذهلة من الخضار النيئة التي كانت تُحضَّر له خصيصًا؛ وكان يستخدم الهاتف باستمرار؛ ولم يكن يتردد في استخدام المكواة لتسوية قمصانه، دون أن يُحاسب على هذا الامتياز الغريب.

كانت إلينا تعود إلى البيت وقت القيلولة، حين تكون الشمس في أوج سطوعها والنهار خاضعًا لبريق أبيض فتاك، ومع ذلك، كان خوان خوسيه بيرنال لا يزال نائمًا.

وحسبما أمرتها والدتها، كانت إلينا تخلع حذاءها لتُحافظ على الصمت المصطنع في المنزل.

وكانت تدرك أن أمها بدأت تتغيّر يومًا بعد يوم. لقد لاحظت العلامات منذ البداية، قبل أن يبدأ النزلاء بالهمس خلف ظهر والدتها.

أولًا، كان العطر الذي بدأ يلتصق بأمها ويخلف أثرًا في الغرف التي تمر بها ، إلينا، التي تعرف كل زاوية في البيت، والتي دُرّبت طويلًا على التلصص، سرعان ما اكتشفت زجاجة العطر مخفية خلف أكياس الأرز وعلب المعلبات في خزانة الطعام.

ثم لاحظت الكحل الداكن الذي يحدد جفون أمها، واللون الأحمر على شفتيها، والملابس الداخلية الجديدة، وابتسامتها الفورية كلما نزل بيرنال في المساء، وشعره لا يزال مبتلًا من الحمام، ليأكل أطباقه الغريبة التي لا تصلح إلا ليوجي.

كانت والدتها تجلس مقابلة له، تستمع إليه وهو يروي مغامراته كفنان، ويفصّل كل حكاية بضحكة عميقة.

لأسابيع عدّة، كرهت إلينا ذلك الرجل الذي استولى على كلّ مساحة في البيت وكلّ انتباه أمّها. كانت تنفر من شعره المصفوف ببريق البريانتين، وأظافره المصقولة، وحماسه المفرط في استعمال عود الأسنان، وتفكّره المتكلّف، وافتراضه الوقح بأنّ الجميع في خدمته. تساءلت عمّا قد تراه أمّها فيه: لم يكن سوى مغامر صغير الشأن، مؤدٍّ في الحانات لا يعرفه أحد، بل ربّما كان وغدًا كاملًا، كما همست الآنسة صوفيا، إحدى أقدم النزلاء.

في مساء أحد دافئ، حين لم يكن هناك ما يُفعل وتوقّف الزمن بين جدران المنزل، ظهر  خوان خوسيه بيرنال في الباحة يحمل جيتاره؛ استقرّ على مقعد تحت شجرة التين وبدأ يعزف بعض الأوتار. جذبت الأصوات جميع النزلاء، الذين راحوا يطلّون واحدًا تلو الآخر، أولًا بتردّد، غير واثقين من سبب هذا الحدث غير المألوف، ثمّ بحماسة متزايدة؛ أحضروا كراسي غرفة الطعام ورتّبوها في حلقة حول العندليب. كان صوته عاديًّا، لكنّه كان يملك أذنًا موسيقيّة جيدة ويغنّي بجاذبية معيّنة. كان يعرف جميع البوليروهات النموذجية والبلدات الريفية من التراث الشعبي، وبعض أغاني الثورة المليئة بالتجديف والكلمات البذيئة التي جعلت النساء يحمررن خجلًا.

لأوّل مرة في ذاكرتها، شعرت إلينا بجوّ من الاحتفال في البيت. وعندما حلّ الظلام، أضاءوا مصباحين يعملان بالكيروسين وعلّقوهما على الأشجار، وأحضروا البيرة وزجاجة الروم المخصّصة لعلاج الزكام. كانت إلينا ترتجف وهي تملأ الكؤوس؛ شعرت بكلمات الأغاني الموجعة وأنين الجيتار في كلّ ذرة من جسدها، كأنّها حُمّى. كانت أمّها تنقر بإصبع قدمها على الإيقاع. فجأة، نهضت، وأمسكت بيدي إلينا، وبدأتا ترقصان، تبعتهما على الفور البقيّة، بمن فيهم الآنسة صوفيا، يرفرفون ويضحكون بتوتر.

رقصت إلينا لبرهة بلا نهاية، تتحرّك على إيقاع صوت بيرنال، ملتصقة بجسد أمّها، تستنشق العطر الزهريّ الجديد، سعيدة سعادة خالصة. ثم شعرت بأمّها تدفعها بلطف بعيدًا، وتنسحب لترقص وحدها. كانت أمّها، بعينيها المغمضتين ورأسها مائلًا إلى الخلف، تتمايل كما لو كانت قطعة قماش تُجفّف في النسيم. انسحبت إلينا من ساحة الرقص، وعاد جميع الراقصين إلى مقاعدهم، تاركين صاحبة البيت وحدها في وسط الباحة، ضائعة في رقصتها.

بعد تلك الليلة، بدأت إلينا ترى بيرنال بعينين جديدتين. نسيت أنّها كانت تكره شعره اللامع، وأعواد أسنانه، وغروره، وكلّما رأته أو سمعت صوته، تذكّرت الأغاني التي غنّاها في تلك السهرة الارتجالية، وعاد الاحمرار إلى بشرتها، والارتباك إلى قلبها، حُمّى لم تكن تعرف كيف تعبّر عنها بالكلمات.

أخذت تراقبه حين لا يكون ناظرًا إليها، ولاحظت شيئًا فشيئًا تفاصيل لم تنتبه لها من قبل: كتفاه، عنقه القويّ بعضلاته، تقوّس شفتيه الثقيلتين، أسنانه المثالية، أناقة يديه الطويلتين النحيلتين. شعرت برغبة لا تُحتمل لأن تكون قريبة منه، لتدفن وجهها في صدره الأسمر، لتسمع صدى الهواء في رئتيه ونبضات قلبه، لتشمّ رائحته التي كانت تعرف، غريزيًّا، أنّها ستكون قويّة نافذة، مثل الجلد الجيّد أو التبغ.

تخيّلت نفسها تلعب بشعره، تتمعّن بعضلات ظهره وساقيه، تكتشف شكل قدمه، تتلاشى في دخان وتتسرّب إلى داخل حنجرته لتسكن جسده بالكامل. ولكن إن صادف ونظر نحوها والتقت أعينهما، كانت إلينا، مرتجفة، تهرب لتختبئ في أعمق وأكثف زاوية من الباحة.

أصبح بيرنال يسيطر على أفكارها؛ لم تعد تحتمل مرور الوقت بعيدًا عنه. في المدرسة، كانت تتحرّك كأنّها في كابوس، عمياء وصمّاء عن كلّ شيء سوى أفكارها الداخليّة، التي لم يكن فيها متّسع لأحد سواه. ماذا كان يفعل في تلك اللحظة؟ لعلّه نائم، ممدّد على بطنه في السرير، والنوافذ مغلقة، والغرفة مظلمة، والهواء الدافئ يحرّكه مروحة السقف، خطّ من العرق يسيل على ظهره، وجهه غارق في الوسادة.

عند أوّل صوت يرنّ معلنًا نهاية اليوم، كانت تركض إلى البيت، تتمنّى أن لا يكون قد استيقظ بعد، لكي تتمكّن من الاستحمام وارتداء فستان نظيف، ثم تجلس في المطبخ تنتظر، متظاهرةً بحلّ واجاباتاها المدرسيّة، حتى لا تُكلّفها أمّها بأعمال المنزل.

وحين تسمع صوته وهو يخرج من الحمام، يصفر، كانت تموت من التوتّر والخوف، واثقة من أنّها ستفنى من اللذّة إن لمسها، أو كلّمها، تموت شوقًا ليحدث ذلك، وفي الوقت نفسه مستعدّة لأن تذوب في الأثاث، لأنّه، رغم أنّها لا تستطيع العيش من دونه، لم تكن قادرة على تحمّل حضوره الملتهب.

راحت تتبعه في كلّ مكان بصمت، تخدمه من دون أن تُطلب منها الخدمة، تحاول أن تتكهّن برغباته وتلبّيها قبل أن ينطق بها، لكن دائمًا مثل شبح، لا تريد أن يلاحظ أحد وجودها.

لم تستطع إيلينا النوم ليلًا لأنه لم يكن في المنزل. كانت تنهض من أرجوحتها وتجوب الطابق الأول كالشبح، تستجمع شجاعتها أخيرًا لتتسلل على أطراف أصابعها إلى غرفة برنال. كانت تغلق الباب خلفها وتفتح المصراع قليلًا ليدخل انعكاس ضوء الشارع ليضيء الطقوس التي ابتكرتها لتستعيد بقايا روح الرجل التي تركتها في ممتلكاته. وقفت تحدق في نفسها في مرآة بيضاوية سوداء لامعة كبركة طين داكنة، لأنه نظر إلى نفسه هناك، وامتزجت بقايا صورتهما في عناق. سارت نحو المرآة، وعيناها تحدقان، ترى نفسها من خلال عينيه، تقبّل شفتيها بقبلة باردة وقوية تخيّلت أنها دافئة كشفاه برنال. شعرت بسطح المرآة على صدرها، وبعنق حلماتها الصغير يتصلب، مما ولّد ألمًا خفيفًا يتدفق إلى أسفل حتى نقطة محددة بين ساقيها. بحثت عن ذلك الألم، مرارًا وتكرارًا. أخذت قميصًا وحذاءً من مكواة ملابس برنال وارتدتهما. سارت بضع خطوات حول الغرفة، حريصة جدًا على عدم إصدار أي صوت. لا تزال في ملابسه، حفرت في سراويله، ومشطت شعرها بمشطه، وامتصت فرشاة أسنانه، ولحست كريم الحلاقة الخاص به، وداعبت ملابسه المتسخة. ثم، دون أن تعرف السبب، خلعت ثوب نومها وحذائه وقميصه، واستلقت عارية على سرير برنال، تستنشق رائحته بشراهة، وتدعو دفئه لتلف نفسها به. لمست كل شبر من جسدها، بدءًا من الشكل الغريب لجمجمتها، وغضروف أذنيها الشفاف، ومحجري عينيها، وفتحة فمها، واستمرت في جسدها، ترسم جميع العظام والطيات والزوايا والمنحنيات لكل شيء تافه من نفسها، متمنية لو كانت ضخمة وثقيلة مثل الحوت. تخيلت جسدها يمتلئ بالحلوى؛ سائل لزج كالعسل، منتفخ، يتمدد بحجم دمية ماموث، حتى يفيض السرير والغرفة، حتى يملأ انتفاخه المنزل بأكمله. منهكة، تغفو لبضع دقائق، تبكي.

ثم في صباح يوم سبت، وهي تراقب من نافذتها، رأت إيلينا برنال يمشي نحو المكان الذي كانت فيه والدتها منحنية على الحوض تغسل الملابس. وضع يده على خصرها، ولم تتحرك، كأن ثقل يده كان جزءًا من جسدها. حتى من مسافة بعيدة، كانت إيلينا ترى إيماءته التي تحمل طابع التملك، وموقف والدتها من الاستسلام، وخصوصيتهما، التي تربطهما في سر هائل. غرقت إيلينا فى العرق، لم تستطع التنفس، وكان قلبها طائرًا خائفًا في قفصها الصدري، وأطرافها تتنمل، ودمها يتدفق حتى ظنت أنه سينفجر من أصابعها. كانت تلك اللحظة التي بدأت فيها بالتجسس على والدتها.

مرة تلو الأخرى، اكتشفت الأدلة التي كانت تبحث عنها؛ في البداية كانت مجرد نظرة، أو تحية طويلة جدًا، أو ابتسامة متواطئة، أو شك في أن أقدامهما تتلامس تحت الطاولة، وأنهما كانا يختلقان أعذارًا ليكونا وحدهما. وأخيرًا، في إحدى الليالي بينما كانت عائدة من غرفة برنال بعد أن أدت طقوس حبيبها، سمعت صوتًا كهمسات مجرى مائي تحت الأرض قادمًا من غرفة والدتها، وأدركت أنه طوال ذلك الوقت، كل ليلة بينما كانت تعتقد أن برنال كان خارجًا يغني ليكسب عيشه، كان الرجل على بُعد خطوات منها، بينما هي كانت تقبّل ذاكرته في المرآة وتستنشق أثر وجوده على الأغطية، كان هو مع والدتها.

بمهارة تعلمتها على مر السنين في جعل نفسها غير مرئية، انزاحت إلى الغرفة ورأتهما مشتبكين في لذتهما. كان المصباح ذو الحواف يتوهج بضوء دافئ يكشف عن العاشقين على السرير. تحولت والدتها إلى حورية وردية مكتنزة، متلوية، تتنهد، أشبه بشقائق النعمان البحرية، كلها مجسات ومصاصات، كلها فم وأيد وأرجل وفتحات، تدور وتلتف وتلتصق بالجسد الكبير لبرنال، الذي كان بدوره يبدو متيبسًا وأخرقًا، يتحرك بشكل متشنج كقطعة خشب ألقيت في رياح عاتية لا يمكن تفسيرها. حتى تلك اللحظة، لم تكن الفتاة قد رأت رجلاً عاريًا، وقد صدمها الفرق الجوهري. بدا لها ذكورته وحشية، واستغرق الأمر وقتًا طويلاً قبل أن تتمكن من التغلب على رعبها وتجبر نفسها على النظر. لكن سرعان ما استسلمت للدهشة وراقبت باهتمام كامل لتتعلم من والدتها الصيغة التي استخدمتها لخطف برنال منها، وهي صيغة أقوى من كل حب إيلينا، وكل صلواتها، وأحلامها، ودعواتها الصامتة، وكل طقوسها السحرية التي اختلقتها لجذب برنال إليها. كانت متأكدة أن لمسات والدتها وتنهداتها كانت تحمل مفتاح السر، وإذا تمكنت من تعلمها، فإن خوان خوسيه برنال سينام معها في الأرجوحة المعلقة كل ليلة بخطافين كبيرين في غرفة الخزائن.

قضت إيلينا الأيام التالية في غيبوبة. فقدت اهتمامها بكل شيء حولها، حتى ببرنال نفسه، الذي أخفته في مكان شاغر من ذهنها، وغاصت في واقع خيالي حل تمامًا محل عالم الأحياء. استمرت في اتباع روتينها بقوة العادة، لكن قلبها لم يكن في أي شيء مما كانت تفعله. عندما لاحظت والدتها قلة شهيتها، عزت ذلك إلى بداية مرحلة البلوغ—على الرغم من أن إيلينا ما زالت تبدو صغيرة جدًا—فوجدت وقتًا للجلوس معها وحدها وشرحت لها مزحة أن تكون قد وُلدت امرأة. استمعت إيلينا في صمت مفعم بالعبوس إلى الخطبة حول اللعنات التوراتية وتدفق الطمث، مقتنعة أن شيئًا من هذا لن يحدث لها أبدًا.

في يوم الأربعاء، شعرت إيلينا بالجوع لأول مرة منذ أسبوع تقريبًا. دخلت إلى المخزن ومعها فتاحة علب وملعقة، وابتلعت محتويات ثلاث علب من البازلاء الخضراء، ثم قشّرت الشمع الأحمر عن جبن هولندي وأكلته كما لو كان تفاحة. فورًا بعد ذلك، هرعت إلى الفناء، انحنت، وتقيأت حساء أخضر مقرف على نباتات الجيرانيوم. أعادها الألم في بطنها والمذاق المر في فمها إلى الواقع. تلك الليلة، نامت هادئة، ملفوفة في أرجوحتها، تمتص إبهامها كما كانت في مهدها. في صباح يوم الخميس، استيقظت سعيدة؛ ساعدت والدتها في تحضير القهوة للنزلاء وتناولت الإفطار معها في المطبخ. ولكن، بمجرد أن وصلت إلى المدرسة، اشتكت من آلام شديدة في بطنها، وتلوّت وطلبت مرارًا الذهاب إلى الحمام، حتى أذنت لها معلمتها بالعودة إلى المنزل في منتصف الصباح.

سلكت إيلينا طريقًا طويلًا، متجنبةً الشوارع المألوفة عمدًا، واقتربت من المنزل من الجدار الخلفي المُطل على وادٍ. استطاعت تسلق الجدار والقفز إلى الفناء بسهولة أكبر مما توقعت. كانت قد حسبت أن والدتها ستكون في السوق في ذلك الوقت، ولأنه يوم السمك الطازج، سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تعود. كان المنزل خاليًا إلا من خوان خوسيه بيرنال والسيدة صوفيا، اللتين عادتا من العمل منذ أسبوع بسبب نوبة التهاب مفاصل.

أخفت إيلينا كتبها وحذاءها تحت بعض الشجيرات وتسللت إلى المنزل. صعدت الدرج، متشبسة الجدار وكاتمة أنفاسها، حتى سمعت صوت الراديو يزمجر من غرفة الآنسة صوفيا وشعرت بمزيد من الهدوء. فتحت باب غرفة برنال بدفعة صغيرة . كان الظلام يملأ الغرفة، وللحظة، بعدما جاءت للتو من ضوء النهار الساطع فى الخارج، لم تستطع أن ترى شيئًا. لكنها كانت تعرف الغرفة عن ظهر قلب؛ فقد قاست هذا الفضاء عدة مرات وكانت تعرف أين يوجد كل شيء، المكان الذي يصدر فيه الصوت عندما يضغط على الأرض، كم خطوة تفصل الباب عن السرير. مع ذلك، انتظرت حتى تأقلمت عيناها مع الظلام وتمكنت من رؤية معالم الأثاث. وبعد لحظات، استطاعت أن ترى الرجل على السرير. لم يكن نائمًا على بطنه، كما كانت تتخيل غالبًا، بل كان مستلقيًا على ظهره فوق الأغطية، مرتديًا سروالًا داخليًا فقط؛ كانت إحدى ذراعيه ممدودة والأخرى على صدره، وقد سقطت خصلة من شعره على عينيه. على الفور، اختفى كل الخوف والتوتر الذي تراكم لعدة أيام، وبدت إيلينا صافية، هادئة كمن يعرف ما يجب عليها فعله. بدا لها أنها عاشت تلك اللحظة عدة مرات؛ قالت لنفسها إنه لا يوجد ما تخافه، فهذا مجرد طقس يختلف قليلًا عن الطقوس التي مرت بها من قبل.

ببطء، خلعت زيها المدرسي حتى البنطال القطني الذي لم تجرؤ على خلعه من قبل. مشت نحو السرير. أصبحت قادرة على رؤية برنال بشكل أفضل الآن. بحذر شديد، جلست على حافة السرير بالقرب من يده، مركّزة على عدم ترك أية تجاعيد حتى على الأغطية. انحنت للأمام ببطء، حتى أصبح وجهها على بعد بضعة سنتيمترات من وجهه، فشعرت بدفء أنفاسه وعبير جسده الحلو؛ ثم، بحذر شديد، استلقت بجانبه، ممددة كل ساق بحذر شديد حتى أنه لم يتحرك. انتظرت، مستمعة إلى الصمت، حتى قررت أن تضع يدها على بطنه في لمسة شبه غير مرئية. مع تلك اللمسة، اجتاحت جسدها موجة خانقة؛ خشيت أن يكون صوت قلبها يتردد في أرجاء المنزل، وأنه سيوقظ برنال بالتأكيد. مرت عدة دقائق قبل أن تستعيد هدوءها، وعندما أدركت أنه لم يتحرك، استرخت، وتركت ذراعها تسقط بلا حركة—كان وزنها، في أي حال، خفيفًا جدًا حتى أنه لم يغير نومه. مسترجعة حركات والدتها، بينما كانت أصابعها تزحف تحت حافة سرواله الداخلي، بحثت إيلينا عن شفتي برنال وقبلته كما كانت تقبّل المرآة كثيرًا. كان برنال لا يزال نائمًا، فتأوّه؛ لفّ ذراعه حول خصر الفتاة بينما أمسكت يده الحرة بيدها لترشدها، وفتح فمه ليردّ قبلتها، وهو يهمس باسم حبيبته. سمعته إيلينا ينادي أمها، لكن بدلًا من أن تتراجع، اقتربت منه أكثر. أمسكها برنال من خصرها وجذبها فوقه، وأجلسها على جسده، وبدأ أولى حركات الحب. ثم، إذ أحسَّ بهشاشة ذلك الهيكل العظمي الشبيه بطائر على صدره، لمعت شرارة وعي عبر ضباب النوم القطني، ففتح عينيه. شعرت إيلينا بتوتر جسده، وشعرت به يقبض عليها من ضلوعها ويُلقى بها جانبًا بعنف حتى سقطت على الأرض، لكنها نهضت وركضت عائدة إلى السرير لتعانقه من جديد. صفعها بيرنال على وجهها وقفز من السرير، مرعوبًا مما لا يعلمه إلا الله من محظورات قديمة وكوابيس.صرخ:

"يا لها من فتاة شريرة!"

فُتح الباب، وكانت السيدة صوفيا واقفة عند العتبة.

***

أمضت إيلينا السنوات السبع التالية مع الراهبات، وثلاث أخريات التحقت فيهن  بالجامعة في العاصمة، ثم بدأت العمل في أحد البنوك. في هذه الأثناء، تزوجت والدتها من عشيقها، واستمر الاثنان في إدارة بيت الضيافة حتى وفرا ما يكفي من المال للتقاعد في منزل صغير في الريف، حيث زرعا القرنفل والأقحوان لبيعه في المدينة. علّق العندليب الملصق الذي يعلن عن فنه في إطار ذهبي، لكنه لم يغنِ في نادٍ ليلي مرة أخرى، ولم يفتقده أحد. لم يرافق زوجته قط عندما كانت تزور ابنة زوجته، ولم يسأل عنها قط - لئلا يثير الشكوك في نفسه - لكنه كان يفكر فيها باستمرار. بقيت صورة الطفلة معه، سليمة، لم تمسسها السنين؛ لا تزال الفتاة العاطفية التي رفضها. لو عُرفت الحقيقة، فمع مرور السنين، نمت ذكرى تلك العظام الخفيفة، وتلك اليد الطفولية على بطنه، وذلك اللسان الطفولي في فمه، لتصبح هاجسًا. عندما احتضن جسد زوجته الممتلئ، كان عليه أن يركز على تلك الرؤى، مستحضرًا صورة إيلينا بدقة لإيقاظ دافع المتعة الذي يتلاشى باستمرار. الآن، في منتصف عمره، كان يذهب إلى متاجر ملابس الأطفال ويشتري سراويل داخلية قطنية ويمتع نفسه، يداعبها ويداعبها. ثم كان يخجل من هذه اللحظات الفاحشة، فيحرق السراويل الداخلية أو يدفنها في حفرة عميقة في الفناء في محاولة يائسة لإخراجها من ذهنه. بدأ يتسكع حول المدارس والحدائق حيث كان بإمكانه الوقوف على مسافة ومشاهدة الفتيات الصغيرات اللواتي حملنه للحظة وجيزة إلى هاوية ذلك الخميس الذي لا يُنسى.

كانت إيلينا في السادسة والعشرين من عمرها عندما زارت والدتها لأول مرة، ومعها حبيبها، وهو نقيب في الجيش كان يلح عليها لسنوات كي تتزوجه. وصل الشابان - هو، لا يريد أن يبدو مغرورًا، بملابس مدنية، وهي محملة بالهدايا - في إحدى أمسيات نوفمبر الباردة. انتظر بيرنال تلك الزيارة كمراهق متوتر. كان يحدق في نفسه في المرآة كلما سنحت له الفرصة، يدقق في صورته، متسائلًا عما إذا كانت إيلينا ستلاحظ أي تغيير، أو ما إذا كان العندليب قد بقي في ذهنها محصنًا من ويلات الزمن. استعد للقاء، متدربًا على كل كلمة ومتخيلًا كل إجابة ممكنة. الاحتمال الوحيد الذي لم يفكر فيه هو أنه سيجد مكان الطفلة المتأججة التي أوصلته إلى حياة من العذاب امرأة شابة تافهة وخجولة للغاية. شعر بيرنال بالخيانة.

مع حلول الظلام، بعد أن خفت نشوة الوصول وتبادل الأم والابنة آخر أخبارهما، نقلتا الكراسي إلى الفناء للاستمتاع بنسيم المساء البارد. كان الهواء مشبعًا بعطر القرنفل. اقترح بيرنال كأسًا من النبيذ، وتبعته إيلينا إلى المنزل لتحضر الأكواب. لبضع لحظات، كانا وحدهما، وجهاً لوجه في المطبخ الضيق. بيرنال، الذي انتظر طويلاً هذه الفرصة، أمسك بذراع إيلينا بينما كان يخبرها كيف كانت كل تلك الحكاية خطأً فادحًا، وكيف كان نصف نائم في ذلك الصباح ولم يكن لديه أدنى فكرة عما كان يفعله، وكيف لم يكن يقصد أن يطاح بها على الأرض أو أن يناديها بما ناداها به، وسألها أن تشفق عليه وتسامحه، لعله حينها يعود إلى رشده، لأنه لما بدا وكأنه عمره كله استهلكته رغبة لا تنضب فيها، ألهبت دمه وسممت عقله. حدقت به، صامتة، لا تدري بماذا تجيب. عن أي فتاة شريرة يتحدث؟ لقد تركت طفولتها خلفها بعيدًا، وكان ألم تلك المحبة الأولى التي رُفضت قد تم حجزه في ركن مغلق من الذاكرة. لم تكن تتذكر أي خميس معين في ماضيها.

(تمت)

***

..................

الكاتبة: إيزابيل ألليندي (Isabel Allende) كاتبة تشيلية شهيرة وُلدت في بيرو عام 1942، وتُعد من أبرز الأصوات الأدبية في أمريكا اللاتينية. اشتهرت بروايتها الأولى بيت الأرواح (La casa de los espíritus) التي مزجت فيها بين الواقعية السحرية والتاريخ السياسي والاجتماعي لبلدها. تتميز أعمالها بالسرد الغني والعاطفي، وغالبًا ما تتناول فيها قضايا المرأة، المنفى، الهوية، والحب، متأثرة بتجربتها الشخصية كلاجئة بعد انقلاب بينوشيه في تشيلي عام 1973. تُرجمت أعمالها إلى عشرات اللغات، ونالت العديد من الجوائز الأدبية العالمية.

 

للشاعر الألماني الكبير غـوتـه

(1749-1832)

ترجمةً: د. بهجت عباس

***

ما أجمـلَ الطبـيـعــةَ البـاهـرةْ

تضيء لـي بفـتـنـةٍ ساحــرةْ!

مـا أروع الشَّمـسَ بأنـوارهـا!

وضَحْكةَ المَـزرعةِ العاطرةْ!

**

مـن كلَ غصنٍ نَضِـرٍ أخضرٍ

تـنـبـثـق البــراعـم ُ الـنّـافــرةْ

وألفُ صوتٍ في فضاء الدُّنى

تُطـلـقُـه أدغـالُـها السّـاهــرةْ ،

**

من كلِّ قـلـبٍ عـامـرٍ بالصَّفـا

تـنـبـعـثُ السَّـعـادة الغــامـرةْ

يـا أرضُ ! يـا شمـسُ ! ويــا

حُبـورُ ! يا فرحتَنا الزاهـرةْ!

**

يا حُبُّ! حبٌّ ذهـبيُّ الجَّـمـالْ

مثلُ غيومِ الصُّبحِ فوقَ الجِّبالْ

بدهشةٍ مـن فيـض هـذا السَّنا

تُباركُ المَـرجَ بهـذا الجّــلالْ

**

تـعــومُ فـي سديــم نُـوّارهـــا

كلُّ الدّنى  جبـالُهـا والرِّمـالْ

أيـا فـتـاةً ! يـا فـتـاتـي ! أنــا

فـي وَلـهٍ ليس لـه مـن مـثـالْ

**

وأنـتِ إذ عـيـنُـكِ فـضّـاحــةٌ

هائمــة في الحبِّ حدَّ الخيالْ

كما تُحبُّ الشَّدْوَ جوفَ الفضا

قـبّـرة طـائـرةٌ فــي اخـتـيــالْ

**

ومثلما تهوى زهـورُ الصَّباحْ

عطـرَ السَّما يغمرها بانـثيـالْ

**

ومــثلـما أهــواكِ يــا غـادتي

بدَميَ السّاخـنِ تحت الإهـابْ

أنـتِ الـتـي تمـنحـنـي فـرحــةً

وجــرأةً مـعْ عـنـفـوانِ الشَّبابْ

**

لأغـنـيـاتٍ فـي الهــوى عذبـةٍ

جديدةٍ والرقص بين الصِّحابْ.

كوني طَوالَ العمرِ في بهـجـةٍ

مادمـتُ في قلبـكِ حـبّـاً مُـذابْ

***

...............

 

Mailied

Johann Wolfgang von Goethe

 (1749-1832)

Wie herrlich leuchtet

Mir die Natur!

Wie glänzt die Sonne!

Wie lacht die Flur!

Es dringen Blüten

Aus jedem Zweig

Und tausend Stimmen

Aus dem Gesträuch,

Und Freud und Wonne

Aus jeder Brust.

O Erd, o Sonne!

O Glück, o Lust!

O Lieb, o Liebe!

So golden schön,

Wie Morgenwolken

Auf jenen Höhn!

Du segnest herrlich

Das frische Feld,

Im Blütendampfe

Die volle Welt.

O Mädchen, Mädchen,

Wie lieb ich dich!

Wie blickt dein Auge!

Wie liebst du mich!

So liebt die Lerche

Gesang und Luft,

Und Morgenblumen

Den Himmelsduft,

Wie ich dich liebe

Mit warmen Blut,

Die du mir Jugend

Und Freud und Mut

Zu neuen Liedern

Und Tänzen gibst.

Sei ewig glücklich,

Wie du mich liebst!

Do not Ask me Endure your Absence with patience

للشاعر : يحيى السماوي

ترجمة : رياض عبد الواحد

مراجعة : الدكتور رمضان سدخان

***

Text by: Yahiya Al-Samawi

Translated by: Riyadh Abdulwahid

Edited by : Ramadan M sadkhan

***

I would bless my death

if she were the one to mourn me,

the witness of my departure,

the voice to bid me farewell.

Let her recite above my shrouded body a verse that pleads safety for the fearful,

seeking intercession—

Let her kiss my lips,

close my eyes,

and draw my arm away from my ribs.

Before death, I turned my gaze to you—

so wipe my tears

with the silk of your palm,

and seek forgiveness for me,

for the sin of a lover

whose heart knew no reverence

before loving you.

He never spared a blossom

for a starving butterfly,

nor refrained from offering his cup to her.

He learned love

as a child,

a boy,

a youth—

and even in his age

grew older without knowing no love

but yours.

He passed seventy,

yet still bear the innocence of childhood—

sustained by tenderness.

Chaste in his desires—

even his folly

is a sanctified sin,

Pure and unspoiled .

He draws his bed close to the seventh heaven—

Intoxicated,

by the nectar

of delight.

His night's drink is sleeplessness

and his morning gift,

A voice

Its faint echo

that intoxicate my hearing.

I am,

O daughter of basil,

a river of yearning—

my waters are Iraq,

and spring is Samawa.

Do not ask me

to endure you absence -

for what is my tomorrow

if your shaded recess

is my only chamber of peace?

........................

لا تـسـألـيـنـي الـصـبـر عـنـك

للشاعر: يحيى السماوي

بـاركــتُ مـوتـي لـو تـكـونُ مُـشَــيّـعـي

يـومَ الــرَّحــيــل وشــاهِــدي ومُـوَدّعـي

*

تــتـلـو عـلـى جَـسَـدي الـمُــسَــجّـى آيـة ً

تـرجـو الأمـانَ لـخـائِــفٍ مُـسْــتــشْــفِـع ِ

*

ومُـمَــسّــداً بالـلـثـم ثـغـريَ .. مُـغـمـضـاً

جـفـنـي وتُـبـعِـدُ سـاعـدي عـن أضـلـعـي

*

يَـمَّـمْـتُ قـبـلَ الـمـوتِ نـحـوكِ مُـقـلـتـي

فـلــتـمــسـحـي بـحــريــر كــفٍّ أدمـعـي

*

واسـتـغـفـري لـيْ عـن خـطـيـئـةِ عـاشـقٍ

مـن قـبـلِ عـشــقــكِ قــلــبُــهُ لـم يـخــشَــعِ

*

لــمْ يَــدَّخِــرْ زهْـــراً لــجُــوع فَــراشَـــةٍ

يـومـاً ... ولا عـن كــأسِــهــا بــمُــمَــنَّـعِ

*

خَـبَـرَ الــهــوى طـفـلاً .. صَـبـيّـاً .. يـافـعـاً

وازدادَ كـهْــلاً ـ غــيــرَ عــشــقٍ ـ لا يَـعـي

*

قد جاوزَ " الـســبـعـيـنَ " وهـو طـفـولـةٌ

عــذراءُ يـســتـســقـي الـعــنـاقَ ويَـرْتـعـي

*

مُــتـبَــتّــلُ*ُ الــنَــزَواتِ ... حـتـى طــيــشُـــهُ

نُــسْـــكٌ عــفــيــفُ الإثــمِ غــيــرُ مُـخَــلَّــعِ

*

يُـدنـي مـن الـخـمــس الــطــبـاقِ ســريــرَهُ

ســكــرانُ .. لــكــنْ مــنْ رحــيــق تــمَــتـُّـعِ

*

فـنـديـمُـهُ فـي الـلـيـل سُــهــدٌ ... والــضـحـى

صـوتٌ بَـعــيــدُ الـرَّجْـعِ يُــثـمِـلُ مـســمـعـي

*

أنـا يـا ابــنـةَ الــرَّيـحـان نــهــرُ صَـــبــابــةٍ

مـائـي " عـراقٌ " و " الـسـماوةُ " مَــنـبَــعـي

*

لا تـســألـيــنـي الـصَّـبـرَ عــنــكِ فـمـا غـدي

إنْ كـان غــيــرَ ظـلــيــلِ خـدركِ مــهــجَــعـي؟

***

 

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

لدى طبيب الجلدية خليلة. ولعدة أسابيع مضت أصبحت الموضوع الرئيسي للمحادثة في غرفة الانتظار البيضاء، المزخرفة بورقة نخيل متطاولة ووحيدة في زاوية الغرفة، وبجانبها إعلانات براقة عن طب الجلد. جلس هناك ثماني مرضى على مقاعد جلد أحمر، ومعظمهم روس، لأن مكان المكتب في كينغز هاي واي، وهي منطقة روسية في بروكلين. كان لدى الطبيب عدة صحف روسية، مكومة مع أعداد قديمة من التايمز ومن مجلة الرياضة المصورة، وكلها معلقة على حامل بلاستيكي خاص بالصحف. ولكن لم يعرها أحد أي اهتمام. أفضت جدة ميشا بالروسية لامرأة شعرها أبيض وترتدي سترة رياضية وخفا وتنورة طويلة قائلة: "أخذها إلى أروبا في تشرين الثاني. الخليلة. صحح لها ميشا بحصافة: "أريوبا". وكان يحاول قراءة كتاب، ولكن لم يسمح له همس الجدة المنفعلة وكلماتها الفخمة والرنانة مثل أريوبا وخليلة أن يركز. أحيانا حاولت التحرش بامرأة بقبعة رمادية جالسة بجوار ميشا. ولتفعل ذلك مالت فوق ميشا مرتكزة بكوعها الثقيل على ركبته للتوازن. وتوجب عليه ضغط كتابه المفتوح على صدره والانتظار حتى تنتهي، وحاول أن يبعد وجهه عن رائحتها التي اختلط بها العرق ومستخلص جذور الناردين وحشيشة الشبث. قالت: "أولا رافق زوجته بعطلة، ولكن صنعت الخليلة مشكلة، فاضطر لاصطحابها أيضا. كلهن هكذا كما تعلمين". وافقت المرأة ذات الشعر الأبيض بتحريك رأسها. ثم اقترب المزيد من المريضات الروسيات ليدلوا بدلوهن.

"تقصدين أن لدى الدكتور ليفي خليلة؟". قالت المرأة ذات الشعر الأبيض بانفعال: "نعم. حتى أنه أخذها إلى أروبا". نظرت إليها جدة ميشا باستنكار لأنها تزعم أنها المؤهلة بالكلام عن رحلة أريوبا. كل ثاني خميس، بعد المدرسة، يصحب ميشا جدته إلى طبيب الجلدية. ويتوسط بنقل الكلام بينهما، لأن الجدة لا تعرف الإنكليزية. ولم يمانع هذه الزيارات - لأنه ليس هناك الكثير لما يحتاج إلى ترجمة. والدكتور ليفي رجل نحيل وصغير بدوائر سود تحت عينيه. أخذ نظرة من البثور في كاحليها، وكتب شيئا في ورقة المريضة، وسألها: "كيف تشعرين؟". قالت الجدة بالروسية "أفضل". وترجم ميشا كلامها إلى الإنكليزية. ولم يتذمر ميشا من طبيبي العيون والأسنان. ولم يذهب ميشا مع جدته إلى طبيب الأمراض النسائية. قال بحزم: "ولد بعمر تسع سنوات لا شأن له بعيادة نسائية". وأدهش الجميع بتعليقه لأنه لم يجادل إلا قليلا منذ وصولهم إلى أمريكا، ولم يسمعه أحد يتكلم إلا فيما ندر. كان ميشا سعيدا - لسبب ما يخاف من النساء الحوامل ومن بطونهن المنتفخة، وكواحلهن البدينة، وطريقة مشيهن المترنحة والمتهاودة. وتوجب على والدته أن تأخذ إجازة لعدة ساعات لترافق الجدة إلى هناك. واشتكت من ذلك ونظرت إلى ميشا والجدة بتذمر. لم يجنب أحد ميشا الزيارات الشهرية إلى المتمرنين. قابل هذا الطبيب ميشا وجدته في غرفته الرائعة ذات الجدران المطلية بلون كريمي والمغطاة بالشهادات، واقترب بثقة من طاولته المهاغوني الكبيرة. جلس هناك بكامل قامته ومال نحوهما، بتاج شعره الأبيض الغزير المزرق، ووجهه الأحمر، ويديه البيضاوين النظيفتين، وهو يستمع بصبر لشكوى الجدة. بخلاف بقية الأطباء، لم يقاطعها. وفضل ميشا لو فعل. بدأت كلامها مع تنهيدة متفائلة: "مشكلتي...".وكانت تفخر أنها قادرة على وصف الأعراض بدقة وطلاقة. حينما وصفت في إحدى المرات تعرقها أنه "حمام غزير ينبع من تحت جلدها" قال لها والد ميشا: "يجب أن تكوني كاتبة يا أمي". ظهر الضياع على ملامح أم ميشا. ولم تعرف هل تبتسم للطرفة أم تعنف زوجها بسبب سخريته من أمه. واختارت أن تبتسم أخيرا. اعترضت جدة ميشا دون اهتمام بالسخرية قائلة: "كلا. طبيبة. يجب أن أكون طبيبة لو لم أكرس حياتي لخدمة زوجي". ومن عادة ميشا أن ينظر نحو الأسفل حينما تكلم الطبيب، ليتأمل بعينيه تخطيط البساط الملون بالبيج والبني. ولكن الزينة تنقطع في بعض الأماكن بسبب أرجل الأثاث وقدمي جدته التي تنتعل خفا عريضا أسود والتي ترفع صوتها بالكلام، مع همهمات بين حين وآخر مع تبديل في النبرة للتأكيد وهي تقول: "بطني لا تتحرك منذ أيام. ويجب زيارة الحمام كل عدة ساعات. وبالعادة أشعر بالحاجة وأسرع إلى الحمام فورا. وأضغط بقوة. ولا يحصل شيء. وأنسحب ولكن أشعر كأن صخرة عاتية في داخلي. وتضغط على بطني. فأعود وأجرب مجددا". وتثبت إحدى قدميها بالأرض، حينما تصف "الصخرة الثقيلة". نظر ميشا إلى جوربيها الأسودين السميكين. وقد أتت من روسيا كمية كبيرة منها، مع مؤونة كافية من مثبتات مقلمة عريضة تمسك بالجوارب. ولاحظ ميشا أن جوانب مقعده الجلدي أصبحت تحت أصابعه رطبة وزلقة، وشعر أنه يحمر، ولا سيما أذناه. وتساءل إذا انتبه الطبيب كم هما حمراوان. ولكنه لم ينظر إلى ميشا، بل إلى جدته مع ابتسامة مهذبة وصبورة. فكر ميشا: "هيا. يكفي. لا بد من وجود مرضى آخرين بالانتظار". لكن لم يتحرك الطبيب. ربما هو يستغل هذه اللحظات لينام بعينين مفتوحتين. تابعت: "حينما في النهاية أنتهي أشعر بالإنهاك، أشعر كأنني ربحت معركة. رأسي، يوجعني ودقات القلب تشتد فأتناول أربعين قطرة من جذور الشبيث، وأستلقي، وأستمر هكذا على الأقل لساعة". وبعد أن يأزف وقت الجدة، تلتفت إلى ميشا. فينظر إليه الطبيب كذلك، محتفظا بنفس التعابير المهذبة والصبورة على وجهه. ويفكر ميشا بالإسراع كالسهم نحو الباب، وتجاوز موظفة الاستقبال، ثم غرفة الانتظار، حتى بلوغ الشارع. فكر أن يخرج من النافذة، وهي نافذة خضراء عريضة بلاستيكية برأس مشطور عند حافتها. أمكنه رؤية نفسه يسقط على العشب، ثم يقف على قدميه، ويركض مبتعدا عن العيادة. ولكنه لم يقفز. جلس هناك، وهو يفكر كيف يتجنب كلمة "صخرة ثقيلة" أو جلوس الجدة في الحمام، قائلا: "إممممم.. هي.. جدتي.. مشكلتها... أنه لديها... تصاب غالبا بالصداع ويدق قلبها بسرعة عالية". ابتسم الطبيب لميشا موافقا، وكتب وصفة بيديه النظيفتين جدا والرشيقتين. "تايلينول". اشتكت الجدة لاحقا بصوت مسموع في غرفة انتظار طبيب الجلدية قائلة: "انظروا للأطباء الأميركيين!. أخبرته أنني أعاني من إمساك فوصف لي تايلينول!. هل يمكن تصديق ذلك؟". تعاطفت معها المريضات الروسيات بحماس. وأخفى ميشا أذنيه المحمرتين وراء "دليل ما قبل التاريخ المصور الكبير". وتمنى لو تنتقل إلى الموضوع الآمن عن خليلة طبيب الجلدية

والتي شاهدنها مرة حين فتحت الباب وتقدمت مباشرة إلى غرفة الدكتور ليفي، دون أن تبتسم، وهي تنظر أمامها. كانت امرأة ممتلئة وقصيرة، في أواخر الثلاثينات، بشعر أشقر محمر قصير، وبجينز أبيض ضيق، وجاكيت من الجلد اللماع. وهي تطرق ببوطها ذي الكعب الطويل وتخشخش بأساورها الذهبية خلال مشيتها. وتلوح بمفاتيح سيارة في يدها. خيم الصمت على جميع الموجودات في الغرفة وتبعنها بنظرات أعينهن، ومعهن ميشا. كان فمها جميلا، ومطليا بلون أحمر لماع. همست إحداهن بالروسية: "يا لها من قليلة حياء". وربما كانت جدة ميشا. أدى ميشا واجباته المنزلية في مطبخ أبيض طويل، لأنه برأي أمه المكان الوحيد الذي يحظى بإضاءة مناسبة، ولم يكن عرضة للهواء الشديد. لعام تقريبا أربعة منهم - هو وأمه وجده وجدته - عاشوا في شقة من غرفة واحدة ذات جدران طلاؤها ليس على ما يرام، وفيها سجادة بنية بالية، وأثاث مستعمل. وبدا كل شيء في الشقة ملكا لشخص آخر. نام ميشا وأمه في غرفة النوم، واحتل ميشا سريرا مطويا. ونام الجد والجدة على سرير - كنبة في غرفة المعيشة. أو ربما جدته هي التي نامت عليه وهي تشخر بهدوء. وكان الجد كما يبدو يسهر طيلة الليل. وكلما استيقظ ميشا، يسمع جده يتململ أو يزمجر أو يتجول بخطوات ثقيلة على أرض المطبخ التي تصر.

كان لديهم في روسيا شقتان منفصلتان. وعاشوا في مدينتين مختلفتين. جداه عاشا في جنوب روسيا، في مدينة صغيرة مزدحمة بأشجار التفاح والدراق. بينما أقام ميشا وأمه وأبوه في موسكو، قبل أن يغادر والده ليقيم مع امرأة أخرى. في موسكو امتلك ميشا غرفة خاصة به، صغيرة جدا، ليست أكبر من ست أمتار مربعة، وورق الجدران فيها يحمل صور زوارق شراعية. ولميشا سريره الخاص وطاولته مع مصباح قراءة بشكل تمساح. وقد رتب كتبه بأناقة في رف فوق الطاولة، واحتفظ بألعابه في علبتين من الخشب المضاعف بجانب سريره. وحينما يتشاحن والداه، يقولان له: "اذهب يا ماشا إلى غرفتك". ولكن خلال الشهور الأخيرة قبل مغادرة والده، لم يكن لديهما وقت ليطرداه إلى غرفته. كانا يتشاجران تقريبا باستمرار: يبدأ ذلك فجأة، بدون إنذار، وسط حوار عادي خلال الغداء، وهو يلعب الشطرنج، أو يشاهد التلفزيون، وينتهي بعد أن يأوي ميشا إلى سريره، أو ربما لا ينتهي أبدا، فيذهب ميشا إلى غرفته تلقائيا. يجلس على بساط صغير ببن سريره وطاولته ويلعب بمكعبات البناء، ويصغي لأصوات مكتومة تأتي من صراخ والديه. ويتابع لعبه بهدوء. أغرم ميشا بواجباته المنزلية، ولكنه لم يعترف بذلك. كان يمد كتبه وأوراقه وأقلامه أمامه، حتى تحتل كل وجه الطاولة. وأحب شيء له تلوين الخرائط، ورسم المخططات، وحل المسائل الرياضية، وحتى تمارين الإملاء - وكان يسره مرأى خطه، بحروفه الحاسمة والواضحة والمستديرة. وأكثر ما أغرم به خلال أداء واجباته البيتية أن أحدا لا يزعجه. وكل شخص يهمس: "اصمتوا. مايكل يدرس". وحتى جدته، التي تطهو بالعادة الغداء حينما يدرس، تلزم جانب الهدوء - وبصوت خافت تدندن بلحن من أوبرا شعبية مكسيكية تشاهدها يوميا على القناة الإسبانية. ولم تكن لغتها الإسبانية أفضل من الإنكليزية، ولكنها تقول أنت في العروض المكسيكية لا تحتاج إلى الكلام لتفهم ما يجري. والشيء الآخر الذي تحب مشاهدته في التلفزيون هو نشرات الطقس، لأنك لا تحتاج لكلمات أيضا: صورة الشمس تدل على يوم طيب، وقطرات المطر يعني الهطول، وصفوف من قطرات المطر تدل على أمطار غزيرة. وكانت أم ميشا تعارض الاشتراك بقنوات التلفزيون الروسي، لأنها تعتقد أنها تحرمها من التأقلم مع الحياة الأمريكية. ولنفس السبب، أصرت أن ينادي الجميع ميشا باسم "مايكل". وكانت أم ميشا متأقلمة بشكل جيد. فهي تتابع أخبار التلفزيون، وتستأجر الأفلام الأمريكية، وتقرأ الصحف الأمريكية. وتعمل في مانهاتن، وترتدي للعمل نفس الثياب التي شاهدها ميشا في مجلات غرف الانتظار. لكن تنوراتها أطول وكعاب أحذيتها أقصر وأغلظ.

ومشكلة الواجب المنزلي أنها تستغرق حوالي أربعين دقيقة فقط من وقت ميشا. وحاول أن يمددها بقدر استطاعته. وقد حل المسائل الإضافية كلها التابعة لفصل "ربما تجرب معها". أحضر كتابه وقرأه، وتظاهر أنها وظيفة لغة إنكليزية. وكان يتوقف من وقت لآخر وكأنه يواجه مشكلة، وعليه أن يفكر بها، ولكنه كان يكتفي بالجلوس، مراقبا جدته وهي تطبخ. أخرجت كل تلك الحزم وأكياس الخيوط وأكياس البلاستيك والأطباق والصحون المغلفة الغريبة، من الثلاجة ووضعتها على الكونتور، ولم تنس أن تشم كلا منها أولا. ثم فتحت الفرن وهي تصيح بصوت مرتفع وتشهق وتقول: "آسفة يا مايكل". بعد ذلك أخرجت ما لديها من أدوات للقلي والشي، وأودعتها في الفرن، وملأت بعضها بالماء ودهنت البقية بدهن الدجاج (تحتفظ دوما ببعض دهن الدجاج قرب يدها، فهي لا تثق بالزيت أو زبدة القلي). وحينما تئز وتئن المقالي وصفائح الشي على الموقد، تغسل وتقطع الجدة محتويات الحزم والأطباق، باستعمال لوحين من الخشب - أحدهما من أجل اللحوم، والآخر من أجل كل المتبقي. وكان ماشا يتعجب دوما كيف أن أصابعها القصيرة والمنتفخة سريعة. وخلال ثوان تختفي أكوام من المكعبات الملونة في المقالي والصفائح تحت أغطية مزخرفة ورقيقة. وغالبا تقول الجدة لزميلاتها في غرفة الانتظار: "كنت حكيمة. أحضرت كل الأغطية معي. في أمريكا نادرا ما تجدين ما يناسب". توافق النساء، بالتأكيد يوجد مشكلة في أغطية أمريكا. لطهي اللحم المفروم تستعمل الجدة فرامة لحوم معدنية يدوية، أحضرتها معها من روسيا أيضا. وعليها أن تنادي الجد إلى المطبخ، لأن الفرامة ثقيلة جدا - فهي لا تستطيع تدوير اليد، وحتى أنه لا يمكنها رفعها. كان الجد يرمي جريدته من يده، ويأتي خانعا، وهو يجرجر خفه، بنفس التعابير المستسلمة والمرهقة، التي تظهر وهو يتبع الجدة إلى البيت عائدين من مخزن التموين الروسي، حاملا الأكياس المنتفخة وعليها عبارة "شكرا" بخط أحمر وطويل. ثم يتخلى عن قميصه المطرز بالمربعات ويضعه على الكرسي. (أصرت الجدة أن يفعل ذلك قائلة "أنت لا تريد قطعا من اللحم النيء على قميصك"!). ويضع أمامه طبق لحم من الخزف ويغلق الفرامة وهي على حافة النافذة. ويقف منحنيا عليها، بثيابه الداخلية البيضاء وسرواله الصوفي الأسود. فقد أحضر معه إلى أمريكا خمس بذات جيدة اعتاد أن يرتديها خلال عمله في روسيا. والآن يرتدي السروال في البيت ويعلق الجاكيت في الخزانة مضيفا إلى جيوبها النفتالين. ويقبض الجد على يد فرامة اللحمة الصدئة ويديرها ببطء، بجهد في البداية، ثم أسرع بالتدريج. ويرتعش كتفاه اللحميان والمحمران ويسيل العرق على خديه المنتفخين، وأنفه المستدير ورأسه اللماع. وأحيانا تترك الجدة الطهي وتوجه هذه التعليقات: "ماذا لديك، أصابع مشوهة؟" أو "انتبه، وقعت منك قطعة ثانية" أو "أتمنى فرم هذه اللحمة بحلول العام القادم". ولم تكلمه هكذا أبدا بالروسية. حينما يعود من العمل إلى البيت في روسيا تسرع لتقديم غدائه وتضيف بنفسها ملعقتين كاملتين من القشدة الحامضة إلى طبق الشيشي. فيشرب الجد الحساء بصوت مرتفع وهو يثرثر كثيرا خلال طعامه. ولكنه حاليا لا يكلم ولا حتى الجدة. يقف بمكانه فقط، وبيده قبضة فرامة اللحمة، بعقد أصابع منتفخة، ويسرع بتدويرها حتى يحمر وجهه وتزرق عروقه وتتشابك على رقبته المنتفخة. ويركز نظرته على شيء بعيد خارج النافذة. اعتقد ميشا ربما كان جده يفكر بالقفز كما أراد في عيادة الطبيب. غير أن شقتهم كانت في الطابق السادس. وحينما يتم تحضير الطعام، تذهب الجدة لإحضار لمستها المفضلة، عشبة الشبيث. فهي تحتفظ لديها بباقة مسودة وذابلة قليلا ومنشورة على جريدة قديمة تمدها فوق حافة النافذة. تنتقي عشبة وتسحقها بأصابعها في زبدية صغيرة، وتضيفها إلى جميع الصحون التي طبختها. وعند الغداء تجد طعم الشبيث في كل شيء: الحساء والبطاطا وشوربة اللحمة والسلطة. وفي الحقيقة قليلا ما يكون للغداء أي طعم غير الشبيث - والجدة لا تثق بالتوابل، باستثناء القليل من الملح في الطعام، وبدون أي فليفلة. يراقبها ميشا كيف تنتقل من مقلاة إلى أخرى، مرتدية ثوبا له هيئة مربع قطن أسود، وتجفف وجهها المحمر والمبلول وشعرها الرمادي القصير بقطعة قماش، وتجرف قشور البطاطا من الكونتور، وتزمجر كلما سقطت إحداها على الأرض، ثم تلتقطها. ولم يفهم لماذا تتعب في تحضير الطعام، الذي لا يتذوقونه، ويستهلكونه في وقت الغداء بعشرين دقيقة، وبصمت. لم يستطع ميشا أن يتظاهر أنه منهمك بوظيفته إلى ما لا نهاية. وفي الختام تدرك جدته أنه لا يعمل. وكانت تتابع نشرة الطقس على التلفزيون، وإذا لم تجد ما يدل على كارثة طبيعية ترسل ميشا إلى باحة الألعاب مع جده. تصيح بالجد الجالس على الكنبة بقميص المربعات غير المزرر ومدفونا بالصحف الروسية: "اذهب. تحرك. اذهب وتنزه مع الصبي. كن مفيدا وغير روتينك". فيقف الجد ويزمجر ويذهب إلى مرآة الحمام، ليتأكد أنه بحاجة لحلاقة، وبالعادة يقرر عكس ذلك. ثم يزرر قميصه، ويدسه في سرواله، ويقول بشكل غائم: "لنذهب يا مايكل". ويعلم ميشا بعد المغادرة أن الجد سيحمل معه الصحيفة الروسية. وتضع الجدة نظارتها (لديها اثنتان، وكلتاهما من البلاستيك الرخيص، إحداهما زرقاء قليلا والثانية وردية)، وتتكوم على الكنبة، حتى تئن النوابض. وتجلس هناك وقدماها متباعدتان وتقرأ صفحة المبوبات، والإعلانات الفردية. وترسم دائرة حمراء حول بعضها، بقلم استعارته من ميشا، كي تعرضها لاحقا على أم ميشا، التي تبادر بالضحك، ثم تتحسس، وأخيرا تنزعج وتتبرم من الجدة. طيلة الطريق إلى باحة الألعاب، وحين المرور ببناء شقق من الطوب الأحمر وصفوف من البيوت الخاصة تجد فيها على الممشى صغارا يضعون قبعة اليهود وبنات يرتدين أثوابا طويلة ومزهرة، يتقدم الجد ميشا بعدة خطوات، ويداه مطويتان وراء ظهره، ونظره على قدميه، بدون أن ينطق أي كلمة. في روسيا الوضع مختلف. ربما لأن ميشا كان أصغر. حينما ينفق الصيف في بيت جديه يرافقه جده طوعا إلى حديقة ودون أن يطلب منه ذلك. ويتكلم كثيرا حينما يمشي في ممرات الغابة المظلمة والكثيفة: عن الأشجار، والحيوانات، وفتنة الأشياء العادية التي تحيط بهما. ولا يحاول ميشا الصغير أن يفهم معنى الكلمات. وتصله مختلطة بأصوات غيرها: خشخشة الأشجار، وزعيق طائر، وصليل مزعج للحصى وهو يسحب مقدمة صندله عليها. والأهم صوت جده. كانا يمشيان ببطء، ويد الصغير ميشا مؤمنة بيد جده المتعرقة والكبيرة. وبين حين وآخر يحرر يده ويمسحها ببنطاله، ولكنه يسرع ليحمل حقيبة يد جده. وما أن يصلا إلى ساحة اللعب ويقفا على أرضها الإسفنجية السوداء يقول الجد: "حسنا يا مايكل هيا العب". ثم يتجول في المكان بحثا عن صحف روسية على المقاعد. وبالعادة يجد اثنتين أو ثلاثا. ثم يذهب إلى جذع شجرة ضخمة، بعد أبعد زاوية عن طاولات الدومينو، حيث يجتمع حشد متحمس من الرجال الروس كبار السن، أو بعد أبعد زاوية من الطاولات حيث تجلس كبيرات السن الروسيات لمناقشة أمراضهن وأخبار خليلات الآخرين. وهناك لساعة كاملة في ساحة الألعاب، يجلس بلا حراك، باستثناء تقليب صفحات الجريدة.لم يعرف ميشا كيف يفترض به أن يلعب. رأى أولادا بعمر ثلاث سنوات على دراجة بثلاث دواليب يتجولون في أرجاء الساحة الطرية السوداء. أما الزحليقة فقد احتلها أولاد صاخبون بعمر ست سنوات، والأرجوحات شغلها أطفال صغار، تؤرجحهم أمهاتهم أو بنات بدينات مراهقات، كن يضغطن بمؤخراتهن لتمر من بين السلاسل. وبالعادة يمشي ميشا إلى أعلى زحليقة، ويدوس على قطع العلكة و برك من المثلجات الذائبة. يتسلق إلى الذروة ويزحف نحو كوخ بلاستيكي. ويجلس هناك متمسكا بمقعد مطاطي. وأحيانا يجلب معه كتابا. وكان محبا للكتب السميكة الجادة والتي تدور حول الحضارات القديمة، والبعثات الأثرية، والحيوانات المنقرضة منذ ملايين السنوات. ولكن في معظم الوقت يمنعه الضجيج المرتفع من القراءة. ثم يحدق ميشا بالأسفل نحو باحة الألعاب، والتي يبدو أنها تتحرك وتميد مثل حيوان قلق، ثم ينظر إلى جده الثابت بمكانه.

ثم شاهد الملاحظة عن حصة اللغة الإنكليزية مطبوعة بحروف سود عريضة على ورق مضيء زهري. كان اللون ساطعا جدا ويلفت النظر أينما وجدت الملاحظة. ومنذ بداية آذار أمكن رؤيتها في أي مكان من الشقة: على طاولة المطبخ، في غرفة النوم على وسادة مجعدة، على أرض دورة المياه بين المكنسة وكتالوغ ماسي، أو مدسوسة تحت الكنبة (فتجرها الجدة من هناك، وتنفخ طبقة الغبار عنها، وتمهدها بيديها، وتوبخ الجد بغضب). وقد اهتم بها الجميع، وقرأوها، أو على الأقل نظروا إليها. وتمت مناقشة إذا ما كان يتوجب على الجد أن يتبع الحصص. فهو يلائم المواصفات تماما. أي مهاجر شرعي مضى عليه في البلاد أقل من سنتين، ولديه إلمام بأساسيات اللغة الإنكليزية، مدعو لاتباع دورة محادثة أمريكية مدتها ثلاث شهور. وكتب بحروف أكبر من البقية: "الكثير من التعابير المتداولة". وبحروف أكبر: "بالمجان".

قالت أم ميشا في وقت الغداء "البرنامج ممتاز يا أبي. المعلمون أمريكيون، معلمون ماهرون، من هذا البلد وليس سيدات روسيات مسنات، يخلطن بين الأزمنة ويزعمن أن هذا لغة قواعد بريطانية كلاسيكية". ونظفت في طبقها حساء سمك السلور من الحسك. حاول الجد في البداية تجاهلها. ولكن أم ميشا أصرت: "أنت تتعفن بالحياة يا والدي. فكر كم هذه الفرصة رائعة، ستشغلك بشيء ما، شيء يهمك". قرقعت الأطباق بين يدي الجدة، وجرت الكرسي مع صرير، وأحيانا كانت تقاطع هذا الحوار بأسئلة مثل: "أين أعواد الثقاب؟ وضعتها هنا بالضبط" أو "هل تعتقدون أن هذه السمكة مطهية أكثر مما يجب؟". وساءها أن أحدا لم يفكر بضرورة انتسابها للدروس، مع أنها تعرف أن عبارة "الإلمام بأساسيات الإنكليزية" لا ينطبق عليها تماما. وأفضل ما بإمكانها أن تتهجأ اسمها الأول. أما كنيتها فتحتاج لمساعدة من ميشا. ولكن لا يشوش على أم ميشا أسئلة الجدة أو قرقعة الأطباق. وتقول: "ستبدأ بالمحادثة بسرعة، يا أبي. أنت تعرف القواعد، ولديك مفردات، ولكنك بحاجة لمساعدة". خفض الجد رقبته فقط، ورشف شايه، وهو يتمتم أن هذا هراء وأن منطقتهم في بروكلين لا تحتاج إلى الإنكليزية إلا قليلا.

فترد أم ميشا: "وماذا عن مواعيدك أنت وأمي؟ تعبت أنا ومايكل من مرافقتك إلى هناك كل مرة. هل هذا صحيح يا مايكل؟". وتنقل إبريق الشاي البورسلان الضخم، فيمنعها من رؤية وجه ميشا في الطرف الثاني من الطاولة. وافق ميشا. وتقرر أن يلتزم الجد بالحصص. في يوم أول حصة حمل الجد إحدى ستراته المعلقة على المشجب وارتداها، فوق قميص المربعات المعتاد. وسأل ميشا إن كان لديه دفتر لا يلزمه، فقدم له دفترا بغلاف بلون الرخام، مع قلم رصاص مشحوذ وقلم حبر. وضعها الجد في كيس بلاستيكي يحمل عبارة "شكرا". في الصالة أخذ من أعلى رف في الخزانة علبة حذائه الروسي، وسأل ميشا إن كان الحذاء بحاجة للتلميع. لم يعرف ميشا الجواب، فأعاد الجد العلبة إلى مكانها، وارتدى خفه. وجرجر خطواته إلى المصعد، والكيس تحت إبطه. بعد ذلك كل ليلتين في الأسبوع - يعقد الدرس يومي الاثنين والأربعاء - يتناولون الغداء بغياب الجد. وغيابه لا يصنع فرقا ملحوظا، ما عدا توتر أم ميشا والجدة أكثر قليلا. ويبدأ بقصاصة من الصحيفة الروسية، وإعلان ملون كبير - "شرف حفلتنا بحضورك وقابل قدرك! الثمن: خمسون دولارا (يتضمن الطعام والشراب)" - وينتهي ذلك بصياح أم ميشا: "لماذا تريد أن تزوجني؟ لتذهب بطريقك الآخر؟". وتمد الجدة يدها إلى زجاجة حشيشة الهر قائلة بصراحة: "لم أنطق بكلمة سيئة على زوجك".

"بل وجهت لي الكثير من الكلام. أنت لا توفرين النقود من المكالمات الدولية".

"أردت أن أفتح عينيك".

ثم تسرع أم ميشا وتخرج من المطبخ، والجدة تصيح لتعود، وهي تعد بحذر النقاط المضافة لكأس الشاي: "كيف بإمكانك أن لا تكوني ممتنة جدا. أتيت إلى أمريكا لأساعدك. تركت كل شيء وأتيت كرمى لك". جاءت أم ميشا إلى أمريكا كرمى لميشا. قالت له ذلك مرة، بعد عودتها من اجتماع ذوي الطلاب مع المعلمين. جاءت إلى البيت وقالت: "تعال معي إلى غرفة النوم يا مايكل". تبعها، وشعر بالعرق على يديه واحمرار أذنيه، مع أنه يعلم أنه لم يرتكب في المدرسة فعلا شائنا. جلست أمه على حافة السرير، وخلعت حذاءها بكعبه العالي، ثم تخلت عن سروالها. وهي تدلك قدمها البيضاء بأصابعها الملتوية قالت: "قال المعلم أنك لا تشارك يا مايكل. ولا تتكلم أبدا. لا في القاعة ولا في الاستراحة. إنكليزيتك جيدة، وحصلت على علامات ممتازة في امتحاناتك. ولديك علامة ممتازة في كل مقرراتك. ولكنك لن تصل إلى الدرجة الأولى في صفك". تركت قدمها وبدأت بالبكاء حتى سال صباغ أسود حول عينيها. قالت له وهي تلهث أنه هو مستقبلها، والسبب الوحيد لقدومها إلى أمريكا. ثم ذهبت إلى الحمام لتغسل وجهها، وتركت على الأرض كومة سروالها - دائرتان رقيقتان سوداوان اندمجتا معا. صاحت من الحمام: "لماذا لا تناقش يا مايكل؟".

ولكن ليس صحيحا أنه لا ينطق أبدا. إذا طرأ سؤال يرد بجواب دقيق، ولكنه يحاول أن يختصر قدر الإمكان. غير أنه لا يبادر بالكلام. ويدون كل ما يقال في الحصة، ويشارك في ذهنه بتعليقات وتعليقات معاكسة، وأحيانا يلقي النكات. مع ذلك شيء ما يمنع هذه الكلمات الجاهزة من أن تخرج من فمه. وينتابه نفس الشعور عندما يتصل والده في أيام السبت. كان ميشا يتدنفق كل الأسبوع يجهز لاتصاله، ولديه ألوف الموضوعات ليخبره بها. ويخبره ذهنيا بكل مجريات المدرسة، ويصف له زملاء الصف، وأساتذته. ويريد أن يتكلم عن أشياء قرأها في كتبه، وعن مدنه المفقودة، وحيواناته الغريبة. وبذهنه يضحك ميشا ويتخيل كيف سيخبر والده بكل القصص المضحكة التي قرأها عن الديناصورات، وكيف سيشاركه أبوه الضحك. ولكن حينما يخابره أبوه، يحل الخدر عليه. ويجيب على الأسئلة ولا يبادر بالنطق ولا يوجه أي سؤال. ويجلس والهاتف على سريره، بمواجهة الجدار، وأظافره تقشر طبقات الطلاء القديمة. يسمع أنفاس والده في الهاتف والتي تدل على نفاد الصبر وخيبة الأمل. ويرى ميشا أن كرهه للكلام هو سبب عدم اتصال والده في الأسابيع السابقة. والآن حان دور الجد ليؤدي واجبه المنزلي. جاء ميشا من المدرسة وشاهده عند طاولة المطبخ مع دفتره وقواميسه مكومة أمامه على الطاولة. وقد قص الجد لنفسه بطاقات ملونة صغيرة من ورق البناء وكتب عليها كلمات صعبة موجودة في القاموس: كلمة إنكليزية على طرف، ومعناها بالروسية على الآخر. وانهمك بالدراسة ولم يلفت اهتمامه شيء في تلك الأثناء. وتوجب على الجدة أن تذهب إلى مخزن الأطعمة الروسية بمفردها، وبالعادة تعود مع أكياس صغيرة وخفيفة لأنه لا يسعها أن تحمل الأشياء الثقيلة. ولم يستعمل أحد فرامة اللحمة. وأودعت في الخزانة مع مهملات أحضرت من روسيا: ورق الفرن، قوالب غريبة، ساموفر منهك صغير، أداة لاستخراج بذور الكرز الحامض. ولم يسعد ذلك الجدة. ودمدمت أنها تحمل على كاهلها كل البيت وألقت نظرات تأملية على زوجها. قالت أم ميشا: "من فضلك اتركيه بمفرده. على الوالد أن يتعلم شيئا، ولم يبق له غير ثلاث شهور". وتساءل ميشا هل يستمتع الجد بوظيفته مثله. وأيضا تساءل هل يغش الجد مثله، متظاهرا أن وظيفته تستغرق وقتا أطول مما تحتاج إليه في الحقيقة. وبعد بداية الحصص بثلاث أسابيع، أخذ الجد العلبة وحذاءه الجلدي من الرف. وذهب إلى مخزن أحذية واشترى علبة طلاء بني قاتم صغيرة. ولهذه الغاية بحث عن كلمة "طلاء أحذية" في القاموس. قبل كل حصة يلمع حذاءه بنشاط بقطعة قماش. ويدمدم مستجيبا لنظرة الجدة: "لا أريد أن يظن المعلم أن الروس خنازير". يجلس القرفصاء، ورأسه للأسفل، ووجهه ورقبته محمران جدا، مثلما يحمر كلما قال إنه لا يتحسن وعليه حضور دروس إضافية في أيام السبت. وحينها تضع الجدة بعض الأشياء في الخزانة. تغلق باب الخزانة الأبيض بصوت جازم وتقول: "رغم كل هذه الدراسة ولا تتحسن". في إحدى الأمسيات نهض الجد عن الكنبة، وارتدى سترته، ووضع بعض النقود في جيبه، وذهب إلى كينغز هاي واي، وعاد بقميص جديد، أزرق خفيف مقلم بخطوط زرق قاتمة. وكل ما قاله للجدة "كان معروضا بسعر مخفض".

قالت جدة ميشا في صالة انتظار طبيب الجلدية: "وهذا كل ما قاله. كان معروضا بسعر مخفض. لو أنني لا أعرفه لاعتقدت أن لديه خليلة. ولكنني أعرفه". هزت المستمعتان رأسيهما بتعاطف، وهما امرأتان روسيتان، إحداهما تضع قبعة صوفية سميكة لونها بنفسجي لماع، والثانية سوداء وعادية. كشرت الجدة ورفعت أحد حاجبيها لتؤكد كلامها. ونظرت نظرة لها معنى للمرأتين، ومالت عليهما، وهمست شيئا. وأضافت: " ذلك - لعدة سنوات حتى الآن". قالت المرأة ذات القبعة البنفسجية: "ولكن هذا جيد، هذا أفضل". فكرت الجدة بكلامها وقالت: "نعم، نعم، هذا أفضل، طبعا". تخيل ميشا جده مع خليلة، مع خليلة طبيب الجلدية، لأنها الخليلة الوحيدة التي شاهدها. وتخيل جده يتمشى معها على ضفاف خليج رؤوس الحملان - شيب هيدز باي - بين أزواج آخرين، وإحدى يديها تتدلى من كم جلدي لماع لتقبض على يد الجد، ويدها الأخرى تلهو بمفاتيح سيارة. ثم تخيلها تقبل الجد على خده وتترك عليه علامة من طلاء الشفاه الأحمر. فيجعد الجد أنفه ويسرع لمسح العلامة، كما يفعل ميشا حينما تقبله أمه بعد العمل. وصورة جده الجاد الذي ينظف خده بقوة جعلته يبتسم. وخليج رأس الحملان هو المكان الذي يأخذ الجد ميشا إليه للنزهات المسائية. ولعدة أسابيع بعد الحصص واصلا الذهاب إلى باحة اللعب، ولكنه أهمل الصحف الروسية. وبدأ الجد يحمل معه بطاقات الكلمات الملونة. فيوزعها أمامه على الجذع ويضع على كل منها حجرة ليمنع الريح من جرفها. وأحيانا يقرأها بتمهل، بالهمس أو بتحريك شفتيه أو بعينيه. ولكن غالبا ما يتلفت وعلى وجهه دهشة واضحة وعدم تصديق كأنه يراها لأول مرة. ثم في أحد الأيام قال الجد إنه سيأخذ مايكل إلى خليج رأس الحملان ليرى السفن ويستنشق هواء المحيط المنعش. احتجت الجدة في البداية، قائلة إنها مسافة طويلة، والجو عاصف هناك، وقد يصاب الولد بنزلة برد. ولكن أصر الجد، كما كان حاله في روسيا. وقال إن الولد بحاجة للتريض، وهذا الكلام لا تراجع عنه. وفي خليج رأس الحملان لم يتوقفا لرؤية السفن. وعبرا الجسر الخشبي الذي يصر، وتابعا على طول الضفة، ومرا بالصيادين، والأشجار الطويلة، والمقاعد الخضراء المهترئة التي تحتلها نساء وحيدات كما يبدو. وفي نهاية الدرب التفا وعاودا المشوار ثلاث أو أربع مرات. الجد يمشي أمامه، أسرع من المعتاد، ويعرج قليلا بحذائه الجلدي القاسي. نظر نحو الأمام، وأحيانا ينظر نحو الأشجار والمقاعد. وتولد عدة مرات عند ميشا انطباع أن جده أومأ لشخص جالس على مقعد. وفي إحدى المرات انزلق على رأس سمكة على الرصيف، وتقريبا سقط وهو ينظر بذلك الاتجاه. وتوقف ميشا عدة مرات لينظر إلى معدات الصيادين اللماعة، ورؤوس وذيول السمك المستعملة كطعم، وباطن الدلاء البلاستيكية البيضاء، والفارغة عادة. وعندما اشتدت الريح بردت أذنا ميشا وكادت أن تطيح بقبعة اليانكي الصغيرة من فوق رأسه، واسودت الأمواج وارتفعت في الماء، وشاهد ميشا الأسماك تقفز وتنثر الماء حولها لمسافة كبيرة. وحينما سحب أحدهم سنارة صيده، تبعها ميشا بعينيه، وحبس أنفاسه ولعق شفتيه. وأمل ولو مرة أن يرى سمكة تقع بالمصيدة. وبعد نهاية حصص الجد، تأكد ميشا أنهما لن يعودا إلى هنا. وعليه العودة إلى الكوخ البلاستيكي في باحة اللعب، والذي ترتفع حرا ته صيفا، وتفوح منه رائحة المطاط المحروق.

سجلت الجدة كل مواعيدها على تقويم كبير معلق على الجدار بجانب الثلاجة، وهو بمثابة بقعة مضيئة على جدار المطبخ الشاحب. يحمل اسم "أديرة روسية شهيرة"، وكان مطبوعا في ألمانيا، وقد اشترته من شاطئ برايتون. وتحت الصورة اللماعة والجميلة لدير زاغورسك، ببرجيه الذهبيين العائمين في سماء زرقاء مشرقة، تجد تفاصيل شهر حزيران. في الخامس عشر منه تاريخ نهاية حصص الجد، وقد أحاطته بدائرة رسمتها بقلم ميشا الأحمر. قالت أم ميشا حينما مرت بجانب التقويم وهي في طريقها لتضع طبقها في المغسلة: "هل رأيت، لم تكن تريد أن تذهب، يا والدي. ولكنك ستفتقده بعد أن ينتهي". نفض الجد كتفيه. لم يظهر أنه تأثر بكلماتها أبدا. وظهر أن الجدة هي من تأثرت، وكلما ذكر 15 حزيران تتبدل ملامحها. وبقي الأهم. طلبت الجدة من الجد إحضار عشر أرطال خيار من شاطئ برايتون. قالت: "سعرها هناك عشرون سنتا للرطل. وسأصنع منها المخلل". وذكرت أنها تحتاج للخوخ والمشمش للمربى، والكرز الحامض لحلوى الكرز الحامض، والإجاص الصغير الصلب للطهي، والتفاح لفطيرة التفاح. وألقت نظرة حنين باتجاه فرامة اللحوم المتوقفة، وأخبرته بوصفة رائعة سمعت بها في عيادة طبيب الأسنان قائلة: "سأجهز الزرازي. قالت آنا ستيبانوفنا إنها تكون أفضل باستعمال البصل الأخضر عوضا عن البصل. وسأحتاج للكثير من لحم البقر المفروم لأجله". ثم وجدت وكالة سفر روسية، تقدم تخفيضات لسياحة العجائز. وقالت للجد: "سنذهب إلى بوسطن، وإلى واشنطن، وإلى فيلادلفيا. تكلمت النساء في صالة الانتظار عن رحلات بدون توقف، وجلست هناك ولم أفتح فمي من الخجل. عليك الآن أن ترافقني. لن أذهب بمفردي، كما لو أنني لم أتزوج. فغير المتزوجات يحصلن على مقاعد سيئة في الخلف، بجانب دورة المياه". وفكر ميشا أنه ليس أمرا سيئا للجدة إذا حالفها الحظ للجلوس بجانب دورة المياه. غير أنه لم يعلق.

وكذلك الجد لم يعلق. ودفن نفسه في كتبه الدراسية. في 2 حزيران تنبأت نشرة الأحوال الجوية في التلفزيون بغيوم رمادية صغيرة وهطل مطري أسود وغزير. قالت الجدة وهي تغلق التلفزيون وتذهب إلى المطبخ حيث كان الجد وميشا يتابعان كتابة الواجب المنزلي أو بالأحرى يجلسان مع كتبهما المفتوحة: "أمطار غزيرة. ستمكثان الليلة في البيت". ظهرت السماء وراء النافذة رمادية غالبا، مع عدة بقع زرق. نظر ميشا نحو الأسفل. لم يكن الناس يحملون مظلاتهم، ورأى إسفلت الطريق الرمادي جافا ومغبرا. نظر إلى جده. وفحص جده السماء بعناية، ثم رفع غطاء النافذة عدة بوصات ومد يده. دخلت هبات رياح عاصفة ومتجلدة، وتسببت بانتصاب شعر ذراعه، غير أنه لبث جافا. قال: "سنعود قبل أن تمطر". فتنهدت الجدة بلا مبالاة. بدأ هطول القطرات الأولى من المطر حالما غادرا المبنى. ورسمت أثرا أسود على الرصيف، ولكنها لم تسقط على ميشا وجده. ثم سقطت نقطة مطر على طرف أنف ميشا. مسحها. وقرب خليج رأس الحملان توقف الجد ومد راحته المفتوحة. سقطت عليها بعض القطرات. قال الجد وهو يلتفت إلى ميشا ويمسح وجهه المبتل براحته المبلولة: "هذا ليس مطرا يا ميشا. أليس كذلك؟". تنهد ميشا. ونظر كلاهما نحو الخليج. كان قريبا جدا، وأمكنهما رؤية السفن، والأمواج الهائجة والرمادية الداكنة، وذرى الأشجار وهي تنحني تحت ضغط الرياح. طارت صفحات من الصحف والتي كانت مهجورة على المقاعد. هز ميشا رأسه وهو يمسك قبعته بإحكام: "هذا ليس مطرا غزيرا. سنقوم بجولة واحدة فقط. موافق؟". عبرا الشارع، وكانا وحدهما يسيران باتجاه المنتزه. أما معظم الناس فقد أسرعوا بالخروج. وبدأت حبات مطر منتفخة وكبيرة تتكاثر، وتضرب الرصيف الواحدة بعد غيرها مع صوت ارتطام، وحولت البقع الرطبة الصغيرة إلى أشكال ومنمنمات، ثم تحولت إلى برك. توقف الجد مترددا ونظر نحو المقاعد. لم يكن عليها أحد. فقال: "أعتقد من الأفضل يا مايكل أن نتوجه إلى البيت. فقد بدأت تمطر".

وبلغهما الهطل الغزير وهما ينتظران الضوء الأخضر عند إشارة العبور. وبسبب كل نواح الريح وطرقات المطر، لم يسمعا مباشرة نداء أحد الأشخاص عليهما. أو بالأحرى سمعه ميشا، ولكنه لم ينتبه فورا أن النداء باسم جده. "غريغوري ميخائيلوفيتش. غريغوري ميخائيلوفيتش". لم يستعمل أحد كنيته منذ غادر روسيا. ثم جاءت امرأة عجوز صغيرة الحجم بمعطف مطر بني، وتضع كيسا بلاستيكيا على رأسها، وكانت تعدو نحوهما، وهي تتخبط ببوط أسود مقاوم للبلل، وأكبر من مقاس قدمها. جر ميشا كم جده، وجعله يتوقف ويلتفت. قالت بأنفاس مقطوعة وهي تحاول أن تحمي رأس ميشا بالكيس البلاستيكي: "غريغوري ميخائيلوفيتش. تعال إلى بيتي. تعال بسرعة. وإلا أصاب الولد نزلة برد".

كان بيتها في آخر طابق من بناء حجري بني يتكون من ثلاث طوابق وهو على الرصيف المقابل للحديقة. صعدوا على سلالم معتمة، تفوح منها روائح غير سارة. فكر ميشا: "قطط؟". فهو لا يعرف رائحتها. تقدمتهما المرأة على السلالم. وهي منقطعة الأنفاس وقالت بجمل حادة وقصيرة: "ولد مسكين. كيف أمكنك أن تفعل به ذلك يا غريغوري ميخائيلوفيتش. وفي طقس كهذا. كنت هناك على أحد المقاعد. ولكن غادرته. حالما بدأت تمطر. ورأيتك من جهة الشارع الأخرى. وأصابني الهلع على الولد". انقطعت أيضا أنفاس الجد ولذلك لزم الصمت. وفي الداخل أمكن ميشا أن يلاحظ أن الشقة صغيرة جدا وقليلة الإضاءة قبل أن تغطي وجهه وكتفيه وظهره منشفة خشنة كبيرة يفوح منها رائحة صابون غير معهود. وشعر بيدي المرأة الصغيرتين والسريعتين تدلكانه. ودغدغه هذا الإحساس وأوشك أن يعطس. رفض ميشا والجد سروالين جافين ولكن قبلا جوارب جافة ووضعا الصحف في داخل حذائيهما وتركا الحذائين في الحمام ليجفا. وحينها قالت المرأة: "اسمي إلينا بافلوفنا. زميلة جدك في أيام المدرسة. كنا معا". شربا الشوكولا الساخنة في مطبخ صغير عند طاولة مستديرة بساق واحدة. حضر الجد وإلينا بافلوفنا الشوكولا الساخنة معا. سكب الجد الماء الحار من الإبريق، بعد أن قبض عليه من يده الخشبية بكلتا يديه، وأضافت أيلينا بافلوفنا المزيج في ثلاث أكواب صفراء وقربتها من الإبريق. وتبادلا عبارة "شكرا"، "من فضلك"، "اسمح أو اسمحي لي"، وابتسما العديد من المرات. وبدا كلامهما مثل تمثيلية مقتبسة من شيخوف كانت أمه تحب مشاهدتها في روسيا ولكن شعر ميشا أن جده وإيلينا بافلوفنا لا يمثلان. سألت إيلينا بافلوفنا "ما اسمك؟".

قال ميشا: "مايكل".

"مايكل؟ ولكنك لا تبدو كأنك مايكل. ميشا يناسبك أكثر. هل يمكنني مناداتك ميشا؟".

وافق ميشا بحركة من رأسه، وهو ينفخ بسعادة على شرابه الساخن (بالعادة في البيت تضيف أمه الحليب البارد لكوبه)، وقضم من كوكي محشو بمربى التوت اللذيذ. قالت إلينا بافلوفنا: "اشتريتها جاهزة. أنا لا أخبز. لماذا أتعب نفسي الأشياء اللذيذة تباع في المخابز وهي على أنواع؟ صحيح؟ ولكن ليس هذا السبب فقط. أنا طاهية سيئة جدا". ورأى ميشا أنها لا تخجل مما اعترفت به. كانت شقتها أصغر من شقتهم. غرفة ومطبخ. ومؤثثة مثلهم: كنبة من الخشب البني الصلب مشتراة من متجر مفروشات روسي رخيص، وطاولة قهوة مع خدوش وخزانة بأدراج وجدتها في النفايات، ومصابيح ثقيلة مشتراة من سوق موسمي للأشياء المستعملة. ومجموعة شاي روسية رقيقة وكتب في خزانة سوداء بأبواب زجاجية. قرأ ميشا العناوين - التي تطابقت مع ما لديهم - شيخوف، بوشكين، روايات تاريخية بأغلفة سوداء كئيبة، موباسان وفلوبير مترجمة إلى الروسية، قواميس لسان روسي - إنكليزي و إنكليزي - روسي، وسميكة. بعض العناوين مغطاة بصورتين كبيرتين. إحداهما لبنتين بملامح جادة وشعر أجعد، وكلتاهما أكبر من ميشا. قالت إلينا بافلوفنا وهي تتنهد: "حفيدتاي. تعيشان في كاليفورنيا مع ابني". الصورة الثانية بالأبيض والأسود ولشاب مبتسم يرتدي البذة. فكر ميشا: ابنها، ولكن قالت إيلينا بافلوفنا أنه زوجها. لاحظ أن لإيلينا بافلوفنا في مؤخرة رأسها شعر مجدول وأبيض ورقيق. لم يشاهد ميشا من قبل امرأة مسنة بشعر مجدول. والشعر الذي يخرج من الجديلة يحيط وجهها بتاج من الجدائل البيضاء الرمادية المنفوشة. ولها جلد جاف وناعم بتجاعيد صغيرة وقليلة تبدو كأنها مرسومة على وجهها بالقلم. ولها عينان صغيرتان وسوداوان. غطاهما الضباب حينما قرأت لهما رسالة أختها من ليننغراد. وقد ورد فيها: "كل شيء كما هو، نهر النيفا، الضفاف، قصر الشتاء، أنت وحدك يا لينوشكا التي اختفت". ربت الجد على يدها، التي برزت من كم أزرق باهت، وهي تقرأ ذلك. وكانت ترتدي ثوبا صوفيا أزرق بقبة عالية تغطي رقبتها، ومعه قلادة عنبرية. سألت وهي تفك قفله: "هل تريد أن تنظر إلى قلادتي. تقول والدتي إن في داخله ذبابة". أمسك ميشا بيديه قطعة العنبر الكبيرة وغير المصقولة. بارد وناعم من أعلى، خشن من الحواف. وفي داخله شيء أسود غريب له تفرعات رقيقة تبدو قليلا مثل قوائم حشرة. قالت إلينا بافلوفنا: "لست متأكدة وربما هو مجرد صدع. هل تعرف يا ميشا ما هو العنبر؟".

قال بحماس وهو يقلب العنبر بين يديه: "نعم. هو قطران الشجرة المتصلب، ويمكن للحشرات أن تعلق فيه حينما يكون طريا ولزجا. نعم، أعتقد أنها حشرة. ولكنها مشوهة". أبعد ميشا عينيه عن القلادة واحمر وجهه، فقد شاهد إلينا بافلوفنا وجده يتابعانه ببالغ السعادة لكلامه.

في الخارج كان كل شيء رطبا وناصعا بسبب المطر. وهبطت على رأسيهما من الأشجار قطرات مطر غزيرة كلما مرا من تحتها. أسرعا بالمشي، متقاربين، وحذاءاهما المبلولان يصران على الإسفلت الرطب الأسود. فقد غادرا من شقة إلينا بافلوفنا بمجرد توقف المطر. كان الحذاءان رطبين، ولكنهما أخرجا الصحيفة المنقوعة بالماء منهما وارتدياهما. ولم تحتج إلينا بافلوفنا، ولم تقل أنه عليهما الانتظار، وأن ميشا قد يصاب بالبرد من ارتداء حذائه الرطب. على عتبة السلم تناولت يد ميشا بيدها الجافة والصغيرة وقالت: "تعال يا ميشا مرة ثانية". ولكن كان لديه شك أنه سيراها بعد الآن. وكان لديه يقين أنه لا يجب أن يذكرها في البيت. وربما يتوجب عليهما الادعاء أنهما انتظرا توقف المطر في مدخل بناء أو في بقالية. وستبقى إيلينا بافلوفنا، المرأة ذات الجدائل الرمادية والعقد العنبري، سره وسر جده. ولسبب ما شعر ميشا بالدافع ليمسك يد جده، ولكن خطر له أن أولادا بعمر تسع سنوات لا يمشون وهم يمسكون بأيادي أجدادهم. وعوضا عن ذلك حدثه عن تكون العنبر، والبراكين، والحرباء، والديناصورات التي تبتلع الصخور الضخمة لتطحن بها طعامها، وعن التماسيح التي تصنع صنيعها أيضا. وتكلم دون أن يلتقط أنفاسه، وبلا توقف، وبتدفق، وهو يضحك من الإثارة، ويقاطع حكاية ليدخل بما بعدها. نظر إلى جده، الذي ركز عينيه على ميشا، وكان يومئ برأسه باستعجاب، ويتمتم من وقت إلى آخر قائلا: "تصور". أو "تصور كيف تتصرف الكائنات الحية لتعيش". وكلما أضاف ميشا المزيد من رواياته كلما ذكر كلمة "تصور". وعلى مقربة من بناء المسكن توقف الجد فجأة، وقاطع حكاية له عن تنين كومودو قائلا بصوت منقطع الأنفاس: "ميشا. هل تعلم أن دروسي لن تنتهي في 15 حزيران. أقصد هذه هي الخطة، ولكنني سأنضم لمقرر آخر، ثم آخر. يوجد الكثير من برامج اللغة الإنكليزية في بروكلين وبالمجان يا ميشا. لا تستطيع أن تقدر كم هي كثيرة".

سقطت من شجرة قطرة مطر كبيرة على رأس الجد. وسالت على جبينه. وتمهلت فوق أنفه، وتعلقت بأرنبة الأنف. وهنا ارتجف الجد وهز رأسه مثل الحصان. فضحك ميشا.

 ***

...............................

* الترجمة عن Open City

* لارا فابنيار Lara Vapnyar روائية وقاصة روسية معاصرة. تقيم في الولايات المتحدة. من أعمالها: مذكرات ملهمة 2006، عطر الصنوبريات 2014، لا نزال هنا 2016، بروكولي وقصص غيرها 2008.....

 

من شعر بيورنر تورسون

اختيار وترجمة: عبد الستار نورعلي

***

أن تكونَ ـ مثلُ كل الأشياء

اختفاء

جريمة، اضطراب، خسارة،

شلل،

كل شيء يحترق، النار هاطلة مثل زخات المطر.

*

النظرة طليقة

أحدهم يغني     لكنَّ الصوت يتلاشى في الهواء.

*

الريح تبعد ألسنة اللهب.

وهناك ينهض أحدهم عن سريره.

*

أن تكون هو مثل أنْ يكون كلُّ شيء.

كنْ ـ ثم اعتكفْ، في مواجهة نفسك:

*

لقد مرّت بخاطري فكرة أن أقتحم بيتي الخاص

حينها اصطدمتُ في الظلام بحافة الباب.

أقف صامتاً في كورس صاخب.

**

" الذئب هناك "

في مكان ما من هذا الحقل اختبأ

خنزير صغير

الآن يتعلق الأمر بالعثور عليه فحسب ...

*

"هناك"

هناك يتدحرج عجوزان.

*

"هناك بعيداً"

**

يلوح للناظر:

...........

سيقان  الأشجار النحيفة

انفكّت عن تيجانها الغامقة

وبحذر هبطت على الأرض

**

الآن هي بعيدة .

"بعيداً"

الآن يظنُ المرءُ أنه يلمح

شيئاً يختفي

*

قطعة قماش تسقط خلال ريح الغسيل

أم أنها تساق مع الجِمال، شراعاً

باتجاه فردوس أسود، خلف الأفق

*

يغمض المرء عينيه

من خلال نافذة الباص يرى صحراء الملح

تختفي

في كل ناحية

*

على الحافة

أبحثُ عن شيء

من السخفِ الاستماعُ اليه

*

مثلما حين يلج المرءُ الصحراءَ ـ وفجأة يطرق سمعه

كأنّ أحدهم يقلب ورقة في كتاب

*

أو يجلس لتناول الغداء في مقهى تعجُّ بالفوضى

وأحدهم غارق في النوم في أُذنِ شخص آخر

*

هناك أصوات جانبية تائهة تتأرجح

لا أحد يلتفت اليها

*

الآن أسمعها في الذاكرة

*

في أصفهان

أنا أشبه هذا الذي أتعثر فوقه

بين التجار الذين انحدروا، الرُزم

والجِمال تحت المعاطف، القبعات، الصناعات الحجرية

*

العلبُ الكارتونية يجب أت تُحزمَ من جديد

كي لا تسقط من ثقل وزنها

*

في الظلام الدامس أراحوا رِكابهم

آلاف النجوم قد أمطرت فوق طريقهم

*

يدٌ صغيرة بأجنحةٍ هي أول ما تقع عليه العين

ثم أغمضتُ عينيَ من كثافة الضياء

الذي يمسك الصخور في مكانها، بقمة رأس القبة

مثل كتلة جليد تحوم في بيت من الثلج

في فيلم عن ابن البرودة نانوك

*

إنها لا تتحرك حول مركز ثقلها

ـ مكعب الضوء الشفاف

بل فوق خيط، بين العين والعالم

***

.....................

* اختيار وترجمة وهامش: عبد الستار نورعلي

*من مجموعته الشعرية "في ظلّ أرنب بري I skuggan av en hare " الصادرة عام 2001

* بيورنر تورسونBjörner Torsson  1937-2020: شاعر سويدي كان مهندسًا معماريًّا، عمل أستاذًا في الكلية التكنولوجية بالعاصمة استوكهولم. يرسم في  شعره ظلالًا من الحزن والسوداوية، تلفان الحياة الإنسانية، وإن كانت لغته - بتأثير من تخصصه المهني - تدور في لعبة فنية تعبيرية تفاصيلية، لما يدور في النفس من أحاسيس تفتح نوافذ العتمة الداخلية.

بقلم: إيف بونفوا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: صخرة

كان يرغب

و لكن دون أن يعي

ذلك

لقد غادر الحياة

دون أن يحيا

كانت الأشجار والأدخنة

و أمواج الرياح

و خيبات الأمل

عالمه اللامتناهي

الذي لم يقبض منه

سوى منيته

***

ثانيا: نفس الصوت، دائما

أنا كالرغيف

الذي تقضمه أنت

كالنار التي تسعرها

كالنقاخ الذي يصاحبك

إلى بلاد الموتى

أنا كالجفالة

التي جعلت الضياء

تبلغ المرفأ

هذي الساعة

كطائر مسائي

يلتقط جفال السواحل

أنا كالريح المسائية

التي تجفل

و تبرد على حين غرة

***

ثالثا: طير الخرب

ينأى طير الخرب

عن منيته

فيوكر في البهم

السمر

قبالة الشمس

قاطعا كل الآمه

تاركا كل ذكرياته

إنه ما عاد يعرف موقع

الغد

من الأزل

***

....................

- إيف بونفوا  (1923 – 2016). شاعر وناقد فني ومترجم وفيلسوف فرنسي كبير. ترجم أعمال شكسبير الشعرية – المسرحية وقصائد وليام بتلر ييتس وجون دون وبطرارك وجورج سيفريس إلى الفرنسية. عمل أستاذا في إحدى الجامعات الفرنسية منذ عام 1981 وفي جامعات سويسرية وأمريكية. من دواوينه الشعرية: دوف حركة وثباتا 1953، قصائد، ضد أفلاطون، اللامحتمل، البساطة الثانية، الغيمة الحمراء، وفي خديعة العتبة. منح عدة جوائز، منها: جائزة غونكور في الشعر 1987، جائزة النقاد 1971، وجائزة الاكليل الذهبي 1999. ترجمت أعماله إلى عدة لغات ومنها العربية، وقد ترجم له أدونيس (الأعمال الكاملة) وترجم له محمد بن صالح أيضا إضمامة كبيرة من القصائد صدرت تحت عنوان (الصوت والحجر). مترجمة عن الكردية.

هنري . دابليو لونجفيلو

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

رميت بسهم في الفضاء

سقط على الأرض لست أدري أين؛

إذ كان يطير بسرعة فائقة، لا يقدر البصر

فيها أن يلاحق طيرانه .

شدوت بأغنية في الفضاء

فسقطت على الأرض، لست أدري أين؛

إذ من له بصر حادّ وقويّ

حتى يلاحق طيران أغنية؟

بعد فترة طويلة، وعلى شجرة بلوط

عثرت على السهم ما يزال سليما؛

والأغنية، من أولها إلى آخرها،

وجدتها في قلب صديق.

***

.....................

Poèmes que tout enfant devrait connaître

La Flèche et la Chanson

J’ai tiré une flèche dans les airs,

Elle est tombée à terre, je ne sais où ;

Car elle volait si vite, que la vue

Ne pouvait suivre son vol.

J’ai soufflé une chanson dans les airs,

Elle est tombée à terre, je ne sais où ;

Car qui a la vue assez perçante et forte

Pour suivre le vol d’une chanson ?

Longtemps après, dans un chêne,

J’ai retrouvé la flèche, encore intacte ;

Et la chanson, du début à la fin,

Je l’ai retrouvée dans le cœur d’un ami

HENRY W. LONGFELLOW

***

...................

هنري. دابليو لونجفيلو (شاعر أمريكي 1807-   1882).

مجموعة شعراء

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) – يوشينو يوشيكو / اليابان

القمر في كبد السماء

القمر في بحيرة فوهة البركان

يضيء الواحد للآخر

***

(2) – بادري ستافري شيبي / ألبانيا

تتنازع الغمام

في كبد السماء –

يترقب التنوب هدير الرعد*

***

(3) – مارسيل بلتيير / بلجيكا

الأطيار

في كبد السماء –

غير معروفة

***

(4) – ستانكا بونيفا / بلغاريا

قمر بنصف إضاءة في كبد السماء

أختلق القصص

عن النصف الآخر

***

(5) – دجوردجا فوكيليتش روزيتش / كرواتيا

الغسق

رمشة عين رمادية

في كبد السماء

***

(6) – بادماسيري جاياثيلاكا / سريلانكا

رذاذ –

هجيج نار المخيم، وأجيجها

النجوم في كبد السماء

***

(7) – ألبرت أكسل / هولندا

جسم غريب -

طائرة ورقية هائمة

في كبد السماء

***

.....................

* التنوب، الشوح: شجرة من الصنوبريات، يستخلص منها الزيت العطري. منها أنواع (النوميدي، الإسباني، السوري).

- مترجمة عن الإنكليزية.

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اضف الى السلة

تصفح البيض. انقر على بيضة.

اضف الى السلة

*

اشتر بيضة واحدة تحصل على بيضة واحدة مجانا.

اضف الى السلة.

*

اشتر خمس بيضات أخرى تتأهل لتوصيل مجاني.

اضف الى السلة.

*

بيضات أخرى نوصي بها بناء على تاريخ تصفحك...

اضف الى السلة.

*

الزبائن الذين اشتروا هذه البيضة اشتروا هذه البيضات ايضا...

اضف الى السلة.

*

اليك بضع بيضات اخرى قد تود معاينتها...

اضف الى السلة.

*

اية بيضات اخرى يشتريها الزبائن بعد مشاهدة هذه البيضة؟

اضف الى السلة.

*

تجنب وضع جميع بيضاتك في سلة واحدة مع صنفنا الجديد من السلال...

اضف الى السلة.

*

تصفح سلال. انقر على سلة.

اضف الى السلة.

*

اشتر سلة واحدة تحصل على سلة واحدة مجانا.

اضف الى السلة...

***

.....................

براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية: (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛ (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

قصة: يكيكو توميناجا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

أبي موظف في البلدية، يدير نظام الصرف الصحي بأكمله في طوكيو. من وجهة نظر أمي، وهو أسعد رجل عرفته في حياتها. في بعض الأحيان، عندما يكون ثملاً لكن ليس بما يكفي ليفقد وعيه، كان يكتب في الهواء وكأنه يبحث عن دفتر ملاحظات وقلم. كنا ننتفض من الفرح لأن هذا كان يعني أنه سيبدأ في الرسم. كان أخي الأصغر وأنا في ذلك الوقت في الثالثة والسادسة من العمر. على الترتيب.

" ماذا تريدان؟" كان يسألنا، فأقول "كوالا!" أما أخي فيقول "لا، روبوت!" ثم كان يرسم كوالا روبوت على مبنى كان يبدو كالشجرة. بعد ذلك، كان يطلب مزيدًا من الورق لكنه يتوقف عن سؤالك عن ما تريد. كان يرسم حيوانًا تلو الآخر بينما كانت والدتي تجلس بجانبه، تمزق البريد غير المرغوب فيه إلى أرباع باستخدام مسطرة لتصنع منه دفاتر ملاحظات. زرافة على ترامبولين جاكوار تلقف ثلاث كرات سوداء.  ثلاثة قرود حكيمة تشرب الجعة في حوض استحمام ساخن يقدمها لهم كلاب كان من المفترض أن تحرس المعبد. ثعابين تتنكر كالتنانين، قائلة: "ليس من السهل التظاهر بالقوة." بحلول الوقت الذي نفد فيه الورق، كانت لدينا مجموعة من رسومات الحيوانات. كان أخي وأنا نختلق قصصًا تتناسب مع كل رسم بينما كان والدي يبتسم، يظهر أسنانه المعوجة، يشعل سيجارة، ويشرب المزيد من الساكي.

قالت والدتي بينما كانت تجلب له زجاجة أخرى من الساكي الساخن.  "

- لا يوجد شيء لا يستطيع أن يرسمه.

أتذكر الضوء البرتقالي المترب في أعلى غرفة المعيشة، والهواء المدخن، ووالدتي التي كانت تحدق في والدي بعينيها الذائبتين.

"هذا كل شيء لليوم"

كان يقول ذلك وهو يجمع رسوماته قبل أن يأخذها إلى سلة المهملات. وهكذا نذهب إلى الفراش.

عندما قلت أبي أن البخار المتصاعد من فنجان القهوة يشبه راقصة باليه، قال لي: "اكتبي قصيدة."

لم يكن لدينا لوحات فنية في منزلنا. كان منزلنا صغيرًا جدًا بحيث لا يسع أن يُملأ بالكماليات. كانت اللوحة الوحيدة في الردهة موجودة دائمًا هناك، لكنني لم ألاحظها حتى وصلت إلى المدرسة الإعدادية. قالت والدتي.

"أبوك رسمها. كان يرسم كثيرًا في الماضي"

قرية أمام جبل، تدرجات مختلفة من اللون الأخضر، المنازل الحمراء، ونهر- مناظر طبيعية نموذجية من شمال اليابان- مثل لوحة قد تراها في حمام مطعم قديم. لم أستطع أن أقول إنها جميلة أو لا تُنسى.

في ذلك الوقت، كنت غير متأكدة ما إذا كنت يجب أن أصبح عاملة في محطة للطاقة النووية، أو مدربة كلاب إرشاد، أو أن أتوقف عن الحياة ببساطة.  سألت أمي.

" أين لوحاته الأخرى؟"

"اختفت. كانت تشغل مساحة كبيرة. تخلصنا منها."

اكتشفت مرتين دفتري مذكرات والدي القديمة. مرة، عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري، وجدت دفتر والدتي الذي يحتوي على قائمة موجهة إلينا: مكان إخفاء رمز الخزنة، رقم هاتف شركة التأمين على الحياة، وعنوان المنشأة الطبية التي ستتبرع بجسدها لها.. أما المرة الثانية فكانت بعد المدرسة الثانوية. في الحمام، كان هناك دفتر صغير أزرق ملقى على الأرض. إذا كان هناك ثقب في الحائط، كنت ستنظر من خلاله. إذا كان هناك دفتر بدون عنوان، كنت ستفتحينه. فالتقطته وفتحته كما تمليه عليَّ غرائزي. وفتحته كما أمرتني غريزتي. في اليوميات، كتب أبي: اليوم الأول: فشلت في اجتياز امتحان الجامعة لسنتين على التوالي. الجو بارد في الخارج. أنا مقدر لي أن أتجول وأرسم، على هذا الجبل. لا وظيفة، لا مال، لا حب، فقط أنا وقلمي الرصاص.

كان أبي في العشرين من عمره، وحيدًا على جبل بارد في الشتاء.  أغلقت الدفتر وجلست على مقعد المرحاض. لماذا هو هنا؟ فكرت في فتحه مرة أخرى للتأكد مما قرأته، أنه لم يولد ليكون عامل صرف صحي، لكنني لم أتمكن من مواجهة تلك الحقيقة، لذا دفعت الدفتر إلى جانب المقعد بأصابع قدمي، وأخذت فى العد حتى وصلت الى الرقم ثلاثمئة ثم أفرغت المرحاض.

في غرفة المعيشة، كان والدي يحمل صحيفة بيد ويشد شعيرات أنفه باليد الأخرى.

عوقبت بالإيقاف عن الدراسة لمدة أسبوع من المدرسة الثانوية، قبل عشرة أيام من تخرجي. لم أفعل شيئًا خاطئًا سوى أنني ذهبت للحصول على رخصة القيادة دون إذنهم. اكتشفت معلمتي ذلك لأنني اتصلت بها عن طريق الخطأ ظنًا مني أنني كنت أتصل بمعلمة البيانو، وتركت رسالة تفيد بأنني يجب أن أغيب عن درس للحصول على رخصة القيادة. لم يكن لدينا المزيد من الدروس وكان لدينا يوم واحد فقط للتدريب على حفل التخرج؛ ومع ذلك، قامت معلمتي بإيقافي وأعطتني مهمة كتابة مقال من خمس صفحات أعبّر فيه عن أسفي. كنت دائمًا طالبة مجتهدة، نموذجًا يُحتذى به، وحبيبة المعلمين، ولكن في النهاية تحولت إلى طالبة سيئة. في تلك الليلة، بينما كنت أحدق في رسائلي المبللة بالدموع على الورق، معتقدة أنه لن يكون هناك مستقبل أمامي، جلس والدي مقابلا لي وشرب الساكي كما هو معتاد. سحب ورقة من بين يدي ورسم قردًا يابانيًا، القرد الكلاسيكي الذي يعبر عن الندم، وجهه متجه نحو الأسفل، يداه على ركبتيه، وكتفاه منحنيتان كأنها تحت وزن كيس كبير من الأرز.

"مفتاح البقاء في هذا العالم هو التظاهر بأنك مثل هذا القرد"

قال والدي هذا وأومأ بثقة. شرب كوب الساكي في رشفة واحدة وكتب لي المقال.

"لا تأخذي هذا بجدية. تم تعليقك قبل التخرج! هذه هي ابنتي! انسخي مقالتي وسلميها لمدرستك، ستنبهر.

لم أخبر والدي عندما اكتشفت أنني حامل وقررت الزواج من ليفي، شاب لم يلتق به من قبل، في البلد الذي لم يكن قد زاره. أخبرت والدتي بأن تخبر والدي وتعيد لي رد فعله. بعد أسبوعين، وصلتني رسالة من المنزل.

"لا يهمني إذا كان يهوديًا أو مسلمًا. لا يهمني إذا كان رئيس الولايات المتحدة أو عامل بناء. طالما أنه يعمل ويدعمك ويدعم طفلك وأنتِ سعيدة، فإنني سعيد من أجلك.

والدك"

في أسفل الرسالة، كانت هناك صورة لطفل نائم بين ذراعي أمه. للمرة الأولى، رسم أبي وجهي.

أنا على متن القطار السريع من مدينة صديقتي إلى مدينتي. في يدي اليمنى، أمسك بكرة أرز دافئة وفي يدي اليسرى ورقتين من فئة عشرة آلاف ين، أعطتني إياهما صديقتي. أنا وابني نزور اليابان لأول مرة منذ ولادته. لكنني كنت بعيدة عن منزل والديّ عندما اتصلت حماتي بأمي من أمريكا لتخبرني عن حادثة ليفي.

وفقًا لوالدتي، فإن والدي هو أسعد رجل عرفته في حياتها. في السنوات الست والثلاثين الماضية، حل جميع مشاكل نظام الصرف الصحي في طوكيو، وغالبًا ما كان يعاني من صداع الكحول. عمله لم يسبب له قرحات في المعدة أو سرطان أو حصوات في الكلى. كان العمل سهلاً مثل تمشيط رأسه الأصلع، كما أخبر والدتي.

يتوقف القطار وأسمع المُنادي يعلن اسم بلدتي.

يتوقف القطار وأسمع المذيع يعلن اسم مدينتي. سيكون والداي وابني في انتظاري عند البوابة. عند بوابة المدخل. عندما أضع قدمي على السلالم المتحركة، أتخيل وجه والدي عندما يجدني وسط الحشد. سأجد شقًا في الأرض لأتعثّر عليه، أمامه مباشرة، لأجعله يضحك، لأجعله ينسى سبب وجوده هناك، ولأجعله يمد يده نحوي دون أن نضطر للنظر في عيون بعضنا البعض.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: وُلدت يوكيكو توميناجا / YUKIKO TOMINAGA ونشأت في اليابان. وصلت إلى نهائيات جائزة فلانري أوكونور للقصص القصيرة لعام ٢٠٢٠، التي اختارتها روكسان غاي. رُشِّحت أعمالها لجائزة بوشكارت، ونُشرت في مجلتي شيكاغو كوارترلي ريفيو وبيلينجهام ريفيو، ومنشورات أخرى. تعمل أيضًا في دار نشر كاونتربوينت، حيث تُساهم في تعريف القراء الناطقين باللغة الإنجليزية بكتب يابانية لم تُترجم من قبل.

ثلاث قصائد

بقلم: إدنا سانت فنسنت ميلاي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: سأعود

سأعود مرة أخرى

إلى الشاطئ الأجرد

كي أعيد بناء

كوخي الصغير

على أحقافه،

فتعاود الطحالب البحرية

المرور عند بابه

ياردة

أو ياردتين..

ولكن دون أن يدفعني ذلك

إلى الإمساك بيدك

حيث سأكون قد يممت وجهي

شطر من أفهمه،

و سوف أكون سعيدة

أكثر من ذي قبل..

أما هوانا

ألذي همد في عينيك..

أما الكلمات

ألتي ما عاد ينبس بها

لسانك،

فهي أشياء

تموت الآن.

لكم هو قليل

الذي قيل،

لكم هو قليل

الذي غني،

و لكن دون أن يطرأ أي تغير

على الصخور

و السماوات الحزينة

عما كانت عليه

حين كنت يافعة...

***

ثانيا: الزوجة الساحرة

هي ليست زهرية،

ولا شاحبة

و لن تكون كلها لي

البتة.

مرنت يدها في أحدوثة

خرافية،

و فمها في عيد الحب.

لديها شعر اكثر مما هي بحاجة اليه.

الويل لي منها

في الجوناء..

صوتها أشبه بسلسلة

من الخرز الملون

او خطى تفضي

الى اليم..

تحبني بقدر ما تستطيع،

و تسايرني..

إنها لم تكن معمولة

لأي رجل

و لن تكون كلها

لي..

***

ثالثا: اضمحلال

أعلم ما الذي يشبهه

قلبي،

منذ أن مات

حبك..

إنه أشبه ما يكون

بحافة جوفاء،

تحبس بركة صغيرة،

تركت هناك عند المد..

بركة صغيرة

فاترة،

تجف من الحافة

إلى الداخل.

***

...................

- إدنا سانت فنسنت ميلاي: شاعرة ومترجمة وممثلة وكاتبة مسرحية أمريكية 01892 روكلاند – 1950 نيويورك). بدأت بنشر الشعر في سن ال 014). وبأسماء مستعارة أيضا 0فنسنت ميلاي، نانسي بويد، ادنا سانت ميلاي). حازت على جائزة ال 0بوليتزر) للشعر المقدمة من قبل جامعة كولومبيا بنيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1923 كثالث امرأة تفوز بهذه الجائزة الشعرية المهمة. من أعمالها: الأعشاب، الزمن لا يأتي بالراحة، اعتداء، عندما يكبر العام، عالم الله، ثلاث أغنيات للتبعثر، النهضة، قتل ليديس، الشجاعة التي امتلكتها أمي، النهضة، انحسار، الملك هنخمان، مقابلة قاتلة، رماد الحياة، بعد الظهر على تلة).

قصة: خوان بابلو رونكون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

1- يضع كلاوديو الخيمة الملفوفة وأكياس النوم في الجزء الخلفي من شاحنتي. إنه يوم جميل: الشمس ونسيم البحر اللطيف يبشران برحلة ممتعة. دخلت صديقتي أمبارو إلى المقصورة وشغّلت الراديو. تسأل كلاوديو: هل أحضرت الأشرطة؟ لكنه لا يسمعها، فهو مشغول بإعادة ترتيب حقائب الظهر. إنه يوم الأحد، الأسبوع الثاني من إجازتنا خارج سانتياجو، ولا يكاد يكون هناك أي شخص في ساحة المدينة. تقوم أمبارو بإخراج علبة الماريجوانا الخاصة بها وتبدأ في لف الحشيش. وضعت يدي على غطاء الرأس وأنا أراقبها بطرف عيني وهي تتحرك مثل أقدام السنجاب. قال كلاوديو: كل شيء جاهز، وابتسم لي قبل أن يركب الشاحنة.

2- كان ذلك في كل الأخبار. تحطمت طائرة من الأرجنتين كانت تنقل حيوانات الكنغر إلى حديقة حيوان بوين في غابة في جنوب تشيلي، حيث كنا نتجه. وقال مدير الشركة الأرجنتينية التي تنقل الحيوانات إن خمسة من حيوانات الكنغر قد نفقت ولم ينج سوى واحد .

3. أمبارو تنام مع كلاوديو. لقد عرفت ذلك منذ أسبوع تقريبًا، في بداية العطلة. أعرف ولكنني أتظاهر بأنني لا أعرف.

4- نحن على الطريق، نحن الثلاثة تكدسنا في صف واحد لأن شاحنتي بها مقصورة للسائق فقط. كلاوديو وأمبارو كلاهما نحيفان وحمراوا الشعر منمشان. تجلس أمبارو في المنتصف. تبدو منتشية، تضحك على أي شيء. نستمع إلى شريط من الثمانينات. إنه موسم البط وقد أحضر كلاوديو جميع معدات الصيد الخاصة به في حقيبة. تسأل أمبارو: هل طعم البط جميل؟ ويقول كلاوديو: "لم أجربه قط". ترد: فماذا تفعل بعد قتلهم؟ يقول كلاوديو: إنها ليست جريمة قتل، الصيد رياضة. وتقول إنها رياضة بربرية. همجية مثل قتل الثور أو مصارعة الديوك.

5. كلاوديو هو أقدم أصدقائي، كنا في المدرسة معًا. لقد كان دائمًا شخصًا أفضل مني: أكثر كرمًا، وأكثر ودية، ويشعر بالقلق دائمًا بشأن الآخرين. في مرات لا تحصى، منعني حذر كلاوديو ورباطة جأشه من القيام بشيء متهور، سواء في المدرسة والجامعة. وهو أيضًا أكثر وسامة مني ويحصل على درجات أفضل. ربما يكون عيبه الوحيد هو ميله الواضح إلى تقليد كل ما أفعله، بدءًا من الاهتمامات الفكرية وحتى طريقة لبسي. منذ سنوات مضت، كانت لدي صديقة في المدرسة قالت إن كلاوديو كان مثل حارسي الشخصي: دائمًا خلفي، يراقب ويفكر بصمت. أكبر فرق بيننا هو خجله. يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا وكان يقول دائمًا إنه عذراء. إنه خجول للغاية مع النساء بينما أحاول دائمًا ممارسة الجنس بشكل طفولي. ربما لهذا السبب فوجئت جدًا بضبطه وهو يعبث مع أمبارو. كلاوديو، الذي كان دائمًا لطيفًا ومنتبهًا، كان يمارس الجنس مع صديقتي ذات ليلة في حمام المقصورة. ظنا أنني في حالة سكر وأنني فقدت الوعى . المنظر فظيع: أمبارو تجلس على كلاوديو وكلاوديو يجلس على المرحاض، وكلاهما يحاول عدم إحداث أي ضجيج. بمجرد أن فتحت الباب، رأيت جسدين يلهثان، وكل ما كنت أفكر في فعله هو العودة إلى السرير. لقد خدعت أمبارو عدة مرات ولم أهتم أبدًا بخيانتها لي. لسوء الحظ، في المرة الأولى التي فعلت فيها ذلك مع أمبارو، لم تكن قد انفصلت عن صديقها في ذلك الوقت. مشكلتي بالطبع هي مع كلاوديو. خيانة خروجه من الحمام، صامتًا ومتعرقًا، يتحسس طريقه في ظلام الكابينة، ويعود إلى سريره وكأن شيئًا لم يحدث.

6 - تقول أمبارو: دعونا نتوقف هنا، نزلنا أمام سوق صغير لشراء الكحول. الطقس حار. نحن الثلاثة نرتدي القمصان والجينز. تبدو شاحنة والدي صغيرة وقذرة عند مدخل السوق الصغير، مثل سيارة جالوبي على وشك التفكيك. أمبارو خبيرة في السرقة من محلات السوبر ماركت الإقليمية أو المتاجر على جانب الطريق، وتقول إن الحيلة تكمن في المشي بشكل طبيعي. الرجل في المخزن يرحب بنا. تتحرك أمبارو إلى الأمام ببطء. كلاوديو وأنا نذهب لإحضار الزجاجات. وبينما كنا نغادر السوق الصغيرة، أحضر أمبارو حقيبته الكبيرة والشوكولاتة والأغصان وعلبتين من الخوخ والنوجا. الحقيقة هي أن أمبارو يسرق الهراء دائمًا.

7- فكرة الذهاب في إجازة معًا كانت فكرتها. ربما منذ البداية فكرت في مضاجعة صديقتي. ورغم أنها ليست جميلة، إلا أن جاذبيتها شيطانية، وكأن كل حركاتها، حتى أصغرها، لها دلالة جنسية. قلت لها مرة وبدأت تضحك. لم يسبق لي أن قابلت امرأة في مثل عمرها تتمتع بخبرة كبيرة في السرير. تقول عادة، نصف جادة، ونصف مازحة: عندما يتعلق الأمر بذلك، ليس لدي كرامة،. تدرس أمبارو علم الاجتماع في جامعة خاصة، وتنحدر من عائلة ثرية، ويدفع والداها ثمن شقة صغيرة في أبوكويندو، بالقرب من المدرسة العسكرية، حتى تتمكن من تعلم الاستقلال والاعتماد على النفس . وتقول إنها يسارية وتنتمي إلى مجموعة من الطلاب الفوضويين. رأيتها ذات مرة وهي تصنع قنبلة صغيرة محلية الصنع. كنا في غرفتها، عراة، ننظر من النافذة في فترة ما بعد الظهر. لقد كنا نقوم بالتصوير طوال عطلة نهاية الأسبوع ولم أستطع التفكير بشكل صحيح في الحلم. كان الجو في غرفة النوم ثقيلا وأتذكر أنه في ذلك الوقت، بينما كنت أشاهدها تعمل على القنبلة اليدوية، تلك القنبلة الصغيرة المقرر أن تنفجر في احتجاج بعض العمال أو الطلاب، شعرت بالسعادة.

 8- تقول أمبارو: هل يمكنك أن تتخيل لو وجدنا الكنغر؟ لو كان على قيد الحياة، هناك دائما احتمال أن نجده في إحدى هذه الغابات، تقول ذلك وهى تشير بأنفه الصغير إلى الأشجار الكثيفة التي تصطف على حافة الطريق. يقول كلاوديو: إنه يجب أن يكون ميتًا الآن، فهذا ليس موطنه. تقول: "وماذا تعرف عن ذلك؟ يجيب كلاوديو، لا شيء، من يدري. تقول: لكنني أتخيل أنه ميت. ميت جدًا. يقول كلاوديو: لا أحد ينجو بمفرده". أقول لها: لكنك عشت حياتك كلها بمفردك. تقول أمبارو: وأنت ممتليء بالحياة .

9- وُلد كلاوديو في إسبانيا وجاء إلى تشيلي - إلى الحي الذي أعيش فيه وإلى مدرستي - عندما كان في التاسعة من عمره. أتذكر باعتزاز أول مرة رأيته يدخل الفصل الدراسي. الشعر الملون، أليس هو، كما هو الحال الآن، نصف متلعثم وعصبي؟ أصبحنا أصدقاء بعد فترة وجيزة. كانت حافلة المدرسة تقلنا عند مدخل المجمع السكني، وبعد الدرس كنا نقضي فترة ما بعد الظهر في لعب البلاي ستيشن أو كرة القدم مع الجيران في نفس عمرنا. انتهى الأمر بوالديه ووالدي ليصبحا أصدقاء أيضًا. لقد أمضينا الصيف معًا، وفي السراء والضراء، استمع لي كلاوديو في كل شيء: هكذا يجب عليك تمشيط شعرك، كلاوديو، هكذا تتحدث مع الفتيات، أفلام روكي هي الأفضل، هكذا تتصرف لقد سئمت من التغيب عن المدرسة... قضيت فترات ما بعد الظهيرة التي لا نهاية لها معه، عندما كنت مراهقًا، أشاهد الأفلام الإباحية وأتحدث عن النساء. في بعض الأحيان كان يزعجني أن كلاوديو يفعل دائمًا ما أفعله، لكنني أدركت بعد ذلك أنه لم يدرك ذلك، وأن ذلك كان بالنسبة له وسيلة للبقاء على قيد الحياة في بلد اكتشفه للتو. وبعد مرور سنوات قررت أن أدرس الهندسة المدنية في الجامعة الكاثوليكية والتحق معي كلاوديو في نفس التخصص وفي نفس الجامعة.

10 - الطريق رمادي اللون، رمادي أفتح بكثير مما كان عليه قبل بضعة كيلومترات. قررت أن أركن سيارتي لبعض الوقت في محطة استراحة. إنها الساعة الثانية والنصف بعد الظهر ونحن جائعون.

11 - عندما كنا في الصف الأول، تم طرد كلاوديو من الفصل لمدة أسبوع لحمايتي. لقد كسرت نافذة أبرشية - فقط لكسرها - وعندما علم كلاوديو أن الجاني سيعاقب بشدة، لم يتردد في تحمل اللوم والقول إنه هو من فعل ذلك، وأن الحجر أُلقي من يديه وليس من يدي.

12. في تلك الليلة، عندما اكتشفتهما في حمام المقصورة، استلقى كلاوديو على سريره ونام، أما أمبارو، فقد بقيت لفترة، ربما نصف ساعة، محبوسة في الحمام. منظر أمبارو مع صديقي جعلنى انتصب. قبل أن تعود أمبارو إلى السرير، مارست العادة السرية وأنا أفكر في ما رأيته للتو. وعندما انتهيت شعرت بإحساس غريب ومربك.

13. أنهت أمبارو رقائق البطاطس وبدأت في التقاط أصابع خبز كلاوديو. أنا بالكاد آكل أي شيء، لكني أفتح علبتي الرابعة من البيرة في الصباح. كل هذه الرقائق والوجبات الخفيفة الموجودة على جانب الطريق جعلتنى أشعر بالملل قليلاً.تقول أمبارو، إنه النزول، فهو يجعلني جائعًا دائمًا. قلت لها: نحن بالفعل في المنطقة التاسعة. تجاهلتنى أمبارو ولم تعرنى أي اهتمام، وعلق كلاوديو قائلاً إنه لم يتبق لدينا الكثير للوصول إلى المدينة، وعاد إلى قطع الخبز. تقول أمبارو إن البيرة دافئة. أقول لها، لا يهم، البيرة هي البيرة.

 14- منذ تلك الليلة، لم أستطع إلا أن أتساءل عما إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي أتعرض فيها للخيانة.

15- عدنا إلى الشاحنة وإلى الطريق، ويقول كلاوديو إنه لم ير مثل هذه الشمس المستديرة وهذه السماء الصافية منذ وقت طويل.يقول: يبدو الأمر كما لو أننا نسافر إلى الشمال، تقول أمبارو إلى الجنوب ولكن إلى الشمال.

16 - في إحدى الليالي، بعد يومين من حادثة الحمام، فكرت في إنهاء المهزلة وإنهاء الرحلة جنوبًا وضرب كلاوديو ضربًا جيدًا. لقد فكرت جديًا في الأمر، حتى أنني كنت سأأخذ بندقيته لإخافته. لكنني ندمت على ذلك .

17- أنا لست مغازلة، هذا ما قالته لي أمبارو ذات مرة في شقتها.

18- أزيد السرعة. لا توجد سيارات تقريبًا، وعلى يمين ويسار الطريق تبدو أغصان الأشجار ثابتة وغير حقيقية، وتتلاشى تحت أشعة الشمس الحارقة. أنا أشرب البيرة ومن وقت لآخر أرى ساقي أمبارو.هذا الفستان الوردي الصغير لطيف.

19 - قلت لها: نعم أنت مغناج للغاية. قالت: لا، ووضعت قدميها العاريتين فوق التلفاز. المغناج هي الفتاة التي تغازل. أنا، لا. أنا لا أبذل أي جهد لأكون هكذا.نعم أنا هكذا .

20 - تجعلني البيرة أشعر بالغثيان قليلا. يحدث معى هذا دائما. أنا والبيرة لا نتفق عندما أشرب كثيرًا. لكن لا يهم. الطريق السريع الذي يتجه جنوبًا، ولكن يبدو أنه يتجه شمالًا، هناك، كل شيء معروض أمامنا وأنا الأحمق الذي يقود السيارة،الأحمق الذي لا يفعل شيئًا عندما يكتشف صديقته مع أفضل صديق له.أتناول مشروبًا جديدًا.

21 - الحقيقة هي أنني طوال هذا الأسبوع كنت أمارس العادة السرية وأفكر في مشهد الحمام.

22. لم أطلب من كلاوديو أن يتحمل مسؤولية قذف الحجر في الكنيسة. لقد فعل ذلك بنفسه، كما هو الحال دائما. قالت الفتاة التي كانت صديقتي في ذلك الوقت: "حارسك الشخصي أنقذك من الإيقاف".

23. فجأة، ظهر شيء كبير جدًا في الطريق فاصطدمت به وجهاً لوجه. ضجة مملة في منتصف الطريق. يتم دفع شيء ما إلى الخلف ويرتد لبضعة أقدام. تهتز الشاحنة بأكملها وأنا أضغط على المكابح بشكل حاد. ماذا بحق الجحيم كان ذلك؟ صرخت أمبارو وهي ترتعش بيننا من الخوف. الزجاج الأمامي متشقق ويبدو كما لو أن الشمس تشرق بشكل أكثر سطوعًا. أنظر في المرآة الخلفية: حزمة من شيء ما ترتعش، لكنني لا أعرف ما إذا كان هذا إنسانًا. أقول: علينا الخروج. تقول أمبارو: لا، هيا نذهب. أفتح الباب ويتبعني كلاوديو. الحزمة بلون القهوة ويبدو أنها تتحرك. نسير نحوها بخوف. تقرر أمبارو الخروج وتأتي خلفنا. لا توجد أي سيارات أخرى في هذه الساعة. فقط عندما نكون على بعد بضعة أقدام، أدرك أن الحزمة عبارة عن كنجر يحتضر. يرتجف وقد تشكلت بركة من الدم حوله. أقترب بحذر: إنه مجرد كنغر، لكنني لم أر واحدًا من قبل وأنا خائف منه. تتنهدت أمبارو بارتياح: الحمد لله أنه ليس إنسانًا. رأس الكنغر معوج وكأن رقبته مكسورة. يعاني من صعوبة في التنفس ويبصق فقاعات الدم. قلت: لقد خرج من الغابة، ولم أره. يحرك الحيوان ذيله، ذيله ضخم، قذر، عاري. لقد فقد معظم فروه. تقول أمبارو: "دعونا نعيده إلى الغابة".....

  جلد الحيوان خشن، وليس ناعمًا كما اعتقدت. أجد صعوبة في إدخاله إلى الشاحنة، لكن في النهاية تمكنت من ذلك. تلتقط أمبارو حقيبة ظهرها وحقيبة يدها من الأرض. عدت أدراجى، حاملًا كلاوديو هذه المرة. دمه أخف بكثير من دم الكنغر. وأرفعه أيضًا إلى الخلف، وأضعه جريحًا بجانب الحيوان. يقول لي: آسف، فأقول له: استرخ، وأقوم بتغطيته بالبطانية التي أحضرناها. لا تزال الشمس مشرقة، والطريق الذي يبدو أنه يتجه دائمًا نحو الشمال ما يزال، ممتدًا أمامنا. ركبت الشاحنة، وأسرعت، ورأيت شخصية أمبارو الضبابية في مرآة الرؤية الخلفية، واعتقدت أن الوقت ما زال مبكرًا، وأنه قريبًا، قريبًا جدًا، سنكون أنا وصديقي في المستشفى.

(انتهى)

***

....................

المؤلف: خوان بابلو رونكون/Juan Pablo Roncone. ولد خوان بابلو رونكون في أريكا، تشيلي، عام 1982.وفي سن التاسعة عشرة انتقل إلى سانتياغو، حيث درس القانون في جامعة تشيلي. Brother Deerهو كتابه الأول.

 

للشاعر اليوناني

ديونيسوس سولوموس

(Διογσιος Σολομος)

ترجمة: جمعة عبد الله

**

الحلم

أصغي إلى الحلم في روحي

في هالة الجمال

يبدو كأني أعيش معكٍ لليلة واحدة

في روضة جميلة

نمشي سوية

تحت أنوار النجوم

صحت بشغف مرهف:

أيتها النجوم هل رأيتم مثلنا من قبل؟

- هل رأيتم مثل هذا القوام الرشيق

عيونها

شعرها

يديها

قدميها

هذا القوام الفاتن

هذا الملاك الجميل

في هيئة ساحرة

لكن دون جناحين

قلت هذا وفجأة

وجدت نفسي محاطاً

بفتيات مزينات كالقمر

يتراقصن متشابكات في ايدهن البيضاء

يقتربن مني كأنهن يرومن خطفي

حينها سمعت ضحكة ملائكية

من حبيبتي

كأن السماء فتحت أبوابها

قالت: كيف رأيتهن.. جميلات؟

قلت: أنت أجمل

زغردت بضحكة عسلية

اخذتها جانباً وقطفت زهرة

وذبنا في عناق طويل حتى اشراقة الفجر

كأن عقد الرمان انفرطت حباته

لتتبرعم كالازهار

استيقظت من الحلم

وجدت وجوهنا شاحبة

ياليت كان الحلم حقيقة

لتنذكره دوماً سوية

***

...........................

* الشاعر اليوناني ديونيسوس سولوموس (1798 - 1857)   هو أكثر الشعراء شهرة، وحاز على الكثير من الألقاب مميزة، مثل الشاعر الوطني.  شاعرة ثورة الاستقلال من الحكم العثماني عام 1821، وفي عام 1818 كتب النشيد الوطني ومازال النشيد الوطني لجمهورية اليونان.

سـيـاحـة فـي فـردوسٍ أرضـي

للشاعر: يحيى السماوي

ترجمة: رياض عبد الواحد

***

Text by : Yahya Al- Samawi

Translated by: Riyadh Abdulwahid

Edited by : Ramadan sadkhan

***

What need have I for distant flight,

Beyond the bounds of dark and light?

To learn the fields from barren sand,

Or hell from heaven’s promised land,

Or dew from fire burning bright?

Enough, if seated close to thee,

To witness beauty’s artistry,

And taste what Eden holds in store—

Its sweetest fruits forevermore.

Purest gold and silver gleam,

Pearls that in the oysters dream,

And rubies glistening at the core.

I hear the rustling in the trees,

The cooing doves upon the breeze,

The harpist’s fingers soft explore.

The laughter of the playful air,

That dances through the branches bare.

The beggar’s tale in rags arrayed,

Yet love had crowned him, heaven-made,

A sovereign over suns and lore.

A thousand kisses, and one more- a tale woven by scheherazade in shahryar's chamber

And so, I drink, but not with wine,

For bliss like this is more divine.

I pluck from paradise so near,

Pluck from your near paradise its hanging delight,

And from the far, where nightgowns softly rend,

And from the secret veiled beneath the tent *of buttons…

*

Thy eyes lead on through forests wide,

Where wings of birds have never tried,

Through oceans Sindbad left ignored.

I sleep, and thou dost dream with me,

On beds of roses, soft and free,

Where petals line the sheets we wore.

What need have I for lands unknown,

When thou dost light my darkest stone,

And you weave grass upon a stone,

Till roses bloom from the wall alone.

...........................

سـيـاحـة فـي فـردوسٍ أرضـي

للشاعر: يحيى السماوي

ترجمة: رياض عبد الواحد

***

مراجعة الدكتور: رمضان سدخان

مـا حـاجـتـي لـلـسـفــرِ الـبـعــيــدِ خـارجَ الــمـدى

بـيـن تـخـومِ  الـلـيـلِ والـنـهـار  :

*

لأعـرفَ الـفـروقَ بـيـنَ  الـحـقـلِ والـصـحـراءِ

والـفـردوسِ والـجـحـيـمِ

أو بـيـنَ الـنـدى  والـنـارْ  ؟

**

يـكـفـي إذا جـلـسـتِ قـربـي أنْ أرى :

أجـمـلَ مـا قـد خـلـقَ الـلـهُ

وأشـهـى مـا  حـوى الـفـردوسُ  مـن ثـمـارْ

****

والـذهَـبَ الإبـريـزَ والـلُـجـيـنَ

والـيـاقـوتَ والـدُّرَّ

ومـا يـضـمُّـهُ فـي جَـوفِـهِ الــمَــحّـارْ

***

وأسـمـعُ الـهـديـلَ والـحـفـيـفَ والـخـريـرَ

والـحـديـثَ بـيـن أنـمـلِ الـعـازفِ والـقـيـثـارْ

****

وضـحـكـةَ الـريـحِ إذا داعَـبَـتِ الأشـجـارْ

**

وقـصَّـةَ الـفـقـيـرِ أضـحـى ذاتَ عـشـقٍ وهدىً

خـلـيـفـةَ الـلـهِ عــلـى  الـشـمـوسِ والأقـمـارْ

**

وألـفَ قُـبـلـةِ وقُـبـلـةٍ روَتْـهــا شـهـرزادُ الأمـسِ

فـي مـخـدعِ شــهـريـارْ

* *

فـأنـتـشـي مـن دونـمـا أخـمـارْ

***

أقـطـفُ مـن فـردوسِـكِ الـدّانـي مـن الـقـطـوفِ

والـبـعـيــدَ  مـن شِــقِّ قـمـيـصِ الـنـومِ

والـخـبـيءَ  تـحـتَ خـيـمـةِ الإزارْ

**

تُـدخِـلـنـي عـيـنـاكِ غـابـاتٍ مـن الـدهـشـةِ

مـا مَـرّتْ بـهـا أجـنـحـةُ الأطـيـارْ

**

وأبـحـراً لـم يـكـتـشـفـهـا الــســنـدبـادُ قـاهـرُ الـبـحـارْ

***

أغـفـو وتـغـفـيـنَ مـعـي عـلـى ســريـرٍ ووسـادةٍ مـن الأزهـارْ

**

مُـلـتَـحِـفَـيـنِ شــرشــفـاً مـن الـمـواويـلِ  ومـن وُرودِ  جُـلّـنـارْ

**

مـا حـاجـتـي لـلـســفــرِ الـبـعـيـدِ إنْ كـنـتِ أمـامـي

تُـقـمِـريـنَ الـلـيـلَ فـي كـهــفِ مـتـاهـاتـي

وتُــشـمــسـيـنَ  فـي ديـجـورهِ الـنـهـارْ

**

وتُـعـشِــبـيـنَ صـخـرَهُ فـيـطـلـعُ الـوردُ مـن الـجـدارْ

 

بقلم: شارل بيكوفسكي

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

لا أحد بمقدوره إنقاذك، ما عداك.

سيعرّضونك مرارا وتكرارا

لمحن يتعذّر تقريبا تجاوزها.

سيحاولون مرارا وتكرارا،

بالحيلة والقناع أو بالقوّة،

جعلك تبتعد، وتتنازل،

وتموت في صمت، في داخلك.

*

لا أحد بمقدوره إنقاذك، ما عداك.

وسيكون من اليسير أن تفشل،

من اليسير جدّا...

لكن لا تستسلم، لا تستسلم، لا تستسلم.

انظر إليهم .

وأنصت إليهم.

هل تريد أن تشبههم؟

أن تصبح ظلاّ بلا وجه،

دون فكر، دون قلب؟

هل تريد معرفة الموت

حتى قبل أن تكون قد عشت؟

*

لا أحد بمقدوره إنقاذك، ما عداك.

وأنت تستحقّ ذلك.

هي حرب عسيرة .

لكن إذا كانت هناك معركة جديرة بأن تربحها

فهي معركتك هذه

فكّر في ذلك.

فكّر فيما يعنيه

إنقاذ نفسك بنفسك.

***

شارل بيكوفسكي.

..........................

Personne ne peut te sauver

Personne ne peut te sauver, sauf toi.

Encore et encore, on t’exposera

à des épreuves presque insurmontables.

Encore et encore, ils tenteront,

par la ruse, le masque ou la force,

de te faire plier, d’abandonner,

de mourir en silence, à l’intérieur.

Personne ne peut te sauver, sauf toi.

Et il serait si facile d’échouer,

si terriblement facile

Mais ne cède pas, ne cède pas, ne cède pas.

Regarde-les.

Écoute-les.

Veux-tu leur ressembler ?

Devenir une ombre sans visage,

sans pensée, sans cœur ?

Veux-tu connaître la mort

avant même d’avoir vécu ?

Personne ne peut te sauver, sauf toi.

Et tu en vaux la peine.

C’est une guerre difficile,

mais s’il est une bataille qui mérite d’être gagnée,

c’est bien celle-ci.

Réfléchis-y.

Réfléchis à ce que signifie

te sauver toi-même.

***

Charles Bukowski

بقلم: راشيل شيرمان

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

علمت زوجتي بيث بوجود مشكلة، هكذا قالت، ولكن تجاهلتها. قادت السيارة عائدة إلى البيت من عملها، فهي ممرضة عمليات تجميل، وذهبت للنوم. قالت إنها تجاهلت شعورها بشيء يشبه فقاعة وستنفجر، ثم كأنها تريد أن تتبول، وأخيرا تقيأت، وبعد ذلك مات إحساسها. وكل هذا جرى بعد ما حصل، من حمل الولدين بوقت مبكر، وإبعادهما حتى قبل أن يتمكن الأبوان من احتضانهما. كان هناك شيء خطأ بخصوص توأمنا. كان يبدو أن الصبي الذي سميناه جوناثان بطيء. أما قدما البنت فقد كانتا تتحركان بشكل غريب نحو الداخل، وقال الطبيب إنها قد لا تتعلم المشي أبدا. وفي البداية ولدا صغيرين للغاية، واعتقدوا أنهما يوشكان على الموت.

بقي لعملي ساعة من الوقت، ساعة ونصف في وقت الازدحام. تبعت بالسيارة الطريق السريع، وأنا أستمع للإذاعة. استيقظت باكرا، لأتمكن من أداء تمارين اللياقة البدنية، ثم غادرت إلى المكتب، وكنت مسؤولا عن المبيعات في شركة ضخمة تتاجر بمكيفات الهواء. وكان لدي سكرتيرة لها شكل جدة. وأضع على طاولتي صورة لبيث تعود لأيام زواجنا الأولى. وعندما جاء التوأم لأول مرة إلى البيت، وضعناهما في غرفة سبق لزوجتي أن جهزتها: نصفها مطلي بلون زهري للبنت والثاني بلون أزرق للصبي. وحينما يبكيان بعد إيداعهما في السرير، كانت زوجتي تتجاهل ذلك. قالت: إنها تعلمهما كيف ينامان في الليل، وبالمثل تجاهلت أمرهما أيضا. لكن أحببتهما، وفي بعض الأحيان كنت أرغب بحملهما. وأحيانا كنت أتوسطهما، كل منهما تحت ذراع واحدة، ثم نستلقي معا على سريري، غير أن زوجتي قالت إنه لا يجوز أن يناما معنا، خشية أن نلحق بهما الضرر.

بعد ثلاثة أسابيع من إحضارهما إلى البيت، حملت بيث الولدين إلى الطبيب مجددا. في تلك الليلة اعترفت لي أنه نتيجة لخطأها ذهبت الأمور باتجاه سيء. ثم أفضت لي بما ذكره لها الطبيب: أن جوناثان فقد الهواء حينما تدفق الدم عليه وهو في بطنها. وقالت إنهم لم يقرروا ما هي المشكلة التي تعاني منها إميلي. ليس بعد.

كنا على الشرفة نرشف النبيذ الأبيض. كان لدينا بركة ونعيش في جنوب كاليفورنيا في منطقة جديدة تشرف على مساحة كبيرة من أرض ترابية. مع الوقت ازدحم المشهد المترامي الأطراف بالبيوت التي تشبه بيتنا. كان بيتنا في الشوارع الأمامية التي مهدت أولا. والبيوت متماثلة من الداخل، ولكن جهزت زوجتي بيتنا بطريقتها الخاصة. وعندما أتى الضيوف تعجبوا كيف سنحت لها الفرصة للقيام بكل ذلك: عمل وأمومة وبعد ذلك تجهيزات وديكور. ألقيت نظرة على الأرض. كان لا يزال هناك شجيرات تنمو. وبناء البركة قيد الإنجاز، ولم يتم بعد، ولكن على وشك أن تنتهي. اشترينا البيت مباشرة قبل ولادة الولدين لتتمكن بيث من تجهيزه. وحينها بدأت بقية البيوت في الحي تمتلئ بالسكان. وكلما رافقت التوأمين بنزهة وهما في العربة، في عطلة الأسبوع، كنت ألوح بيدي لجيراننا المستجدين، وأحيانا أتوقف لتبادل الحديث. ولكن لم ألاحظ بعد وجود أي مشكلة في التوأم، وكانت جميع النساء تناغي لهما، وتطلبن حملهما، وتطبعن القبلات على رأسيهما الصغيرين. وأحيانا كنت أتجاوز بهما المشروع السكني، حتى أبلغ التلال، حيث تقام مشاريع جديدة. وكنت حريصا على التحكم بالعربة. أقفل العجلات، ثم أجلس بجانبهما، وأشير إلى السماء والغيوم. وأنطق كلمة "سماء" و"غيمة"، وأؤدي حركات مضحكة بوجهي كي يبتسما. وحينما تغفو زوجتي في عطلتها الأسبوعية أخبر الولدين بحكايات عن حجمهما الصغير أول الأمر، وكيف كانا في الحضانة يربطان بالأنابيب لأسابيع، لأن أمهما، والتي يفترض أنها تستريح في سريرها، قررت أن تتابع عملها.

كان يصعب علي أن أثور بوجه زوجتي. كانت مشغولة، ومرحة، ويبدو أنه كان لديها حل لكل مشاكل التوأمين. وحاولت أن تغذيهما بحليب صدرها أولا، كانت تستلقي على السجادة في غرفة المعيشة، وتضخ مضخة حليبها. وكانت قد زرعتها في صدرها قبل سنوات بالمجان، وحصلت عليها من مديرها مكافأة لحسن تصرفها مع المرضى. كذلك قامت بوشم شفتيها بلون زهري حتى إذا استيقظت صباحا تبدو وكأنها عالجتهما بمواد التجميل. لكن مضخة الحليب لم تنفع، فبدأنا نغذي الولدين بالمستحضرات. في أيام العطل، وليلا، كان كل منا يضع أحدهما في حضنه، ويقدم له عبوة حليبه، ليمتصها بشراهة وسعادة. وكانا يشربان الحليب بمنتهى الحبور، ومن الواضح أنهما عزما على النمو والتحسن. وكان لهما أوقات إطعام خاصة، ومع ذلك كنت أحيانا أتساءل إذا كان يتوجب علينا تقديم المزيد من الغذاء لهما.

في أحد أيام السبت وأنا أنزه التوأمين في الحي، رأيت شاحنة تخرج من أحد البيوت.

لوحت بيدي قائلا "هاي". كان الرجل بلا قميص ويغادر بيته، وله شارب أشقر وشعر صدر خفيف. تصافحنا، وكان لكلينا قبضة قوية.

قال: "أنا هال".

قلت له: "مرحبا بك في الحي يا هال. أنا مايك. نحن نعيش في البيت رقم ثمانية".

نظر هال إلى التوأم وابتسم ثم قال: "يبدو أن لديك ما يكفيك".

بدأت إميلي تبكي، فنزعت حزامها، وحملتها، بينما كان جوناثان نائما. التفت هال نحو بيته وقال: "تعالي يا ماري وقابلي جيراننا الجدد".

خرجت امرأة من البيت. شعرها أسود ومربوط بشكل ذيل حصان. وذات وزن زائد، ولكن بوجه جميل. صافحتني بأصابع خفيفة وباردة، ولاحظت أن عينيها خضراوان وعجيبتان. قالت وهي تأخذ إميلي من بين ذراعي وتهدهدها لتتوقف عن البكاء: "أوه. انظروا إلى هذين الولدين الرائعين".

قال هال: "يا إلهي أنا بحاجة لاستراحة. هل تفكر بكأس بيرة؟".

دفعت العربة المزدوجة في الممشى، وجوناثان لا يزال نائما فيها، حتى دخلنا الباحة الخلفية. كانت بركتهم مكتملة، وينسكب عليها شلال من صخور صناعية. جلسنا على العشب، وأحضرت ماري مبردة. وضعت إميلي على بطنها، لتتمكن من الزحف والتجوال. قلت لهما: "زوجتي تولت ديكور البيت، وأدت عملا رائعا، عليكما أن تأتيا لإقامة حفل شواء".

أخبرني هال وماري أنهما عملا في متجر للخضروات، ولكنهما ادخرا خلال سنوات طويلة لشراء بيت. أخبرتهما عن عملي في المبيعات، وعن زوجتي وعملها بصفة ممرضة في جراحة التجميل. قالت ماري: "رائع. لا بد أن لديها قصصا مسلية".

قبل الولدين كنت أخرج مع زوجتي في عطلة الأسبوع لتناول الغداء. فنشرب النبيذ، وهي تروي لي القصص المضحكة عن عملها. في إحدى المرات أخبرتني أن رجلا جاء إلى مكتبها وطلب زراعة صدر على ظهره. كنت أحب أن أنظر إلى زوجتي من وراء الطاولة، وأنا أضحك، بينما هي تتكلم. ولكن هذا يبدو كأنه شيء من الماضي السحيق. فجأة استيقظ جوناثان وشرع بالبكاء. وجاءت موسيقا صاخبة من أمام البيت.

قالت ماري: "آه. آسفة جدا. هذه ابنتنا وصديقها". انصفقت أبواب سيارة، ورنت ضحكة بنت. حركت ماري عينيها. قال هال: "تعالي يا كيلي، وقابلي جيراننا الجدد".

نظرت ورائي حين فتحت صبية صغيرة بوابة جانبية في البيت. كانت ترتدي الجزء العلوي من بكيني مع سروال قصير، وسرة بطنها واضحة. وتبعها شاب أسود بلا قميص وجسم منحوت. قالت البنت: "هاي". وركعت بجانبنا. كان صدرها من النوع الذي ينتبج نحو الأعلى. طبيعي. حملت إميلي وهدهدتها إلى الأعلى والأسفل. قالت: "يا لهما من طفلين رائعين". وجرت طقوس التعارف. صافحت يد الشاب الأسود. قال: "ألفيس". كانت يده قوية وجافة. وهز رأسه.

قالت كيلي: "سأحضر بعض البيرة". نهضت ودخلت إلى البيت. كانت مؤخرتها ضخمة وتبرز بشكل صدر صناعي مثبت في الخلف. بعد عدة أكواب بيرة أخبرتهم أنني بحاجة لإيقاظ زوجتي، لذلك وضعت التوأم في العربة، ربطتهما بمقعديهما، ثم خرجت إلى أمام البيت، حيث وقفت سيارة كيلي الرشيقة السوداء. كان سقف السيارة مغلقا فنظرت إلى الداخل. رأيت سيجارات بالنعناع على ذراع الكرسي. وعلى لوحة الرخصة عبارة MCBOOTY . حينما عدت إلى البيت وضعت الولدين في مهدهما. تعالى صراخهما فأغلقت الباب. وذهبت إلى غرفة نومنا، والتي اعتنت بيث بديكورها لتبدو مثل فهود السافاري. ووضعت الشموع في شمعدانات خشبية سوداء طويلة، ولكن لم تسنح لنا الفرصة لإيقادها بعد. لم ترغب بيث بممارسة الجنس منذ ولادة الطفلين. كانت ترتدي البيجاما العريضة في السرير وتستدير بظهرها كلما لمستها، وحينما تنام أستدير نحوها، وألمس فخذي بفخذها، وأركز على ذلك العضو الصغير مني والذي يمكنني أن أشعر بواسطته بها. كانت بيث مستلقية في غرفة النوم، ببلوزتها وتشاهد التلفزيون.

قلت لها: "هيي". وخلعت ثيابي وتسلقت السرير لأكون بقربها.

سألتني دون أن تنظر لي: "أين كنت؟".

"آه، قابلت الجيران الجدد. ستعجبين بهم. ممتازون. عمليون. اسم الأب هال والأم ماري". وبدأت أدلك ذراعها ولكنها جرته بعيدا.

قالت: “عظيم. البيرة تفوح منك. كان بإمكانك أن تناديني".

قلت: "آسف. تركتك نائمة".

قالت وهي تنهض من السرير: "أيا كان. سأطلب سمك التاكو وأستلمه. ماذا تريد أنت".

ذهبت لأطمئن على التوأم بعد خروج بيث، كانا يغطان بالنوم. وعندما رجعت إلى البيت خرجنا إلى الشرفة، وتناولنا غداءنا. شربنا النبيذ، وشاهدنا التلفزيون، وذهبنا إلى السرير. كان اليوم التالي يوم أحد. رافقت الولدين مجددا بنزهة، وعوضا عن الخروج من المجمع السكني، ذهبت إلى بيت هال وماري، وقرعت جرس الباب. كانت سيارة كيلي في الممشى. قال هال حينما فتح الباب: "مرحبا بالجار".

كان بلا قميص ثانية، ودعاني إلى الداخل. أوقفت العربة على المرج، وأطلقت سراح الولدين من الأحزمة. حمل هال جوناثان وحملت إميلي.

سألني وأنا أتبعه إلى الداخل: "هل تريد بيرة؟".

قلت: "بالتأكيد".

كان بيتهما مثل بيتنا، باستثناء أنه على الطرف المقابل من الشارع، وهذا يعني أنه بيت معكوس: صورة بالمرآة لبيتنا. كانا قد أخرجا من الصناديق أشياء كثيرة بغضون أيام معدودة. وقاما بطلاء القاعة الأمامية بلون وردي. وكانت ماري ترتب الدمى على رفوف خزانة. أخذت إحدى الدمى وقدمتها إلى إميلي، ولوحت بيدي الدمية وهي تقول: "مرحبا! كيف حالك؟".

تبعت هال إلى المطبخ. قال لي وهو يغمز ويقدم لي علبة بيرة: "ماري اعتنت بالديكور".

كان في المطبخ مقاعد عند الكونتور، وورق جدران أبيض يحمل رسوم حيتان زرق صغيرة. في مجمعنا يمكنك الاختيار من مختلف أنواع الطلاء وورق الجدران. فالبناؤون جهزوا ذلك حتى قبل مجيئك. واختارت بيث الرمادي لغرفة المعيشة، واختارت ماري الأخضر الداكن. قال وهو يشير إلى سمكة ضخمة فوق التلفزيون: "هذه فكرتي. اصطدتها - وحنطتها".

خرجنا إلى الباحة الخلفية، حيث وضعوا الأثاث الخفيف الذي يصلح للمروج. كانت كيلي تسبح في البركة مع إلفيس. تكلم هال عن الصيد، وتابعت إلفيس وهو يدفع كيلي فوق الماء. وراقبتها حتى خرجت وابتعدت عن جانب البركة. وبعد أن غادرا الماء، لفت كيلي نفسها بمنشفة حول خصرها، وعصرت شعرها كما تفعل بالمنشفة لتجففها. قدم هال إلى كيلي وإلفيس علبتي بيرة. حملت كيلي إميلي وهدهدتها على ركبتيها. قالت: "أنت محظوظ جدا بهذا التوأم".

تساءلت متى ستبدأ مشكلة الولدين بالظهور، فهما غير قادرين على الزحف حتى الآن. أخبرتهما أن التوأم كانا غير ناضجين تماما، وانتظرا في المستشفى لوقت طويل قبل الانتقال إلى البيت. أصغت كيلي وهزت رأسها، وحمل إلفيس جوناثان ورفعه عاليا في الهواء. قالت كيلي وهي تفرك ركبة إلفيس: "أود لو يكون لي توأم. نحن مخطوبان، ولكن لم نضع الخاتم بعد".

قلت وهما يحملان الولدين: "تهانينا".

أصدرت بوابة البيت الجانبية صوتا عاليا، والتفتنا جميعا نحوها. رأينا بيث تدخل إلى الباحة الخلفية، وهي ترتدي صدارة البكيني مع مئزر سارونج. لوحت بيدها قائلة: "هاي. أنا الزوجة".

اقتربت وقبلتني من فمي. كان لأنفاسها رائحة النبيذ، ثم حملت إميلي من بين ذراعي كيلي، وهي تبتسم بشفتين مطبقتين، قدمت الجميع إلى كيلي، وردت بتلويحة من يدها.

قال إلفيس وهو ينهض ليفسح لها مكانا للجلوس: "تفضلي اجلسي".

قالت: "شكرا". في إحدى المرات أخبرتني أنها تحب شاكيل أونيل، وأدهشني ذلك. راقبت عيني بيث لأرى إن كانت تنظر إلى إلفيس. ونظرت إلى كيلي وتقاطعت عينا بيث مع عيني. جاءت ماري فشربنا المزيد. وضعت الرقائق على الطاولة فحملت كيلي كمية بيدها وأكلتها، ورشفت نبيذها. تكلمنا عن المجمع، وكيف أن المنفذ وعدنا أنه في خلال عدة سنوات سيتوسع العمل هنا. وبعد استكمال البناء ربما سيكون لدينا مركز للتسوق. خيم الليل، وبدأ الولدان بالعويل. أخبرت جيراننا المستجدين أننا نود أن نستضيفهم لدينا في أي وقت، وحينما كنا نغادر، رأيت كيلي وألفيس يقفزان في المسبح. ورأيت ألفيس يحمل كيلي مجددا وضوء البركة مصوب عليها. مدت قدميها ويديها مثل تمثال على زلاجة جليدية. أصبحت ساكنة تماما، ووجهها ينظر إلى السماء. رفعها في الهواء بيديه لدقيقة تقريبا، ثم لف خصرها وألقاها في الماء مجددا. بعد أن أودعنا الطفلين في السرير فتحت بيث زجاجة نبيذ أخرى.

قلت: "آه، بأولادي أنا متعب".

قالت: "حسنا". وسكبت لنفسها كأسا. كان السارونج قد سقط، ووقفت في المطبخ بالبكيني الأحمر. كانت ندوب العملية القيصرية قد شفيت، ولكن بمقدوري رؤيتها. وذكرتني بمناعتها كلما طلب منها الطبيب أن تمتنع عن الحركة. كان لزوجتي رض على فخذها.

سألت وهي واقفة: "ماذا؟".

قلت: "لا شيء".

تمنيت لو أن بركتنا جاهزة. خابرت المقاولين مرتين يوم الجمعة. وسأعاود الاتصال غدا. جلست بيث في المنتصف وأشعلت التلفزيون.

قالت بصوت أعلى منه: "كما أرى كيلي عاهرة صغيرة. هل شاهدت لوحة رخصتها؟".

قلت: McBooty .

"لديها أكبر مؤخرة رأيتها في حياتي. يجب إجبارها على اتباع حمية".

كان جسم زوجتي نحيلا ومقوسا ولكنها ليس لها قامة كيلي.

قالت زوجتي: "McBooty  ما هذا الهراء البذيء؟". ثم شخرت وضحكت.

في الليلة التالية بكرت بالعودة إلى البيت من العمل، وأخرجت الولدين في حين انشغلت بيث بالغداء. قالت: "لا تتأخر". كانت بمزاج جيد وتحضر شرائح الخنزير. ثم ارتدت ثيابها وطلت أظافرها. ذهبت مع الولدين إلى بيت هال وماري. كانت كيلي في الممشى بنفس الجينز القصير وصدرية البكيني اللذين ارتدتهما ليلة أمس. وتسقي النباتات بالخرطوم.

قالت: "هاي".

وجاءت لتلقي نظرة على الولدين.

سألت: "ما معنى لوحة رخصتك؟". لم يكن ألفيس موجودا.

قالت وهي تقف: "آه. اعتاد الأولاد في المدرسة الثانوية أن ينعتوني بذلك، كما ترى، لأن مؤخرتي..".

قلت: "آه. وعلق الاسم بذهنك؟".

قالت ضاحكة: "أعتقد ذلك".

قلت: "كنت أرافق الولدين بنزهة قبل الغداء. بينما بيث تحضر شرائح الخنزير".

قالت: "رائع".

قلت وبدأت أصعد بالعربة على الهضبة: "الأفضل أن أعود". ثم شعرت بالرطوبة على ظهري، التفت ورأيت كيلي واقفة بساقين متباعدتين، وبيدها الخرطوم كأنه مسدس، وتضحك بينما الشمس وراءها.

سألتني بيث: "ماذا جرى لقميصك". وحملت التوأم بوقت واحد، ووضعتهما في كرسيين مرتفعين.

"آه، كيلي رشتني حين كنت أرافق الولدين".

قالت: "تلك البنت بمؤخرتها العريضة تحتاج لرد جدي".

تقلب جوناثان بمحاولة لاستعمال يديه.

صاحت فجأة وهي تضرب ذراع جوناثان: "اخفض يديك. اخفضهما".

بدأ جوناثان بالبكاء وأخرجت بيث طبقي سباكيتي من الميكرويف. ووضعت طبقا على كل صينية للولدين. زودت بيث غرفة المائدة بالشموع. وضعت في الستيريو موسيقا كلاسيكية وغادرت المطبخ. قالت: "سوف نأكل هنا".

قلت وأنا أتبعها إلى غرفة المائدة: "لن يمكننا هنا سماع الأولاد"

قالت: "ولكنهم بحالة جيدة".

كان لدينا مربية أطفال تأتي من الثلاثاء وحتى الخميس. وتنتظر بيث في البيت يومي الاثنين والجمعة ولا تذهب إلى عملها، لتعتني بالطفلين. كانت المربية حلوة المعشر وتطهو لهما الحساء المنزلي. وكنت أتناول البقايا أحيانا بعد العودة إلى البيت. أحضرت بيث شرائح الخنزير والسلطة، وشربنا النبيذ الأحمر وأكلنا. فيما بعد، ولدواعي دهشتي، أحضرت كيك الشوكولاتة. وأنا أشرب انتبهت إلى الحبوب على الطاولة، ولأصابعي، وكيف تبدو بيث في وهج الشموع. أمكنني عزل الألوان من وجهها لمناطق مختلفة، كأنها دول على الخريطة. ابتسمت لي حينما نظرت إليها. سألتني بنعومة: "ماذا؟".

قلت: "لا شيء". ويمكنني التأكيد أنها تعتقد أنني أفكر بشيء جيد. وبعد الانتهاء من كل شيء، تبعتها إلى المطبخ. كان الطفلان في كرسييهما المرتفعين، وكلاهما نائم ومائل نحو الجانب الخارجي. وكانت السباكيتي ملتصقة بأيديهما ووجهيهما.

قالت زوجتي: "سأنقعهما في الحمام".

سألتها: "أليس الوقت متأخرا؟".

تجاهلتني وحملت إميلي من كرسيها. تبعتها وأنا أحمل جوناثان. مددت إميلي على بساط الحمام وربطناها. استيقظت باكية بينما بيث تضعها في الحوض وتسكب عليها الماء. بالعادة نودع الولدين للنوم في السابعة.

قالت: "هاته". وفعلت الشيء نفسه مع جوناثان. حملت الإسفنجة وبدأت تدعك وجهيهما. لم يكن يبدو أن الولدين ينظران لجهة ما. كانت عيناهما مبتلتين ولا تنظران لي. بعد أن انتهت بيث أحكمنا لفهما بالمناشف، وكانا مبتلين ومتعبين. وكانت قمة رأس إميلي طرية ولها رائحة الصابون. وألبسناهما بيجامتين ملونتين، وأرقدناهما في مهديهما.

قلت: "أنا منهك".

وذهبت إلى السرير، وخرجت بيث من الحمام مرتدية ثوبا بنفسجيا شفافا. وبنور الحمام المضاء من ورائها، كان بمقدوري رؤية كل شيء.

قلت: "يا إلهي".

اقتربت مني فشجعتها على القدوم وبدأت ألعقها. وكان بإمكاني سماع الأصوات التي اعتادت أن تصدر منها، فجذبتها لتقبلني. قالت فجأة: "آخ. ذقنك تجرحني. بحق الجحيم ألا تحلق منذ فترة بعيدة؟".

واستدارت، وحينما حاولت أن أعانقها دفعتني بعيدا.

سألتها: "ما المشكلة؟".

قالت: "لا شيء".

سألتها: "هل أنت حانقة؟".

قالت بهدوء: "أنت تعلم لماذا".

لدينا توأم يعانيان من مشاكل خطيرة، وهي من يتحمل هذا الخطأ كله. كنا نعيش في حي ممتاز، ولذلك لا يوجد سبب لأن تثور علي. اشتريت لها الأشياء التي أرادتها، وأعجبني طريقتها في ديكور المنزل. ضربت طفلي لأنهما يعانيان من مشكلة، فبكى الاثنان، ولكنني لم أغضب. بكى الطفلان، ولم أتمكن من التحكم بالمكان الذي اتجهت إليه أيديهما، فشعرت زوجتي بالغضب.

قلت: "لا أعرف لماذا يا بيث".

"حسنا، إن كنت لا تعلم، ليس بمقدوري أن أتصرف".

استلقيت هناك أصغي لبكائها. وبدأت ألمس نفسي وأنا على جانب السرير. تعالى بكاؤها فذهبت إلى الشارع وهناك حملت كيلي في المسبح وجعلتها فوقي، وكانت خفيفة كاليمامة. في الصباح التالي استيقظت في وقت غير معتاد وذهبت إلى تمارين الرشاقة. تأملت نفسي بالمرآة. وذهبت إلى المكتب ومر اليوم بشكل عادي. عدت بالسيارة إلى حيث زوجتي وولداي. وعندما دخلت إلى البيت وجدت بيث عند طاولة المطبخ، وهي تبكي. صاحت: "إنهم يعرفون".

سألتها: "ماذا؟ يعرفون ماذا؟". واقتربت منها وسمحت لي بمعانقتها وهي تبكي على كتفي.

انتظرتها حتى تلتقط أنفاسها، ثم مسحت عمودها الفقري بيدي. انكمشت على نفسها وشعرت أنها صغيرة وهشة وطيبة.

قالت: "ال.. الولدان.. أحدهم قال شيئا اليوم... رأيت سيدتين تتكلمان في البقالية... وذكرتا أن جوناثان يعاني من مشكلة".

سألت: "وماذا عن إميلي؟".

صاحت وهي تنظر لي بعين يسيل منها المكياج الأسود على خدها: "ما معنى هذا الهراء؟". ويفترض أن خطوتها التالية وشم ظل على عينها. أسرعت إلى غرفة النوم فتبعتها. كان باب غرفة التوأم مفتوحا، ولم أجدهما في سريريهما.

سألت: "أين التوأم؟".

كانت بيث قد أصبحت في السرير ورأسها بين يديها. قالت: "تركتهما مع أصدقائك الجدد. أريد أن أنفرد بنفسي".

قلت: "تعني هال وماري؟ هل يجالسان الأطفال؟".

صاحت: "نعم".

ارتبكت، ولكن لم أود أن يزيد غضبها. اقتربت من السرير وجلست بقربها وبدأت بدعك رقبتها.

قلت: "إنهما طفلانا، ونحن نحبهما. ولا يهم ما يفكر به الناس".

نظرت بيث نحوي مجددا من السرير المجهز بغطاء الفهود. وصاحت: "هل أنت حمقاء مغغلة؟".

توقفت عن تدليك رقبتها، ووضعت يدي في حضني، لم يتبق سبب لتغضب مني، نهضت من السرير وغادرت البيت، لأستعيد جوناثان وإميلي. لم أرغب أن أفرض نفسي على ماري وهال. حاولت أن أتصور طفلي وكأنني غريب أراقبهما. تساءلت إن كان من الواضح وجود مشكلة يعانيان منها. كانت كيلي تجلس على المرج الأمامي، وهي تدخن سيجارة النعناع.

صاحت وهي تلوح لي: "هيي". كانت ترتدي صدرية ثوب سباحة آخر ولكن مع نفس السروال الجينز القصير.

قالت: "جوناثان وأميلي نائمان في الداخل".

قلت: "جيد". فهما بأمان.

جلست على العشب بقرب كيلي. شعرت بعذوبة الأرض وبالتعب. نظرت إلى كيلي التي أطفأت سيجارتها بالأرض، فابتسمت لي بدون أن تقول شيئا. أخبرتها أنه واتاني حلم، وكان يبدو أولا أن أحداثه تجري في بيتي، ثم انقلب كل شيء، ثم تبين أنه في بيتها. وأخبرتها أننا كنا نسبح في هذا الحلم، هي وأنا، في البركة. وفي الحلم كان الشلال أقوى مما هو في الحقيقة، وكانت المياه تنزلق على منحدر يخرج منه حتى تبلغ الوادي. وأضفت أننا في الحلم انزلقنا معا، وكان متسعا بما فيه الكفاية، لنجلس متجانبين، وتابعنا وأيدينا متماسكة. نظرت لي، وهي تعبث بخاتم في يدها. كان خاتم خطوبة. تبادلنا النظرات، ثم ابتسمت. قالت ضاحكة وهي تدفعني بعيدا عنها: "اصمت. توقف عن هذا الهراء".

كان بإمكاني أن أقول إنني أكذب، وأنني لم أشاهد هذا الحلم أبدا. وحان الوقت لذلك، إن كنت قد رأيت هذا الحلم أصلا.

***

........................

* الترجمة من Open City

* راشيل شيرمان Rashel Sherman كاتبة أمريكية. صدر لها: الجرح الأول (قصص)، غرفة المعيشة (رواية) وغير ذلك..

من الأدب الكردي:

ثلاث قصائد للشاعر لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - الريح العصوف

أثيمة هي الريح العصوف

بسبب ما كسرته:

من أغصان الشجر

و ما مزقته

من أجساد الأطفال

و ما هجرته

من أطيار الغاب ..

أثيمة هي الريح العصوف

لكثرة الرمال

والسدم

ألتي ألقتها في مقل

المدينة..

أثيمة هي الريح العصوف

سوف يأتي اليوم ألذي نعدم

فيه هذه الريح العصوف!!!

***

2 – مداعبة

عاصفة ما داعبتني

فلحست بلسانها

الطويل:

آثار قدمي ..!

غيمة ما مازحتني:

ففرشت قدامي

سجادة منسوجة

من الماء ..!

فمك .. هو الآخر

داعبني:

فترك على شفتي:

بضعة فراشات

مشتعلة ..!!

***

3 - بعض الأشياء

هناك قصائد:

هي أبعد من أن تلمس بنان

الشاعر

عقائصها الغيناء ..

وثمة أعذبة:

لا يحظى البؤساء

بشذا دلالها

أبدا ...

وهناك أيضا مسرات:

سوف لن يلهو الأحبة

على أمواجها المؤتلقة

بالضياء

إبدا ...

***

.......................

- عن (من الشعر الكوردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

 

ترجمة لقصيدة الشاعر طارق الحلفي

والمعنونة - ومضات رقمية

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

Digital flashes

The paper books

Hang themselves  are

Suffering from collective

Forgetfulness disorder

2 -

Friends are in black

List waiting

Digital forgiveness

3 -

Artificial intelligence

Tries to dream

But it do not know

How to forget

4 -

A smart watch thinks

Instead of me to

Meassure my pules

And my sins to remind

Me that i forget

To be a human

5 -

The robot feeds a child

His food singing lullaby

And turn off the light

At his sleep time

6 -

Hypothetical man writes

His testament to distribute his

Money across

Inssured acounts

7 -

The streets return recycling

Of passerby and the faces

Are the same

And the sighs are imported

From yesterday

8 -

The city suffers from technical

Hold up and the traffic lights

Are depressed and the roads

Do not know where

To lead us

9 -

In the electronic store

Dreams are purified

And repeated adjusting

The ends to be

Suitable for all

10 -

The artificial hand writes love

Letter the recipient with

No memory refers it

To trash fiels

11-

In order to get lost

Pet cat wears a GPS -

but forgets how

To find it self

12-

The electronic rain

Is falling and the plastic

Fields are breathing

And the clouds ask

For permission

to download .

...........................

ومضات رقمية

طارق الحلفي

كتبُ الورقيةُ تُعلّقُ نفسها،

تعاني من اضطرابِ النسيانِ الجماعيّ.

2

الأصدقاءُ في القائمةِ السوداء،

ينتظرونَ عفوًا رقميًا مُحتملًا.

3

الذكاءُ الصناعيُّ يُجرّبُ أن يحلم،

لكنّهُ لا يعرفُ كيفَ ينسى.

4

الساعةُ الذكيّةُ تفكِّرُ نيابةً عني،

تقيسُ نبضي، تحصي خطاياي،

تذكّرني أنّي نسيتُ أن أكونَ إنسانًا.

5

الروبوتُ، يُلقّمُ طفلًا طعامَهُ

يُغنّيهِ تهويدةً مُبرمَجة،

ويُطفئُ ضوءَهُ عندَ النوم.

6

رجلٌ افتراضيٌّ يكتبُ وصيّتَهُ،

يوزّعُ ذاكرتَهُ على حساباتِهِ المُؤمّنة.

7

الشوارعُ تُعيدُ تدويرَ المارّة،

الوجوهُ مكرّرةٌ،

التنهّداتُ مُستوردةٌ من مسودّةِ أمس.

8

المدينةُ تُصابُ بعطلٍ تقنيّ،

الإشاراتُ الضوئيةُ تعاني الاكتئاب،

والطرقاتُ لا تعرفُ إلى أينَ تقودنا.

9

في المتجرِ الإلكترونيّ،

تُنقَّحُ الأحلامُ قبلَ الشراء،

يُعادُ ضبطُ النهاياتِ كي تُناسبَ الجميع.

10

يدٌ اصطناعيةٌ تكتبُ رسالةَ عشق،

المُرسَل إليهِ بلا ذاكرة،

يُحيلُها إلى ملفّاتِ المهملات.

11

كي لا تضيعُ، "GPS" قطةٌ أليفةٌ ترتدي

لكنّها تنسى كيفَ تجدُ نفسها.

12

المطرُ الإلكترونيُّ يَهطلُ،

الحقولُ البلاستيكيّةُ تتنفس،

. والغيمُ يَطلبُ إذنًا بالتحميل.

***

 

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

كانت طويلة. أطول منه. نحيفة. ورك عريض. أنف بارز جدا. ولم يعتقد أحد من أصدقائه أنها جميلة. قال ماريك في إحدى المرات أن قوام لينا يشبه الكنغر. وأيده كوستيك بصوت كالنعيب. غير أن فلاديمير رآها أشبه بطير ضخم. مثل مالك الحزين أو الكركي. التقيا في صيف 1975. كان فلاديمير بالثانية والعشرين وتخرج للتو من جامعة ليننغراد الحكومية. وحضر حفلة عيد ميلاد أستاذ الكراتيه العجوز، أركادي إساكوفيتش الذي بلغ الستين. لم تكن لينا من المجموعة. وكانت مجرد قريبة بعيدة لأركادي إساكوفيتش، وقادمة من موسكو بزيارة، وقد نامت على الكنبة في زاوية المطبخ. وخلال الحفلة تكومت على الكنبة كل أنواع الأطعمة بانتظار دورها لتنقل إلى الطاولة، ولم تجد لينا أي خيار سوى الانضمام إلى ضيوف أركادي إساكوفتش. جثمت على طرف كرسي عند زاوية الطاولة، ورفضت ما يقدم لها من الفودكا، دون ابتسامة، ولكن تناولت من سلطة الشوندر التي كومتها في طبقها، كما لو أنها تريد أن تختبئ وراءها. وواصلت الخالة غاليا البدينة والثملة الصراخ، مهيبة بلينا أن تتبادل مكانها مع أحد الرجال المتواجدين، لأن جلوس بنت شابة في الزاوية فأل سيء.

قالت: "هذا يعني أن أحدا لا يريد الزواج منها".

وضاق ذرع لينا في إحدى اللحظات. فنهضت وقالت إنها عازمة على الذهاب إلى المطبخ "للحصول على مزيد من المخلل". وضغطت على حرف الدال في كلمة مزيد*. وفي المطبخ شاهدها فلاديمير وهو في طريقه إلى الحمام. كانت تجلس على إفريز النافذة وظهرها له، بثوب قطني أزرق، وشعر أشقر لماع ينسدل بمستوى ذقنها، وكانت تؤرجح ساقيها الطويلتين فوق الأرض، وفي يدها برطمان المخلل. وحينما غادر الحمام رآها لا تزال جالسة هناك.

اقترب منها وسألها: "على ماذا تنظرين؟".

احمر وجهها، وقالت إنها حسيرة النظر، ولكنها اعتقدت أن هناك قطة في نافذة البناء المجاور. اقترب أكثر. كان الوقت على وشك 6 مساء، والشمس مشرقة، ولكن الفضاء المحصور بين الأبنية مظلم شأنه دائما. توجب عليه ضغط وجهه على الزجاج ليرى ما إذا كان يوجد أي شيء في الخارج. وتساءل إذا كانت تفوح منه رائحة الكحول.

أشارت وهي تثبت خصلة من شعرها الأشقر وراء أذنها: "هل ترى؟. هناك". كانت رقبتها تبدو نظيفة جدا. نعم، كانت هناك قطة، كبيرة، تجلس في نافذة الطابق السادس وتحملق فيهما مباشرة، بلامبالاة بغيضة. نظرا إلى تلك القطة لفترة طويلة، لأن كليهما لم يكن جسورا بما فيه الكفاية للالتفات والنظر بوجه الآخر. في اليوم التالي خابر أركادي إساكوفتش، وسأله إن كان بإمكانه محادثة لينا. سأله أركادي إساكوفتش: "لماذا يا فوفكا". لم يتمكن فلاديمير من الرد، بل نظف حنجرته، وكرر تنظيفها - وفي هذه المرة بمزيد من العزم. تنهد أركادي إساكوفتش وحول الهاتف إلى لينا.

قالت بصوت شديد الخفوت: "نعم؟".

"كم ستطول إقامتك هنا؟".

"ثلاث أسابيع إضافية".

أخبرها أنه يشعر أن من واجبه، باعتباره من سكان ليننغراد الأصليين، أن يقودها بجولة في المدينة. قالت إن أمها جهزت لها قائمة بأهم محطات المدينة. الهرميتاج، المتحف الروسي، قصر بطرس الأكبر، وقالت: "أنا لا أحب الفن حقا. ولكن ستجن أمي إن لم أطلع على هذه المواقع. قالت هذا شيء حتمي ما دمت هنا".

اتفقا على اللقاء عند المدخل، وصل فلاديمير قبل عشرين دقيقة، وكان يرتدي أفضل قمصانه، قميص ضيق مع قبة طويلة، مصنوع في هنغاريا، أما سرواله الضيق جدا فكان من صناعة ألمانيا الشرقية - وقد اشترى كل ذلك من صديقه كوستيك بالنقود التي جناها من عمله الصيفي في البناء. كان يتجول في الساحة، ويفكر لماذا لم يحضر معه الزهور. كان يود ذلك، ولكن هذا يعني أن تحملها معها وهما يتجولان في المتحف، ويبدو ذلك بمنتهى الغباء. ثم شاهدها تقفز نحوه قادمة من موقف الترام، وهي ترتدي نفس الثوب الأزرق. كان طرف التنورة ينتهي فوق ركبتيها، ومعها جزدان غريب المنظر يتدلى من كوعها، وأنفاسها مقطوعة، وهي تبتسم. وعلى الفور أسف لعدم شراء باقة الزهور. ما أن أصبحوا في الداخل، حتى أرغموا على ارتداء واقيات قدم قماشية، وبرر ذلك حارس المتحف ذلك بقوله: " لأن أرضنا تحفة فنية أيضا". فتشا في علبة ضخمة ليجدا واقية تناسب قدميهما. انتقت لينا خفافة تلائم لون ثوبها. كان المفروض ارتداء الواقيات فوق الحذاء. وتثبيتها بأشرطة تعقد حول الكاحل. راقب لينا وهي تتأمل واقيات القدم، وتبذل جهدها لتعرف كيف تعقد الأشرطة. كانت ساقاها مغطاتين بشعر ذهبي ناعم. وتمنى أن تطلب معونته لعقد الشريطين، ولكنها لم تفعل. كان المشي بتلك الخفافات صعبا للغاية. قالت لينا: "أشعر كأنني أصبحت بطة. ألا تشعر أنك تحولت إلى بطة؟".

قلد فلاديمير مشي البطة أمامها وهو يهتف: "قررر. قرر. قررر" بصوت يشبه صياح البط تماما. أغرقت لينا بالضحك حتى نبهها الحارس بحركة من أصبعه. كان من الأسهل أن تنزلق لا أن تمشي، ولذلك انزلقا عبر الغرف، بسرعة، وبالكاد توقفا للمشاهدة، حتى أن اللوحات اندمجت بنظرهما مثل فيلم كرتون، وخيالات وامضة: شموع، ومصابيح، ودروع فضية، وأثواب من المخمل، وصدور. غض نظره عن الصدور، ليثبت أمام لينا انضباطه وتهذيبه. وكان في المتحف بالتأكيد عدد كبير من المشاهدين، فهو مزدحم في جميع الأوقات، ولكنه لم ينتبه لأحد كأنهما وحيدان. فقدت لينا خفها على السلالم التي تفضي إلى طابق عصر النهضة، وتوجب عليه أن يعود عدة درجات ليستعيده. وفي هذه المرة سمحت له أن يربط لها الأشرطة.

تابعا الانزلاق، حتى وصلا إلى غرفة تضم معرضا زائرا من المتحف الوطني في لندن. وقفت لينا أمام إحدى اللوحات وبدأت بالضحك. كان اسم اللوحة "لوحة أرنولفيني" للرسام يان فان آيك. كانت المرأة حاملا، ويافعة، وترتدي شيئا يبدو كأنه ستائر ثقيلة مع ثنيات. وكان الرجل - ويفترض أنه زوجها - يرتدي قبعة ظليلة، ومعطفا من الفرو، وجوارب سوداء (جوارب!). اعتقد فلاديمير أن لينا تسخر من الثياب، فسخر منها أيضا. قالت: "هذا شيء غير طببعي". سألها: "ماذا؟".

قالت: "التشابه!. ألا يبدو الرجل في اللوحة مثلك تماما؟".

كان للرجل وجه طويل وحزين، ولا يشبه فلاديمير، والذي كان على وشك الاعتراض حينما قالت له لينا: "مثل هذا". ومدت يدها وأبعدت شعره عن جبينه. كانت يداها صغيرتين ولزجتين ودافئتين جدا، فحبس أنفاسه. أضافت: "هل رأيت؟. لديه أنفك وفمك!". قبض فلاديمير على يدها الأخرى، وضغطها بيده. بعد أن انتهيا من المتحف، رافقها إلى أفضل منصة لبيع المثلجات في المدينة، وحصلا على مثلجات في أطباق من الستانليس ستيل - ثلاث كرات تامة ومغمورة بالعصارة. التهمت لينا حصتها كلها، وكرة من حصته. سألته عن أحوال دراسته. فقال إنه في مقدمة طلاب كلية الحقوق. ولكنها لم تتأثر حقا. وقالت إنها تكره كليتها - وهي هندسة الاتصالات. وترى أن الفيزياء والرياضيات عذاب وقهر. أكد لها فلاديمير أنه يمقت الرياضيات كذلك، ولكنه يحب التاريخ، وبالأخص التاريخ السوفياتي، وعلى وجه الخصوص الحرب العالمية 2. قالت له إنها من جانبها أحبت علم النفس، مع أنه غير مدرج بالمنهاج، غير أنها تحب أن تقرأ عنه. وأعجبت بامتحان الشخصية. ثم سألته: "هل لديك قلم؟". مد فلاديمير يده بقلم حبر سائل جميل كتب عليه: إلى عزيزي فولوديا في عيد ميلاده السادس عشر. أخرجت من حقيبتها قطعة ورق (مجعدة ومبقعة)، وقدمتها له وطلبت منه أن يرسم حيوانا خياليا غير موجود في الطبيعة. قائلة: "تخيل شيئا فقط، أي شيء". والتفتت لتترك له مساحة حرة للإبداع. توترت أعصابه، ولم يكن متأكدا من نتيجة الامتحان، وتوقع أن أسوأ احتمال أن يظهر بنتيجة الامتحان مضجرا أو باردا. وقرر أن تكون رسوماته متمردة ومفصلة قدر الإمكان، وكبيرة أيضا، وتأكد أن يغطي كامل الورقة. قالت لينا حينما دعاها لتنظر: "أوي". ثم غطت فمها وضحكت. فقد رسم صورة تجمع ما بين شكل ماموث وذئب وحشرة زاحفة. وحش بدين يغطيه الشعر وله أسنان حادة، وأذنان كبيرتان وعينان لماعتان والعديد من الأرجل.

قال: "ما رأيك؟".

أجابت: "حسنا. يغلبك الفضول للتلصص على العالم - وأرى ذلك لأنك جعلت العينين والأذنين بأحجام كبيرة. وتبدو الصورة جنونية، وهذا يعني أنك تحب المغامرات".

نعم! فكر بصمت.

تابعت: "ويمكن أن تتحلى بالجشع قليلا. لأنك استهلكت مساحة كبيرة. وهذا يقلل من فرص الأمان. ويجعلك عرضة للأذى".

ماذا؟ فكر. كلا! لا بد من الإعلان عن قلقه، لأنها ابتسمت كأنها تعتذر ولمست يده.

وأضافت: "أقول ذلك لأن أيا من أرجله الكثيرة لا تلمس الأرض. انظر؟".

نعم، هي محقة. لماذا، لماذا، لم يرسم كل الأرجل وهي تقف على أرض واحدة؟.

وختمت كلامها: "وحسنا. لا يزال لدينا هذا الذيل الغزير".

سألها: "وبماذا يوحي لك؟".

احمر وجهها وتمتمت أنه يستحسن أن لا تقول. لم يقبّلها في ذلك اليوم، ولا اليوم اللاحق، حينما تنقلا في المتحف الروسي. ولكنه قبّلها في استراحة الأسبوع التالي، حينما قاما برحلة إلى قصر بطرس الأكبر. أصرت أم لينا على رؤية داخل القصر، ولكن كان طابور شراء التذاكر طويلا لدرجة غير مقبولة، ولم يكن أي منهما مهتما برؤية "أواني زهور ومقتنيات ليل القيصر". ولذلك اكتفيا بالتنقل على الأرض، معربين عن إعجابهما بكل ذلك الذهب والرخام وماء النافورات المتدفق والمنعش. هناك تواجدت قوافل من الناس، الصاخبين والمتعرقين والذين يشقون طريقهم ويستضيفون أبناءهم على أكتافهم، أو يسددون بكاميراتهم الضخمة والثقيلة. وسخر فلاديمير من كل هؤلاء البشر الذين لا يملكون أدنى فكرة عن عدم أهميتهم. حتى لو طردهم جميعا لن يغيروا من الحال أي شيء. ما دامت لينا معه. ورأى أن حيلة النوافير أفضل شيء في قصر بطرس الأكبر، فالرشاشات كانت مخبأة في أشياء لا تلفت النظر، وكانت تبدأ بإطلاق الماء على الناس بأوقات عشوائية، في لحظة غير متوقعة. قبض فلاديمير على يد لينا، وبدآ بالجري إلى الداخل والخارج، والقفز من فوق تيارات الماء، والعبور من بين الخطوط غير المرئية، بمحاولة للتحايل على خدعة النوافير، وهما يتصايحان ويضحكان، حتى ابتلا للنخاع، واضطرا للتراجع إلى مقعد، ليجلسا عليه، وهما يرتجفان ويلهثان. تبلل وجهها وأصبح باردا، وصار فمها لزجا. وتنفس جسمها وارتفعت حرارته بين ثنيات ثوبها الرطب. وبدأ القلب ينبض بسرعة جنونية. بعد تلك الرحلة، وجدا أن غنى ثقافة ليننغراد لا تهمهما، وفضلا اللقاء في زوايا بعيدة من حدائق المدينة، أو على السلالم المظلمة في أبنية لا على التعيين، وأحيانا كانا يستقلان الترام حتى آخر محطة، ثم يعودان بها، وهما يتبادلان القبلات طيلة الطريق. بعد أسبوعين ذهب والدا فلاديمير إلى مأواهما، فدعا فلاديمير لينا إلى البيت. كانت الشقة مرتبة، ومع ذلك نظفها مجددا. لمّع الأرض النظيفة، ثم ذهب بالترام إلى مركز المدينة، وتوقف في مخبز نورد - وهو الأفضل في المدينة - واشترى كعكته المفضلة، المكونة من طبقات، تلمع بالشوكولا، ومغطاة بالجوز. كان اسمها ليننغراد. وضعها في ثلاجة المنزل، واغتسل وحلق وجهه، وأغرق نفسه بكولونيا شيبر كوروليفسكي - فقد اشترى زجاجة من كوستيك قبل عام، ولكنه لم يستعملها لأنها مرتفعة الثمن جدا، وتوجب عليه شراء الزهور، ولكن لم يعد أمامه وقت، فهو يتوقع لينا في أي لحظة.

أول سؤال وجهه إليها حالما فتح لها الباب: "هل ترغبين بقطعة من الكيك؟".

هزت لينا رأسها. كانت بعيدة وهادئة وعيناها مذعورتان. كانت ترتدي بلوزة بكمين قصيرين، ولكنها داكنة تحت مكان الذراعين، وعلى وجهها باقة مربكة من الابتسامات النسائية. رافقها بجولة في الشقة اامؤلفة من غرفتين.

قال: "هذه غرفتي. وهذه طاولتي. وتلك كتبي. هل تحبين التاريخ؟".

قالت لينا: "ليس تماما". واقتربت من الرفوف وصاحت: "آه. أنا مغرمة بهذا". وأشارت إلى صورة فلاديمير وهو بعمر اثني عشر عاما، والمحاطة بإطار. لمستها دون قصد وتبعتها ابتسامة خجولة. احمر وجهه وقال إن أمه وضعتها هناك. تكلما عن والديهما قليلا، وقالت لينا إذا كان عليها وصف والديها بكلمة واحدة، عليها أن تقول " ساخطان". يتصرفان كأنهما تعرضا للحرمان من شيء هام في حياتهما. قال فلاديمير إنه يرجح أنه "التقدم بالعمر".

سألته وهي تشير لصورة مؤطرة لرجل وسيم جدا بثياب نازية: "أوي. وما هذا؟".

"هذا أليكسندر بيلوف من 'الدرع والسيف'. ضابط مخابرات روسي بثياب نازية".

سألته: "الدرع والسيف؟".

"لا أصدق أنك لا تعرفينه. فهو فيلمي المفضل".

تنهدت كأنها تعتذر.

قال: "وهذا ما جرى في الفيلم. بيلوف ضابط سوفييتي تعلم اللغة الألمانية قبل الحرب، ليتمكن من التغلغل في القوات الألمانية. وهو ذكي فعلا. وتدبر أمره لبناء مهنة ناجحة هناك خلال عام أو اثنين. ثم أرسله النازيون للعمل في معسكر الإبادة أوشفيتز، على ما أذكر. واستلم إدارة مدرسة الجواسيس".

"وهل توجد هناك مدرسة للتجسس؟".

"في الفيلم. توصل الألمان إلى فكرة تدريب مساجين روس للتجسس من أجل ألمانيا. أولا كسروا معنوياتهم، ليوافقوا على خدمة ألمانيا. ثم علموا الرجال كيف يستعملون اللاسلكي ويرسمون رسوما فنية، وعلموا النساء كيف تستعملن اللاسلكي وتعملن بالبغاء". وقد احمر وجهه ونظف حنجرته وهو يقول: "لتعملن بغايا". ثم تابع: "وحينما يكمل تجهيزهم، يرسلونهم إلى روسيا - ينقلونهم بالطائرات ويهبطون بالمظلات. ويفترض أن يمضوا وقتا هناك، لجمع المعلومات المطلوبة وإرسالها إلى ألمانيا". لاحظ فلاديمير بريقا خفيفا في عيني لينا. لم يكن من السهل جذب انتباهها، فبذل جهده قائلا: "وحينما كلفوا بيلوف بالمدرسة، عكس كل العملية. كما ترين، كان يكشف للأذكياء والأكفاء أنه في الحقيقة ضابط مخابرات روسي، وبالتكاتف جميعا يمكنهم تقديم خدمة عظيمة لبلدهم الأم. وهكذا أفسدوا الخطة وأرسلوا معلومات مغلوطة إلى ألمانيا".

قالت لينا: "أو - هووه".

"لكن تخيلي كم كانت حياته قاسية!. بلا اتصال مع عائلته، ويتظاهر أنه شخص آخر في كل لحظة من حياته، ويعيش مع الأعداء، ويمثل أنه يكسب أصدقاء من معسكر الخنازير الأشرار".

قالت لينا: "نعم هذا شيء مستحيل. ويجب أن تكون نبيها جدا، وصبورا أيضا، لتفعل ذلك".

"هذا ما أريد أن أكون عليه".

"أن تصبح جاسوسا؟".

"لا. بل ضابط مخابرات".

سألته: "حقا؟".

"كم أحببت أغنية مقدمة ذلك الفيلم - يجب أنك تعرفينها".

هزت رأسها.

نظف حنجرته، وأنشد بدايتها: 'ما هي البذرة للبلد الأم...".

قالت: "آه. نعم. طبعا. أعرف تلك الأغنية. وكم أحبها. ولكن لم أعرف أنها من الفيلم".

وغنتها بصوت متذبذب، وتوالت كلماتها:

ما هي البذرة

للوطن الأم؟.

صورة في دفتر الإملاء.

والأصدقاء الذين عرفتهم

في طفولتهم،

بيوتهم على مبعدة نصف شارع...

أمسك وجهها بيديه، وطبع قبلة على فمها، ثم حملها إلى الكنبة، وأمضيا حوالي ساعتين على تلك الكنبة (كرات من لهب أزرق تحرق كالجحيم)، قبل أن تسترخي ليدس أصبعين في سروالها.

وهنا همست: "أنا عذراء".

سألها: "هل تريدين مني أن أتوقف".

"كلا فقط أعتقد أنه يجب أن نضع منشفة تحتي. في حال سال الدم".

أسرع إلى الحمام ليأتي بمنشفة، وانتقى واحدة لا تستعملها أمه. ولدى عودته، كانت عارية، مستلقية على جانبها، بمواجهة الجدار. مد المنشفة تحت مؤخرتها. ثم خلع ثيابه، ووضع الواقي الذكري، واستلقى بجانبها. ، وقال وفمه وراء ظهرها: "سأكون لطيفا".

همست: "من فضلك. لا ضرورة لذلك. تقول صديقاتي إن ألمه أقل إذا كان الشاب عنيفا وسريعا".

ثم استلقت على ظهرها، وفتحت ساقيها، واستسلمت له كي يؤلمها. وحينما فعل ذلك، صرخت متوجعة، وتساءل هل عليه أن يتوقف أم يتابع. ولكنه انتهى قبل أن يقرر. تدحرج وقبلها على خدها. وكانت هناك ابتسامة رضا على وجهها. ثم قالت: "أنا الآن امرأة. هكذا. لا أصدق ما حصل".

قال: "نعم. وأنا أول رجل بحياتك".

"نعم. أنت أول رجل".

ذهبت لتغتسل، وتنظف بالماء المنشفة المدماة. وتبعها ليغتسل.

قالت: "دعنا نتناول تلك الكعكة الآن. هل بوسعنا الحصول عليها في غرفتك؟".

أومأ، مع أن أمه لا تسمح له بالأكل في غرفته، ارتدى سرواله، وذهب إلى المطبخ.

صاحت وراءه: "هل لديك حليب؟".

اقتطع شريحتين كبيرتين، وضعهما على طبقين نظيفين، وسكب الحليب في كأسين جاهزين، ووضع كل شيء على صينية، وحمله إلى غرفته. توقع أنها ارتدت ثيابها خلال غيابه في المطبخ، ولكنه وجدها جالسة على كنبة النوم، الساق على الساق، وهي بتمام عريها.

قالت: "كعكة جميلة".

وتناولت طبقا مع شريحة مكومة من كعكة لينينغراد. أضافت بفمها المليء: "ولذيذة أيضا". سقط ثدياها الصغيران على بطنها، وأصبحت طيات صغيرة كالأكورديون، وكان شعر إبطيها طويلا ومبتلا، وخميلتها الغزيرة قريبة جدا من طبق الكيك. ورأى فلاديمير أن هذا ليس مهذبا وغير صحي، ولكنها بدت سعيدة جدا وكانت تستمتع كثيرا وبوضوح، ولذلك لم يكن بوسعه إلا مسامحتها. وحينما طلبت المزيد، قال إنه لا يمانع المزيد، وغمز لها، فابتسمت وهزت رأسها، وقالت إنها بحاجة أولا للتعافي من ألم أول مرة.

خيم الظلام، واقترح أن يذهبا إلى غرفة والديه لمشاهدة التلفزيون. ارتدت ثيابها - حمالة الصدر، السروال، البلوزة، والتنورة المجعدة. أتى بالمزيد من الكيك، ووضعه على الطاولة، وأقعى أمام التلفزيون، ليتمكن من ضبط الزر الذي يقلب القنوات، مع أنه لا توجد قنوات عديدة. وابتهل لربه أن يجد شيئا يستحق المشاهدة، وثبت له أنهما محظوظان - فقد عاد بث سلسلته المفضلة، سبع عشرة لحظة من الربيع، وكان موعدها وشيكا!.

صاحت لينا: "سبع عشرة لحظة".

"نعم".

حمل طبقه وقبع بجوارها.

كانا يأكلان أثناء التقديم وحالما بدأ أول مشهد وضعت طبقها جانبا.

همست: "هذا المشهد المفصل عندي".

في ذلك المشهد، ظهر ماكس أوت فون شتايرلتز، ضابط إس إس (ولكنه في الحقيقة هو مكسيم آسايف، جاسوس سوفييتي)، وكان يسير في غابة مهجورة. في لحظة من اللحظات رفع رأسه وراقب سربا من اللقالق التي تطير ببطء في السماء. وكان يبدو أنه خشن، وحزين، ومتعب فعلا لأنه يمثل دور عسكري نازي. وفي الخلفية عزفت أغنية حزينة، شجاعة وعاطفية، ودامعة ومتوحشة.

سألته لينا: "هل تعلم بماذا يفكر الآن؟".

"ماذا؟".

"يحسد اللقالق. فهي حرة، وهو عالق هناك مع النازيين. ويتمنى لو أنه لقلق ليطير بعيدا معها. غير أن هذا غير ممكن".

ورأى دموعا في عينيها.

وفكر فلاديمير: هل يعقل أنني أحببتها؟.

بعد سنوات، حينما أعلن فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، أنه سيقود سربا من اللقالق، ويطير أمامها في زلاجة نارية، سأله الناس من ألهمه ذلك. وكان يعطي عدة أجوبة، ولكن ما من جواب صحيح.

لاحظ المقربون من فلاديمير أن شيئا يحدث له. أولا، سألته أمه كيف انتهت منشفة الضيوف إلى الحمام على الحامل المعدني. ثم سأله صديقه ماريك إن كان يقابل تلك البنت التي التقاها في الحفلة. أكد له فلاديمير ذلك.

سأله ماريك: "لماذا؟ حتى أنها ليست جميلة، وقوامها يشبه الكنغر". ثم حان دور أركادي إيساكوفيتش. قال له: "كلا يا فوفكا. كلا. ثق بي. لا يجوز أن تندمج مع تلك العائلة. يمكنك أن تتسلى قليلا. وهذه نهاية الحكاية. لديك مستقبل باهر أمامك. لا تسمح لها أن تضللك".

كان يعلم أن أركادي إيساكوفيتش محق. فهي يهودية. وهذا شيء غير مستحب. ومع أن الجو مختلف الآن، لكن لا يزال اليهودي أو الزوجة اليهودية شيء غير مطمئن. فكر: حسنا. ستذهب إلى موسكو خلال عدة أيام. وهذا ما هما بحاجة له. التباعد لبعض الوقت. بعض الوقت لتبرد العلاقة. في آخر أمسية لهما معا، كانا يمشيان في شوارع المدينة المعتمة. كانت ليلة باردة. ولينا ترتجف، وتلتصق به، وتمنى لو كان يرتدي سترته ليخلعها ويضعها على كتفيها. وكان الوقت قد حان ليأخذها إلى بيت أركادي إيساكوفيتش. وتوجب عليهما الركوب بالترام، ولكن لم يشاهدا أي مركبة. فجلسا على مقعد في الغرفة الزجاجية. وهناك وجدا إعلانا معلقا وراءهما عن فيلم تشويق جديد. ومن الإعلان انصبت عليهما نظرات ثلاثة ضباط مخابرات سوفييت يرتدون قبعات قماشية. أمسك فلاديمير يد لينا، وجلسا صامتين لبعض الوقت. ثم نظرت إليه وقالت: "فوفا". وذلك بصوت محمل بعاطفة جعلته يختنق.

فاجأ نفسه وقال: "دعينا نتزوج يا لينا".

فتحت فمها لتقول شيئا، ولكنه لم يسمح لها.

وقال: "اسمعي. اسمعيني فقط. سأنضم إلى الــ كي جي بي في الخريف، فقد تم اختياري. وهذا شرف عظيم. ولا تقلقي. لا بهمني أنك يهودية، لأن الزمان مختلف الآن. ولا أعتقد أنهم سيطردونني لأنني متزوج من يهودية. يجب أن أخضع لبعض التدريبات، وبعد ذلك، أمامنا احتمالات لامتناهية. وهو عمل جيد فعلا. سنشتري سيارة. ووعدوني بشقة أحصل عليها في بضع سنوات. سيكون لنا شقتنا. وستحصلين على الثياب المستوردة. وحصة أطعمة خاصة. السلامي، والكافيار. وربما أكلف بمهام خارجية. ما رأيك بألمانيا؟".

فتحت فمها مجددا، ولكنه لم يسمح لها بالكلام. كان لتعابيرها شيء ينم عن اليأس، شيء مؤلم، شيء غير مقبول. لم تكن تريد أن تقول نعم. هذا واضح. وتولد لديه إحساس أنه إذا سمح لها بالكلام، سينتهي كل شيء. ولذلك تابع الكلام. "سنعيش في بيتي لبعض الوقت. ثم سيمنحونني شقة. كما وعدوا. بعد سنتين فقط. وسيارة. وعدوا بسيارة كذلك".

كان يكرر كلامه. وتعين عليه أن يصمت. قالت: "لا يمكنني يا فوفا".

قال: "لا تقرري الآن. من فضلك. لا تقرري الآن. عودي غدا إلى موسكو. كلمي والديك. كم سنة بقي لك في جامعتك؟ بل يمكنك أن تنتقلي إلى جامعة هنا".

"لا يا فوفا. لا يمكنني. لأننا سنغادر. والداي وأنا. سنذهب إلى إسرائيل".

وبدأت بالبكاء.

سألها: "متى؟".

قالت من خلال دموعها ونواحها: "قريبا. كل الإجراءات جاهزة. وأرسلاني إلى ليننغراد لأن الجو في البيت هائج. الوالد والوالدة يتجادلان كل الوقت ويتصايحان ويصرخان بوجهي".

"لماذا يريدان السفر؟".

"لا أعرف كيف أشرح لك. والداي يقولان إنهما يضيعان حياتهما هنا. وهما يننظران هذا منذ سنوات. مرا بالجحيم للحصول على إذن المغادرة".

فكر: لعينان يخونان الوطن الأم.

تابعت: "حتى أنني لا أريد مرافقتهما".

"ابقي إذا".

"لا يمكن. لا يمكن أن أفعل بهما ذلك. أنا كل ما لديهما".

استدار وضغط بسلاميات أصابعه على جبينه. شعر كأنها تلكمه. تماما في بطنه. حصل له ذلك في حصة الكاراتيه. ولكن اللكمة كانت أسوأ الآن، أسوأ كثيرا.

"متى كنت ستبلغينني؟".

قالت: "اليوم. الليلة. من فضلك افهمني يا فوفا". ومدت يدها لتربت على وجهه، ولكنه ابتعد عنها. كانت لديها خطة طيلة الوقت، وهي تعلم أنها ستفترق عنه. كان عليه أن يسألها. سؤالا هاما. تعثرت أنفاسه.

قال: "لماذا؟. لماذا تفعلينها؟ لماذا أقمت علاقة معي إذا؟".

تحول بكاؤها إلى نحيب، وبدأت تكلمه وهي تشهق.

"لا أعلم. أعجبتني. ولم أتوقع أن يكون الموضوع جديا".

"لماذا... لم فعلت ذلك... لماذا فعلت ذلك..". (أراد أن يقول لماذا سمحت لي أن أنكحك" ولكن وجد نفسه غير قادر على ذكر كلمة "أنكحك" علانية. فقال: "لماذا تركت هذا يحدث، إن لم تتوقعي أن المسألة جدية؟".

ابتعدت عنه. لم يكن معها منديل، فمسحت أنفها بكم بلوزتها. كان هناك شيء بشع، شيء بغيض، بغيض ومؤلم. ورغب أن يضربها وبنفس الوقت أن يبكي معها. نهض من المقعد وحدق بها. قال: "لم تحبي أن تسافري إلى إسرائيل وأنت عذراء. أليس كذلك؟ أردت أن أقوم بالواجب، ليجدك الشباب اليهود جاهزة؟".

نظرت إليه مشدوهة، ونهضت. كانت طويلة إلى حد جنوني، ووجها كان منفوخا وبشعا بشكل غير منطقي. سد طريقها. قالت له: "أفسح الطريق".

لم يتحرك.

دفعته جانبا وبدأت بالجري.

كان الممثلون ينظرون إليه من الإعلان، ويسخرون منه من تحت قبعاتهم القماشية. فكر: جواسيس قذرون. وضرب الوجه الغبي الذي توسط البقية.

في التاسعة والنصف صباحا ازدحمت محطة قطارات موسكو في ليننغراد بأشخاص واقفين، ويمشون، ويركضون. أغبياء، عديمو المشاعر مع حقائب كبيرة وأولاد يعولون. الجو حار تفوح منه روائح العرق والبول والثياب غير النظيفة. كان موعد انطلاق قطار لينا في العاشرة والنصف صباحا (سأل فلاديمير أركادي إساكوفيتش أن يتأكد من بطاقتها). وصل فلاديمير باكرا، لأنه لا يعرف ماذا يفعل حال وصوله. كان يعلم أنه يريد مشاهدة لينا مرة أخرى، ولكنه لم يكن متأكدا أنه يريد أن تراه. نظر إلى بناء المحطة الأصفر، وتذكر حقيقة مدهشة تعلمها في المدرسة. أن مقر محطة موسكو في ليننغراد ومحطة ليننغراد في موسكو متماثلان تماما. الابنية متماثلة في مدينتين مختلفتين. يا لها من فكرة حمقاء!. آلمته يده. فقد كسر الزجاج حينما ضرب الإعلان وتسبب له بجروح عميقة واستغرق النزيف وقتا محسوسا قبل أن يتوقف. سألته أمه وهي تطهر جرحه: "هل تورطت بمعركة مجددا؟ هل كانت من أجل بنت؟". كان كشك المثلجات مفتوحا. ذهب فلاديمير واشترى لنفسه فطيرة الإسكيمو. كانت حلوة وباردة. آلمته أسنانه. ولكنه التهمها بسرعة. ألقى الورقة والعود في علبة النفايات ونظر إلى الساعة. كانت العاشرة - حان الوقت ليذهب إلى المنصة. مر برجلين جورجيين يبيعان الزهور. طلب التوليب الأحمر. حاولا خداعه بعشرين كوبيكا، ولكنه انتبه في الوقت المناسب. كان قطار موسكو واقفا، يجلل لونه الأخضر الغبار، وتفوح منه روائح زيت الآلات. ذهب إلى وسط الرصيف، واختبأ وراء عمود ضخم. توقف هناك عشرين دقيقة أو حوالي ذلك، وهو يستند على الرخام البارد. راقب العابرين مثل جاسوس. ونظر إلى يده المربوطة وفكر: جاسوس جريح. ولاحظ أن التوليب يذبل، ولا بد أنه غير طازج - في النهاية غشه الجورجيان. شعر بالعطش وأراد أن يتبول. ثم شاهد لينا وهي تشق طريقها على الرصيف، مرتدية نفس الثوب الأزرق الذي ارتدته حينما تقابلا. وكانت تنوء تحت حمل حقيبة جلدية كبيرة. أوشك أن يسرع إليها غريزيا ويساعدها بحملها، ولكنه تقهقر إلى الخلف. اقتربت من باب عربتها، وضعت الحقيبة أرضا، وقدمت التذكرة إلى المفتش. بينما فحص المفتش التذكرة، أخذت لينا نظرة مما حولها، كأنها تبحث عنه. وبدا أنها كانت تنظر نحوه. تراجع خطوة إضافية. ثم تذكر أنها حسيرة النظر، ولا يمكنها رؤيته. دق قلبه بسرعة كبيرة وعصرت يده الزهور حتى عجنتها بالعرق. أعاد المفتش التذكرة إلى لينا، فحملت حقيبتها على السلالم، وصعدت بنفسها. كان مقعدها في عربة 4. عد فلاديمير النوافذ ليحدد مكانها، كانت الستائر مغلقة. وانتظر أن تفتحها لينا، وتنظر من النافذة، ولكن استمرت مغلقة. هدر القطار وتقدم. وزحفت عربة لينا مبتعدة عنه. ثم ظهرت لينا عند الباب مثل معجزة، وهي تمسك المقبض، بساق طويلة على السلالم، والثانية مختبئة وراءها. ومدت رقبتها لترى الرصيف بشكل أفضل. أسرع القطار. وأراد أن يجري نحوها، أن يعدو وراء القطار، وأن يناديها، ولكنه بقي واقفا هناك كأنه متجمد، وهو يعصر التوليب. وبعد اختفاء القطار، ألقى التوليب على أرض الرصيف وعاد إلى المحطة.

ما هي بذرة الوطن الأم؟.

صورة في دفتر الإملاء.

الأصدقاء الذين تعرفهم في طفولتهم،

البيوت على مبعدة نصف شارع...

أو، ربما كانت بذرة الوطن الأم

الترنيمة التي تنشدها أمك،

الذكريات أقوى من الحياة

ولا يمكن سلبها منك.

***

............................

*وردت كما يلي She rolled her r’s. وحرف الراء هنا يشير إلى آخر حرف من كلمة more، بمعنى المزيد. ويقابلها باللغة العربية حرف الدال.

* القصة منشورة في غرانتا عدد 137.

لارا فابنيار Lara Vapnyar: كاتبة روسية من مواليد موسكو. تعيش حاليا في الولايات المتحدة. صدر لها: هناك يهود في بيتي 2006 ، بروكولي وحكايات إضافية عن الطعام والحب 2008، رائحة الصنوبر 2014، ما زلت هنا 2016، وغيرها...

 

قصة: إيمبولو مبوي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قال أبي:

- عندما أموت، لا تعيدني إلى الوطن. ادفنيني هنا. جلست على سريري وفركت عينيّ، وأنا أنظر بسرعة إلى هاتفي

همست:

- بابا. ماذا يحدث هنا؟ إنها الساعة الثانية صباحا.

قال:

- أريدك أن تعرفى هذا الآن. لا أستطيع النوم. مهما فعلت، لا تأخذي جثماني إلى الكاميرون.

نظرت في ظلام غرفة نومي، ثمة ضوء سيارة إسعاف عابرة ينيرها لفترة وجيزة. وصلت إلى المصباح لكنني أبعدت يدي، وقررت أن الظلام سيكون أفضل لمحادثة مثل هذه.

سألت:

- ماذا قال لك الطبيب عند فحصك بالأمس؟ هل توقفت عن تناول دواء ضغط الدم مرة أخرى؟

- لا. لا شيء من هذا القبيل. أنا بخير. يقول الطريقة التي أسير عليها قد تجعلنى أعيش لأرى اليوم الذي يذهب فيه الناس إلى المريخ لتناول العشاء هناك.

لم أضحك ولم يضحك هو أيضًا، على الرغم من أنه من الواضح أنه جعل النكتة لنفسه.

- بابا، يجب أن أكون في العمل الساعة فى السادسة صباحًا، لذا أرجوك قل لي الآن لماذا تتصل بي في منتصف الليل لإعطائي هذه الوصايا الغريبة.

لم يرد على الفور.

- هل ستتكلم الآن، أم تريدني أن أقود السيارة إلى بروكلين غدًا

تنهد.

- أنا فقط

واصلت الانتظار.

- أريد أن أبقى هنا معك ومع أختك. لم يبق لي شيء في الكاميرون.

- لم يبق لي شيء. لم يتبق شيء لأي منا في الكاميرون يا أبي. فقط قبر أمي. وقبور الجد والجدة. هل تخبرني أنك لا تريد أن تدفن بجانبهم؟

- من فضلك لا تحاولى أن تحرجينى. لست فى حاجة إلى ذلك.

- أنا لا أحاول إحراجك! عندما ماتت أمي كنا نسافر لمدة ثلاثة أيام ونقود على هذا الطريق الرهيب الوعر حتى نتمكن من دفنها في المدينة التي ولدت فيها. وسأفعل نفس الشيء من أجلك، لأنه إذا كان هناك شيء كررته علي مرارًا وتكرارًا، فهو أن الرجل يجب أن يُدفن في بلدته، وسط أهله.

- أذهب إلى قبر أمك كل ليلة. أجلس هناك وأقول ليلة سعيدة قبل أن أغلق عيني. أفعلها كل ليلة.

ثم شخر ولم يقل أي شيء لبضع ثوان.

التزمت الصمت أيضًا، تخيلته جالسًا بمفرده في سريره، والأنوار مطفأة، وهو يتحدث إلى الهواء، على أمل أن تتطاير كلماته بطريقة ما فوق المسطحات المائية وعلى التلال والسهول والوديان وتصل إلى قبر أمي. لم يذهب أحد منا إلى هناك منذ دفنها قبل عشر سنوات. لم يقم أي منا بزيارة الكاميرون منذ ذلك الحين.

- أعدك يا أبي، سأعيدك إلى الوطن وأدفنك بجوار أمك. إذا كنت تخبرني بكل هذا لأنك لا تريدني أن أعاني الكثير من المتاعب عند دفنك.

- أنا أخبرك لأن هذا ما أريده. أريد أن أدفن هنا في بروكلين.

- هل تخبرني أنك تريد أن تدفن بجانب الغرباء، وهناك مكان مُعد لك بين زوجتك وأمك؟

قال بهدوء:

- نعم، أنا أخبرك أنك وأختك هما كل ما تبقى لدي، ومن الآن وحتى يوم زواجك وإنجابك الأطفال، وحتى بعد ذلك، لا أريدك أن تكون بدوني. والدتك بعيدة هناك في القرية، لا أريد أن أتركك وحدك هنا في بلد رجل آخر.

(تمت)

***

.........................

المؤلفة: إيمبولو مبوي /Imbolo Mbue: ولدت الكاتبة الأمريكية إمبولو ميبى عام 1982 فى مدينة ليمبى بجمهورية الكاميرون ثم انتقلت إلى أمريكا وهى فى سن السابعة عشرة من عمرها واستقرت هناك حيث حصلت على البكارليوس من جامعة روتجرز والماجستير من جامعة كولومبيا، وقد حصلت على الجنسية الأمريكية عام 2014 لتصبح الكاتبة الأمريكية من أصل إفريقى، وتقيم الآن فى مدينة نيويورك، فى وسط مدينة مانهاتن وتعمل فى جامعة كولومبيا. ظهر أول عمل أدبى لها عام 2014 و هو قصة قصيرة بعنوان (إيميك) ثم كانت روايتها الأولى التى جلبت لها المال والشهرة معا (حصلت الرواية على جائزة قيمتها مليون دولار) ها هم الحالمون عام 2016. والقصة التى نترجمها اليوم ألقتها الكاتبة عام 2017 م بمناسبة تكريمها عقب نشر روايتها المذكورة ونشرت القصة بعد ذلك فى مجلة الادب الكاميرونى بكوا. وفيما رابط القصة:

https://bakwamagazine.com/featu.../a-reversal-by-imbolo-mbue

 

بقلم: الشاعرة اليونانية كاترينا آكليكي / ΚΑΤΕΡΙΝΑ  ΑΓΓΕΛΑΚΗ

ترجمة: جمعة عبد الله

***

الشبق الأخير

كل قطرة منك يجف فيها الحب

بريقه ينطفئ

كالضوء المنخور

مثل العربة بلا قدمين

الامواج

البحر الابدي

حياة / موت

الحياة تفقد ديمومتها

مثل العظام التي تتكسر

مثل قصب الصيف

الغواية تتبدد في الظلام

مثل المصابيح التي تفقد أنوارها

جسدك

ممتنع / محظور

أنا انكمش

مثل التجاعيد الظاهرة

كأني أفقد وجودي

الايام تتضاعف في حملها

كخدوش الرمال الخشنة

الجراح تكبر

التدمير

أنا أرفض التدمير

لكنه وقع

مثل الجرة التي تتكسر

ويخرج منها الداخل / الخارج

الجسد يتكور / يتكلس

كالحجر

في الغرفة افقد السيطرة على الأشياء

تخرج عن ارادتي

مثل الرمان حينما ينفلق

وتتبعثر حباته

اتضور جوعاً

من مضاعفة الحرمان

أطير / خفافيش مرعوبة

الشباب

أجنحته تسقط في العتمة

***

......................

* الشاعرة اليونانية كاترينا اكليكي Κατερινα Αγγελακη / 1939 - 2020 ) شاعرة معروفة بشكل واسع في الاوساط الثقافية والأدبية، على صعيد المحلي والعالمي، وحصلت على جوائز ادبية كثيرة في تجربتها الشعرية  على صعيد المحلي والعالمي.

ترجمهما عن الألمانية والبرتغالية جميل حسين الساعدي

من الشعر الألمانــي

مقابر الأمـــــــــراء

كريستيان فريدريك دانيال (1)

***

هنـــا قــدْ حلَّ أهــلُ الكبريـــــاءِ

مِن الأمــراءِ في هــذا العــــراءِ

*

نعوشــاً ضمّــها قبــرٌ وكانــــوا

هــمُ الأصنــام في دنيا الريـــاءِ

*

شُعـــاعاً مُفزعــأً ألقـى عليــــهِ

نهــــارٌ شاحبٌ واهــي الضياءِ

**

فها هُمْ هامــــدونَ هنــا رقــودٌ

زبانيــــةُ الأنـــامِ كما الحديـــدُ

*

فمـــا يبكــي لفقدهــمُ مُحـــــبٌّ

ولا يرثيهـــمُ حُزنــاً مُــــــريدُ

*

فُرادى في قبورٍ مـــن صخورٍ

وذلٍّ فـــاقَ مــا ذاقَ العبيـــــدُ

**

وجدرانٍ كجــدرانِ السجـــونِ

تطوّقهـــمْ وذا حكــمُ المنـــونِ

*

عتــــاةٌ لـمْ يحسّوا أو يخافــوا

وعيدَ الدينِ ينذرُ فــي يقيــــنِ

*

لقدْ حسبـوا كرامَ النــاسِ بُهْماً

تُســــخّرُ للمصالحِ كًــلَّ حِيـنِ

**

جماجمُ قد عجزنَ عنِ الجوابِ

ذوتْ نظراتُهــا تحتَ التــرابِ

*

هنــا انظفأتْ وكانتْ في تعالٍ

تلّوحُ بالوعيــــدِ وبالعقـــــابِ

*

لِمنْ هوَ دونها وتشيعُ رعبـــاً

بإيماءاتهــا مِنْ كـلِّ بـــــــابِ

*

فإيماءاتُها للنــاسِ تعنـــــــــي

حياةً أو مماتــــاً فـي عـــذابِ

**

وثمّـةَ في الترابِ يدٌ لواها ألْـ

تعفّــــنُ فانحنتْ نحــوَ العظامِ

*

وكمْ مِنْ قبلُ قدْ آذتْ حكيمـــاً

إلى العرشِ اشتكى ظلمَ الطغامِ

*

ببضعةِ أحرفٍ خُطّـتْ رمتــهُ

بأغلالٍ غـــــلاظٍ فــي الظلامِ

**

وصدرٌ قد تحوّلَ ساقَ ميْـتٍ

وكــانَ يلفّـــهُ ثوبٌ مُـذهّـــبْ

*

عليهِ نجمــــةٌ قــدْ زيّنتـــــــهُ

ونيشـانٌ علـى دنــس ٍمُركّبْ

*

كأنّهمـــا إذا لاحــــا لعيـــــنٍ

من اللمعـانِ أشبهَ بالمُـذنّبْ (1)

***

..........................

(1) كريستيان فريدريك دانيال شوبرت شاعر وعازف ومؤلف موسيقي وصحفي ألماني، ولد في. 24.03.1739 في أوبرسونتهايم وتوفي في 10.10.1791 في شتوتغارت عن عمر يناهز الثانية والخمسين، ويعتبر احد الاسماء المهمة في الحركة الادبية المسمّاة ب( العاصفة والإندفاع)، التي بدا كل من غوتة وشيللر نشاطه الأدبي فيها، وأهم ما تدعو إليه هذه الحركة هو العودة إلى الطبيعة بدلا من الحضارة، والأصالة بدلا من التقليد، والدين بدلا من السخرية والعاطفة بدلا من العادات الرسمية . لم ينشر الشاعر في حياته سوى ثلاث قصائد وهذه واحدة منها، وقد أحدثت وقتها دويّا في الأوساط الثقافية والأدبيه، لما تضمّنته من نقدٍ لاذع للأمراء الذين يحكمون ألمانيا، وكان الشاعر شيللر يحملها معه أينما ذهب مكتوبة على قصاصات ورقية وقد ألهمته هذه القصيدة مضافا إليها أفكار عصر التنوير كتابة مسرحيته الشعرية الشهيرة (اللصوص)، التي جسّدت الرفض المطلق للسلطة المطلقة، والنزوع تحو الحرية ألإنسانية من الإضطهاد والظلم الإجتماعي.

وأحبّ أن أنوّه إلى أنّ القصيدة طويلة وقد وقع أختياري على هذه المقاطع التي أراها معبرة عن روح القصيدة ككل.

(1) المذنّب: هو جسم جليدي، حين يدخل في مجال جاذبية الشمس، تزداد حرارتهُ ممّا يسبب انصهار القطع الجليدية، فيصبح ذيلاً برّاقاً يزداد كلّما طولهُ اقتربَ من الشمس.

..................................

النص الألماني

Fürstengruft

Christian Friedrich Daniel Schubart

**

Da liegen sie, die stolzen Fürstentrümmer,

Ehmals die Götzen ihrer Welt!

Da liegen sie, vom fürchterlichen Schimmer

Des blassen Tags erhellt!

Sie liegen nun, den eisern schlaf zu schlafen,

Die Menschengeißeln, unbetraurt!

Im Felsengrab, verächtlicher als Sklaven,

In kerker eingemauert.

Sie, die im ehrnen busen niemals fühlten

Die schrecken der Religion

Und gottgeschaffene, beßre menschen hielten

Für Vieh, bestimmt zur Fron;

Da liegen Schädel mit verloschnen Blicken,

Die ehmals hoch herabgedrot,

der Menschheit Schrecken!- Denn an ihrem nicken

Hing Leben oder Tod.

Nun ist die Hand herabgefault zum Knochen,

Die oft mit kaltem Federzug

Den Weisen, der am Thron zu laut gesprochen,

In harte Fesseln schlug.

Zum Totenbein ist nun die Brust geworden,

Einst eingehüllt in Goldgewand,

Daran ein Stern und ein entweihter Orden

Wie zween Kometen stand.

.......................

من الشعر البرتغالي

قواعد لمن يريدون أن يعيشوا بســــــــلام *

Dom João Manuel

***

اسمعْ وانظرْ واصمتْ

كيما تعيش بدون قلق

عليك أن تغلقَ بابك

وتمتدح َجارك

لا تفعلْ كلَّ ما تستطيع

ولا تتحدثْ بكلّ ما تعرفـــه

ولا تحكمْ على كلّ ما تراه

وإياكَ أن تصدّق كلّ ما تسمعه

إذا كنت تريد أن تعيش في سلام

فعليك أن تراعي ستة أشياء:

عندما تتحدث ، كنْ حذراً

مع من تتحدث وأين ومتى

لا تثقْ أبدا ، بل كنْ صادقا مع نفسك

لا تحاولْ الإساءة إلى أيّ شخص

ولا تمكثْ طويلا في السوق

لا تضحكْ على من يمرّ بجانبك

فكلّ الذي ترتديه هو لك

لا تسبّ فاعلي السوء

لا تجلسْ على جحش

لا تتباهَ بزوجتك

ولا تكنْ محتالا ً ايضا

لا تجادلْ بدون سبب

فيوما ما سيبيّض شعرك

وفكاك يبقيان سليمين

***

...........................

النص البرتغالي

Regras para quem quiser viver em paz

Ouve, vê e cala,

e viverás vida folgada.

Tua porta cerrarás,

Teu vizinho louvarás,

quanto podes não farás,

quanto sabes nã dirás,

quanto vês não julgarás,

quanto ouves ná crerás,

se queres viver em paz.

Seis coisas sempre vê,

Quando falares te mando:

De que falas, onde e quê,

e a quem, como e quando.

Nunca fies nem perfies,

Nem a outro injuries,

Não estejas muito na praça,

Nem te rias de quem passa,

Seja teu tudo o que vestes;

a ribaldos nã doestes,

não cavalgarás em potro,

nem tua mulher gabes a outro;

nã cures de ser picão,

nem travar contra razão.

Assim lograrás tuas cãs

Com tuas queixadas sãs.

***

Dom joão Manuel

.......................

* يعود تأريخ كتابة هذه القصيدة الى القرن السادس عشر وتنسب الى كاتب وشاعر ودبلوماسي برتغالي Dom João Manuel

بقلم: روبن روم
ترجمة صالح الرزوق
***

قال أخوها مايكي إن الحفرة لن تقود إلى الصين، ولكنه كان على الدوام مخطئا. بالإضافة إلى أن مايا شعرت بشيء فوق التراب، مثل رجفة في الهواء. وكذلك احتك الرفش بشيء مختلف، حينما وضعته فوق البقعة، مثل خشب على بيانو، بعد أن تضرب بيدك المفاتيح.
عموما الجميع يعلم أن حفرة لا تقود إلى الصين، ولكن هذه هي المشكلة. الحفرة تقود إلى مكان ما، أي مكان، فلماذا لا يكون لديك عقل منفتح؟.
لذلك لم يفاجئها، ولم يند عنها صوت مثل بقية البنات، حينما وجدت وراء الحفرة التي تصنعها حفرة بعدها، على شاكلة نفق مبطن بالقماش. أحكمت مايا عقد رباط حذائها، ودست دراعتها العلوية الصفراء في جينز أخيها القديم، وهبطت.
للثقب رائحة الطين وماء الأنهار، مثل أشنيات في حوض أسماك معدني. زحفت في نفق القماش، فقادها إلى الأسفل، فالأسفل. حتى أصبحت الأرض غضارية، واختفى القماش، وبدأ النفق، والذي كان مضاء بمصابيح فضية صغيرة، يلمع كالنحاس الذي يتخلله رمل وصدأ. لمست مايا الجدران بيدها، ثم انتبهت الجهة الأنسية من جلد أعلى ذراعها، مثل جلد النمر.
انتهى النفق إلى غرفة منحوتة في صخور سود براقة، ورأت مايا في الجدار مكتبة مزدحمة بالبرطمانات. نظرت في الزجاج الذي غلفه الضباب، ورأت في كل منها نحل العسل.
كان هذا وقت موت نحل العسل. وتعرف مايا الكثير عنه من حديقة أمها، لأنه بعد موت ريجي شقيقها، وكان أكبر منها، تشكل عند أمها قناعة جازمة أن المدينة هي التي قتلته، وقررت الانتقال مع التوأم الأصغر إلى بيت متواضع تعلوه قبة، وكان معزولا في مروج خضراء في الشتاء، وذهبية صفراء في الصيف. وفي حديقته خميلتان من أشجار صنوبر قديمة وكوخ متهدم، وكان يبعد خمسا وأربعين دقيقة عن أقرب بقالية. وهنا وجدت النحل. نحل وأفيدات ودعسوقات وبعوض وقمل الغابة ودودة البطاطا وعناكب تنسج ااشباك لتصطاد قطر الندى. وكانت تعرف مهاية حياة النحل لأن أمها في صباح أحد الأيام ألقت من يدها الجريدة وأخبرتها أن: "النحل يموت". وأضافت دون نحل لن يكون لدينا فواكه ولا خضار. قال مايكي: شيء جميل. وهذا يعني أنه لا مزيد من حبال الفول. ولكن شعرت مايا بالتوعك.
همست مايا للنحل الموجود في المكتبة: "مرحبا. مرحبا. مرحبا". تحركت من برطمان إلى برطمان، وتكلمت مع كل نحلة على حدة. حاولت النحلات تسلق جدران الزجاج، وتعلقت بالفراغ القليل المتوفر، ثم قبعت في قاع البرطمان. جاهدت أن ترى وجوهها، وعيونها السود، لكن كان الغبار يغلف الزجاج.
حملت أحدها ومسحته. رأت النحلة حزينة، وهي تتمسك بزاوية البرطمان بأقدامها اللزجة. أزالت الغطاء المثقوب. نهضت النحلة، كما لو أنها مربوطة بخيط فوقها. جمدت لحظة ثم انطلقت نحو وجهها كالسهم. آلمتها بقعة تحت عينها، وبدأت تترنح كما لو أنها جرت ستارة غير مرئية فقد أصبح ريجي أمامها تعلوه ثلاث بالونات خاصة بالمستشفيات، وكانت مربوطة بمعصمه. كان يرتدي ثيابا قصيرة. وغطى ساقيه الشعر أكثر مما كان عليه الحال وهو على قيد الحياة. وكان وجهه نفس وجه صبي ابن اثني عشر عاما. كانت أمها تسمي هذه الوجوه خدود التفاح. كانت البقع تحت عيني ريجي تجعله دائما يبدو منقطع الأنفاس. ولكن الشيء الغريب، أنه أمكنها أن ترى من خلاله، كما لو أنه حاجز شفاف أمام زجاجات النحل. ورافق مرآه، مع بالونات المصحة، الشعور باللدغة التي تلقتها على خدها، وهو ما جعل صدرها يرتعش. كانت قدما ريجي حافيتين ومغبرتين. وقشرة من جلد أبيض جاف تغطي شفتيه. قال: "لا تفتحي البرطمانات"، وقبض على أجنحة النحلة وهي في الهواء.
سألته مايا: "ماذا تفعل هنا؟". وحررت طرف قميصها. نفضت التراب عن صدرها وشعرها.
كشط الجلد المتيبس على شفتيه. ورأت على وجهه ملايين النقاط البيض والسود. وكان شعره بلون قشدة الحليب. أرادت أن تلمسه، فهو أخوها الكبير، ريجي، أخوها الذي كان هناك في سرير المصحة، وتفوح منه روائح غبار الأدوية ومنظفات المغاسل، ولكن في الصباح كان قد رحل. قبل عام أخبرتهم أمها أن "ريجي رحل". وذلك صباحا في وقت الاستيقاظ وكان وجهها أحمر من البكاء. منعت مايا من تسريح شعرها، وذهبت إلى المستشفى بشعر أشعث. ولكن لم يشاهده أحد. لا أحد رأى ريجي الميت. ولربما لم يكن ميتا، ولعله ذهب إلى مكان ما، بعيدا ليصطاد النحل ويحبسه في نفق تحت الأرض.
أرادت مايا أن تلمسه، فقط من كم قميصه الرقيق ظاهريا، ولكنه أصبح مشعا - كأنه في دائرة الضوء على خشبة مسرح - وتوجب على مايا أن تتراجع. فالأصوات التي سمعتها لا تعود لأشخاص تعرفهم. عويل أجوف، كما لو أن النحل يشتمها، أو أن أجنحتها تخفق بآلاف الأصوات.
قال: "اذهبي يا مايا". انتصب شعره، بخصل تشبه أعواد ثقاب صغيرة يعلوها لون أحمر. ومع أنها رغبت أن تبقى في الحفرة، مع أخيها والبالونات والنحل، شعرت بنفسها تنسحب من الغرفة بالإكراه إلى الخلف، عبر النفق الغضاري، حتى النفق المبطن بالقماش، ثم إلى المرج، حيث وقف مايكي وهو يبول في أجمة ورود.
دار حول نفسه وأغلق فتحة بنطاله. قال لها: "رأسك مجلل بالقذارة". وحرك رأسه كأنه يضحك مبرزا أسنانه البيض الصغيرة. لكنه لم يكن يضحك. ولم يصدر عنه أي صوت.
مرت مايا من الباب الرقيق باتجاه غرفة المعيشة، صدر أنين عن ألواح الأرض، كان البيت شديد البرودة بسبب إغلاق أغطية النوافذ، وشاهدا أمهما تجفف المغسلة.
قالت مايا: “رأيت ريجي للتو". لم تلتفت أمها نحوها. لكن قالت: "هل وجدتما سكين المعجون الصغيرة. فقد أفسدت هذا الطرف".
لم يرد ذكر أبيهما أيضا. كان بحارا. وكل ما سمعته من أمها أنها استمتعت بحياتها حينما كانت أصغر بالعمر، ولكن للأسف انتهى وقت اللهو الآن.
عادت مايا في تلك الليلة بعد الغداء إلى الباحة. كان مايكي يشاهد التلفزيون، وأمها نتابع مشكلة المغسلة. فاحت من المغسلة رائحة زهور متفتحة. ذهبت مايا إلى كوخ الحديقة، وحملت مصباح أمها اليدوي. زحفت عائدة إلى الأسفل، وتمكنت من العودة إلى مكان النحل. وكان ريجي وبالوناته هناك، واقفا فقط. قال: "لقد رجعت. هل تودين المشاركة بلعبة خاصة؟". وفك قطعة قماش أحمر وأخرج حزمة بطاقات. لم تكن مختلفة عن غيرها، ولكنها بطاقات شركة طيران، من النوع الأزرق.
قالت: "ماذا؟ هذه بطاقات لعب؟".
قال: "أعلم أنها بطاقات. ولكنني جلبتها معي. وجدتها في الطرف الآخر من النهر". أصبحت قدرة مايا على النظر من خلال ريجي أمرا أقل غرابة الآن. وفي الحقيقة أقرب لشيء جيد. بإمكانك أن تشاهد ريجي وما وراءه، وتصادف أنها صفوف النحل.
قالت مايا: "كان بمقدوري أن أجلب لك بطاقات. يمكنني أن أحضر لك عدة أشياء".
قال ريجي: "كلا. ستوقعينني بمشاكل".
لم تعرف ماذا تقول له مايا. واكتفت بالنظر إلى البرطمانات.
"علي أن أكتفي بما عندي. فهي جزء من الخطة".
قالت: "لا يمكن لهذه النحلات أن تعيش هنا". اعتادت هي وريجي حبس الحشرات الصغيرة في البرطمانات حتى تختنق، ثم كانا يحاولان إنعاشها بشراب السعال. ولم ينجح ذلك. دائما لديهما الكثير من الحشرات الطائرة الميتة.
قال ريجي:"اسمعي. أنا في حياتي الأخرى. الأفضل لك أن تستغيثي. لست أنا من وضع القوانين". كان وسيما، أخوها، بعينيه الضيقتين وفمه الوردي. وقبل مرضه اعتادت البنات مخابرته، ما أن يعود ريجي من المدرسة إلى البيت حتى يرن الهاتف. وعندما مات جاءت جماعة من المراهقات بخدودهن المخملية للاشتراك بالجنازة. وأصابت إحداهن هستيريا وتوجب عليها أن تتنفس باستعمال كيس بينما بقية البنات يتصايحن لتتمسك بأذيال الحياة. قال: "ليس من المفترض أن تزوريني قبل أن تموتي". وسحب البطاقات من العلبة، وحركها بين راحتيه مع صوت خشخشة خفيف.
تابع: "هل أنت ميتة؟ آه. لا. لا أعتقد ذلك".
رأت مايا شريط المصباح الذهبي القصير في غرفة ريجي القديمة. انحنت لتلتقطه، ولكنه كان حارا وحارقا. صاحت من الألم.
قال: "عليك أن تنصرفي يا مايا".
كان صوته عميقا وجازما. فتحت فمها لتعترض، ولكن عصف بها مجددا شيء ما. مهما فعلت، لم يمكنها التمسك بأي شيء. كان النفق ناعما وغضاريا، ومن هناك انتقلت إلى الخارج، وتسللت من الفجوة وأصبحت فوق الأرض. في هذه المرة أرادت الهبوط مباشرة. ولكن جاء تيار قوي من الأرض، ولم يمكنها تحريك ولو ساق واحدة. كانت مايا تسأل بين حين وآخر: "أين أبي؟". ولكنها لم تحصل على جواب مقنع. كان الدبوس في شعر أمها يبدو مثل حيوان بني لماع ويقرض جمجمتها. حينما عاشوا في بيت السرطان، ارتدت أمها ثوبا أبيض ولونت شفتيها بطلاء أحمر، ولكن في الريف هنا لا تستعمل المكياج. ويبدو وجهها مبقعا ومخططا. بعد موت ريجي، كانت، لبعض الوقت، تصحب معها من المستشفى رجلا إلى البيت. وهو برداء أزرق. وحاليا الرجل الوحيد الذي يأتي هو والد الصغار الذين يسكنون في نهاية الطريق. ولمرة في الشهر أو ما يعادل ذلك كان يصحب أمها لسهرة، ثم عاد إلى زوجته، وهي امرأة فقدت حاجبيها.
قالت أمها بذهن شارد: "ليس لك أب، ولكن لديك أم. أخبرتك من الأفضل أن تنصرفي".
كانت تودع كل البرطمانات في الخزانة. الدراق مع الدراق، وصلصة المعكرونة مع صلصة المعكرونة. والبرطمانات تشبه البرطمانات التي رأتها في الحياة الأخرى.
سالت مايا: "ماذا كان اسمه؟". حملت الأم علبة فاصولياء واستبدلتها ببرطمان زيتون. ثم قالت دون أن ترفع عينيها: "السيد كرات القذارة". في المرة السابقة حين سألت مايا عن اسمه أجابت أمها: فرانك المستمني.
كررت مايا: "السيد كرات القذارة".
قالت أمها: "لا تشتمي. وإلا سأغسل فمك بالصابون". وراء بيت مايا بيت آخر مهجور ومائل. لم يكن مثيرا للاهتمام، كأنه بيت متنقل، ولكنه مزود بأرجوحة ذات مقعد واحد من الألومنيوم. خرجت مايا في الظلام لتجلس فيها. فكرت بعدة أمور، وتساءلت: من هو الله، ولماذا يموت النحل، وهل يموت النحل بالفعل، لتنضم لبقية الأخوة الأموات تحت الأرض، وهل يبدو ريجي سعيدا في حياته الثانية بعد موته. ربما الأحوال أفضل في الأسفل بوجود الحرارة المرتفعة وطنين النحل. وربما يعرف ريجي أجوبة لا تعرفها مايا، وهل بمقدورها أن تهبط إلى هناك وتبقى؟. اقتربت من الحفرة، ولكنها كانت مسدودة. ولم تجد رفشها فقد اختفى. حينما أفاقت في اليوم التالي، تصادف أنه يوم الإثنين أيضا. وهذا يعني أنه يوم حافلة المدرسة وستقابل حتما الصبي الذي يعيش في نهاية الشارع وله قدمان رائحتهما كالجبنة. اليوم مر بها. كانت مايا تحب المدرسة. لمعلمتها جدائل كبيرة، أكبر جدائل في العالم. وكانت البنت الأكبر بالعمر سيندي، والتي تتأخر، تعرض على مايا كل الندوب التي تتسبب بها لنفسها. فقد حفرت أرقاما على ساقيها وذراعيها. وهذه الأرقام تشير لأسماء أشخاص هي تحبهم. في الأسبوع الماضي أحبت رايك دونالدز، وحفرت على فخذها الرقم 47 لأن كلمة رايك مكونة من 4 حروف ودونالدز من سبع حروف.
لم تفوت مايا حافلة العودة إلى البيت. ولم تفعل ذلك لأن سيارة أمها عبارة عن عربة مغلقة محطمة، ولا تعمل، وحاليا مركونة تحت موقف السيارات ومجللة بغطاء. قالت لها أمها: إذا فوتت الحافلة، عليها أن تنام في المدرسة. ولكن في تلك الأمسية أغلق الحارس غرفة استراحة البنات دون أن ينظر إلى داخلها. وبعد فترة أطلقت سراحها إحدى المعلمات، وكانت الحافلات قد ذهبت منذ وقت بعيد. توجهت مايا نحو البيت على الأقدام، ومرت بشارع البيوت الصغيرة، واستنشقت رائحة نار أشعلها أحد الأشخاص. جرت أعلى قدمها فوق الإسمنت بعد كل خمس خطوات، لترى كم يلزمها من وقت لتثقب حذاءها. ولم تستغرق طويلا. فالثقب كان نافذة ملائمة لأصبع قدمها.
وعندما تضاءل عدد البيوت وبدأت الغابة تحتل مكانها، عاود مايا نفس الإحساس. الإحساس بيدها وهي تطرق خشب البيانو. طنين وبريق. توقفت. لم تجد سيارات في هذا الطريق. ولاحظت مساحة صغيرة تشبه شريطا أخضر يقود إلى الغابة.
تبعت الشريط إلى بقعة معلمة بإشارة x مصنوعة من العصي الرفيعة. صاحت مايا: "هل يوجد هنا أحد؟". انطلق عصفور من بين الأغصان المتشابكة.
سألها ريجي من السماء: "هل أنت على ما يرام". حاولت أن تراه. كلا. ليس السماء. كان ريجي فوق أحد الأغصان، استلقى هناك ومعه بطاقاته، ساق تتدلى إلى الأسفل. ولا يزال بمقدورها أن ترى من خلاله.
قال: "عليك أن تعملي بالمباحث". وأسقط البطاقات، فصدر منها صوت ارتطام.
قال: "هيا. وزعيها".
اقتربت مايا من البطاقات، وضعت يدها فوقها، لترى إن كانت ساخنة. لم تكن ساخنة. التقطتها، وأخرجتها، اختفى ريغنالد، ثم أصبح بقربها جالسا.
قالت: "أرى أنه يفوح منها رائحة الورد". لم يكن ريجي يحب رائحة الورد حينما كان على قيد الحياة. كان يغسل عصارة أملاح الورد في حمامها، زاعما أن رائحتها كالبول.
قال ريجي: "أعلم. فقد نلت عقوبة لأنني تكلمت معك". تدلت من كتفه حقيبة سوداء مصنوعة من شيء يشبه مطاط الدواليب. قال: "انظري". فتح طرف الثنية، وأمكن مايا أن تشاهد عالما كاملا من النحل، يزحف بهياج فوق بعضه البعض، وهو يرفرف بأجنحته وسيقانه. ثم أضاف: "أنفقت كل الصباح بجمعها. إذا أمكنني الحصول على أربع آلاف منها بحلول يوم الأربعاء، ستتلاشى رائحة الورد. وزعي أوراق الطرنيب. سأغلبك حتما".
قالت مايا: "إذا اختفت كل النحلات، سيختفي العالم معها". عض ريغنالد شفته، وقال: "هذه ليست مشكلتي". بدأت الشمس بالغروب والاحتجاب وراء التلال، وكان على ريجي أن يجد المزيد من النحل. سارت مايا في طريقها، وهي تركل ثمار الصنوبريات، وتستمع لصوت النحل والحشرات، ولكن لم يجلب الظلام لها غير السكينة والهدوء. وبالحال سمعت صوت دواليب تلتهم الطريق، ورأت أمها في سيارة سيدان بنوافذ مهترئة، وكانت برفقة رجل. قالت لها أمها: "اركبي". ورأتها أصغر من المعتاد. عيناها جاحظتان، وخصلات الشعر الأبيض تبدو منقوعة بالزيت. أضافت: "أرعبتيني من أعماقي. عليك أن لا تفوتي الحافلة - كم مرة طلبت منك ذلك؟. إن تأخرت عن الحافلة مجددا لن أخرج للبحث عنك". وبدأت تبكي. هز الرجل رأسه، ووضع يده على فخذ المرأة.
لم يطرأ شيء لعدة أيام. مرضت المعلمة المعتادة، أما البديلة الشابة فكانت لها تسريحة شعر فرنسية مثل تاج من الشوك وحبل من الكريستال حول رقبتها. ذكرت اسمها، والتوى فمها وهي تتكلم فلم تفهمها مايا. ولكن كأنها قالت: أنا بون. وأخبرت الصف أن هذا اليوم مخصص للأسئلة والأجوبة. وليسجلوا أي سؤال لديهم عن العلوم على بطاقات، وستجيب عليه إن أمكنها. لم تود سيندي طرح أسئلة. كانت متكومة تحت ضماداتها. وتعرض على ريك أطراف جروحها المتخثرة، وكان يبدو مسرورا. وقد دفع صدره نحو الأمام ومال بظهره إلى الخلف. وهكذا كان مع مايا بطاقتها وبطاقة سيندي، فكتبت أسئلتها بعناية فائقة.
كتبت على أول بطاقة: هل النحل يموت؟. وكتبت على الثانية: ما هي الحياة بعد الممات؟.
ولكن بعد أن أصبحت الأسئلة في الصندوق تعرضت كايلا تينكلير لنوبة مرضية، وسقطت وهي ترتجف، ثم تلوت على الأرض مثل حية مجنونة تموت، وبدأت بون تستغيث طلبا للمساعدة وهي قرب الباب ومعها الصندوق الرمادي الصغير، وجاءت ممرضة المدرسة مع الإسعافات، ووضعتا شيئا في فم كايلا، ومع مرور الوقت انتهى كل شيء، ورن الجرس معلنا نهاية الحصة.
حمل ثلاثة صبيان في الهواء الطلق عصفورا من جناحه حين وجدوه وراء الغابة وبدأوا باقتلاع ريشه. قال الولد ذو القدمين الشبيهتين بالجبنة وكان في نهاية الطريق: "انظروا". وضع ريشتين على جبينه مثل قرنين. ثم جثم كثور وهاجم مايا. توقف قبل أن يجتاحها وقال: "سوف أشوهك أيتها الفانية". وأظهر النقرة الصغيرة في لثته الوردية والتي تبرز من بين أسنانه الأمامية. وحينما رجع في النهاية إلى أصدقائه وكومة الريش، رأت مايا نحلة تحوم على علبة النفايات. سددت نظرة عليها واقتربت، ولكنها اختفت قبل وصولها.
في الحافلة بعد الدوام، جلست مايا وحدها، وليس مع سيندي وعصرت الإسفنج البرتقالي من حشوة مقعد أمامها. تجمع الإسفنج مثل حطام عند قدميها، كل قطعة بحجم نحلة. وتخيلت أنه بمقدورها التواصل معها، هذا النحل الإسفنجي، وأنه بمقدورها أن ترد على أسئلتها. ولكن إذا كان النحل يعرف الأجوبة، فقد احتفظ بها في قلبه. ركلتها مايا تحت المقعد، وداست على بعضها، حتى طحنتها وسوتها بالأرض.
سألت مايكي في تلك الأمسية: "هل تود أن تلعب بالبطاقات". كان يشاهد في التلفزيون أفلام الكرتون، ويأكل القشدة الدسمة بأصابعه. كان لديهم في البيت بطاقات شركة طيران أيضا، من النوع الأحمر.
قال مايك: "ما رأيك أن تلعقي مؤخرتي".
قالت مايا: "أتمنى أن تموت". ولكن أهمل مايكي تعليقها.
عادت مايا إلى الباحة. وقفت بمكان حفرتها السابقة، وحاولت أن توقظ مشاعرها.
قال ريجي: "هيي". كان هناك، واضحا من وراء نوافذ غرفة المعيشة، واقفا فقط مع حقيبته المطاطية. فكرت أن تنادي أمها لتأتي وترى، ولكن لم تفعل. حدقت. كان لا يزال شفافا. أحد بالوناته في الهواء، والحبل مربوط حول معصمه، وكان من النايلون الفضي المعقود بشكل وردة.
قال: "جمعت ما يلزم من النحل. شمي رائحتي. لا تفوح مني رائحة البول".
قالت مايا: "رائحتك ليست مثل البول".
قال ريجي: "لدي شيء لك". ومد يده إلى حقيبته وأخرج منها برطمان طعام أطفال. اقتربت مايا، وحينما أخذته، حاولت أن تلمس يد ريجي. لم يكن هناك شيء صلب تحت البرطمان. ومرت يدها من خلاله.
قال ريغنالد: "إنها نحلة".
سألته مايا: "ألا تشتاق للحياة؟".
لم يرد. عبث برباط حقيبته ثم قال: "أربعة آلاف نحلة في يوم واحد. هذا عدد كبير من النحل".
سألت مايا: "من معك تحت؟". كان ريغنالد بالخامسة حينما رحل البحار إلى الأبد. وكان مايكي ومايا أجنة في بطن أمهما. وكان ريغنالد يزعم دائما أنه سيخبرهما بأشياء عن أبيهما لاحقا، ولكن بعد أن يتقدما بالعمر. ولكن ريجي مات.
قال: "تفقدي نحلتك".
نظرت مايا في البرطمان. كان حجم النحلة عاديا وتتخلل النحلة خطوط بالأصفر والأسود. سألت مايا: "هل بمقدوري أن آتي معك؟". جعلها السؤال تبدو غريبة، كأن معدتها رخام يتدحرج فوق قلبها. هز ريكي رأسه، واحمر أنفه، وأحاطت بعينيه حلقات وردية. وقال: "انتهى وقتي. ولن أعود". نزع حقيبته عن كتفه ونقلها للكتف الآخر. أضاف: "هل أعجبتك نحلتك؟".
رفعت مايا الغطاء الفضي. ارتفعت النحلة بسرعة. تمسكت بحبلها السري. ولدقيقة من الوقت تعلقت أمامها وكأنها تبادلها النظر.
قال ريجي مبتسما قليلا: "نحلة حرة".
قالت مايا: "نحلة حرة".
قال ريجي كأنه يكلم النحلة: "وداعا". ثم اختفى.
في ذلك الصيف تجمع النحل في الحديقة مجددا، ويبدو أن أمها قد نسيت أنها كانت تذهب تلقائيا. فرشتها بالكيميائيات حالما دخلت إلى البيت. وتظاهرت مايا أنها ترمي الميتات في الخارج، ولكنها في الواقع احتفظت بها في برطمان وضعته في مؤخرة خزانتها. وحينما تشممتها، كانت رائحتها كالأشنة في حوض ماء، وأمكنها رؤية ريجي أمامها لدقيقة من الوقت، شعره منتصب، والبالونات حول معصمه.
كانت تهمس له أحيانا: "ريجي، ريجي". إذا أغلقت عينيها، يمكنها الإحساس بكل منطقة من جسمها ولو الهواء البارد لا بمكنه لمسها. حملت رفشها وحفرت عدة حفر متتالية، لتستعيد ذلك الإحساس الشبيه بالعزف على البيانو. ولكنه لم يرجع، أخوها. كانت واقفة فوق حفرة وراء الكوخ، وحينها شعرت بشخص خلفها.
كان مايكي. قال لها: "مات ريجي". كان يرتدي جوربا أبيض والآخر أزرق. وبين يديه كرة وايفل. أضاف: "هل تعلمين ماذا يعني أنك ميتة؟". لمعت عيناه في الشمس، وكان منخره ينبض للأعلى، كأن شيئا يتحرك فيه. ضرب أنفه بقفا يده وقال: "أم أنك غبية؟". وألقى الكرة على رقبتها، فأصابتها بصدمة قوية. ثم راقبته وهو يجري إلى البيت، وجوربه الأبيض يومض. نظرت إلى ظلها الباهت على نافذة البيت. وأمكنها أن ترى من خلاله خزانة الخزف الصيني. وساعة الجدار. وضعت يدها مكان إصابتها بالكرة، وهناك، على جسمها، شعرت برعشة خفيفة، وبنبض خافت، مثل خشب بيانو بعد أن تضرب مفاتيحه بيدك.
***
......................
* روبن روم Robin Romm كاتبة أمريكية. صدر لها: أوراق الرحمة - يوميات، الحديقة الأم، الالتفات، وغيرها

 

قصة: كيت شوبان
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

انزعجت السيدة بارودا قليلاً عندما علمت أن زوجها يتوقع قدوم صديقه، جوفيرنيل، ليقضي أسبوعًا أو اثنين في المزرعة.
لقد استضافا الكثير من الضيوف خلال الشتاء؛ كما قضيا جزءًا كبيرًا من الوقت في نيو أورلينز في أشكال مختلفة من الترفيه الخفيف. وكانت السيدة بارودا تتطلع إلى فترة من الراحة المتواصلة، وأحاديث هادئة لا يعكر صفوها شيء مع زوجها، حين أخبرها أن جوفيرنيل سيأتي ليقيم معهما لمدة أسبوع أو أسبوعين.
كان هذا رجلًا قد سمعت عنه كثيرًا، لكنها لم تره من قبل. كان صديق زوجها أيام الدراسة الجامعية، ويعمل الآن صحفيًّا، ولا يُعد من رجال المجتمع أو "الرجال المتأنقين الذين يكثرون الظهور"، وربما كانت تلك بعض الأسباب التي جعلتها لا تلتقي به من قبل. لكنها كانت قد رسمت له، دون وعي منها، صورة في خيالها: رجل طويل، نحيل، ساخر، يضع نظارات، ويداه دائمًا في جيبيه — ولم تكن تحبه. كان جوفيرنيل نحيفًا بما يكفي، لكنه لم يكن طويل القامة جدًا ولا ساخرًا جدًا؛ لم يكن يرتدي نظارات ولا يضع يديه في جيوبه. وقد أعجبت به كثيرًا عندما عرّفها بنفسه لأول مرة. لكن لم تستطع تفسير سبب إعجابها به بشكل مُرضٍ لنفسها عندما حاولت جاهدةً. لم تستطع أن تكتشف فيه أيًا من الصفات الرائعة والواعدة التي طالما أكّد لها زوجها جاستون أنه يمتلكها. على العكس من ذلك، جلس صامتًا ومتقبلًا لرغبتها الثرثارة في جعله يشعر وكأنه في منزله وفي مواجهة كرم جاستون الصريح والمفرط فى الكلام كانت معاملته لها لطيفة كما قد تتطلّب أكثر النساء تشددًا، لكنه لم يبذل أي جهد مباشر لكسب رضاهَا أو حتى احترامها.
ما إن استقر في المزرعة، حتى بدا مستمتعًا بالجلوس على الرواق الواسع في ظل أحد الأعمدة الكورنثية الضخمة، يدخن سيجاره في كسل، ويُنصت باهتمام إلى جاستون وهو يسرد له تجاربه كمالك لمزرعة قصب السكر.
كان يقول بارتياحٍ عميق: "هذا ما أسميه الحياة"، بينما تداعب نسائم حقول السكر جسده بلمستها الدافئة المعطّرة الناعمة كالمخمل. وكان يسعده أيضًا أن يألف الكلاب الكبيرة التي كانت تدنو منه، تفرك أجسادها بساقيه بألفة وودّ. لم يكن يميل إلى الصيد، ولم يُبدِ رغبة في الخروج لاصطياد الطيور كما اقترح عليه جاستون، إذ لم يكن يستهويه سوى هذا الصفاء الهادئ وهذه اللحظات المترعة بالسكينة.
أثارت شخصية جوفيرنيل حيرة السيدة بارودا، لكنها مع ذلك أحبته. فقد كان في الواقع رجلاً محبوباً وغير مزعج. بعد أيام قليلة، حينما وجدت أنها لم تفهمه أكثر مما فهمته في البداية، توقفت عن الحيرة واستمرت في الشعور بالاستثارة. في هذه الحالة المزاجية، تركت زوجها وضيفهما لوحدهما معظم الوقت. ثم عندما لاحظت أن جوفيرنيل لم يعترض بأي شكل على تصرفها، فرضت عليه رفقتها، ورافقته في نزهاته الخاملة إلى الطاحونة وفي مشاويره على ضفة النهر. وقد سعت بثبات لاختراق ذلك التحفظ الذي كان قد غلّف نفسه به دون وعي.
سألت زوجها ذات يوم:
- متى سيرحل صديقك؟ أما أنا، فقد أتعبني تعبًا شديدًا.
فأجابها:
- لن يغادر قبل أسبوع، يا عزيزتي. لا أفهم سبب انزعاجك؛ فهو لا يسبب لك أية متاعب.
فقالت:
- نعم، أعلم. ولكني كنت سأرتاح له أكثر لو أنه سبّب لي بعض المتاعب؛ لو كان يشبه الآخرين، وكنت مضطرة إلى أن أُعدّ شيئًا لراحته وتسليته.
أمسك جاستون وجه زوجته الجميل بين يديه، ونظر في عينيها المضطربتين بحنان وضحك. كانا يتجهزان معًا في غرفة في غرفة ملابس السيدة بارودا. قال لها:
- أنتِ مليئة بالمفاجآت يا عزيزتي، حتى أنا لا أستطيع التنبؤ بتصرفاتكِ في ظل هذه الظروف .
قبّلها واستدار ليُحكم رابطة عنقه أمام المرآة.
واصل حديثه:
- ها أنتِ الآن، تأخذين المسكين جوفيرنيل على محمل الجد وتُثيرين ضجّة حوله، وهو آخر ما قد يرغب فيه أو يتوقّعه.
استاءت بشدة:
- ضجة! هراء! كيف تقول هذا؟ ضجة، حقًا! لكنك أنت نفسك قلتَ لي أنه رجلٌ ذكي.
- وهو كذلك. لكن المسكين منهك من كثرة العمل هذه الأيام. ولهذا دعوته إلى هنا ليأخذ قسطاً من الراحة.
ردّت ببرود:
- كنتِ تقول إنه رجلٌ مُفكّر. على الأقل توقعتُ أن يكون مثيرًا للاهتمام. سأذهب إلى المدينة صباحًا لتجربة فساتين الربيع الجديدة. أخبرني حين يغادر السيد جوفرنيل؛ سأكون عند خالتي أوكتافي.
وفي تلك الليلة ذهبت وجلست بمفردها على مقعد كان يقع تحت شجرة بلوط ورافة على حافة الممشى الحصوي.
لم تكن تعرف قط أن أفكارها أو نواياها مشوشة إلى هذا الحد. لم تستطع أن تستنتج منها شيئًا سوى شعورها بضرورة مغادرة منزلها صباحًا.
سمعت السيدة بارودا وقع أقدامٍ تُسحق الحصى، لكنها لم تُميز في الظلام سوى رأس سيجار أحمر مُقترب. عرفت أنه جوفيرنيل، لأن زوجها لا يُدخن. تمنت ألا يُلاحظها أحد، لكن ثوبها الأبيض كشفها له. رمى سيجاره بعيدًا وجلس على المقعد بجانبها، دون أن يشك في أنها قد تُعارض وجوده.
قال وهو يُناولها وشاحًا أبيض رقيقًا كانت تُلفّ به رأسها وكتفيها أحيانًا:
- طلب مني زوجكِ أن أحضر لكِ هذا يا سيدتي بارودا .
قبلت الوشاح منه بهمسة شكر، وتركته في حجرها.
أبدى ملاحظة عادية عن الأثر الضار لهواء الليل في مثل هذا الفصل من السنة. ثم، وبينما كان بصره يمتد إلى الظلمة، تمتم، وكأنه يخاطب نفسه:
" ليلة الرياح الجنوبية — ليلة القلائل من النجوم الكبيرة!
ليلة لا تزال تهزّ رأسها نعاسًا——"
لم تُجِب على هذه العبارة المُوجّهة إلى الليل، والتي لم تكن مُوجّهة إليها في الواقع.
لم يكن جوفيرنيل رجلاً خجولاً بأي حال من الأحوال، لأنه لم يكن خجولاً. لم تكن فترات تحفظه طبيعية، بل نتيجة تقلبات مزاجية. وبينما كان جالساً بجانب السيدة بارودا، ذاب صمته مؤقتاً.
كان يتحدث بانفتاح وحميمية بصوت منخفض متقطع، لم يكن مُنفّرًا للسَّمع. تحدث عن أيام الجامعة القديمة، حين كان هو وجاستون متقاربين جدًا؛ عن أيام الطموحات الجامحة والنوايا الواسعة العريضة.. أما الآن، فلم يبقَ له — على الأقل — سوى رضا فلسفي بما هو كائن، ورغبة واحدة لا غير: أن يُسمح له بالوجود، مع نسمة عابرة بين حين وآخر من الحياة الحقيقية — كهذه التي كان يتنفسها في تلك اللحظة.
لم تكن تستوعب ما يقوله إلا على نحو غامض. كان كيانها الجسدي، في تلك اللحظة، هو الغالب. لم تكن تفكر في كلماته، بل كانت تمتص نبرات صوته فحسب. راودتها رغبة في أن تمد يدها في العتمة وتلمسه بأطراف أصابعها الرقيقة، أن تمس وجهه أو شفتيه. تاقت للاقتراب منه وتأن ُهمس في أذنه - لا يهمها ماذا تقول - كما قد تفعل لو لم تكن امرأة محترمة.
كلما اشتدّت رغبتها في الاقتراب منه، ازداد ابتعادها عنه في الواقع. وما إن سنحت لها الفرصة لتنهض دون أن تبدو فظةً أو غير مهذبة، حتى قامت وغادرته وحده هناك.
قبل أن تصل إلى المنزل، أشعل جوفيرنيل سيجارًا جديدًا وأنهى حديثه عن الليل.
راودت السيدة بارودا تلك الليلة رغبة جامحة في أن تُصارح زوجها - وهو صديقها أيضًا - بتلك الحماقة التي استبدّت بها. لكنها لم تُذعن لتلك الرغبة. فإلى جانب كونها امرأة محترمة، كانت امرأة عاقلة للغاية؛ وكانت تعلم أن هناك معارك في الحياة يجب على الإنسان أن يخوضها بمفرده.
عندما استيقظ جاستون صباحًا، كانت زوجته قد غادرت. استقلت قطارًا باكرًا إلى المدينة. لم تعد إلا بعد رحيل غوفرنيل. وترددت شائعات عن عودته خلال الصيف التالي. أي أن جاستون رغب في ذلك بشدة؛ لكن هذه الرغبة خضعت لمعارضة زوجته الشديدة.
ومع ذلك، وقبل أن ينقضي العام، بادرت هي من نفسها واقترحت أن يزورهما جوفرنيل مرة أخرى. فدهش زوجها وسرّه أن تكون المبادرة منها. قال:
- يسرّني،عزيزتي،أن أعلم أنكِ أخيرًا تغلبتِ على نفوركِ منه؛ فما كان يستحق ذلك الجفاء.
فأجابته، وهي تضحك، بعد أن طبعت قبلة طويلة وحنونة على شفتيه:
- أوه. لقد تجاوزت كل شيء! سترى. هذه المرة سأكون لطيفة جدًا معه.
(تمت)
***
.....................
الكاتبة: كيت شوبان/ Kate Chopin (1850 - 1904): روائية وكاتبة قصص قصيرة أمريكية، وُلدت باسم كاثرين أوفلاهرتي في سانت لويس، ولاية ميزوري، في 8 فبراير 1850، وتُعد من أوائل الكاتبات النسويات في القرن العشرين. وغالبًا ما تُنسب إليها الريادة في إطلاق حركة الأدب النسوي الحديث. اشتهرت بروايتها المذهلة "اليقظة" الصادرة عام ١٨٩٩. اتجهت إلى الكتابة ونشرت أول قصيدة لها عام ١٨٨٩. تعرضت رواية "اليقظة"، التي تُعد تحفة شوبان الأدبية، لانتقادات لاذعة آنذاك بسبب تناولها الصريح للمواضيع الجنسية. أُعيد اكتشافها في ستينيات القرن العشرين، وأصبحت منذ ذلك الحين معيارًا للأدب الأمريكي، مُقدّرة لرقيها وفنيتها.

 

بقلم: كاترينا أنغيليكي روك

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

الجسد هو انتصار الأحلام

حينما ينهض بلا حياء كالماء

علامات ووخزات إغفاءته،

وندوبه إشارات نائمة

وبساتين زيتونه المظلمة

والعاشقة،

باردة الملمس في اليد.

الجسد أيضا هو هزيمة الأحلام

الطويلة والفارغة

(إذا رفعت صوتك تسمع صداه)

بشعره الناعم المنهك

مكروه مع مرور الوقت

و جريح، ينوح

ويبغض حركته

ولونه الأسود الأصلي

يبهت باستمرار

وعندما يستيقظ يقفل حقيبته

بانتظار أن يفجعه الألم لساعات طويلة

في المقابر.

الجسد هو انتصار الأحلام

حينما يضع قدمه أمام

الثانية

ليكسب أرضا ما.

موضعا.

خطوة ثقيلة.

يتبعها موت.

وحينما يفوز الجسد بموضع

في ساحة المدينة

بعد الموت

مثل ذئب يعوي بخطم

محروق قائلا "أنا أريده"

"ولا يمكنني تحمله"

"وأهددكم - بالعصيان والثورة".

"فابني جائع".

الجسد يلد العدالة

والدفاع عنه.

الجسد يصنع الزهرة

ويلفظ حفرة الموت

التي تدحرج فيها، ويهرب

ويدور دون حراك حول

مصرف الماء

(فهذه دورة العالم)

وفي الأحلام يزهو الجسد بانتصاراته

أو يكتشف نفسه عاريا في الشوارع

وهو بألم مبرح،

ويفقد أسنانه

ويرتجف من الحب

ثم يشق أرضه

كأنها بطيخة حمراء

وهكذا ينتهي.

***

.....................

* ترجمها عن اليونانية كارين فان دايك

* كاترينا أنغيليكي روك  -  Katerina Anghelaki-Rooke : شاعرة يونانية معاصرة. توفيت عام 2020 عن عمر يناهز 80 عاما. من أهم أعمالها المترجمة إلى الإنكليزية: كائنات وأشياء وحدها 1986، من البنفسجي إلى الليل 1998, الترجمة إلى حب نهاية الحياة 2004، أوراق بنيلوبي المبعثرة 2009، قصائد مختارة 2019.

قصة قصيرة
بقلم: مود نيوتن
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

تستلقي أمي في سرير المستشفى، نظيفة تمامًا وغارقة في النوم. شعرها قصير وناعم، رمادي مشع يتباين مع بشرتها في ضوء هذا الصباح الغائم. لسنوات، كنت أراها—في المناسبات النادرة التي كنت أراها فيها—فقط وهي ترتدي شعرًا مستعارًا بلون العسل الأشقر. على حد علمي، كانت ترتديه في كل مكان: إلى متجر البقالة ومتاجر السلع المستعملة، لتعليم الأطفال في مدرسة الأحد، ولتوزيع الكتيبات الدينية في الحديقة، وللجلوس بصبر شديد على طاولتها، أو في الغرفة التي تحتوي على الأرائك التي لا تُستخدم إلا مرة أو مرتين في السنة للضيوف. فقط الآن أدرك كم كان هذا اللون النحاسي غير مناسب لها.
خلال الليل، اعتدت على صوت الفنتيلاتور الهامس، وأصوات أجهزة المراقبة، وعربات التمريض التي تصطدم في الممرات، لكن مع تلاشي تأثير الأدوية، بدأت هذه الضوضاء تزعج أمي. حتى رائحة المطهر الحمضية الناتجة عن تنظيف الممر بدت وكأنها تثير اضطرابها أيضًا. بين الحين والآخر، تحاول أن تصل إلى الإبرة الوريدية، أو تشدّ ثوب المستشفى إلى أعلى، أو تغوص أكثر في الوسائد الداعمة، فتندفع الممرضة إلى الداخل.
بينما تخرج أمي ببطء من الغيبوبة الطبية، يسبق القلق استيعابها للواقع. من حين لآخر، تدرس ملامح وجهي بعينيها الرماديتين الجادتين، وكأنها غير متأكدة مما إذا كانت تعرفني أم لا. مرة، عندما ضغطت على يدها، ردت بضغطة خفيفة. علامة جيدة. لكنها في معظم الوقت تغفو. كنت أمسك يدها وأتحدث إليها بهدوء، حتى لا يضطروا إلى استخدام القيود.
الجراح، رجل صغير ولطيف في مثل سني—في منتصف الخمسينيات تقريبًا—يدخل بخفة لفحص المؤشرات الحيوية لأمي، يتحسس نبضها، يسلط ضوءًا في كل من عينيها، ويضغط على يدها ليتأكد من استجابتها. والآن بعد أن استيقظت، تبقي أمي نظرها مثبتًا عليه. يسألها إن كانت تشعر بالبرد، فتومئ برأسها. إنها تومئ! يسحب بطانية من الخزانة ويمدها فوقها. "أفضل؟" يسألها، فتومئ مرة أخرى وسرعان ما تعود إلى النوم. ثم يقف إلى جانب السرير مبتسمًا، ينظر إليّ فوق نظارته الطبية.
يشرح لي أن مجرد بقائها على قيد الحياة هو معجزة. أفترض أنه يعني ذلك بالمعنى الدارج، وليس الروحي، وأحاول ألا أعبس. قبل أن يجري العملية في وقت مبكر من الأمس، أخبر زوج أمي أن الاحتمالات كانت ضئيلة بالنسبة لامرأة تبلغ من العمر أربعة وثمانين عامًا ولها تاريخ من السكتات الدماغية مثل أمي، لكن بدون الجراحة، كان مصيرها الموت. وكما اتضح، فإن أقل من واحد من كل مئة شخص يعانون من جلطة دموية متقدمة في الشريان الدماغي الرئيسي ينجون من العملية التي أجرتها. ربما أربعة من كل ألف.
يؤكد الجراح أن الهرمونات التي كانت تتناولها زادت من خطر تعرضها لحالة كهذه. يقول:
- أنا مندهش من صلابتها.
- أنا متأكدة أن مهارتك كانت العامل الأهم.
أعترف بقوة تحمل أمي الأسطورية، وأروي له بإيجاز معاناتها مع السكتات الدماغية، وكسر الورك، وسنواتها الطويلة كأم عزباء بلا مال، وحتى المرة التي رفعت فيها سقيفة متهالكة مليئة بالأدوات لإنقاذ أحد كلابها خلال عاصفة. ومع ذلك، كنا جميعًا مستعدين لموتها بالأمس بمجرد أن أوضحوا لنا الاحتمالات.
أعلم أنه عندما تفهم ما حدث لها، إذا فعلت، فستعتبر نجاتها دليلاً على نعمة الله وحمايته، وإشارة إلى أنها كانت ستموت لولا إيمانها. يقول الجراح إننا سنعرف المزيد عن تعافيها خلال الأيام والأسابيع القادمة، لكنه متفائل. إذا سارت الأمور على ما يرام، فقد يزيلون جهاز التنفس في أقرب وقت غدًا.
انهارت أمي في ساعات الفجر الأولى بالأمس، شعرت بالدوار أثناء جلوسها على المرحاض، وأغمي عليها عندما حاولت الوقوف، ولم تستعد وعيها قبل أن يتصل زوجها بسيارة الإسعاف. قال لي زوجها، عندما اتصل بي في طريقه إلى المستشفى، إن تنفسها توقف في البداية، وكذلك قلبها، لكن كلاهما عاد للعمل عندما جرّها إلى السرير، بينما كان خزان الأكسجين الخاص به ينزلق خلفه على عربته.
حجزت تذكرة سفر من نيوارك، جمعت بعض الأغراض في حقيبة، استأجرت سيارة من كوينز، وانطلقت في الوقت المحدد بين عواصف بعد الظهر. كان من المفترض أن أؤدي في حفلة خاصة الليلة الماضية، لكن لحسن الحظ، وافق المنظم على خصم حصتي من الأجر وجعل كالب—زوجي وزميلي في الفرقة—يقدم العرض بدوني. لم يكن الدخل الجيد متاحًا في السنوات القليلة الماضية، وكنت أعتمد على ذلك المبلغ، خمسة آلاف دولار، لكن لا يزال هناك بعض الرصيد المتبقي في البطاقة الائتمانية، وكالب سيتمكن من تغطية قسط الرهن العقاري من حصته، وعلى الأقل لن أكون في حالة خرق للعقد.
حتى رحلة الطيران المتأخرة من أتلانتا سارت دون مشاكل، وهذا بحد ذاته معجزة. هبطت الطائرة وسط الجبال التي عشت فيها خلال سنوات مراهقتي قبل منتصف الليل بقليل. بينما تظل القمم المحيطة دائمًا خصبة ومغمورة بالضباب، مغطاة بأشجار التنوب والراتنج والطحالب وكأنها جزء من حلم، لطالما اعتبرت مدينة آشفيل نفسها جافة إلى حد ما، متذكرة نزيف الأنف الذي عانيت منه في الشتاء خلال طفولتي. كنت قد نسيت هذه الأشهر الصيفية الماطرة.
هبطنا وسط رطوبة كثيفة كانت تتصاعد فوق المدرج بشكل مرئي. ازداد الضباب كثافة خلال الدقائق الاثنتي عشرة التي استغرقتها للنزول من الطائرة وسحب حقيبتي من الحزام الناقل.
أما في الخارج، فكان الجو حارًا ورطبًا كأنك تقف بجانب مخرج مجفف الملابس بعد أن بدأت لتوك غسلة جديدة. كان طفلي، هيكوري، مليئًا بالطاقة رغم يوم طويل من العمل البحثي في الغابات، ينتظر في السيارة القديمة من نوع بريوس ومعه شطيرة وفاكهة وثرموس من الشاي الأخضر لي. "عيون لامعة وذيل كثيف"، كانت أمي ستقول. كانت السيارة تفوح برائحة الأرض والشعر المغسول حديثًا عندما احتضنته. لا يعرف والداي أن هيكوري انتقل للعيش هنا العام الماضي ويسكن إلى الشرق من المدينة، حيث يدرس البيولوجيا الحفظية في الكلية الصغيرة للفنون الحرة في سوانا نوآ. لا يستخدمان الاسم الذي اختاره هيكوري في بداية دراسته للدراسات العليا تكريمًا للعالم الطبيعي في جبال بلو ريدج. "وكيف حال أليكسيس؟" كانت أمي تواصل السؤال. "كيف حالها؟" أحيانًا أعتقد أن هذا نتيجة للسكتات الدماغية أو المراحل المبكرة من الخرف، وربما يكون كذلك. في أوقات أخرى، من الواضح أن أمي قررت تجاهل تعليمات هيكوري وفعلت ما تريد.
عند مدخل المستشفى، تحت الضوء الأزرق للمظلة فوق المدخل، رفع هيكوري حقيبتي من صندوق السيارة، ورفع المقبض لي، ثم قبّل خدي واعتذر عن عدم صعوده معي إلى الغرفة. قال بصوت ثابت وعينين زرقاوين شاحبتين تلمعان: - لا أستطيع، ليس الليلة على الأقل. اجتاحني شعور بالارتياح يشبه، كما أتخيل، ما يشعر به الآباء عندما يتخلى طفلهم عن الأوكسيكودون أو عن حبيب مسيء. قلت له:
- جيد.
قبل ستة عشر عامًا، في غرفة عناية مركزة أخرى على بعد سبعمائة ميل من هنا، كانت هناك أيام وليالٍ شتوية لا تنتهي، قضيتها وأنا أغفو على الكراسي، أراقب نهر الشرق، أمسك بيد هيكوري الساكنة، وأتخذ قراري بقطع علاقتي بوالديّ، رغم علمي بأنهما لم يكونا سوى جزء صغير من كل ما قاد طفلي الوحيد إلى هذا اليأس القاتم. القطيعة التي بدأت حينها استمرت أكثر من ثماني سنوات، وكانت تتجدد بين الحين والآخر بعد كل زيارة أو مكالمة هاتفية، وحتى عبر الرسائل الإلكترونية، إلى أن جاءت رسالة أمي بعد إصابتها بالجلطة العام الماضي:
"هذه آخر رسالة سأرسلها. لم أعد أستطيع العمل على الإطلاق، ولا يمكنني استخدام الهاتف أيضًا—منذ الجلطة لم أعد أستطيع حتى التهجئة. أحبكم رغم كل شيء."
أمي، الإعصار البشري، سيدة الإملاء التي لا تُهزم، عاشقة اللغة، المبشرة المتحمسة والعنيدة لكل ما آمنت به، تسقط في الصمت.ورغم كل شيء، تلك الرسالة مزقتني.
***
بعد أن تركني هيكوري، أرسلت رسالة نصية إلى كالب وأخذت أراقب الضباب وهو يتدحرج فوق ساحة الانتظار لبعض الوقت قبل أن أصعد إلى الطابق العلوي. وبينما كنت استمع إلى الممرضة تُريني المكان الذي يمكنني فيه تخزين حقيبتي، استفاق زوج أمي فجأة من كرسيه القابل للطي بجانب سرير أمي. قال إنها كانت مستقرة لكنها غير مستجيبة، ثم قام ليحتضنني. بعد ذلك، قام بتبديل أنبوب الأوكسجين من الجهاز بجانب سرير أمي إلى خزانه المحمول وذهب إلى المنزل لإطعام الكلاب والراحة. جلستُ في عتمة الغرفة شبه المظلمة، وجدت نفسي بشكل مفاجئ جافة العينين معظم الوقت، لكن بفترات متقطعة من بكاء خافت مزق المناديل، وأنا أراقب أمي النائمة. لم أحاول إيقاظها. في النهاية، تمددت لأرتاح على قطعة الأثاث الصلبة الملتصقة بالجدار، تلك التي ليست أريكة تمامًا ولا سريرًا تمامًا، والتي—رغم النظام الدقيق لهذه الغرفة في العناية المركزة—تخفي على ما يبدو بقّة سرير واحدة على الأقل. أو ربما كانت البقّة في الطائرة الثانية، تندفع خارجة من وسائد مقعدي بينما كنت أحاول إعادة قراءة توقعات عظيمة، لكنني لم أفعل سوى الاستسلام للنعاس مرارًا. لكن لا مجال للخطأ بشأن اللدغة: ثلاث كدمات متناظرة على الجانب السفلي من ذراعي، تحرقني وتسبب الحكة. سأحتاج إلى أكياس قمامة الليلة لعزل ملابسي حتى أتمكن من اتباع الإجراءات التي تعلمتها خلال أيامي في بروكلين. أرسلت رسالة نصية إلى هيكوري، الذي كان يُنزل أختي غير الشقيقة، روندا، في الطابق السفلي. جاءت استجابته سريعًا: "فهمت، أوه، آسف."
وصلت روند لتوها من كونيتيكت. دخلت الغرفة وهي تدفع حقيبتها، متوازنة مع فنجاني قهوة ضخمين كانت قد أعدهما لنا هيكوري، وناولتني أحدهما. أنا وروند لا نبدو متشابهين إطلاقًا. روند طويلة ونحيفة وتتحرك بتأنٍ، ومعها صفحات من قوائم الأشياء التي يجب القيام بها وحقيبة بها ملفات، بينما أنا قصيرة، ممتلئة الصدر، ويزداد امتلائي مع تقدم العمر، أتحرك بطاقة مضطربة متوترة اكتسبتها بعد قضاء خمسة وعشرين عامًا في مدينة نيويورك. ومع ذلك، بعد أربعين عامًا من كوننا عائلة، غالبًا ما يتعرف علينا الغرباء كأخوات. ربما بسبب وجوهنا المستديرة، أو عظام خدودنا البارزة، أو أعيننا الداكنة، أو حتى طريقتنا الهادئة والمترهلة في الحديث. وربما لأننا في السنوات الأخيرة نرتدي تقريبًا اللون الأسود فقط. لا أحد يرى الأوشام الباهتة أسفل ظهورنا، لكن يبدو أن الناس يشعرون بوجودها بطريقة ما. أحاديثي مع روند صاخبة، متداخلة، تتقلب بين اعترافات عميقة، وتواطؤ متعب، ومزاح مرح، واتفاق ساخر حول أمور تتعلق بوالدينا، وهو اتفاق يجعل أطفالنا حتى اليوم يظنون أننا نتشاجر أحيانًا. لكن كما أخبرت روندا ابنتها الصغرى، أوليفيا، التي تبلغ الآن عشرين عامًا، العام الماضي خلال عطلتنا في جبال أديرونداكس: "لا، نحن نحب ذلك. هذه هي الطريقة التي نريد أن نتحدث بها مع بعضنا."
روند وأنا في نفس العمر بفارق بضعة أسابيع فقط، وقد قربتنا الظروف من بعضنا في سن الثانية عشرة عندما تزوج والدانا فجأة وانتقلنا من ميامي إلى أطراف آشفيل. اقتلعا حياتنا من جذورها ليتبعا قسيسًا يتحدث بألسنة، زعم أنه مُرسَل لجمع "جنود المسيح" في غرب كارولاينا الشمالية، قبل أن ينتهي به المطاف في السجن بتهمة التحرش بقاصر—وهو تطور كان بمثابة إثبات قاطع لشعورنا طوال تلك السنوات، بعد كل مرة وبخنا فيها لعدم تعاملنا بلطف أكبر مع القس جيري. في نهاية الصيف بعد المدرسة الثانوية، في عام 1990، حصلنا أنا وروند على توصيلة إلى مدينة نيويورك مع صديق قديم من ميامي وثلاثة آلاف دولار جمعناها من العمل في "بيتزا هت". نزلنا في شقة ابن عمي المطلة على جسر جورج واشنطن، نشعر برعد السيارات تحت ألواح الأرضية، نتناوب النوم على الأريكة والأرض، حتى بدأتُ أجني المال من تمشية الكلاب، وعثرت روندا على عمل في روضة أطفال. على مر السنين، زارت روند والدينا بشكل أكثر انتظامًا مني، وساعدتهما عندما احتاجا لذلك. لم تقطع التواصل تمامًا منذ سنتها الأخيرة في المدرسة الثانوية، عندما ضربتها أمي—أمنا نحن الاثنين بعد كل هذه السنوات—مرة أخرى أكثر من اللازم وانتقلت روند للعيش مع صديقها. ثم بدأت أمي تضربني، بعدما استنتجت على ما يبدو أنني كنت مسؤولة عن الحادثة التي دخل فيها زوج أمي إلى سريري في إحدى الليالي عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، على الرغم من أنني أخبرتها على الفور، وعندما لم تتصرف، انتقلت إلى غرفة روند بدلاً من المخاطرة بتكرار الحادثة.
بينما جلسنا أنا وروند على كرسيين قابلين للطي بدلاً من الأريكة التي كنا نشتبه بوجود حشرات سرير عليها، دخلت الأخصائية الاجتماعية، وهي امرأة قصيرة ذات شعر أحمر وطريقة حازمة وسريعة، وقدمت نفسها. كانت مرتاحة لرؤيتنا هنا دون زوج أمي. كان لديها بعض التفاصيل والمخاوف التي تريد مشاركتها استنادًا إلى ملاحظات طاقم الإسعاف وملاحظات موظفي المستشفى. قالت الأخصائية الاجتماعية:
- كانت قدما والدتكما متسختين للغاية. لاحظ المسعفون أن الكلاب كانت تفرغ نفسها على الأرض. كان من الصعب الوصول إلى السرير بسبب جميع الصناديق، وكان هناك علامات على وجود فئران.
حاولت أنا وروند أن نبدو مفاجأتين بأفضل ما لدينا من تعبيرات. قالت الأخصائية الاجتماعية:
- اضطر موظفو المستشفى إلى استحمام والدتكما أربع مرات لتنظيف قدميها. لا أعتقد أنه ينبغي أن تعود والدتك إلى المنزل بعد خروجها من المستشفى.
قلت:
- على الأرجح لا ،لكنني لا أعتقد أنها ستوافق على الذهاب إلى أي مكان آخر.
أضافت روند:
- لا أعتقد ذلك أيضًا.
قطبت الأخصائية الاجتماعية حاجبيها بتعاطف، لكن بقيت عيناها حازمتين ثم قالت وهي تشير إلى والدتنا:
- لن يكون الأمر بيدها، لن تكون قادرة على اتخاذ هذا القرار.
نظرنا أنا وروند إلى بعضنا البعض بدهشة. هل من الممكن؟ يا له من تفكير! لا يمكننا أن نتخيل أن والدتنا ستتراجع إلى حالة من عدم الكفاءة، تتراجع بلطف إلى الامتثال، وتتفق مع أي من الخطط المعقولة التي تقترحها الأخصائية الاجتماعية في أي من المنشآت المجهزة في قائمتها. أيضًا، كما أن المال قليل جدًا. لا توجد أصول سوى المنزل والأرض، وكلاهما يفقد قيمته تدريجيًا بينما يجرف المطر الطريق الترابي إلى أسفل الجبل. أما التأمين، فلن يغطي أي رعاية طويلة الأمد. لكن يبدو أن دخولها إلى منشأة إعادة تأهيل ليس مجرد خيار، بل ضرورة—حتى وفقًا لميديكير—أثناء فترة تعافيها، وذلك "لحسن الحظ!"، سيمنحنا بعض الوقت.
عندما غادرت الأخصائية الاجتماعية، شربنا قهوة هيكوري الممتازة، وعلى صوت امتصاص الحفاضة المبللة بالبول، ناقشنا الخيارات الممكنة لأمهات الآخرين كما لو كانت قد تكون ممكنة أيضًا لأمنا. في نومها، تلوّح والدتنا بذراعيها بعنف. في وقت لاحق، ستتحدث عن سحلية بشارب، وعن مؤامرات متخيلة، بما في ذلك محامية تُدعى باربرا تتآمر ضدها، وعن أنفاق سرية عملتُ أنا وزوج والدتي وأختي غير الشقيقة مع باربرا على حفرها تحت المنزل، وعن أشياء زعمت أن باربرا أخذتها بموافقتنا ولكن دون موافقتها هي.
عندما أسترجع تلك المحادثة مع الأخصائية الاجتماعية، التي كان من غير الحكمة أن نجريها في غرفة المستشفى، سأشعر بإحساس طفيف بالذنب، وكأنني كنت بالفعل متواطئة مع باربرا ضد والدتي—رغم أنني الآن لا أذكر حتى اسم الأخصائية الاجتماعية. ديبي؟ ليندا؟ ميشيل؟
وصل زوج أمي، أبيض الشعر واللحية، وكبير البطن، يشبه بابا نويل المتعب الذي يتحرك ببطء ويحمل خزان أكسجين محمول في حقيبة معلقة على كتفه. دوائر داكنة تحت عينيه؛ وكاحلاه ضخمان للغاية. بعد فيتنام، كان يدخن علبتين من سجائر "كولز" يوميًا حتى أصبحت حالته من الداء الرئوي الانسدادي المزمن سيئة جدًا. عانق روند ثم، مستنشقًا هواء إضافيًا ليعد نفسه، أخرج قطعة الأكسجين من فمه للحظة وانحنى ليقبل خد والدتي. ساعدته الممرضة في توصيل الأنبوب بالجهاز بجانب السرير. ثم جلس في كرسي قابل للطي مع تنهيدة تلتها نفس عميق من الأكسجين، وأخذ يد والدتي. "ماريان"، قال. كل بضع دقائق، حاول مرة أخرى، وعندما كرر اسمها في نهاية الساعة، فتحت عينيها، الرماديتين اللامعتين والواسعتين بسبب الحيرة. قال زوج أمي:
- كيف حال فتاتي الصغيرة الجميلة، ماريان؟
أومأت أمي برأسها. رفعت ثوب المستشفى لتكشف عن كتلة من شعر عانتها الرمادي البني. بطريقة ما، أصبح هذا المشهد أكثر إرباكًا بدلاً من أن يكون أقل إرباكًا في كل مرة رفعت فيها ثوبها اليوم. التقيت بعين روند وكان التعبير على وجهها شيئًا بين ابتسامة وتكشير، مثل التعبير الذي شعرت به على وجهي. في نفس الوقت، رفعنا حاجبينا إلى السماء، ثم أومأنا بأكتافنا. ليس الأمر كما لو أن التعري كان غير معتاد على والدتنا، التي لم تتردد يومًا في التحدث على الهاتف وهي تقضي حاجتها وباب الحمام مفتوح.
قال زوج أمي، ملاحظًا التعبير على وجهي:
- ماريان، ألا تريدين أن تغطي مهبلك؟
وسحب الثوب لأسفل.
تلتقي عيناي بعيني روندا مرة أخرى، وأتظاهر بالسعال بينما تبتسم هي محدقة في الأرض. نتحجج بالحاجة إلى جلب القهوة، رغم أن أكوابنا لا تزال نصف ممتلئة. قلت، بعد أن ابتعدنا بما يكفي في الردهة:

- لن نتمكن من مسح ذلك من ذاكرتنا ، لا، لن نتمكن أبدا.
أضحك، ثم تضحك هي، ثم أنحني ضاحكة في المدخل المؤدي إلى الطاولات ذات المظلات خارج الكافيتريا، قلت بعد أن هدأنا :
- أو أن ننسى ما سمعناه. لا أصدق أنه قال لها 'مهبلك'
السماء رمادية، لكنها لا توحي بالمطر.
تجلس روندا، مواجهةً للجبال البعيدة:
- لقد سمعت منهما ما هو أسوأ من ذلك
.وقفت خلفها ورفعت شعرها، الكثيف واللامع والطويل، الذي أصبح بنيًا داكنًا الآن بدلاً من الأشقر في سنوات مراهقتها المبكرة، ومررت أصابعي عبره.
- تعلمين أنه ليس عليك البقاء هنا عندما أرحل.
ترد بحزم:
- لكنني سأبقى..
أعرف جيدًا أن لا فائدة من الإلحاح.
قلت:
- إنها تبدو أشبه كثيرًا بهيكوري بشعرها القصير هكذا.
أخذت روند يدي:
- كنت أظن ذلك أيضًا.
عند عودتنا إلى الغرفة، نجد والدتنا نائمة وهي مقيدة، بينما تتحرك الممرضة في المكان بوجه متجهم. زوج والدتي يفرك الجيوب المنتفخة تحت عينيه، يلهث مستنشقا الأكسجين ويزفره بسرعة تفوق مرتين أو ثلاث سرعة جهاز التنفس الصناعي لوالدتي. كان يقول:
- لا أفهم لماذا عليها أن تتصرف هكذا.
يبدو أن والدتنا حاولت الاعتداء على الممرضة، وهي الآن تحت تأثير مهدئات أقوى. و زوج والدتي يلقي باللوم على الهرمونات..
أقول وأنا أنظر إليه مباشرة:
- لا، لطالما كانت تفجر نوبات الغضب هذه، وأنت تعرف ذلك.
تضيف روند:
- أنت تعرف ذلك، أبي ..
يفرك عينيه مجددًا، متنهداً بإرهاق. الأجهزة تواصل إصدار أصواتها الرتيبة، طنين وصفير متواصل. تنتشر في الغرفة رائحة مزيج من البول والمطهرات ، يقول زوج أمي:
- أنا فقط لا أفهم ذلك.
لم ترغب أمي أن أعرف أنها كانت تتناول التستوستيرون. عندما بدأت في زراعة الحبوب تحت جلدها قبل خمسة عشر شهراً، طلبت من كل من يعلم بالأمر أن لا يخبرني. ومع مرور الأشهر، بدأ أصدقاؤها يتصلون بي واحداً تلو الآخر، متأكدين من أنني أعلم. كانت روند أول من اتصل بي بعد ثلاثة أشهر، مع اعتذارها لتأخرها. فقد اكتشفت الأمر قبل أسابيع قليلة فقط. ثم اتصل زوج أمي في الأسبوع التالي، وكان يعرف منذ البداية. بعد ذلك، سمعت من صديقة قديمة لأمي من أيام الكنيسة في مراكز التسوق بجنوب فلوريدا، وهي التي استأجرت لنا غرفاً واعتنت بي في فترات بعد الظهر الطويلة بينما كانت أمي تعمل في وظيفة أمينة صندوق في البنك القريب. ثم جاء الجار الذي كان يساند والدي في صراعه المستمر مع الرجل الغني الذي اشترى الأرض الكبيرة في قمة الجبل خلال الجائحة، والذي أثناء بناء منزله الضخم، قام بتشغيل شاحنات بناء ثقيلة تركت خنادق في الطريق الترابي ودفعت معظم الحصى إلى الوادي، ثم تراجع الرجل الغني عن وعده بتعبيد الطريق وأنشأ طريقًا جديدًا أقصر للهبوط من الجبل من الجهة الأخرى. وأخيرًا، سمعت من ابن عمي الذي رأيته آخر مرة عندما كان طفلاً صغيراً في الصيف الذي غادرنا فيه المدينة، فقد علم من والدته، التي أقسمت له أن يبقي الأمر سرًا. كانت هذه المحادثات تثيرني. "هي لا تريدك أن تعرف"، قال كل من اتصل بي، بنفس النغمة المليئة بالقلق. كنت أعرف أنهم لا يريدون أن يشعروا بالمسؤولية إذا توفيت فجأة. فقد أصيبت بثلاث جلطات دماغية بالفعل، وطردت طبيبها المعالج بعد أن أبدى قلقه من أن الهرمونات قد تتسبب في إصابتها بجلطة أكبر.
إنصافًا للمتصلين، وبعد سنوات من ترك والدتي تعتمد على محاليلها الفضية ومقوياتها المشكوك فيها، وأجهزة "تنقية الهواء" التي تنبعث منها الأوزون، وعلاجها بالإيمان، أصبحتُ في بداية الجائحة مذعورة ومتسلطة، كنت أضغط على والديّ لارتداء الكمامات والبقاء في المنزل، وأوضح لهم أن جيراني يموتون وكذلك جيرانهم. كانت سيارات الإسعاف تجوب الشارع على مدار الساعة. لم أعد أعد عدد الأشخاص الذين تم إخراجهم من المبنى على نقالات مغطاة. في المقابل، سخرت أمي من كل ذلك وتناولت الإيفرمكتين. في النهاية، استسلمتُ. أما زوجها، فامتثل للأوامر الصادرة عن نظام الرعاية الصحية للمحاربين القدامى وأخذ اللقاح. أما أمي، فقد رفضت. على أية حال، أخبرت كل متصل بأن الأمر كله كان قرارها، ولن أتناقش معها بشأن ذلك.
ومع ذلك، بالنظر إلى رفضها معظم الأدوية، ونفورها من الهرمونات الجنسية في سياقات عديدة، فوجئتُ بعض الشيء بهذا القرار. ثم شعرتُ بالاشمئزاز عندما أوضحت لي روندا أن والدتنا استلهمت فكرتها من أحد "الخبراء" الذين شاهدتهم على قناة مسيحية ريفية.وعلى عكس معظم الضيوف في تلك القناة، فإن الدكتور دينيس سميثسون طبيب حاصل على شهادة طبية، رغم أن درجته جاءت من جامعة أورال روبرتس، التي أُغلقت كليتها الطبية عام 1990، قيل إن السبب كان ماليًا، لكن من المرجح أيضًا أن الجمع بين العلاج بالإيمان والعلوم الطبية لم يكن أمرًا مستدامًا.على أية حال، اشتهر سميثسون بكتابة كتب صحية موجهة للإنجيليين، إلى جانب بيعه للمكملات الغذائية. لكن وفقًا لروند، لم تحصل والدتنا على وصفة التستوستيرون منه مباشرة، بل من طبيب في هندرسونفيل، ورد اسمه في نهاية أحدث كتبه، "الصحة الإلهية والهرمونات: استعد شبابك وأشعل شرارة زواجك من جديد!"
استطعت أن أستنتج من ملامح وجه روند وبطء خطواتها أثناء شرحها لي، أنها كانت تتوقع موجة الغضب الممزوج بالسخرية التي اجتاحتني. صرختُ، متجاوزة ضجيج القطار السريع الذي كان يهتز فوق رأسي:
- ياللعجب! كيف دبّر الرب دخول دينيس سميثسون وهذا الدجال من هندرسونفيل في خطته الإلهية للهرمونات!
كنتُ أسير في الشارع برفقة كالب، نمشي الكلب وسط البرد القارس. لم نكن قد تناولنا الطعام بعد، وكانت رائحة الزلابية الساخنة تتسلل من مطعم صيني قريب، قبل أن تطغى عليها رائحة الموز المقلي بزيت الفول السوداني من مطعم دومينيكاني. لكن معرفة أن قناة الريف المسيحية قد وجدت طريقها إلى هذا المشهد المألوف أفسدت شهيتي. كان الهواء البارد يخترق معطفي، بينما مرّ رجل في الاتجاه المعاكس، ألقى نحوي نظرة فضولية خاطفة، ثم انحرف قليلًا إلى حافة الرصيف. خفضتُ صوتي وقلت ساخرة:
- إذن، نحن جميعًا مخلوقون ذكورًا وإناثًا كما في فُلك نوح، لكن الله لم يجد وسيلة ليمنحنا ما يكفي من التستوستيرون منذ البداية؟
أطلقت روند ضحكة خافتة ممزوجة بتنهيدة، ثم قالت:
- لن تقولي لها شيئًا، أليس كذلك؟
قلت وأنا أسحب قبعتي أكثر فوق أذني:
- كلا. الأمر راجع لها في النهاية.
ردّت روند:
- أوافقك الرأي ، عندما سألتها عن المخاطر، أخبرتني أن—
- أنها محصّنة بدم المسيح؟
صرخت بذلك، والأدريناليين يغلي في عروقي ويخرج من حنجرتي حتى عبرت أم مع طفلين الشارع لتجنب التلوث بذلك. أخذ كاليب، الذي اعتاد على سماع جانبي من المحادثات مثل هذه، لي العربة وسحب يدي بتعاطف.
قالت روند بنبرة هادئة:
- حسنًا، بالطبع كنت سأخبرك أنها قالت إنها تفضّل أن تموت فى انفجار على أن تعيش حياة باهتة يابسة.
قلت بحماسة غير بنوتية:
- ربما ستحصل على ما ترغب فيه.
قالت روند، بنفس الروح:
- ربما ستفعل.
لم يذكر أي منا هيكوري أو البريد الإلكتروني الذي أرسلته أمي لطفلها الحفيد الذي كان في الثامنة عشرة من عمره حينها، والذي حذرته فيها من الجحيم والنار.. أخذت العربة مرة أخرى بينما كان كاليب ينحني لأداء واجب جمع الفضلات.
- هل تبدو أكثر سعادة على الأقل؟
ترددت روندا قليلًا قبل أن تجيب: - أعتقد ذلك... بطريقة ما. أصبحت أكثر تقلبًا من المعتاد، لكن علاقتها بوالدي... شهدت تطورا بلا شك.
بينما كنتُ أنا وكالب نواصل طريقنا نحو المبنى، شعرتُ بالارتياح لأن هدير مجموعة دراجات نارية صغيرة جعل الحديث مستحيلاً للحظة. لم أكن أرغب حقاً في سماع أي شيء عن صحوة والدتنا الجنسية. قلتُ:
- أعرف أنني وحش ،لكن—
- أنتِ لستِ وحشًا.
- يمكنني كتابة أغنية عن كل هذا عندما تموت، أليس كذلك؟
قالت روند:
- آمل أن تفعلي.. أنا أراهن على ذلك."
في الحقيقة، وكما تعلم روندا بالتأكيد، كنتُ أنوي البدء في كتابتها عندما أعود إلى المنزل. ثم خطرت لي فكرة أخرى. قلتُ بينما كنا نعبر الردهة وكالب يُمسك باب الدرج:
- يا إلهي، انتظر. هذا يُفسر هوسها بذلك الفيلم.
- أعرف! ربما يمكنك دمج ذلك في الأغنية أيضا.
كانت أمي تشاهد فيلم موعد الزفاف دون توقف لعدة أشهر، وعندما كنت أتصل بها، لم يكن لديها ما تتحدث عنه سوى هذا الفيلم. تدور قصته حول امرأة تعيش في مانهاتن، تستأجر شابًا ليكون مرافقها في زفاف شقيقتها في إنجلترا، حتى تظن عائلتها أن لديها حبيبًا. ومع نهاية الأحداث، يقع المرافق والمرأة في الحب، بينما تُفضح الأخت وتُهان ويهجرها خطيبها، فيتحول ازدراء الوالدين لخطيب ابنتهما إلى إعجاب بالمرافق المستأجَر. في كل مرة ينتهي فيها الفيلم، كانت تعيد تشغيله من البداية، تشاهده منذ استيقاظها صباحًا حتى تغفو هي وزوجها في الليل. صار بطل الفيلم فارس أحلامها، وتحولت معاناة البطلة إلى معاناتها، فتعلّقت بالممثل الرئيسي، وسردت لي تفاصيل حياته، من نشأته في فيرجينيا إلى براعته في العزف على التشيلو، وصولًا إلى عمل والده أستاذًا في القانون. أما الشخصيات التي أدت أدوار الأشرار، فقد باتت بالنسبة لها مكروهة كما لو أنها ظلمتها شخصيًا في حياتها.
قالت لي، وهي تقهقه:
- القس جيري يسميه أفلامي الممنوعة.
وكل ما تمنّته في عيد ميلادها هو أن أشاهد الفيلم وأحلل لها سبب ولعها الشديد به

عندما عدت إلى المنزل، بحثت عن سميثسون وتصفحت صفحته على فيسبوك حتى عثرت على ما كنت أتوقعه تمامًا. كان المنشور يقول: "لقد خلقنا الله ذكورًا وإناثًا على صورته، لذا عندما ينجح الشيطان في إقناع الناس بأنهم قادرون على تغيير جنسهم، فإنه في الواقع يجعلهم يرتكبون عنفًا ضد الله." بدا هذا وكأنه مادة مثالية لمقطع الكورال في الأغنية التي بدأت تتشكل في رأسي بالفعل.
تخطط روند للبقاء مع والدينا لمساعدتهما عندما أرحل، ومتى ما حدث ذلك. إذا تعافت والدتي كما تعافت بعد السكتات الدماغية السابقة، فأنا أكره أن أتخيل ما ستتعرض له روند عندما تعود أمنا إلى المنزل بعد إعادة التأهيل. أحب أن أتخيل أنها ستزور هيكوري بين الحين والآخر في الخفاء. سيجلسان على الشرفة، وحدهما أو مع رفيق هيكوري، يداعبان القط، ويستمتعان بالهواء العليل في الليل، ويتناولان الجبن والفواكه التي يرتبها هيكوري بشكل جميل على طبق. ستشرب روند كوبًا من النبيذ، وربما ثانيًا، وربما ثالثًا، ثم تعود إلى منزل والدينا المتسخ والمليء بالنزاعات على جانب الجبل، حيث يبدو أن مرور يوم دون شرب هو إنجاز يعادل السير في طريق الأبلاش. ستخفي روند السكاكين، وتغلق باب غرفتنا القديمة في الليل، وتراقب جهاز المراقبة السري لتتأكد من أن والدتي لا تضرب زوج أمي أو تهدد بفصل الأوكسجين عنه. آخر مرة كانت روند هنا، رمت أمي هاتف رونا من على الدرج لأنها شعرت أن زوج أمي يمدحها أكثر من اللازم.
بلغتُ أنا وروندا الثالثة والخمسين، ومع ذلك نعمل دائمًا على نصح بعضنا البعض بشأن الحدود الصحية مع والدينا، وندافع عن الأخت الأخرى لتقلل من تحمل المسؤوليات. أنا غالبًا ما أرسل المال الذي لا أملكه بدلاً من أن أكون هناك شخصيًا. "إلقاء المال في مرحاض رفاهياتهما ليس مفيدًا لي أو لهما"، كما تقول روندا، رغم أنه جيد لوعاظهم المفضلين في التلفاز. تتحمل روندا عبء رعاية والدينا بعد دخول أحدهما المستشفى، وتسرع في المجيء عندما يطلب زوج أمي مساعدتها، رغم أن والدتي لا ترغب في وجودها هناك. إلا إذا كانت والدتي بحاجة ماسة إليها، حينها تدرك مؤقتًا أنه لا يوجد خيار لها أو لهما. حينها تكون لطيفة مع روندا، لفترة قصيرة فقط. أيام، أو ساعات، دأو قائق، أو جزء من الثانية - طول صبر أمي لا يمكن التنبؤ به كعين الإعصار.أظل أذكر روندا بأن حياتها تستحق الاستمتاع بها، وأن صديقها وأطفالها الكبار في كونيتيكت بحاجة إليها ويحبونها، وأن والدتي ليست مسؤوليتها، وأنه من المعتاد أن يقوم الوالدان بنقل أنفسهما في هذه المرحلة من الحياة، لا الأطفال، على الرغم من أننا نعلم أن والدتي لن تنتقل طواعية إلى الشمال الشرقي.
يجب اتخاذ قرارات، لكن والدتي لا تملك خطة للرعاية في نهاية حياتها غير انتظار "الاختطاف" (الانتقال السماوي)، ولا تنوي وضع خطة الآن. قالت لي: "هذه ليست مشكلتك"، وعندما أصررت، صاحت في الهاتف "ليس من شأنك" وأغلقت الخط.
نخطط أنا وروند لإخبار زوج أمي بأننا سنضطر لبيع منزلهما ونقلهما للعيش بالقرب منا. نقول لبعضنا البعض: "ستغضب أمي بغض النظر عما نفعله، فلنفعل ما نراه مناسبًا". ويضحك أحدنا ويوافق الآخر، لكن إقناع أمنا بالعيش بطريقة أسهل يبدو مستحيلًا لدرجة أن الفكرة تبدو جديدة كلما جَرَى طرحها. كأنها حلم جميل ومثير ومخيف في نفس الوقت.أفكر أحيانًا في تسليم كل شيء لبرنامج "Medicaid" والابتعاد. هذا ما أقوله لـ"روندا" على أي حال. لكن إن كان هذا صحيحًا، فلماذا أنا هنا؟ لا أندم على إنهاء القطيعة بعد السكتة الدماغية الأولى التي كادت تودي بحياة أمي، لكنني أشكك في مدى حكمة ذلك القرار.
والداي مستاءان من أغنية "قبو الاختطاف"، وهي أغنية منفردة أصدرتها قبل سبع سنوات، بعد وقت قصير من زيارتي الأولى لهما بعد أن عدنا للتواصل. لم يكونا عادةً مهتمين بموسيقاي، لكنهما علما بالأغنية قبل بضعة أشهر عندما جعلتني شبكة Christian Country Network—بكل بساطة—الشخص المكروه لهذا الأسبوع. الأغنية ليست عن والديَّ تحديدًا، لكنها أيضًا ليست بعيدة عنهما أيضا. أتذكر أنني بدأت في تأليفها خلال الرحلة الجوية إلى المنزل، كنت أصوغ القوافي حول اللحوم والفواكه المجففة في الجرار المخفية وراء جدار قبوهما الزائف، إلى جانب مخزون هائل من ورق التواليت والأدوية منتهية الصلاحية، وجالون ضخم من الكيروسين المخزن بطريقة غير صحيحة، وشريط طاقة شمسي معيب اشتري بمبلغ 999 دولارًا من مبشر تلفزيوني قضى وقتًا في السجن الفيدرالي، وأفران ميكروويف مستعملة من متاجر التوفير، زعمت أمي أنها حُوّلت إلى أقفاص فاراداي لحماية أجهزتهما الإلكترونية والبطاريات القابلة لإعادة الشحن من الانفجار النووي القادم. ما أغضب أمي بشكل خاص هو وصفي للاختطاف بأنه خطتهما للرعاية في نهاية الحياة، لكنها صبّت جام غضبها على روندا، وليس عليّ.
لقد كتبت تلك الأغنية بعد أولى زياراتي الخمس—الآن ست زيارات—منذ أن تواصلت معهم مجددًا. في كل مرة كنت أتوجه إلى آشفيل وأقود السيارة لمسافة سبعة عشر ميلًا خارج المدينة إلى منزلهم على الطريق الترابي القديم. يمكنني أن أتذكر بعض لحظات الفرح—تناولنا معًا حلوى "بيكان توريلز" من "فود ليون" قديمة ليوم واحد، ومداعبة كلابها والتذكر عن كلابنا القديمة بينما كنا جالسين على الشرفة نشاهد غروب الشمس على الجبال. لكن في كل مرة، كانت الرحلة تتحول إلى الفوضى التي يستهزئ بها النقاد على أنها كليشيه غوتي جنوبي عندما تظهر التفاصيل في موسيقاي. السيارة التي بها باب واحد فقط يعمل. الكلب الذي اضطروا لبتر قدمه بعد أن علقت في فخ الفئران. الغرز التي حصلت عليها في قسم الطوارئ بعد أن تطايرت شظية زجاجية إلى وجهي عندما فقدت أمي أعصابها ورمت العشاء على الأرض لأن زوج أمي، من وجهة نظرها، شكر روندا أكثر من اللازم. كانت روندا حرفيًا على يديها وركبتيها تنظف بول الكلاب المتجمد من الأرض في ذلك الوقت، ولكن على الرغم من ذلك أعتقد أن المشهد كان ربما مبالغًا فيه بعض الشيء لأغنية. لم أتمكن أبدًا من أن أجبر نفسي على اتباع القواعد التي تجعل من الشخص كاتب أغاني ناجح تجاريًا. عملي في تدقيق النصوص يدفع لي بشكل سيء لكنه ما يزال يغطي الفواتير بشكل أكثر موثوقية من موسيقاي.
منذ سنوات، كان جزء مني يريد أن يثني هيكوري عن كتابة الرسالة إلى والديّ لأنني كنت أخشى رد فعلهما. لكنني شجعته على ذلك لأنني أردت له أن يشعر بالراحة في إعلان نفسه بغض النظر عما سيقولانه. في وحدة العناية المركزة مع المنظر الرهيب لنهر الشتاء الرمادي المجعد، لُمت نفسي بشدة لأنني لم أُعِد طفلي جيدًا لاحتمال أن تقول أمي ما قالته. أحيانًا، لا أزال أتساءل إن كان هيكوري يدرك حقًا مدى ما يمكن لجدته أن تفعله.
كنتُ أعرف في الماضي بسبب روح الدعابة التي تحملها موسيقاي، خفتها ولمستها الرقيقة. أما الآن، فقد تغيّر الأمر كثيرًا. بعد يومين من حديثي مع روندا، شاركت في بودكاست من أثينا، جورجيا، وتناولت بضع بيرة مع المضيف، ثم بدأت في الهجوم على طريق والديّ الديني المتطرف. قلت: "التهكم يلتهمني"، ثم أضفت: "ألقِ همومك على يسوع ولن تحتاج إلى القلق أبدًا، لكن احرص أيضًا على تخزين ما يكفي من الطعام والإمدادات لكي تتمكن من البقاء على قيد الحياة في حالة انفجار نووي وتحافظ على نفسك لمدة خمس سنوات حتى يأتي وقت اختطافك، وأيضًا إليكم بعض الإمدادات التي يمكنكم شراؤها في حوض بلاستيكي كبير مقابل 79.99 دولار من موقعي الإلكتروني." ضحك المضيف وبدأ يطرح سؤالًا، لكنني تناولت رشفة أخرى من بيريتي واستأنفت الحديث. "والآن اكتشفت أن الوعاظ التلفزيونيين الذين كنت أستمع إليهم في طفولتي بدأوا يحققون أرباحًا من مكملات هرمونية وكتب تدعو للعلاج بالهرمونات، وكيف أن هذا كان جزءًا من خطة الله أيضًا، في جعل النساء أكثر أنوثة باستخدام العلاج بالهرمونات والرجال أكثر رجولة باستخدام العلاج نفسه، والخوف من الهرمونات لهذا الغرض كان عمل الشيطان، ولكن عندما يتناول الأشخاص المتحولون الهرمونات فهذا خطأ؟ والناس غير الثنائيين هم شيء شنيع، ولكن كل إنسان خلق على صورة الله، ذكرًا وأنثى معًا، والله هو كلا الأمرين، ولكن البشر لا يُسمح لهم بأن يكونوا كذلك؟" ثم قاطعت البودكاست المذيع ليأخذ استراحة. كنت أعلم أنه متعاطف مع آرائي كونه كان قد تخلى عن الإيمان بنفسه، لكن جو البودكاست كان ودودًا ومفتوحًا على الاستفهام، بدلًا من الغضب الكامن في التهكم الفارغ للسن المتوسطة. وجه مغسول بعناية بدلًا من الأحذية الثقيلة والشباك السمكية. انتهت فقرتي قبل الأوان. لا أظن أن المنتج سيكون في عجلة من أمره ليطلب مني العودة للمشاركة.
منذ ذلك الحين، أصبحت موسيقاي مليئة بالكراهية والغضب بدلًا من التعاطف والسخرية الهادئة. وقد أصبحت ممارستي للتأمل في حالة من الفوضى. أنا وكاليب تباعدنا أكثر نحو العمل الفردي كما نفعل أحيانًا. أرغب في صنع أغاني صادقة بألحان جميلة، لكنني عالقة في نغمة مريرة. ولإرباك الأمور أكثر، نصحني كل من طبيبي العام والمعالج بأن بعض التحديات العاطفية التي أمر بها قد تكون ناتجة عن هرموناتي الخاصة، أي الانتقال إلى مرحلة انقطاع الطمث. لقد ظهرت عليّ أعراض: تعرق ليلي، بطن منتفخ، تفكير مشوش، غضب غير مقيّد، مرت ثمانية أشهر منذ آخر دورة شهرية لي. لا أستطيع أن أقرر ما يجب أن أفعله. في هذه الأثناء، أصبحت كلمات أغنياتي ثقيلة وألحاني كذلك.
يحل الظلام في الخارج. عاد زوج أمي إلى المنزل، وقد أخذت روندا مكانه بجانب سرير أمي، جزاها الله خيرًا. سنغادر قريبًا. أنا جالسة على الجدار أرسل رسالة نصية إلى كاليب عن عرض الأمس، الذي يبدو أنه لم يكن سيئًا جدًا، وهاتفي يرن. أرى أن روندا أرسلت لي ولأطفالنا جميعًا صورة لوالدتي من الجانب، مع شعرها الرمادي القصير وتحديد فكها. وكانت الصورة تضم هيكوري أيضًا.
قلت:
- روندا ، ما الذي تعنيه هذه الصورة؟
أرسل هيكوري ردًا أثناء حديثي:
- واو!
أطفال روندا يحبون رسالة هيكوري، لكنهم لا يردون خلاف ذلك.
قالت روندا:
- آسفة"، "هيكوري طلب صورة من قبل. ظننت أن الجميع قد يرغب في رؤيتها."
كل ما يمكنني التفكير فيه هو هيكوري في ذلك السرير الآخر في المستشفى، رد فعل على حادثة في المدرسة، وليس رسالة أمي، لكن ربما لم يساعد ذلك.قلت:
- إنه أمر خطير.
ثم تنفست، زفرت الهواء حسب عدّ عقلي البطيء حتى عشرة.
- أو ربما ليس كذلك. أعلم أن هيكوري له الحق في أن يعيش حياته."
ترفع أمي ثوبها فأبتعد بنظري بينما تسحب روندا الثوب للأسفل.
دخلت الممرضة المسائية لتقول إنه غدًا سيتم إزالة أنبوب التنفس عن والدتنا، التي تشعر بتحسن. لذلك يجب علينا أن نذهب ونأخذ قسطًا من الراحة. أخبرناها أننا في انتظار هيكوري، الذي سيأخذنا قريبًا، وأنا أراقب هاتفي لرسالته عندما أسمعه يهمس في الرواق، وهو يردد لحن أغنية "Rapture Basement"، ربما ليجعلني أبتسم. هذا الطفل. يعلم أنني كنت أشعر بالكآبة بسبب موسيقاي. وهنا هو يلتف حول الزاوية مبتسمًا، جميل جدًا في قميصه بلا أكمام، وهو يقطع اللحن ليقبلني على خدي.
وقفت حينها، وكأنني أردت أن أعيق رؤيته للسرير ورؤية أمي له. لكن هيكوري اقترب منها ورأيت بهلع أن عيني جدته مفتوحتان على مصراعيها ومثبتة على وجهه يستحيل قراءة تعبير وجهها بسبب أنبوب التنفس.
قال هيكوري:
- مرحبًا، جدتي، كيف حالك؟
بحثت أمي في وجهه بعينيها، ثم مدت يدها نحوه، فأخذها بين يديه.
قال هيكوري:
- سمعت أنك توأمي في التستوستيرون."
هزت أمي رأسها.
قال هيكوري:
- لا يمكنك خداعي، أعرف أسرارك.
نظرت إليه أمي.
ضحك هيكوري وقال:
- إنه أمر رائع، أليس كذلك؟
ترددت أمي، ثم أومأت برأسها. لقد أومأت!
نهضت روندا، وجلس هيكوري على الكرسي القابل للطي وأخذ يد أمي بين يدي. رفعت أمي ثوبها فجأة، فمد هيكوري يده الحرة وسواه برفق.
(انتهت)
***
.....................
الكاتبة: مود نيوتن/ Maud Newton: كاتبة وناقدة ومحامية سابقة، وُلدت في دالاس، تكساس عام 1971. ونشأت في أسرة متشددة دينيًا في ميامي على يد أم إنجيلية وأب عنصري. درست في جامعة فلوريدا، حيث حصلت على شهادتها الجامعية والقانونية. وتعيش حاليًا في نيويورك.

ثلاث قصائد من الأدب الكردي

بقلم: لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - زائر

النوافذ بعيدة ..

نائية

عليه:

سوف لن تتجول

الشمس

أمام شرفاتها

و سوف لن يأتي

الله

لزيارتها .. !

***

2 - معرض الأيام

أحببتك يوم السبت

أحببتيني يوم الأحد

أما يوم الأثنين

فأقمنا فيه معرض القبلات

المشتركة

أنهيناه يوم الثلاثاء

فاسترحنا يوم الأربعاء

و في الجمعة

فكرنا معا

في إقامة معرض

آخر ..!

***

3 - رائحة

آه .. ثمة رمة

تفوح رائحتها

أخشى أن تكون

بلادي

و قد احترقت من كثرة

الخطابات

السياسية

***

........................

عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

بقلم: عبد الرزاق قرنح
ترجمة: صالح الرزوق
***

أعتقد أنه شاهدني أقترب، ولكنه لسبب ما لم يهتم ولم تصدر عنه أي استجابة. وقفت بجانب باب السيارة الخلفي وانتظرت منه أن يرفع نظره. طوى جريدته وفتح الباب، وهو يتأملني لحظة بمقت بالغ. وقفت بمكاني أرتجف لأتغلب على سوء استقباله. ربما لم يكن هذا كراهية، ولكنه مجرد تحسس من القلق الناجم عن التعب الوجودي الذي لا مفر منه، أو النفور. ولكنه كان كالكراهية. مد ذقنه إلى الامام قليلا، وسألني عن اتجاهي. حينما أخبرته باسم الفندق هز رأسه، كأن هذا هو أقل مما يظن، أو كأنه توقع أن أذكر مكانا أبعد. تجرأت وجلست بقربه على المقعد الأمامي، دون أن أنكر الأفكار السلبية التي يمكن ان يستنتجها من قيافتي - وبالجلوس إلى جانبه يمكنه أن يتأكد أنني لست كريها كما اعتقد أول الأمر. ولم أجد طريقة لتجنب مساعر سخطه ونفوره. كان مقعد السيارة صلبا وقاسيا (وأخضر)، كسوته من الفينيل ولكنها متشققة بفعل التقادم. مع زوايا حادة وأطرافها مجعدة بشكل صف من الثقوب. حتى أنها وخزتني من خلال قميصي بينما السيارة تتمايل للخروج من موقف سيارات الأجرة. وعلى الرف الأمامي رأيت فجوات فارغة تتدلى منها أسلاك متداخلة، من المفترض أنها مكان الولاعة أو المذياع أو علبة القفازات. وربما لم تكن فارغة تماما، لأنه يمكن أن تلاحظ لفات من الورق محشورة في الزوايا، ورقعة قماشية حال لونها بسبب الاستعمال. وكانت جافة ومعلقة في إحدى الفجوات. وحينما أبطأنا وسط زحام وقت الغداء، نظر إلى الحقيبة التي أضعها في حضني. ثم رفع عينيه لينظر إلى وجهي. وتظاهرت أنني لم أنتبه لنظرته.
سأل بصوت حرص أن لا يكون مباشرا، ولكنه في حدود شخير لا يخلو من قلة الاحترام: “من أين أتيت؟".
وكان سؤاله على وجه العموم كأنه يتوقع أنني لا أمنحه حق هذا السؤال. أوناتوكا وابي؟. هم بالحركة مجددا، ثم مال للخلف وأراح كوعه المتأهب على نافذة السيارة. كان منطويا ومتوترا، ووجهه مضيء بتوقعات غير ذات معنى. أو هذا ما خيل لي وأنا ألتفت لأجيب على سؤاله. شيء كئيب ومقلق بخصوص حركة وجهه جعلني أتصور أنه شخص عاش حياة خطرة، وجعله ذلك يبدو قادرا على الخشونة المتعمدة في سبيل تخفيف معاناته. وشعرت بالخوف وعدم الرضا من فضولي وتمنيت لو تنتهي الرحلة بأسرع وقت. كان علي أن أنصرف منذ أول نظرة مريبة. رمق الحقيبة مجددا وعبر وجهه ظل ابتسامة، ساخرا مما اعتبر أنه اعتزاز بالذات. كانت شيئا رخيصا من البلاستيك بيد قاسية وسحاب سخيف، ولم أتوقع أن تصمد أكثر من عدة شهور. وعليه إنها لا تستأهل مثل هذا التأمل المركز. هذه المرة سأل وهو يومئ للحقيبة كأزه يشملها بكلامه:" من أين؟".
قلت: "يونيغريزا". إنكلترا. تكلمت بهدوء، وبلامبالاة، لأبين له مقدار عدم اهتمامي بالمحادثة.
نفخ بصوت خافت وقال: “طالب؟".
كان يقصد هل أنا أحد أولئك الذين غادروا ليعيشوا كما يحلو لهم في العالم، ثم عادوا بحكايات وحقيبة رخيصة فقط. هل أنا أحد أولئك الفاشلين الذين عملوا في مجال تافه ومخجل ولم يجنوا غير حكايات عن دراسة لا تنتهي، وترتيبات حكيمة لا تجني منها غير ثروة بسيطة في فترة محدودة؟. كان وجهه مرحا ومتحفزا، وهو ينتظر ليرى كيف أخترع الجواب. وعندما تابع قيادته توقعت أنه سيخبرني عن صموده للعناية بعائلته المريضة، في حين أن الجميع هرب وترك الساحة. ولم تنفعه التوقعات المشرقة لأساتذته ومعلميه حينما كان شابا. أخبرته أنني كنت معلما، فنفخ مجددا، وهذه المرة دون مداراة على الإطلاق.
هل هذا كل شيء؟.
كان زحام استراحة الغداء بسرعته المعهودة، يتدفق في الطريق بأقل مقدار من التردد الذي قد يبدر عن سائق. وعانى سائق سيارة الأجرة من هذ التيار واتكأ على بوقه، كلما تمهلت أي سيارة أمامه وسمحت للمشاة باغتنام الفرصة. تبخترت زرافة من تلاميذ المدارس الهنود اليافعين بين السيارات، وهم يثرثرون بروح مرحة، فأطلق عاصفة من بوق السيارة مع كلمات نابية. نفايات قذرة. ماذا يدعوهم للتلكؤ؟ وكان الزحام على أشده عند مركز البريد. عبرت الحشود الأرصفة، بعضهم رجال مسرعون يرتدون القمصان وربطات العنق، مشاغل - مشاغل - مشاغل، آخرون أكثر تأنيا، توقفوا بين حين وآخر، ليتأملوا ما لدى تجار الأرصفة من بضاعة رديئة.
ترنم يقول وهو ينعطف يسارا إلى المرفأ: "يونغيريزا". وهناك كان موضع فندقي. كرر: "يونغيريزا. بلد الرفاهية".
سألته بصوت لا يخلو من الدهشة وتكذيب النفس: “هل زرتها؟".
أنت؟. بعد كل ما بذلته من جهود كي تتقدم في طريقك من خلال ثقافة معتزة ومفتونة بنفسها، تحصل على كلمة عابرة تقودك إلى خرابة بائسة. بلد الرفاهية. ضغط السائق بإلحاح على البوق لينبه عربة ماء كانت أمامه كي تخلي الطريق. ظهر عليه اليأس من عربة الماء. واستمر ذلك دقيقة تقريبا، وخلالها لوح بيمناه من النافذة وكأنه يفكر بالقفز من السيارة وإلقاء حمولة العربة على الأرض. لوح عمال المرفأ بأذرعهم لسائق سيارة الأجرة باغتباط، وكانوا يبتاعون غداءهم من أكشاك على أطراف الطريق، وهم من بين زبائن بائع الماء. ناور السائق بسيارته من حول العربة، وهو يضغط على البوق بنفير طويل.
سألته: “هل لديك أقارب في إنكلترا؟". لم أتخيل أن شخصا يعتاش بهذه الروح النزقة، ويقود سيارة أجرة بالية كالتي نتنقل بها، يمكنه ادخار أموال تكفي للحياة في بلد الرفاهية ولو لليلة واحدة وفي غرفة تقدم له السرير القذر والإفطار الفاسد.
قال: “سبق لي أن عشت هناك". ثم التفت ونظر لي وضحك. غادرنا الطريق الرئيسي، وكنا نتقدم وراء مستودعات المرفأ وباحة القطار، واقتربنا جدا من الفندق. وتوجب عليه أن يركز على الطريق المرهق، بسبب ما يتخلله من مطبات وثقوب وانحدارات حول خط القطار. وبدأ يتكلم ولكن توالت كوارث الطريق، الواحدة بعد الأخرى، بسرعة، فهز رأسه، مستاء من مقاطعة حكايته. كان يبدو أن مكان الفندق ضرب من الجنون، كان الطرف الآخر من الباحة مهملا تغطيه بقايا الآلات ونفايات العمال، ولكن كان الفندق هنا قبل هذه الأرصفة وخط القطار الذي تحول إلى قضبان مهترئة، وقبل موت الطريق.
قال: “كان معي بغي. واحدة من العاهرات الأوروبيات. أخذتني إلى هناك، ثم إلى فرنسا، ووصلنا أستراليا. ذهبنا إلى كل مكان. وكانت تدفع كل الأجور. أنت تسمع هذه القصص من الآخرين، وتعتقد أنهم يكذبون، ويحلمون بعاهرات أوروبيات لديهن النقود، لكن محرومات من العاطفة. توقعت ذلك حتى أصبح لدي بغي منهن".
كنا قد وصلنا، ووقف خارج الفندق، وسيارته ترتعش بقنوط وهي بوضعية الانتظار.
قال وهو يستلم أجره: “سلم. كانت تدعوني سلم". غطت وجهه ابتسامات نابعة من ذكرياته. ثم أضاف: “ولكن اسمي سليم. وأنا دائما أقف في طابور سيارات مركز البريد. تفضل ثانية".
كنت قد وجدت هذا الفندق بالصدفة. فقد أخبرني موظف الهجرة أنه لن يمنحني إذنا بالدخول ما لم أذكر في الاستمارة عنوان إقامتي في هذا البلد. قال ذلك بما يشبه الاعتذار، لأنه بعد أن شاهد في جواز سفري مكان الولادة تكلم بإيجابية عن زنجبار، أقله لوجود أقارب له هناك. وعرض علي قائمة بالفنادق - قال: ماذا تختار. لا يجب عليك أن تأوي إلى أي منها. اكتب الاسم في الاستمارة فقط. اخترت واحدا، وحينما وجدت سيارة خارج المطار كان هذا هو الاسم الوحيد الذي أمكنني تذكره. وارتحت لانزواء المكان، والصمت المحفز المخيم على باحة القطار، وساعات العمل في العنابر والمستودعات. هذا يعني أن أحدا لن يزعجني بزيارة، كما يمكن أن تتوقع لو أن الإقامة في مكان جذاب في الجانب الآخر من البلدة حيث الكازينوهات والمسابح.
ولكن أدهشني أن يخابرني موظف الاستقبال في الأمسية التالية ليعلن عن قدوم زائر. وطبعا كان سليم. ولم يخطر لي أنه سيأتي، ولكن بما أنه أصبح هناك، بدا الأمر وكأنني كنت متيقنا طيلة الوقت أنه سيأتي. كان يرتدي قميصا حريريا أخضر تزينه صور زهور بيض وقوارب صيد زرق - وكان بنصف كم وذراع النظارة الشمسية مطوي أمام جيب قميصه. وكان بجينز مخملي عريض حول الخصر، ولكن ثبته بحزام عريض، ترك طيات حول خصره.
أصر أن يقدم لي شرابا، وقدم شرابا آخر للساقي. كان البار فارغا تقريبا، وكان الثنائي البلجيكي الذي يمتلك الفندق مشغولين بتسلية إحدى الصديقات. عداهم لا يوجد أحد. قالت الضيفة بضيق: Ces gens sont (هؤلاء البشر) مستحيلون. ورفعت صوتها للتأكيد بلا تردد. هؤلاء الناس مستحيلون. كانت هزيلة القوام، امرأة موفورة الصحة بالأربعينات من عمرها، وطازجة وتثق بنفسها. رمق سليم الأوروبيين الثلاثة لحظة، كأنه يفهم ما يقولون، ولكن من الواضح أنهم لم يكونوا مهتمين به. ثم قال: “اشترت لي هذا، صديقتي". ولمس برقة قميصه ثم قرص الجينز المخملي الأزرق. كان مبتسما، غير متهكم، ولم يمانع أن يكون الساقي معنا. قال:”لا تريدان أن تعرفا كيف وجدتني؟". وانتظر أن نومئ أنا والساقي. تابع: “حسنا سأخبركما. كانت وحدها أمام فندق تومبيلي، في الشاطئ الشمالي. هل تعرفانه؟. رأيتها تجلس تحت شجرة قرب المدخل، كأنها
بانتظار شخص ما. بالعادة هم لا يخرجون حتى يأتي عمال الفندق لينقلونا بسيارة. هل رأيتم ماذا ألبسوا البابون؟. أتوا بهم من التلال البعيدة وألبسوهم مآزر صفراء وبابيونات عنق سوداء. ثم طالبوهم بثمن الأزياء. أنا أعلم ذلك". كان الساقي يرتدي قميصا أبيض، وبابيون عنق قصيرة سوداء، ولف مريولا أصفر حول وسطه - وربما عليه أن يدفع كذلك لقاء زيه، ولكنه ضبط نفسه ولم يظهر عليه الامتعاض. تابع سليم: “على كل حال. توقعت أنها تنتظر هناك أحدا ليرافقها. ولكن فكرت يجب أن أجرب في كل الأحوال. لم تكن صبية، ولكنها ليست عجوزا. استمعت لي لحظة، هل تفهمانني، وأنا أثرثر معها كالمعتاد عن الجولة السياحية بتعرفة الحكومة، ثم وجدتها تدخل في السيارة. قدتها بجولة طيلة اليوم، حتى بلغنا ماليندي، ووايتامو، وتاكايونغو. وعرفتها بتلك الأماكن، مع إضافات كلما سنحت الفرصة، أو إذا سألتني أسئلة صعبة. في المساء، وأنا أعود بها إلى فندقها، طلبت مني التوقف بجانب الشاطئ، وهناك فعلناها. على الرمل، في العراء، مثل كلبين. وكررنا ذلك يوميا. أحملها في الصباح، وأتجول بها في الأرجاء، وأخترع لها القصص، ثم أرافقها إلى الشاطئ بعد أن يخيم الليل. وبعد عدة أيام من هذا الطقس، طلبت مني أن أسافر معها إلى يولايا. وهي من تدبر كل شيء. التذاكر، جواز السفر. دفعت لقاء كل شيء".
قلت عفويا، فقط لأعلق بكلام ما: “لا بد أنك كنت جيدا معها عند الشاطئ". لم أصدق أن أي امرأة تلتقيها بالصدفة، وترى أمامها شخص مثل سليم، لا تتوقع المخاطر. وفي كل حال لم أكن جاهزا للاستماع إلى قصة أخرى عن امرأة شرقة تشتهي قضيبا إفريقيا. ضحك الساقي بلا صوت، ونظر سليم إلينا واحدا بعد الآخر، وكان يبدو كالمجروح قليلا.
قال له: “اسمي سليم". ثم أفرغ كأسه ودفعه قليلا نحوي قال: "لا يكلف الأمر الكثير من النقود إن كنت تستبدل عملة أجنبية. هل تعلم ذلك. وعموما كان لديها الكثير".
دفعت ثمن مشروبه وجلست أصغي للمزيد من حكايته عن المرأة المستهترة. كانت قد أنهت زواجها، وحصلت على حصتها من النقود، وقررت أن تسافر. أخذتني معها إلى ليفربول، مكان ولادتها، ولكن أبويها هاجرا إلى أستراليا وكانت حينها طفلة.
هل عانى من المصاعب؟ معها؟. نفض كتفيه. فقد اهتمت بكل شيء، وساعدته على رؤية أشياء، وكانت العاهرة تريد الجنس يوميا، وأحيانا مرتين أو ثلاث مرات في اليوم. لم يكن ذلك صعبا. رافقها لعدة أسابيع. فربح صديقين يعيشان بالجوار، وكلاهما مسلم، أحدهما صومالي والآخر من موريشوس. وعلماه كيف يحصل على النقود. ثم عاش مع المرأة حياة مرفهة. كانت الحكومة الإنكليزية بالغة الغباء. وليفربول مزدحمة بالسود، أولاد حرام لا يرحمون ويتصرفون على هواهم، ومع ذلك تمنحهم الحكومة النقود. كانت الإنكليزيات تتقربن منه دائما، تربتن على شعره، وتحشرن أنفسهن به، وتقدمن له الشراب. بعد دقائق من هذا الكلام ودعته وغادرت. قلت له: علي كتابة بعض الرسائل.
عاد في الأمسية التالية، بقميص آخر ملون. أخبرت موظف الاستقبال أن يقول إنني غير موجود، ولكن ربما لم بفعل بسبب ارتباطات أخرى. وفكرت أن أنبهه بملاحظة عابرة، وأنا أعبر من أمام المكتب، ولكن كانت نوبة العمل من نصيب الشاب الآخر.
قال لي سليم: “اشتريت هذا من أستراليا". وقرص قميصه وتابع: “ذهبنا إلى هناك بعد أيام من زيارة فرنسا. اسمها بيتي. كانت تدعى بيتي. بيثاني. اسم ديني، ولكن تسمي نفسها بيتي. هل تريد أن تذهب إلى الملهى في ليلة الغد؟ لا يزال أمامك ليلة أخرى، أليس كذلك؟ هناك مكان ممتاز في الجانب الآخر من ماجينغو. ليس شيئا يشبه السخافات السياحية. غدا يجب أن نذهب إلى هناك حتما. كانت النساء الأستراليات تردن ذلك كل الوقت، غير أن رجالهن لا يتحلون بنفس الرغبة. ولذلك النساء دائما ملتهبات. مشتعلات بالنار. ولم تمانع امرأتي إن رافقتهن". وأضاف الكثير لذلك، مع تفاصيل عن التدابير التي قامت بها النساء للانفراد به، وعن الهجران اللاحق بلا خجل.
سألته في النهاية في محاولة لوضع نهاية للقصة: “وماذا أعادك إلى هذا المكان؟".
قال دون مماطلة: “عليك أن تتوقف عن اللهو في خاتمة المطاف وأن تعود إلى أهلك. أي مكان آخر سيجعل منك مهرجا".
رأيت أن تلك اللحظة مناسبة للوداع، لكن كان سليم عمليا بعقل تجاري، ورفض أن يطلق سراحي. قبض على معصمي، ولم يفلته، ريثما يطلب دورة أخرى من المشروب على نفقتي. استجاب الساقي، ووقعت على الورقة، فتراجع، بحذر، وعيناه تغضان النظر عن يد سليم التي طوقت معصمي. كنا الوحيدين في البار. وما إن أصبح الشراب أمامنا، أفلت يدي مع ضحكة، وترك دائرة باردة على الجزء العاري الذي كانت يده تقبض عليه. وقفت لأنصرف، لاحظت أنه يفكر بقول شيء ما، ثم بدل رأيه وقال: “وماذا عن كأسك؟ لا بأس، سأشربها. أراك غدا إذا. أنت لم تنس زيارة الملهى. أليس كذلك؟".
طيلة اليوم لم أفكر كيف أتصرف حينما يأتي. فقد خصصت اليوم لكتابة الملاحظات عن بعض الزيارات والمقابلات التي تراكمت خلال الأسبوع الماضي، وكان هذا أسوا ظرف للكتابة، باعتبار أن زيارة سليم متوقعة. لا يوجد ميزة و لا مشقة في كتابة الملاحظات، لا شيء يشغلك أو يلهيك، وتحتاج فقط للتركيز على أحداث أثرت بك وانقضى الأمر.
في المساء اقتنعت أنه من السخف أن أنهك نفسي للغاية. وتوصلت قدر استطاعتي لجمع ما يلزم من معلومات عن شاعر غير مشهور يسمى باندو قاسم، كان يعيش في منعطف القرن، وحاولت أن أرى ما إذا كنت جاهزا لكتابة أي شيء عنه، غير أن ملهى ليليا في النصف الآخر من ماجينغو لا يفيد هذا الموضوع. ومع أنه لا يضره، وربما يغنيه. فبحوثي لم تسفر عن أي شيء يهم عن باندو قاسم، ولعل الملهى الليلي الذي رشحه سليم قد يساعد. لم أكن جاهزا لمشاهدة هذه الأماكن، وأنا بكل تأكيد أستطيع أن أزعم أنني أعرف هذه البلدة جيدا بدهونها المتراكمة على بطنها، ولكنه لا يمكنها أن تلحق بي أي ضرر غير الإصابة بالغثيان. لم أكن آمل أن أكون في دائرة أصدقاء سليم، والذين أتوقع أنهم مثل سليم من النمط الذي يقف له الشعر، وعموما بقي لي أقل من يومين قبل العودة إلى إنكلترا. لم يمكنني تصور إصابتي بمقدار ملحوظ من الضرر في هذه الفترة البسيطة. يمكن للملاحظات أن تنتظر، ويجب علي أن أنفق أمسيات صعبة وأنا أصغي إلى أقاصيص عن انتصارات جنسية على نساء عابثات ومستهترات. أوليس هذا أفضل من طرد سليم لأجد نفسي هدفا لغضبه وخبثه؟.
وهكذا في لحظة وصوله، كنت جاهزا له. وبدأت أفكر أنه لا يتوجب عليه أن يظهر ليعاقبني على شكي بقصصه. حينما هبطت كان يجلس بمزاج متعكر في سيارته. شغل سيارته بعد دمدمة حياني بها. جعلني ذلك الترحيب الرقيق أرتجف من الأفكار الآثمة. لماذا لم أطلب منه ببساطة أن يذهب؟. نظرت أمامي، دون أن أفكر بهدفنا، مع أنه لدي فكرة أين كنا. ولا بد أن تفكيري شرد لأنني فجأة أدركت أن سليم ابتعد عن الطريق، وكان يقود على طريق غير ممهد وممر غير مضاء. وكانت الأشجار تضغط على الجوانب من حولنا. وأضواء السيارة الأفقية جعلت مشاعري أكثر استعداء، كما لو أننا في نفق تحت الأرض. كانت أمسية بهيجة تهب عليها النسمات، ولكن في هذا النفق كان الهواء مشحونا بالبخار، وتفوح منه رائحة الأرض الرطبة. التفت سليم وتأملني، ورأيته يضحك. قال:”لا يبق الكثير". وبدأ يدندن. نبح كلب في الليل وبعد دقيقة، هاجت الأشجار السود بسبب صوت مر من هناك. في اللحظة التالية، أجبر سليم سيارته على الصعود فوق كومة تراب صغيرة، ودخل في باحة يحيط بها أشجار سود عملاقة. وقفت هناك سيارة أخرى، خارج أحد البيوتات. ولا بد أن هناك ثلاث أو أربع بيوت، ولكن يستحيل أن تجزم بسبب الليل. وقف بسيارته بجانب الأخريات، ثم غادرناها. وتبين أن الملهى هو الغرفة الأمامية من بيت طيني مدعم بألواح الخشب، وينيره مصباح كيروسين ضعيف. كان قد سبقنا رجلان، نهضا للترحيب بنا، كما لو أنهما بانتظارنا. قال سليم ضاحكا: “هذا ضيفنا من يونغيريزا".
بدا لي أحد الرجلين أنه بعمر سليم، وله نفس المظهر المتجهم. وكان الثاني أقل بالعمر وأضخم بالحجم، وحينما رمقني رأيت تقطيبة عفوية على فمه. اسمه ماجد. ولكن لم أسمع اسم الرجل الأكبر أول الأمر (وتبين أنه بودا). وقبل أن نجلس حول طاولة غليظة، نادى ماجد يطلب البيرة. ظهرت من الغرفة الخلفية امرأة في أواسط العمر، دون تحديد، وكانت بثوب ضيق تالف من الاستعمال، ومبقع بلون أسود تحت إبطيها. وتغطي رأسها بمنديل من نفس المادة، ولفت حول وسطها مئزرا. وبعد لحظات من النكات الهائجة، وبعض الصخب الإجباري، ذهبت مجددا لإعداد الطعام الذي طلبه أصدقائي الطيبون. كانت هناك زجاجات بيرة فارغة على الطاولة، وستبقى هناك كدليل على جرأة الشاربين. كان كل من ماجد والرجل الآخر قد شربا نصف زجاجة. والآن يتابعان ما تبقى، وكانا يرفعان الزجاجات إلى شفاههما بينما البيرة تغطيها الرغوة. كانت زجاجات كبيرة. وبلا أي كأس. تخيلت شيئا مختلفا حينما قال سليم سنذهب إلى الملهى، ولم أتوقع بيتا معتما في غابة يجتمع فيه الرجال لتناول الشراب سرا. قال بودا مؤكدا: “سيجلبون المزيد". كان تعبيره يراوح بين القليل من الكبت والكثير من المكر الصامت الذي لمسته عند سليم. ربما بفعل الشراب. عليك أن تكون جادا، ومهووسا، فيما يتعلق بأشياء للشراب في بلدة مسلمة مثل هذه، حيث أن السرية مستحيلة وانكشاف الأمر مؤكد. ولعل ذنب ارتكاب المحرمات يولد استهانة ساخطة بالذات، أو أن تناول السموم الضارة المتوفرة في جو ثقافة ضيقة ومحدودة هو الذي يتسبب بتلك الحالة المحتقنة بالألم. أو لعل الذل والاختناق يقود رجالا من هذا النوع، لتناول المشروبات رغم كل شيء. كيف لي أن أعلم؟.
قال سليم بمزاج متعكر وصوت مبحوح:" أرى أنكم لم تكلفوا أنفسكم الذهاب لصلاة المغرب اليوم". وأشار للزجاجات الفارغة على الطاولة. ضحك الرجلان من سخريته وابتسم سليم مكرها، وتجعد وجهه المنقبض قليلا. وبدا كأنه يحترق. كان بودا قصيرا وممتلئا، وحتى أنه بدين، ولكن كان مظهر جسمه صلبا ومضغوطا. وكأن امتلاءه لا علاقة له بميوله ولكن بشيء آخر محسوب ولا علاقة له بالمتعة فقط. تأملني قبل أن يتكلم، بعبث، ليمنح نفسه انطباعا بالرجولة والقسوة قائلا: “أخبرنا بما لديك عن يونغريزا. هل حقا لديهم هناك قطارات تسافر تحت الماء؟".
صاح سليم: “اسمع لهذا المتخلف. ألم تسمع بالأنفاق؟".
قال ماجد دون أي نبرة تدل على التعاطف: “ستجعل هذا السيد الإنكليزي يعتقد أننا كلنا طائشون مثلك".
جاءت بنت بثوب ممزق ويجلله الغبار من الغرفة الداخلية، وهي تحمل زجاجتي بيرة. كانت عيناها فارغتين تماما، تنظران عبر ما تصادف بشيء من التمعن والتركيز. وضعت إحدى زجاجتي البيرة أمامي. وحين مالت إلى الأمام رأيت من شق تحت إبطها أن جسمها شاب وممتلئ. وضعت الزجاجة الأخرى أمام سليم، فربت على مؤخرتها وجعلها ذلك تعبس.
قال ماجد بفظاظة وهو يطلق عاصفتن من العواء الضاحك: “صديقنا من يولايا يريدك يا عزيزة".
التفتت بعينيها نحوي مع نظرة تنم عن اهتمام عابر. ثم وقفت تنتظر، كما لو أنها تريد أن ترى ماذا سيجري لاحقا.
قال سليم وهو يضحك لي بتهتك: “هي لك".
رأيتها تعبس مجددا.
نظرت إليها، لوجهها الصغير والمدبب وجسمها اليافع والنحيف، ولم ألمح أي أثر للرفض. هززت رأسي فنكست نظراتها. ضحك ماجد ووقف. التفتت البنت إلى الغرفة الداخلية، ويداها تجران مسبقا ثنيات إبطيها بينما ماجد يترنح في أعقابها. ابتسم بودا بدماثة وعاود توجيه أسئلته لي عن إنكلترا. أجاب سليم على معظم الأسئلة، وهو يطلب مني بين حين وآخر تأكيد كلمة أو اثنتين. أعتقد أنني سمعت صوتا ثاقبا في إحدى اللحظات، وحينها ارتعش لسان اللهب في قنديل الزيت. مرت عليه فترة تبدو طويلة، وحينما خرج كان منحنيا، ووجهه اللماع موفور الصحة. قال وهو يمد يده لبقايا زجاجته: “مشقة تسرب العطش". وأفرغها في جوفه وأعادها مع ابتسامة المنتصر وقال: "حان دور الإنكليزي كما أظن".
نادوا عزيزة فجاءت بعد لحظة، وعيناها فارغتان ومشدوهتان كالسابق، وأطراف فمها متهدلة للأسفل. طلبت لهم البيرة، وأخبرت سليم حالما أنهى شرابه أنني أريد أن أنصرف.
سأل بودا: ماذا عن الطعام الذي طلبناه؟.
قلت: عندي واجبات لا بد منها.
نهض بودا وتبع البنت بهدوء بعد أن أحضرت البيرة.
سأل ماجد بلا ابتسامة: “ما هي طبيعة عملك؟ ألا ترغب بالنساء؟ اذهب وابذل جهدك معها. أم أنك لا تهوى النساء؟. ولكنها لن تفعلها معه؟". وأشار بحنكه إلى سليم وسأله: “ماذا فعلت بها؟".
أخذ سليم جرعة كبيرة من زجاجته وقال: “لدينا حفل زفاف. ولذلك سنتركك مع ألعابك الوضيعة".
سأله ماجد: “ماذا فعلت لها أيها المنحرف". وضحك كما لو أنه يعبر عن بهجة قصوى.
وصلنا إلى العرس في الوقت المناسب، وحضرنا طقوس مرافقة العائلة والأصدقاء للعريس حتى باب بيت عروسه. ضرب الطبول طبالان شابان ونحيلان جدا ومتشابهان وبوجهين مشدودين، وكانت عيناهما تنظران إلى الداخل في غضون هذا الضجيج. زين باب البيت أوراق نخيل، وتاج من الأضواء الملونة امتد على عرض الجدار الأمامي. ومن داخل البيت انبعثت أصوات نساء تغني، ثم فجأة تحولت إلى عاصفة من الزغاريد السعيدة وذلك حينما وصل العريس إلى الباب. تململ الموكب في المكان، وهم يصيحون بعبارات تحفيز للعريس، ثم انطلق صياح مرتفع وهو يدخل. وبدأت عيون الصغار تتلفت بقلق، بحثا عن الطعام المنتظر. نخر سليم بامتعاض وقال: “العروس واحدة من قريبات زوجتي".
لم يخطر لي أن لديه زوجة. سألته وهو يقود السيارة عائدين إلى الفندق: “هل كنت متزوجا قبل أن تسافر مع بيثاني؟".
كان اسما جميلا. وأتمنى لو تسنح لي الفرصة لاستعماله.
قال: “نعم". كنا نتقدم في الطريق قليل الإضاءة الذي يقود إلى باحة القطار، ولكن حتى في ذلك الضوء رأيت الهم والخوف يغطيان وجهه. أضاف: “تزوجتها قبل فترة طويلة".
سألته: “وهل عدت بسببها؟".
قهقه. وبعد لحظة، والسيارة تزمجر فوق طريق وعر، قال: “أعطتني شيئا في النهاية. تلك البغي. حينما رافقتها نزفت. زرت الطبيب فذهبت معي. قال إنه شيء غير ضار ولكنها قالت إنه لا يمكنني أن أبقى. ولم أعرف ما هذا النزيف. لكن كلما عاشرت امرأة أنزف".
تابعنا بصمت حتى توقفت السيارة أمام الفندق.
سألته: “هل زرت طبيبا بعد عودتك إلى هنا؟".
قال: “أي طبيب؟ وهل يوجد هنا أطباء؟".
نظر أمامه. ثم استدار نحوي مع ابتسامة خجولة ولطيفة، وقال: "خذني معك في الغد. هناك يمكنني رؤية الطبيب. خذني. وسأنفذ كل ما تأمرني به".
ومال نحوي، وابتسامته تعبر عن نفسها باستسلام وهي مطبوعة على وجهه المتألم والخائف.
جاء في اليوم اللاحق مع أنني أخبرته أنني سأعتمد على نفسي حتى أصل إلى المطار. وتكلم بأسلوبه الخبيث والعابث، منتقدا كل شيء يراه. ومع ذلك ألححت أن ينساني ويغادر، لكنه أوقف سيارته واقترب مني وفي يده جريدة ملفوفة.
قال: "كم سعر حقيبة مثل تلك؟ أحضر لي مثلها في المرة القادمة. أو أرسلها لي وسأحرص على أن أعيد لك نقودك. ليس لأنك بحاجة لنقودي في بلد الرفاهية. عموما سريعا ستتوقف عن اللهو، وتعود إلى بلدك".
ثم أضاف: “على الجميع أن يفعلوا ذلك. وإلا تحولوا إلى سخرية في بلد أجنبي".
صافحته وقدمت له كل النقود المحلية التي بحوزتي. نظر إلى الرزمة الكبيرة بدهشة.
قلت له: “أتمنى أن تتحسن أحوالك".
سألني ضاحكا: “ماذا تقول؟".
دس النقود في جيبه وقال: “في المرة المقبلة ستبقى حتما". ثم انصرف ملوحا بيده دون أن ينظر إلى الخلف.
***
...................................
* الترجمة من مجلة Wasafiri. مجلد 11. عدد 23. ص. 44-48.
* عبد الرزاق قرنح Abdulrazak Gurnah روائي بريطاني من أصول يمنية. كنيته الصحيحة باللغة العربية "قرناح" وتعني رتاج الباب.

ترجمها شعرا موزونا مقفى:

جميل حسين الساعدي

https://youtu.be/5Qr9ULikxOo

***

خواطر ليلية (2)

أفكّــــرُ كلـّـــما حـــلَّ الظــلامُ

بألمانيـــا لأنّــي لا أنــــــــــا مُ

*

عيوني ليسَ تغمضُ ثمّ سالــتْ

دمــــوعٌ راحَ يُسخنها الهيـــامُ

**

سنونٌ قدْ مضتْ وأتتْ سنونٌ

ولمْ أنعــمْ برؤيـــةِ وجــهِ أمّــي

*

مضى لي اثنتا عشرَ اغترابــا ً

وشــــوقي في ازديادٍ كلَّ يــومِ

**

وتكبــرُ لهفتي ويزيدُ شوقـي

لســــاحرتي.. لسيّدتي الكبيرهْ

*

أفكّـــرُ دائماً فيهـــــا، فصنْها

إلهي .. أنتَ أدرى بالسـريرهْ

**

أحبتنـــــي الكبيـــرةُ أيّ حُــبِّ

فإنّـــــي فـــي رسائلها رأيتُ

*

يـداً رَجفتْ وقلباً في اضطرابٍ

بعمقٍ راحَ يخفقُ مُــذْ بعُدْتُ

**

بذهنـــــي دائمــاً ذكرى لأمّي

لمدّةِ اثنتـــــا عشـــرَ الطويلهْ (3)

*

فمـــــا عانقتُهـــــا منذُ افترقنا

سنــونٌ قدْ مضتْ ليستْ قليلهْ

**

لألمــــانيا بقـــاءٌ مُستمّـــــــرٌ

بلادٌ أشبهــتْ جسمــا ً سليـما

*

ببلوطٍ يميـــــسُ وزيزفـــونٍ

سألقـاها كمـــا كانتْ قـــــديما

**

وإنّـــي لستُ ذا لهفٍ وشــوقٍ

لألمــانيا وأمّــــي ليسَ فيهـا

*

بلادي سوفَ تبقـــى غيرَ أنّي

إذا أمّــي مضتْ لــن ألتقيـــها

**

فقدتُ أحبّـةً مُنـذْ اغتــــرابي

كثيـــرٌ منهُـمُ تحتَ التــــــــرابِ

*

ولو أحصيتُ منْ أحببتُ عدّاً

ستدمى الروحُ من كُثْرِ الحسابِ

**

يُزيد العـدُّ مِنْ ألمــي فما لـي

خلاصٌ مِنْ مُعاناتـــي ومخرجْ

*

إلهي ـ أيّها ـ المحمودُ ـ خفّفْ

جنائزهمْ على صدري تُدحْرَجْ

**

بضــوءٍ من نهارٍ ذي صفاءٍ

فرنســــيٍّ مِــــن الشبّــاكِ نَــوّرْ

*

وبسمةِ زوجةٍ كالصبحِ حسناً

تبــدّدَ همُّ ألمــــــانيا وأدْبَــــــــرْ

***

جميل حسين الساعدي

.............................

(1) الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797 ـ 1856) هو أمير الشعر الغنائي في ألمانيا، وقد اعتبره كثير من النقاد أهم شاعر في تأريخ الأدب الألماني بعد غوتة . وهو في قصيدته هذه يعبر عن حنينه إلى الوطن وإلى أمه، في الفترة التي أمضاها في فرنسا

(2) سبق ان نشرت هذه القصيدة قبل خمس سنوات، وأعيد نشرها اليوم، والدافع لذلك هو اطلاعي عن طريق الصدفة على فيديو أعده لليوتوب أحد المعجبين بالترجمة، فنشرها مصحوبةَ بإلقاء جميل للنص الألماني مع موسيقى تأملية راقية، فرايت أن أنشر الترجمة ثانية  في (المثقف) برفقة  الفيديو إكراما لصاحبه. 

 (3) اثنتا عشر: المقصود اثنتا عشرَ عاما ً

...................

Nachtgedanken (Heinrich Heine(

Denk ich an Deutschland in der Nacht,

Dann bin ich um den Schlaf gebracht,

Ich kann nicht mehr die Augen schließen,

Und meine heißen Tränen fließen.

Die Jahre kommen und vergehn!

Seit ich die Mutter nicht gesehn,

Zwölf Jahre sind schon hingegangen;

Es wächst mein Sehnen und Verlangen.

Mein Sehnen und Verlangen wächst.

Die alte Frau hat mich behext.

Ich denke immer an die alte,

Die alte Frau, die Gott erhalte!

Die alte Frau hat mich so lieb,

Und in den Briefen, die sie schrieb,

Seh ich, wie ihre Hand gezittert,

Wie tief das Mutterherz erschüttert.

Die Mutter liegt mir stets im Sinn.

Zwölf lange Jahre flossen hin,

Zwölf Jahre sind verflossen,

Seit ich sie nicht ans Herz geschlossen.

Deutschland hat ewigen Bestand,

Es ist ein kerngesundes Land!

Mit seinen Eichen, seinen Linden

Werd ich es immer wiederfinden.

Nach Deutschland lechzt ich nicht so sehr,

Wenn nicht die Mutter dorten wär;

Das Vaterland wird nie verderben,

Jedoch die alte Frau kann sterben.

Seit ich das Land verlassen hab,

So viele sanken dort ins Grab,

Die ich geliebt – wenn ich sie zähle,

So will verbluten meine Seele.

Und zählen muß ich – Mit der Zahl

Schwillt immer höher meine Qual,

Mir ist, als wälzten sich die Leichen

Auf meine Brust – Gottlob! sie weichen!

Gottlob! durch meine Fenster bricht

Französisch heitres Tageslicht;

Es kommt mein Weib, schön wie der Morgen,

Und lächelt fort die deutschen Sorgen.

 

بقلم: كازوي شينكاوا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

نجم وقارب

تبزغ الشمس

من وراء الأفق

و تقول: صباح الخير.

هناك نجم

لم يزل حاضرا في السماء

الشرقية

و يوجد قارب واحد

في البحر أيضا،

لم يحرك ساكنا

منذ الليلة الماضية.

كان النجم والقارب

يتبادلان الحديث

طوال الليل

تكلم النجم عن الكون

الواسع،

و تكلم القارب بدوره

عن الماء المالح

الغزير...

أنا على يقين تام

بأن أيا منهما

لا يقدر على إرغام نفسه

على توديع الآخر

لأن كل منهما

لديه المزيد والمزيد

ليتكلم بخصوصه.

***

....................

 - كازوي شينكاوا: شاعرة يابانية غزيرة الأنتاج. ولدت في إيباراجي عام 1929 وتوفت في 10 آب 2024 عن عمر يناهز 95 عاما. بدأت بكتابة الشعر وهي في ال 14 من العمر. نشرت أكثر من (30) مجموعة شعرية، بدأتها ب (الكرسي النائم) في عام 1953. لها أعمال شعرية موجهة للأطفال. أسست مع ساشيكو يوشيهارا مجلة (لا مير) للشعر النسائي 1983. من كتبها أيضا (أنطولوجيا الأرض 1997). حاصلة على جائزة مورو سايساي للشعر بالاشتراك مع ساشيكو يوشيهارا 1965. ترجمت هذه القصيدة للإنكليزية (تاكاكو لينتو) الحاصلة على جائزة لجنة الصداقة اليابانية – الأمريكية 2018 و2019.

بقلم: ميلين فرنانديز بينتادو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

- أنا شخص كبير السن، بيتر بان. لقد كبرت منذ وقت طويل.
- لقد وعدتيني أنك لن تكبري، ويندي.
- لم أستطع منع ذلك.
جيمس ماثيو باري. بيتر بان ووندي
- إذا شعرتِ أن الأمر أصبح صعبًا للغاية، فأشركي أختكِ في النزهة، ولكن فقط إذا تعقد الموقف. اتفقنا؟
أومأتُ برأسي طائعة أمام سيل التعليمات التي أطلقها ذلك "الزعيم" ذو الخمسة عشر عامًا، والذي كان لديه حلولٌ لكل المواقف التي يمكن تخيلها، كأنه مخططٌ يسير على قدمين. لكن الجزء الأصعب كان من نصيبي أنا، المنفذة: طلب الإذن من والديّ للخروج وحدي مع "ك" كان يُرعبني؛ أظن أنني كنت أفعل ذلك بوجهٍ يظهر عليه الذنب لدرجة أنه كان يُشجع على الرفض.
كنت فتاةً في سن المراهقة منعزلة جدًا. مقابل مجموعة من وسائل الراحة المادية (التي ربما كانت صيقاتي يغبطنني عليها) لم يكن من المفترض بي أن أحلم حتى بأن أكون جيمس دين أنثوية. كنت حريصةً جدًا على ألا أثير صراعاتٍ بين الأجيال، أو أرفض مرافقة والديّ في نزهاتهما، أو أتذمر من صرامتهما. وعندما كانا يمنعونني من شيءٍ ما، كنت أتظاهر بعدم اكتراثي بالأمر. لذلك، قمت بتعديل طلبي قليلًا، سعيًا للحصول على نتائج إيجابية في تلك "المهمة"
- ماما، هل تظنين أن ليلي وأنا نستطيع الذهاب مع "ك" إلى حديقة الحيوان يوم الثلاثاء؟
كانت أمي امرأة شابة وجميلة، لكنها كانت تحتاج إلى فرض أوامر سخيفة لتعزيز ثقتها بنفسها، التي كانت منخفضةً بشكلٍ غامض. كانت شخصيةً يصعب إرضاؤها، لكنها كانت مهمةً جدًا في العائلة، وكنا جميعًا ندللها قليلًا.
- منذ متى وأنتِ مهتمة بالحيوانات؟ أسوأ درجاتك دائمًا في مادة الأحياء.
كنتُ طالبة متفوقة لا أترك مجالًا للقصور. أما عطلاتي، فكانت تبدو كعطلات جانحة شابة "تحت المراقبة". دائمًا برفقة، دائمًا تحت المراقبة. كانت علاقتي العاطفية مع "ك" التي استمرت أكثر من عام تقتصر على الاستماع إلى الموسيقى وتسجيل الأشرطة في غرفة المعيشة نهارًا وفي الشرفة ليلًا. لقد أدى هذا النظام القاسي من القيود إلى تأثيرات مختلفة فينا. فقد أصبحت في عيني "ك" شخصًا مرغوبًا جدًا، وكأنني فينوس في جينز فوق قاعدة من خمسة طوابق، وكان هو بالنسبة لي كأمير لطيف ورومانسي وواثق، مملوء بالحب كما في قصص الأفلام (وبالنظر إلى حادثة إذن الخروج، سيكون كحكاية سندريلا). وهكذا كانت علاقتنا تتطور في اتجاهين تحت عينَيّ والديّ الحذرتين الصارمتين.
- يقول "ك" إنهم أحضروا دبًا آكل النمل، أظن أنه أول حيوان جديد يصل منذ قرن. نريد أن نراه.
- لا أعرف، اسألي والدكِ، أنا لست مقتنعةً تمامًا.
والدي، الذي لم يكن موجودًا في المنزل أبدًا. دائمًا على سفر، وعندما كان يعود كان يملأ المكان بالهواء النقي والفرح. مليئًا بالنكات والهدايا، ويترك أمي مسؤولةً عن الحفاظ على الانضباط الصارم، بينما كان دوره هو أن يكون متساهلًا ومتفهمًا. بالطبع، كان نادرًا ما يتدخل، لكنه هذه المرة فعلها.
- حسنًا، خذي أختك وعودا مبكرًا.
لم أصدق الأمر، كنا سنخرج بمفردنا. قضيت اليوم كله في مساعدة والديّ. غسلت الصحون، لم أرد على والدتي ولم أتشاجر مع أختي. جهزت ملابسي وذهبت إلى الفراش مبكرًا.
لم نجد الدب آكل النمل رغم الجولات العديدة التي قمنا بها. كنت أرغب أن تراني زميلاتي في المدرسة، وحدي مع ك (وأختي كانت خلفنا، مبتهجة جدًا ومعها غزل البنات) مثل باقي الأزواج الذين أعرفهم.
-هيا نذهب إلى منزلي، نأخذ قسطًا من الراحة ثم نعود. هكذا سترينه. لم تزوري منزلي الجديد من قبل.
كان منزله جميلاً، أبيض اللون ومليئاً بالنباتات، واتضح أن "ك" كان مضيفاً كريماً. انظري يا ليلي: شريط كاسيت لفرقة أبا، إذا كنت تريدين سماعه، فالمسجل موجود. تعالي لنرى القطط المولودة حديثًا، إنها في المرآب. لقد ولدت القطة أمس وساعدتها.
عندما نزلنا ورأينا القطط الصغيرة، فهمت أننا قد وصلنا إلى "ذلك الشيء". ذلك الشيء الذي تتحدث عنه جميع المراهقات بشغف وخوف. ذلك الموضوع الرئيسي في أحاديث صديقاتي في الفصل. ذلك اللغز الكبير في حياتنا: أين سيكون؟ مع من؟ كيف؟ نعم، كانت لدينا أفكار مسبقة حول تلك اللحظة. كنا مليئات بالخطط والاقتراحات، وفوق كل شيء، كنا واثقات أنه سيكون قبل الزواج. أما بالنسبة لي، فقد كنت أتخيل تلك المراسم بشروط معينة. المكان: غرفة فندق مليئة بالسجاد؛ الوقت: ليلة قمرٍ أزرق ساحر، مع موسيقى بين الإثارة والقداسة. شيء يشبه الملاك جبرائيل وهو يعزف على الساكسفون. وكنت أتخيل نفسي أطول، أنحف، أكثر أناقة، وكان عشيقي مزيجًا من فيكتور مانويل وكلينت إيستوود، وكان كل شيء بطيء الحركة، كما لو كنا نطفو. وكان هو رجلًا حكيمًا وخبيرًا، وكنت أنا خفيفة الوزن ومرنة.
تحرك لسان "ك" بصعوبة في فمي، فاصطدم بلساني. بدأت أتجنبه واكتشفت حركة دائرية نحو اليسار يمكنني أيضًا عكسها: يمين، يسار، مرتين على كل جانب، ثم بشكل غير متناسق. فهم "ك" هذا كإشارة للمتعة. ثم تذكرت الأفلام، لففت ذراعي حول عنقه ولامست شعره الناعم جدًا والمقصوص بشكل مثالي على يد حلاق والده. كان يقوم بذلك بشكل جيد جدًا، وفجأة، وأنا غارقة في حركاتي شعرت بشيء بين ساقي فارتعبت. لم أكن أعتقد أنني سأصل إلى هذا الحد، ولم تكن لدي أي رغبة في ذلك؛ كنت أشعر بالملل وأردت العودة إلى المنزل لتناول الغداء. لكن، ماذا أفعل؟ هل أصرخ كالمجنونة؟ هل أبكي كطفلة غبية؟ وحاولت أن أتصرف بأكثر الطرق نضجًا بقدر الإمكان . كان شيئًا قاسيًا وجافًا، مع ألم استمر صوته لفترة قبل أن يختفي. أعتقد أنني من شدة الخوف حبست أنفاسي، ففسر "ك" انقطاع نفسي على أنه إثارة شديدة. مرر يده على رأسي وقبل جبيني، ثم عينيّ. كان هذا أكثر ما أعجبني. رفعني ووضعني على الأرض. ثم أدركت أن أول تجربة جنسية لي كانت وأنا جالسة على رف في جراج، بين علبتين من الطلاء الأزرق المعدني للسيارات وسقاية صفراء. والآن كنت أستطيع سماع الموسيقى التي كانت أختي تشغلها في المسجل بالطابق الأعلى: الملكة الراقصة. فكرت: أغنية مليئة بالبهجة والطفولة ."
مازلت أمسك بيد "ك"، الذي بدا وكأنه لا يستطيع أن يتركني، ذهبت إلى الحمام ونظرت إلى المرآة. لا شيء. كان لدي نفس الوجه. لم تتسع أنفي أو تكبر عيناي، ولم تكن شفتاي أكثر احمرارًا. إذن، الأشياء المهمة جدًا لا تترك آثارًا. لاحظت ذلك في ذهني. بقعة صغيرة هي كل الدليل الوحيد على "ما حدث".
خرجت إلى الصالة، حيث كانت أختي تسجل الأغنية... "وعندما تحصل على الفرصة..." جلست بجانها وشعرت وكأننا على بعد سنوات ضوئية. حاولت مساعدتها وصرف تفكيري إلى شيء آخر، وكدت أنجح، حتى جاء "ك" يحمل صينية عليها كأسان من الآيس كريم والعديد من البسكويت. هل كانت بادرة اعتذار؟ بدأت في تكسير البسكويت الخاص بي ونثره فوق الآيس كريم، فهكذا أحب تناوله.
- سأقدمه لك.
وشعرت بالأسف تجاهه. كان سعيدًا، وكنت أنا سبب سعادته. لم يكن يعرف ماذا يفعل، كيف يُظهر لي حبه ويرضيني. كان يشعر بأنه حامٍ، مسؤول، وأبوي. كنت عاقلةً بما يكفي لأفهم أننا لم نصل إلى هذه النقطة فقط بسبب أفعاله، بل بسبب ذلك المزيج من الإهمال والفضول الذي يلازمني بشكلٍ مريع.
- هل نذهب؟
قالت أختي:
- لا، لقد جاؤوا للبحث عنا. تحدث "ك" مع والده وسوف يرسلون له السيارة.
أضاف "ك":
- لم ترينيني أبدًا وأنا أقود سيارة من قبل .
في نبرة صوته فهمت الرسالة: نحن شركاء. لدينا ماضٍ حميمي مشترك.
وبعد أن ركبنا السيارة، كنا أنا و"ك" في الأمام وأختي في الخلف. اسمعي هذا، إنها مفاجأة... أغنية "وهي تشتري سلّمًا إلى الجنة". لفرقة ليد زبلين.
كيف كان شعور "ك"؟ أتخيله وكأنه يعتقد أننا تزوجنا في الكاتدرائية؛ كان يمنحني قبلة خفيفة عند كل إشارة مرور، "قف"، "أفسح الطريق"، ويغني "وأنتِ تشترين سلّمًا إلى الجنة". كنتُ أتأمل الشارع، السيارات الأخرى، والناس. ماذا فعلت؟ يا إلهي، كم كان والداي حكيمين في تقييدي بهذا الشكل. كنتُ أشعر وكأنني كائنٌ مذنب ومنحرف. لا، لم أكن كذلك. كنتُ أحب "ك". كان يعجبني، كنت أبكي إذا تشاجرنا، وكنت أستمتع بليالي الشرفة والأقراص الموسيقية، ممزوجة بحكاياته عن المقالب في المدرسة وخلافاته مع أبيه. كان لطيفًا جدًا. لكن الآن، لن يعود شيء كما كان. ماذا لو تشاجرنا؟ ماذا لو أخبر أصدقاءه؟ أما أنا، فلم أكن أنوي الحديث عن الأمر حتى في أحرج اللحظات، وحتى لو فى اعتراف.
قال:
- ابقى لتناول الغداء، لقد دعتك والدتي.
- لا، شكراً.
لم يكن يأكل أبدًا في منزلنا. كنت أشعر بالخجل، لكنه جلس بجانبي على المائدة. نزّع عظام دجاجتي، قطع الموز إلى دوائر صغيرة جدًا وأزال شعري من عيني. ابتسمت له بتسامح، لكن لم أستطع أن أفعل شيئًا أكثر. رقص ك مع أختي، وألقى نكات، وكتب على أوراق أنه يحبني وألقاها من الشرفة. كنت أتمنى أن يحل المساء ويذهب إلى منزله، حتى أكون وحدي مع أفكاري ومهبلي."
أخيرًا جاء للبحث عني .
- انزلي معي للحظة.
- لماذا؟
- لأعطيكِ شيئًا.
- لا أريد.
- حسنًا، سأحضره لكِ، انتظريني.
بقيت جالسة على الدرج أفكر أن السلالم كانت بيضاء مع بقع سوداء، كلها من الجرانيت. عاد بباقة جميلة من الزهور في مزهرية: زهور السيف الوردية والبيضاء، ورود حمراء، قرنفل، وزنابق، وربطة بلون أزرق ساحر. وبطاقة. أحب الزهور، لكن هذه الزهور جعلتني أشعر بالحزن.
-وداعًا، اتصلي بي بمجرد أن تستيقظي حتى لا أوقظك.
دخلت ومعي "غنيمتي".
- وما هذه الزهور؟
- إنها من "ك".
- ولكن لماذا؟
- لا أعرف.
قال أبي :
- ربما أرسلها دب النمل .
- إنها جميلة، قبّليني ونامي جيدًا.
- شكرا لك يا أبي .
سريري الذي كان بالأمس وما زال كما هو اليوم، وسادتي، دبدوبي، وصورة "مافالدا" على الحائط. هل سيحبونني كما كانوا من قبل؟ وماذا عن "ك"؟ عندما تخف حماسة العاشق المبتدئ، كيف ستكون علاقتنا؟ فكرت في أنني، بسبب عدم حزمي وتفاخري كمراهقة، قد دمرت شيئًا كان جميلًا ولطيفًا، وكان يمكن أن يكون بطيئًا وحلوًا. لكن لم يعد الأمر كذلك. في السرير الآخر، كانت أختي تنام بسلام، بعيدة عن كل شيء، ربما تحلم بحديقة الحيوان ودب النمل الذي لم نره، والمثلجات وفرقة "أبا"، وبحبيب أختها الساحر والمتسامح. ربما كانت تتمنى أن يكون لها حبيبٌ مثله.
بكيت كثيرًا. بسبب المسافة التي كانت تفصلنا وتجلعنا مختلفين؛ بسبب كوني لست الشخص الذي يعتقده والديّ؛ بسبب كوني مزيفة ومتصنّعة مع "ك"، الذي سيتذكرني بكل مودة كـ "أول مرة" له. بكيت لأنني خرجت من صفحات إخوان جريم لكي أدخل صفحات هنري ميلر، وهو أمر لم أكن مرتاحة له، ولأنني فقدت الفرصة الوحيدة والفريدة للاستمتاع بالحدث الأهم في حياتي، الذي لم يكن مهيبًا، ولا حالماً، ولا غامضًا، ولا أثيريًا. ولم يكن حتى مؤلمًا أو عنيفًا. لا شيء. كان للأسف رماديًا وغير مريح. بكيت كثيرًا، لم أنم حتى غفوت، ولكن بكيت كثيرًا وغرقت في النوم في ساعة متأخرة.
(تمت)
***
.......................
الكاتبة: ميلين فرنانديز بينتادو/ Mylene Fernández Pintado (من مواليد بينار ديل ريو، 1963) محامية وكاتبة كوبية،مؤلفة روايات ومجموعات قصصية، حاصلة على عدة جوائز (مثل جائزة ديفيد، وجائزة إيتالو كالفينو، وجائزة النقاد)، تتميز أسلوبها بالواقعية، حيث تحاول الكشف عن نفسها وعن أجزاء من الوجود اليومي، تلك الأشياء الهائلة التي تحدث للأشخاص العاديين: "أخبار صادقة لا تُصدق" و"أحلام غير قابلة للتحقق تحدث يوميًا"...حتى الآن، نشرت روايتين —"صلوات أخرى مُستجابة" (2003) و"زاوية العالم" (2011)— وخمس مجموعات قصصية، بعضها صدر بإصدارات باللغة الإنجليزية والإيطالية. والقصة المترجمة هنا " الدب آكل النمل" هي إحدى قصصها المبكرة.

 

قصيدة مترجمة للشاعر الروسي الكبير

Александр Пушкин - «Пророк»

الكساندر بوشكين. قصيدة - "النبي"

ترجمة وإعداد الأستاذ الدكتور إسماعيل مكارم

***

Пророк

قصيدة "النبي"

إني بهذه الصَّحراءِ المُكفهرّة

بالكاد أجرّ أقدامي، وظمأ الرّوحِ يُضنيني،

هذا المَلاكُ سيرافيم، ذو الأجنحةِ السّتةِ

على المُفترق يُلاقيني.

وكما في الحلم أراهُ يُلامِسُ برقةٍ

بأنامِلِهِ الرقيقةْ ْ مُقلتيَّ:

وكما تفعل أنثى النسر المرتعبة ْ

انفتحتِ المقلتان ِالنبويتان.

ها هو المَلاكُ يُلامِسُ أذنيَّ،

ويَملأهما بالرّنينِ والضَّجيج:

فسَمِعتُ اهتزازاتِ السَّماءْ،

وحراكَ المَلائِكةِ في العلياءْ،

وفي أعماق البحار مَسيرَ الأحياء،

وفي الوديان سُكونَ الكروم.

هاهو المَلاكُ يَدنو من شفتيَّ

ويَجتثُّ لسانيَ الآثم،

والماكر والثرثارَ،

وبيمناه المُضرجَةِ بالدَّم ِ

يضعُ في ثغريَ الأصم

لسانَ ثعبان ٍ حكيم.

وبسَيفِهِ قد شجَّ صَدري

وانتزَعَ قلبيَ الخائِفَ،

وغمَدَ في جوفه

جَمرة ملتهبة.

ها أنا مُرميٌّ كالجثةِ في الصّحراءْ

وصوتُ الرَّبِّ ناداني:

" قمْ، أيها النبيُّ، وانظرْ، واسمَعْ،

وافعَلْ ما أريده منكْ،

والفحْ صُدورَ الناس بقولكْ،

حين تجوبُ الأبعادَ بَرّاً وبَحرا".

1826

***

.............................

* ما يلفت نظري اليوم هو الجدل القائم في الأوساط الأكاديمية الروسية حول شخصية الكاتب والشاعر الروسي الكبير الكساندر بوشكين.

هناك فريق من الباحثين الروس يوجد فيه من يدعون أن بوشكين لم يكن يوما معجبا بالثقافة العربية، وبالشعر العربي، ويزيدون على ذلك بأنه كانت لدى بوشكين نظرة تطرح الشك تجاه الإسلام (1).

وهناك فريق آخر ينظر إلى أعمال بوشكين نظرة مخالفة تماما لهذا الرأي. إذ أنه من المعروف أن الكساندر بوشكين خلال نشاطه في دائرة الأدب العالمي استعمل ليس اللغة الروسية فحسب، إذ كان يتقن الفرنسية والإنجليزية وقد درس لغة الكنيسة الأرثوذكسية القديمة /اللغة السلافية القديمة/، واللغة الفرنسية القديمة، واحتفظ في مكتبته على عدد من الكتب في علم اللسانيات. وليس جديدا أن نذكر بأن بوشكين ترجم مؤلفات لكبار الكتاب من الإنجليزية والفرنسية وقد قام بترجمة أعمال لمشاهير الكتاب الألمان والإسبان. من هنا نستنتج أن هذه اللغات كانت في دائرة إهتمام الشاعر الكساندر بوشكين. ولا نرى غرابة في أن يهتم الشاعر الروسي، هذا الرجل الفذ باللغة العربية. تشير الرسومات المحفوظة في متحف عموم روسيا بأن بوشكين حاول رسم بعض الأحرف العربية مع توضيح كيفية نطق هذه الأحرف. تعود هذه الرسومات إلى عامي 1836 – 1837. ويشير الباحثون إن هذه الرسومات ربما كانت تبعده عن التفكير بقضايا تمرمره، ويشير الخبراء في إرث بوشكين أنه إلى جانب كتابة الأحرف العربية، كانت لدى بوشكين محاولة كتابة بعض الكلمات العربية. هذه المعلومات نستقيها من أعمال المستشرق أو. س . سينكوفسكي...أولى أيام اكتشافه واطلاعه على الكتابات العربية والخط العربي/نعني هنا بوشكين/ حصلت في جزيرة القرم خلال جولته في أحد القصور في الجزيرة برفقة أسرة الجنرال رايفسكي. هناك شاهَدَ ورأى جمال الأحرف العربية. يشير الخبراء في إرث بوشكين أن الشاعر استطاع قراءة القرآن الكريم، المترجم إلى الروسية، وهناك إشارة إلى ذلك في رسالة الشاعر إلى ب. ا. فيازمسكي عام 1824. وردت في الرسالة عبارة ( يفغيني اونيجين و العهد المقدس – القرآن). وخلال إقامته في ضيعة ميخائيلوفسكويه وبرسالة إلى أخيه كتب الكساندر بوشكين العبارة التالية:

«Я тружусь во славу Корана и написал еще кое-что – лень прислать».

والتي تعني: "إني أعمل لأجل تمجيد القرآن. ويتابع الشاعر- وقد قمت بكتابة أمور ما، غير أن الكسل يمنعني من إرسال ذلك ". انتهى الإقتباس.

هذا يعني إن ما وجده الشاعر الكبير من أفكار في القرآن الكريم من القول الحكيم كان دافعا له لكتابة بعض قصائده التي نعرفها اليوم. تشير إحدى اللوحات الفنية في متحف عموم روسيا إلى تجوال بوشكين في أحد قصور جزيرة القرم (2). إن ما نعرفه من إرث شاعرنا الكبير مثل "محاكاة القرآن" و قصيدة " النبي"

و" محاكاة اللغة العربية" وغيرها، تشير إلى أنها دليل تأثر وإعجاب أبداه الشاعرالكبير تجاه الثقافة العربية والحضارة العربية. لابد هنا من القول أن بوشكين كان منفتحا على الثقافات الغربية والشرقية في آن واحد، مثلما قرأ مؤلفات عظيمة من الأدب الإنجليزي والغربي، واطلع على الميثولوجيا الإغريقية، وعرف حياة المجتمعات الغربية، فقد كان معجبا بالثقافات الشرقية وبالخصوص الثقافة العربية. اطلع بوشكين على ترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسية، وبعد ذلك اطلع على ترجمة القرآن الكريم إلى الروسية، وبدون أدنى شك قد اطلع على حكايات "ألف ليلة وليلة"، وكان متأثرا

بها أثناء كتابة حكاياته المعروفة مثل "روسلان ولودميلا" و"حكاية عن القيصر سَلطان" (بفتح حرف السين) . يشير عدد من الباحثين إلى أن الشاعر بوشكين كان معجبا بإيقاع الشعر العربي أو لنقل إيقاع اللغة العربية، وهناك رسوم تظهر فيها محاولات الشاعر بوشكين القيام برسم بعض الأحرف العربية. نحن هنا في هذه المقدمة الصغيرة لا نقوم باقفال هذا الجدل بل نحاول الإضاءة على هذا الموضوع، كما ندعو الباحثين العرب إلى المشاركة في الإضاءة على هذا الموضوع مع إتباع المنهج العلمي للبحث وليس بالكلام المليء بالعواطف.

دون أدنى شك بإمكاننا القول أن بوشكين،الذي تربى في أسرة أرثوذكسية في وسط طبقة النبلاء الروس، كان رجلا مسيحي المعتقد، غير أن معرفته بأن جده إبراهيم، الذي تربى قرب القياصرة الروس، كان من أصول شرقية، هذا الأمر دون شك دفعه لكتابة تاريخ جده ذاك حين دَوّنَ قصة "عربي بطرس العظيم"، وقد بدأ بكتابة هذه القصة عام 1827 – حتى خريف 1837 غير أن هذه القصة لم تكتمل بسبب رحيل بوشكين المؤسف والمبكر عام 1837

هذا المنشأ لدى بوشكين من أصول سلافية وشرقية في آن واحد دون أدنى ِشك يجعله يحمل الحب لوطنه روسيا ولعادات قومه وبيئته ومعتقد هذه البيئة الروسية، هذا المعتقد الأرثوذكسي، وبنفس الوقت يجعله يكنّ الاحترام تجاه الشرق بما في ذلك تجاه الثقافة العربية والإرث العربي الأسلامي.

نحن نعتبر أنّ عمل الفريق، الذي يشكك باحترام بوشكين وإعجابه بالثقافة العربية أنه عمل بلا شك متأثر بتيارات فكرية معادية للإسلام، وما يقوم به بعض الباحثين اليوم في تزوير إرث الكساندر بوشكين، هذا الإرث العظيم، إنما هو بذاته تشويه للحقيقة، واعتداء على قامة كبيرة في تاريخ الأدب العالمي. وإن هذا العمل هوعمل ضعيف وفاقد لأي وثيقة تثبت هذا الإدعاء الكاذب والضعيف بالوقت ذاته.

نقدم للقارئ قصيدة من أشعار الشاعر الكساندر بوشكين ترجمت من قبلنا من النص الروسي الأصلي.

هوامش ومصادر:

1. ПУШКИН, Александр Сергеевич. Евгений Онегин. Стихотворения. Проза. – Москва: Эксмо. 2020 − 1440с.

تم أصدار هذه المجموعة الكبيرة من أعمال بوشكين تحت إشراف أندري ساأوكوف والمحرر ألمسؤول ن. روزمان.

* راجع في الكتاب المذكور نص "محاكاة القرآن"، والملاحظات التي دونها من قاموا باعداد هذا الكتاب، وسموها ملاحظات بوشكين، ودونت تحت هذه القصيدة، دون الإشارة إلى المصدر الخاص بالشاعر نفسه، أو المؤلف نفسه، وهذا ما يزيد الشك بهذه الملاحظات. نحن نعتبرها ملاحظات أدخلت على النص، بغرض تزوير إرث هذا الشاعر الكبير، وليست من داخل السياق، ولا تنتمي إلى إرث الكساندر بوشكين..

* ملاحظة: نحن أبقينا وحافظنا على حجم القصيدة وعدد السطور كما هي لدى الشاعر الكسندر بوشكين. هذا من أصول نظريات الترجمة وأخلاقيات الترجمة.

2. https://dzen.ru/y5x2 _xljggx7jta0

متحف عموم روسيا. بوشكين واللغة العربية.

قصة: داليا دي لا سيردا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

جلست على مقعد المرحاض، تبولت على اختبار الحمل، وانتظرت أطول دقيقة في حياتي. إيجابي. أصبت بنوبة هلع، ثم شعرت بسعادة خفيفة؛ وضعت يدي على بطني بحنان. كنت دائمًا أرى مشاهد الفتيات اللواتي يجلسن على المرحاض بانتظار معرفة إن كنّ حوامل أم لا شيئًا مثيرًا للشفقة"، فكرت: هذا مثير للشفقة أيضا . لكن، بصراحة، أنا معتادة على أن أكون مثيرة للشفقة، ربما لهذا السبب أتعاطف مع شخصيات مثل جيسيكا جونز أو بيني لين في فيلم "كاد أن يكون مشهورًا" . نهضتُ، غسلتُ وجهي، ثم خرجتُ من الحمام، ورميتُ نفسي على السرير.
لديّ نوع من المقاومة تجاه تقبّل الأخبار السيئة. قد يقول البعض إنني أتهرب منها، لكن لا، الأمر فقط أنني أجد صعوبة في تصديق أن كل المصائب تحدث لي وحدي. تعرضتُ للخيانة، سُرقتُ في الشارع، ماتت حيواناتي الأليفة إمّا مسمومة أو دهسًا، لا أعرف والدي، وفقدتُ أمي قبل بضع سنوات. والآن، في الدرج الأيمن من منضدتي، يوجد اختبار حمل يحمل خطين ورديين. لذلك أجريتُ فحص دم للتأكد. وتأكت أنه إيجابي. لم أكن أعلم أن اختبارات الحمل المنزلية قد تعطي نتائج سلبية خاطئة، لكنها لا تخطئ أبدًا في الإيجابيات. لم أكن مستعدة لإنجاب طفل في هذا العالم اللعين.
أتذكر تمامًا أنه في تلك اللحظة، كانت أغنية «الفوضى» لماريا روديس تتردد عبر مكبر الصوت. إنها الأغنية التي تعكس حياتي تمامًا. أنا عالقة في دائرة لا تنتهي من القرارات الخاطئة، حيث تكون عواقبها دائمًا مأساوية:
"أعود مجددًا إلى الطريق المعتاد،
دون أن أتذكر إن كان الطريق الخطأ،
وعلى الرغم من أنني أبدو وكأنني أسيطر على الأمور،
إلا أن شيئًا ما يخبرني أنني فقدت السيطرة مرة أخرى."
ربما تعتقد أنني أبالغ، وأن الحمل غير المرغوب فيه ليس كارثة. لكنه بالنسبة لي كان كذلك. كان أسوأ كارثة في حياتي. تسونامي لعين، يجتاح بمياهه المالحة كل أحلامي وأهدافي، بل وحتى يدمر الأخطاء التي لم أرتكبها بعد.
أرسلت رسالة إلى جيراردو: "أنا حامل".
فجاءني رده مصدوماً: "لااااا! مستحيل!"، ثم أتبعها بأكثر الرموز التعبيرية سخافة.
"سنصبح أبوين! يا ديانا، كم هذا رائع!"!"
" سعادة؟ لا. لا، ولا في الأحلام."
"لا تقولي لي إنك تريدين الإجهاض؟! لاااااا، ديانا!"
لكنني أكذب... جيراردو لا وجود له. شعرت فقط برغبة في إضفاء لمسة رومانسية على القصة. الحقيقة؟ كان الحمل نتيجة ليلة سُكر. لم أكن أعرف حتى اسم الرجل، ولم يهمني أن أعرفه.لم يكن أداؤه في الفراش يؤهله لأي شيء في الحياة. نعم، كنت حاملًا من رجل ينام مع النساء بأسوأ طريقة ممكنة.
أنا من ذلك النوع من الفتيات اللاتي يُستخدمن كحجة ضد الإجهاض. تلك التي تخرج وتسلم نفسها لأول من يهمس لها بكلمات جميلة. تلك التي يُقال لها كان من الأفضل أن تستخدم وسائل منع الحمل، أو تربط قناتي فالوب، أو ببساطة أن تُغلق ساقيها. أسمح للغرباء أن يحتضنوني بقوة. أحب الحفلات، وأحب أن أسكر بشدة، وأرتكب حماقات تحت تأثير الكحول.
لم يخطر ببالي أبدًا فكرة إكمال هذا الحمل. لذلك بدأت في البحث عن خياراتي للإجهاض. كتبت في جوجل "الإجهاض"، ووجدت عدة عيادات، جميعها في مكسيكو سيتي، لكنها لم تكن في متناولي. قرأت عن وسائل كثيرة، بدا بعضها مرعبًا: إدخال البقدونس في المهبل، غسول مهبلي من الكوكاكولا مع الأسبرين والزيت الأسود، شاي المريمية، شاي الأوريجانو، شاي اليانسون النجمي ، إدخال علاقة ملابس معدنية في الرحم. من رابط إلى آخر، وجدت نفسي أشاهد مقطع فيديو يظهر فيه جنين يحاول النجاة وهو يصرخ: "إيبالي، إيبالي، ساقي الصغيرة!" شعرت بمزيج غريب من الضحك والحزن.
عثرت على قصص لنساء أجهضن، يتحدثن عن نزيف حاد، وجلطات بحجم العالم،و عمليات تنظيف رحم مؤلمة، وانفجارات نزفية، وأحشاء متعفنة تأكلها الديدان ، وقصص مليئة بالندم، والألم، والرعب . وسط هذه الشهادات، وجدت قصة فتاة تتحدث عن دواء يُدعى الميزوبروستول. بحثت عنه في جوجل. وفقًا لويكيبيديا، يُستخدم الميزوبروستول لعلاج قرحة المعدة، لكنه يسبب تقلصات في الرحم. اكتشفت نساء الأحياء الفقيرة في البرازيل أنه يسبب الإجهاض . وبعد دراسته من قبل منظمة الصحة العالمية، تمت الموافقة عليه كوسيلة آمنة لإنهاء الحمل. لم يكن لديَّ ترف الوقت للتفكير فيه، أخذت الخمسمئة بيزو المتبقية من راتبي وخرجت إلى الشارع.
على ناصية منزلي كانت هناك صيدلية، لكنهم طلبوا مني روشتة طبية. واصلت البحث حتى وصلت إلى صيدلية أخرى، لكن سعر الدواء كان مرتفعًا ولم أملك المبلغ الكافي. تنهدت بقلق، وأكملت البحث في صيدليات أخرى، خمس منها تحديدًا؛ في بعضها لم يكن الدواء يحتاج إلى روشتة لكنه كان يتجاوز إمكانياتي، وفي الأخرى كان الحصول عليه مشروطًا بالروشتة الطبية. شعرت باليأس، وانهمرت دموعي، وأصابني نوبة قلق. "ماذا سأفعل؟" تساءلت في داخلي.
مشيت طويلًا، ربما لساعة كاملة، أو هكذا شعرت. كنت أبكي طوال الوقت. وفجأة، لمحت من بعيد شخصًا يرتدي زيًّا ترويجياً ضخماً ويرقص على أنغام أغنية صاخبة. أسرعتُ في خطاي، دخلت الصيدلية وسألت عن الدواء. نظرت إليّ الصيدلانية، وهي امرأة في منتصف العمر، بنظرة شفقة وقالت :
- يتوفر لدينا يوم الاثنين بسعر أقل، ثلاثمائة وثمانين بيزو.
قلتُ متوسلة:
- هل يمكنني الحصول عليه الآن، من فضلك؟
ابتسمت وقالت :
- بالطبع، ويمكنك الحصول على علبة تحتوي على اثنتي عشرة قرصًا من الإيبوبروفين بتركيز ثمانمئة ميليجرام مقابل عشرة بيزو إضافية.
وافقتُ على الفور:
- سآخذها أيضًا .
دفعتُ المال، ثم حملت الدواء، وخرجت مسرعة.
بمجرد وصولي إلى المنزل، عدت إلى الإنترنت وأعدت قراءة المعلومات بعناية. قرأتها ثلاث مرات لأتأكد من كل شيء. كانت يداي تتعرقان، وقلبي يخفق بقوة من الرهبة. كل المصادر التي قرأتها حذّرت من القيام بهذه الخطوة وحيدة، لكنني لم يكن لدي أحد ألجأ إليه.
توفيت أمي منذ خمس سنوات بعد صراع مرير مع السرطان، الذي أضعف جسدها حتى العظام. بعد وفاتها، استخدمت تعويضها المالي لأحرق جثمانها، ثم وضعت رمادها في غرفتها وأغلقتها إلى الأبد. لم ألمس شيئًا هناك منذ رحيلها، كل شيء مازال كما كان يوم فارقت الحياة.
اضطررت إلى اللجوء إلى محامٍ لإنهاء إجراءات معاشها، لكنه لم يكتف بأتعابه المعتادة، بل أراد المقابل بطريقة أخرى، ووجدتُ نفسي مضطرة للقبول. بعد إنهاء الأوراق، صرت أعيش على المعاش الذي يُحوَّل إليّ شهريًا، عشرة آلاف بيزو، وأركز فقط على دراستي. التحقت بجامعة ذات توجه ديني صارم، ورغم أن لدي صديقات، فإن أيًّا منهن لا تؤيد الإجهاض، إلا إذا كان مقررًا في إحدى العيادات الفاخرة في الخارج، يتبعه يوم من التسوق في المراكز التجارية.
رفيقي الوحيد في هذه الحياة هو قطي، ريكاردو. تبنيته بعد وفاة أمي بيوم واحد فقط، كان صغيرًا جدًا، فكنت أسقيه الحليب الخاص عبر زجاجة رضاعة، ووضعت له صندوقًا صغيرًا وأضأت مصباحًا ليمنحه الدفء. ربما لأنني كنت الراعية لأمي طيلة مرضها، فقد أدركت حينها أن وجود كائن يعتمد عليّ، ينتظر عودتي، ويحتاجني ليبقى على قيد الحياة، هو ما يحفظني من الضياع، ويمنعني من الانحراف.
قرأتُ البروتوكول للمرة الأخيرة، ثم أشعلتُ التلفاز وسجلتُ الدخول إلى نتفليكس. بحثتُ عن فيلم مناسب للإجهاض، فاخترت فيلم "فتيات لئيمات". فتحت علبة الميسوبروستول، أخرجت أربع حبات، وضعت على كل واحدة قطرة ماء، ثم دسستها تحت لساني. أبقيتها هناك لنصف ساعة. كان طعمها مرًّا لدرجة أن مجرد بلع ريقي صار إنجازًا بطوليًا. اضطررت لابتلاع قيئي مرتين. بعدها مباشرة، بدأ جسدي يرتجف. شربت ما تبقى من الحبوب مع كوب من شاي البابونج.
أنهيت الفيلم وانتقلت إلى "شقراء قانونية. ازداد الشعوربالقشعريرة، فاندسست تحت الأغطية بينما كان قطّي "ريكاردو" مستلقياً على حجري.لم يظهر نزيف بعد، فقط شعرت ببعض المغص الخفيف المشابه لآلام الدورة الشهرية، لكن سرعان ما تقيأت وأصابني إسهال.
عندما انتهى الفيلم، بدأت بمشاهدة "ميس سيمباتيا". وضعت أربع حبات أخرى في فمي وانتظرت حتى تذوب. هذه المرة كان الأمر أسهل؛ اعتادت حواسي على الطعم، ولم أشعر بالغثيان. ابتلعت بقايا الدواء مع شاي النعناع، ثم أعددتُ لنفسي كاساديا بجبن البانيلا وشرائح لحم الديك الرومي بدأ الألم يزداد شيئًا فشيئًا، أشبه بتقلصات الدورة الشهرية ولكن أشدّ قليلًا. تناولت مسكنًا، وتمددت في سريري واضعةً منشفة دافئة فوق بطني، مترقبةً ما سيحدث لاحقًا.
شعرت بتقلص حاد داخل رحمي، ورغبة جامحة في الدفع أجبرتني على الركض إلى الحمام. جلست على المرحاض، وحين ضغطت، اندفعت موجة من الدماء والتخثرات، ملوّنةً خزف المرحاض بلونٍ أحمر قانٍ. ازداد الألم بشكل مرعب، لم يكن مجرد تقلصات حيض، بل شيء يفوقه بكثير. استمر النزيف الغزير لحوالي دقيقة، لكنها كانت أطول دقيقة في حياتي. اجتاحتني نوبة هلع ودوار، وانفجرتُ في بكاءٍ مرير. كنت مرعوبة. لم أكن مستعدة للموت، وخصوصًا ليس بهذه الطريقة، غارقةً في الدم والقذارة. لطالما تخيلتُ موتي بطريقة أكثر درامية، ربما جرعة زائدة في ليلة صاخبة، لكن ليس هنا، وليس بهذه الطريقة البائسة. سقطتُ على الأرض، عانقتُ المرحاض، انخرطتُ في بكاء مرير، خليط من الخوف، الغضب والحزن.حينها فقط، تمنيتُ لو كان هناك "جيراردو" يربت على كتفي ويطمئنني قائلاً: " كل شيء يسير على ما يرام".
بدأ الألم يخف. مددتُ يدي داخل المرحاض باحثةً عن الجنين، لكنني لم أجد شيئًا. لم يكن هناك سوى تجلطات دموية تشبه تمامًا تلك التي ترافق الدورة الشهرية، ضغطتُ على زر السيفون. خلعتُ ملابسي، وفتحتُ الماء الساخن، ودخلتُ تحت الدش، ثم جلستُ القرفصاء ودفعتُ بكل ما أوتيتُ من قوة، تمامًا ككلبة في المخاض. كل ما خرج كان دفقة دم وتجلط دموي بحجم حبة الجوافة. استلقيتُ على أرضية الحمام وبقيتُ هناك نصف ساعة دون حراك. بعدها، أكملتُ استحمامي، ثم أطعمتُ ريكارْدو.
أعددتُ لنفسي حساء ماروشان بالدجاج وأغرقته بالليمون، وفتحتُ كيسًا من رقائق "روفلز" بدلًا من الخبز، وصببتُ لنفسي كوبًا من الكوكاكولا المثلجة. فعلتُ عكس كل التعليمات التي أوصى بها دليل الإجهاض؛ لم أتناول طعامًا خفيفًا، لم أشرب محلولًا معوضًا للسوائل، ولم أتجنب المأكولات المهيجة. ربما فعلتُ ذلك عمدًا، ربما كنتُ أبحث عن نهاية سيئة—كأن ينتهي بي الأمر في المستشفى، أو في السجن، أو ربما في كليهما معًا.
شاهدتُ فيلم "كاد أن يكون مشهورًا"، وكعادتي بكيتُ بحرقة. كانت التقلصات تأتي وتذهب، والإسهال مزعج لكنه محتمل شعرتُ أن مأساتي كانت ناقصة، فقد قرأتُ عن نزيف حاد وآلام مروعة، بينما كان ما أمرّ به أشبه بدورة شهرية مصحوبة بإسهال وزكام، وليس كارثة كما تخيلت. بل الأكثر استفزازًا أن الأمور، وللمرة الأولى في حياتي، كانت تسير على ما يرام ؛ وكان هذا يغضبني.
وضعتُ آخر أربع حبات تحت لساني، وانتظرتُ، بشيء من الرضا الخفي، حتى تذوب تمامًا. لم أشعر بالغثيان أو القشعريرة، وكانت الآلام المعوية قد هدأت تقريبًا، باستثناء ارتفاع طفيف في الحرارة يمكن احتماله. فتحتُ فيلم " تقريبًا حامل "، لفتُّ سيجارة حشيش، وفتحتُ زجاجة هاينيكن. شربتُ وأخذتُ أدخّن، ثم انفجرتُ في ضحك هستيري عندما عاد الألم، فقد اجتاحتني من جديد تلك الرغبة الملحّة في الدفع. مشيتُ إلى الحمام، جلستُ على المرحاض، وضغطتُ بقوة. تدفق دمٌ بلون النبيذ الأحمر، ترافقه تخثرات بحجم قبضة اليد، تنساب من رحمي.
جلستُ على الأرض ومددتُ يدي في المرحاض. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى وجدتُ كيسًا صغيرًا بحجم إصبعي الخنصر، داخله كتلة وردية شاحبة، أشبه بحبة فاصولياء. تنهدتُ بارتياح… وابتسمتُ. ألقيتُها في المرحاض… وضغطت على زر السيفون.
(انتهت)
***
.........................
الكاتبة: داليا دي لا سيردا (مواليد 8 مارس 1985، أغواسكاليينتس، المكسيك) هي كاتبة، وفيلسوفة، وناشطة مكسيكية. درست الفلسفة في جامعة أجواسكاليينتس المستقلة، ولم تكمل. عملت دي لا سيردا في وظائف متنوعة، حيث كانت موظفة في مركز اتصالات، وعاملة في حانة، وفي مصنع للحلوى. كما شغلت منصب محررة في قسم الأخبار الدولية، بالإضافة إلى عملها كبائعة في شركة أفون، وكمروّجة للورود السوداء في الشوارع، وبائعة ملابس مستعملة في الأسواق الشعبية. القصة الأولى من مجموعتها القصصية " عاهرات احتياطيات " التى وصلت الى القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية للسرد المترجم للعام الحالي 2025 .

 

بقلم: آدام زاغاييفسكي

ترجمة: صالح الرزوق

***

لن تنام الليلة. النافذة تلمع.

وفوق المدينة، تتطاير الألعاب النارية وتنفجر.

لن تنام: الكثير مر وانقضى.

طوابير من الكتب تقف منتبهة فوقك.

ستفكر بما حصل وما لم يحصل. لن تنام، ليس الليلة.

وسيتمرد جفناك الملتهبان،

وستلدغك عيناك المحمرتان،

وسيتورم قلبك

بالذكريات.

لن تنام. ستنفتح الموسوعات،

والشعراء، بأبهى حلة،

سيجتمعون بباقات من أجل الشتاء، وسيتبخترون أمامك الواحد بعد الآخر.

وستنفتح الذاكرة، بهسيس مفاجئ

مثل صوت الباراشوت. ستنفتح الذاكرة،

ولن تنام،

وستتأرجح عبر الغيوم،

لتكون هدفا سهلا في بريق الألعاب النارية.

لن تنام: الكثير حصل،

والكثير كشف عن نفسه.

وأنت تعلم أن كل قطرة دم

يمكن أن تكتب إلياذتها القرمزية،

وكل كاتب في الفجر

هو مفكرة سوداء. لن تنام،

تحت لحاف سميك من السقوف،

والعليات،

فالمداخن تلفظ حفنة من الرماد.

والليالي الشاحبة تجدف نحو السماء،

ومجاذيفها من جوارب حريرية وتخشخش قليلا.

ستذهب إلى الحديقة العامة، وأيدي وأقدام الشجرة سوف تلمس كتفك برقة،

لتتأكد، ولتثبت أنك مخلص. لن تنام.

ستسرع بالجري عبر الحديقة غير المسكونة،

حيث ظل يواجه ظلالا كثيرة.

وستفكر بإنسانة لم تعد موجودة

وبإنسانة غيرها تعيش اللحظة

ولكن حياتها على الحافة تتحول

إلى الغرام. ثم الضوء، والمزيد من الضوء يتجمع في الغرفة. لن تنام، ليس الليلة.

***

.....................

الترجمة من البولونية: ريناتا غورجينسكي وبنجامين آيفري وس. ك. وليامز.

آدام زاغاييفسكي Adam Zagajewski  شاعر بولوني. من مواليد لفوف عام 1945. هاجر إلى باريس عام 1981. وعمل بالتدريس في جامعة هيوستون الأمريكية.

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

1

منظر من نافذة السفينة الفضائية لملياردير

هنالك،

بين النجوم

التي سحرته

واوقعته في أسرها،

*

اروع منظر

من بين تلك المناظر

جميعا هو

*

كوكب الأرض،

وهو يدور

حول محوره،

*

وجميع

اولئك الناس

الذين يدفعون الضرائب

***

2

الكلمات عصية

مشكلة

كتبت القصائد

في الجو الحار

ان الكلمات

تتصبب عرقا

وتلتصق ببعضها

***

.......................

براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛ (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

بقلم: مييكو كاواكامي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

تقع شقتي في مبنى خشبي قديم، بُني منذ عدد لا يعرف من السنين، مكوّن من طابق واحد فقط، يضم وحدتين منفصلتين متجاورتين، محشورتين بين بيوت متداعية لم يعد أحد يسكنها. تخيّل ثلاث أكواخ خشبية قديمة كانت ستنهار منذ زمن لولا أنها تتساند على بعضها البعض، عندها ستفهم الصورة بالكامل.
مكان معيشتي بسيط: غرفة واحدة مفروشة بحصير التاتامي، ومطبخ صغير مزود بموقد ذو شعلة واحدة، وحمام تتسرب منه المياه. لا يوجد أي مكان للتخزين.
في الخلف، المساحة المخصصة لنشر الملابس تكاد تكون محتلة بالكامل بوحدة التكييف، ويخيل إليّ أن جدار المنزل خلفي يضيق عليّ أكثر فأكثر.
عندما انتقلت إلى هنا، كانت هناك امرأة تعيش بالفعل في الوحدة المجاورة، لكن مكتب العقارات رفض إعطائي اسمها. كانت اللوحة على بابها فارغة، مصفرّة بفعل الشمس، ولم يسبق لنا أن تبادلنا أي حديث.
كانت بدينة قليلاً، بشعر طويل متشابك وغير مهندم، ودائمًا ما ترتدي الملابس نفسها. لست في موقع يسمح لي بالحكم على أحد، لكن بصراحة، لم تكن شخصًا منظمًا أو نظيفًا. لم يكن أحد يزورها أبدًا، وكلما رأيتها، كان هناك شيء في انحناءة كتفيها يخبرني بأنها إما مستسلمة للحياة، أو مرهقة، أو يائسة، أو ربما كل ذلك معًا.
كانت تعاني من عادة غريبة. كلما أغلقت بابها بالمفتاح، لم تستطع التوقف عن هز مقبض الباب مرارًا وتكرارًا، كما لو أنها غير قادرة على تصديق أنه مغلق بالفعل.
كان الصوت عنيفًا لدرجة أنه، عندما سمعته لأول مرة، ظننت أن شخصًا مرعبا جاء ليطالبها بديون مستحقة، لكنني أدركت بعدها أنه مجرد طبع لديها. في كل مرة كانت تغادر المنزل، كادت أن تقتلع الباب من مفاصله، وكان كل ذلك الشدّ العنيف يترك تصدعات واضحة في الحائط، بين بابها وبابي. ومع ذلك، لا بد أن أعترف أنني أتفهم ما كانت تشعر به.عندما كنت أصغر سنًا، مررت بفترة كنت فيها أغسل يديّ إلى حد أن الصابونة كانت تختفي بين راحتيّ.
أحيانًا كنت ألصق أذني بالجدار الفاصل بيننا.
في بعض الأيام، كنت أسمع التلفاز يعمل بصوت منخفض، لكن لم أسمع أيًا من الأصوات المعتادة الأخرى التي قد تصدر عن شخص يعيش بجواري. كانت غرفتانا صورتين متطابقتين لبعضهما البعض (أو هكذا فهمت من مكتب العقارات)، يفصل بينهما جدار رقيق، وكنت أجد نفسي أحيانًا، أثناء غسيل الصحون مثلًا، أتساءل عمّا إذا كانت تفعل الشيء نفسه في تلك اللحظة بالذات، على الجانب الآخر من الجدار، تواجهني دون أن أراها.
في لحظات شعرت فيها بأن الحياة كانت تنهار فوق رأسي، كان يخطر لي أن أقرب شخص لي هو امرأة لا أعرف حتى اسمها. في طريقي إلى المنزل من عملي الجزئي، كنت أرفع بصري عن الطريق الرمادي الميت الممتد بلا نهاية، وأرى بابينا المتهالكين، يغمرهما وهج الشمس الغاربة وكأنهما يشتعلان بالنار، فأفكر كيف كنا مثل توأمين، نكبر معًا، وحيدين، جنبًا إلى جنب. وعندما ينهار أحد البابين تحت وطأة الزمن، كيف سيصمد الآخر؟"
كان هناك شيء في هذه المشاعر يلحّ عليّ كي أبوح به. كنت أتخيل نفسي أطرق بابها، لكنني كنت خائفًا من ألا أتمكن من التعبير عن نفسي كما ينبغي. تمنيت لو أنني أستطيع التواصل بمجرد الطرق، أن أخبرها: كيف أن الحياة لم تسر يومًا كما أردت. كيف أنني لم أتمكن أبدًا من القيام بالأشياء بشكل صحيح. كيف أنني لم أستطع إنقاذ الشخص الذي كان يعني لي كل شيء. وكيف أنني، قبل كل شيء، مثقل بكل هذه المشاعر التي تتدفق بداخلي. يا ليتني استطعت أن أوصل لها ذلك.
في الربيع، يهبط الليل قبل أن تغدو الدنيا زرقاء إلى حد لا يُحتمل. في ذلك اليوم، بعد أن تركت وظيفتي الجزئية، كنت غارقة في أفكار عن عمري، وعن الوظيفة التالية التي سأجدها، وعن المال الذي أحتاج لجمعه قبل أن أموت، وعندما وصلت إلى المنزل، رأيت المرأة واقفة عند البابين. بما أنها لم تكن تهز مقبض الباب، فقد خمنت أنها قد وصلت لتوها. كنت أعيش هناك منذ أربع سنوات في ذلك الوقت، لكن هذا كان أقرب مكان التقينا فيه، دون وجود جدار بيننا. عندها، التقطت أنفي رائحة أوحت لي بأنها لم تستحم منذ فترة. شعرت بالارتباك، فأومأت برأسي تحية. وفعلت المرأة الشيء نفسه. وفي الثانيتين اللتين التقينا فيهما، لاحظت أن الجلد حول عينيها كان داكنًا ورطبًا. متى بدأ المطر بالهطول؟ تساءلت، مشوشًا تمامًا. لكنني عندما نظرت إلى السماء. لم يكن هناك مطر. لقد كانت تبكي.
كان شعرها الدهني ملتصقًا بجبهتها المتجعدة، وكان في ملامحها المرتخية شعور دفين بالحزن والقلق، مشهد التصق بذاكرتي للأبد. تدافعت الكلمات في رأسي، لكنني لم أستطع نطق أي شيء، ولم أتمكن حتى من تشكيل جملة واحدة . شعرت بثقل رهيب في صدري، لكنني لم أستطع البقاء—كما لو أن شخصًا كان يدفعني بعيدًا. بأصابع مرتجفة، عبثت بمفاتيحي، ونجحت أخيرًا في فتح بابي، ودخلت إلى الداخل. لعدة ثوانٍ، راقبتها من خلال فتحة الباب، لكنني لم أتمكن من معرفة إن كانت لا تزال واقفة هناك أم لا.
بعد ذلك، لم تكن هناك أي فرصة للاسترخاء. ومع استمرار الليل، ضغطت بأذني على الجدار مرات ومرات. لكن لم أسمع شيئًا، لم أشعر بأي أثر من الجهة الأخرى. شربت القليل من الماء، تمددت على الفراش، شغّلت التلفاز وأطفأته مرارًا، محاولًا إلهاء نفسي عبثًا، لكن القلق كان يتصاعد داخلي، يزداد قوة، ينهشني. مرة أخرى، ألصقت أذني بالجدار. لا شيء. لماذا لم أقل لها أي شيء؟ لقد كانت تبكي. كان يمكنني على الأقل أن أقدم لها واحدة من كعكات اللحم التي اشتريتها. لكنها كانت تبكي. ثم اجتاحت رأسي فكرة سوداوية: ماذا لو كنت آخر شخص رآها؟ تذكرت أمي، آخر مرة رأيتها فيها، ووجدت أصابعي تلامس حلقي. لكن، الناس لا يختفون هكذا... يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، طويلًا جدًا، قبل أن تختفي كل الأجزاء منهم التي حملتها داخلك. ومع ذلك، كلما تلاشت تلك الأجزاء، تمددت أجزاء أخرى منك، حتى تختفي كل الأشياء التي كنت تملكها من قبل.
أبعدت أذني عن الجدار، وقبضت يدي بقوة. كان نبضي يتسارع. ثم أخذت نفسًا عميقًا، محاولًة تهدئة نفسي، وعندها رأيت بابها يتشكل أمامي، هناك، على الجدار المتسخ بين غرفتينا. طرقت الباب، في المنتصف تمامًا، طرقت ببطء، مرتين. طَرق، طَرق... ثم توقفت للحظة، قبل أن أكررها، هذه المرة بقوة أكبر.لا إجابة. كما توقعت. نفس الشيء كما كان من قبل.
لذلك، سحبت الحصير حتى التصق بالجدار، وظللت أطرق طوال الليل. لم يكن لدي أدنى فكرة عمّا كنت أفعله. قلت لنفسي "يا لكِ من حمقاء . لعلها الآن، رحلت بعيدًا ولن تعود أبدًا. وحتى لو كانت لا تزال هناك، فغالبًا لم تعد قادرة على سماعي. "ومع ذلك، واصلت الطرق—طَرق، طَرق—أنتظر لحظة، ثم أكرره مرة أخرى. لا أدري كم استمر ذلك، لكنني في النهاية غرقت في النوم، وحلمت بأغرب الأحلام، أنماط وأشكال غامضة، وبينها وجدت نفسي أواصل الطرق. ثم انتظرت لحظة، وطرقت مجددًا.
لا بد أنني غرقت في نوم عميق في النهاية، لأن ضوء الصباح أيقظني. مددت ذراعي وطرقت مجددًا، كما لو كنت أواصل من حيث توقفت في الحلم. لكن بعد لحظة، سمعت شيئًا. كانت طَرقة واحدة فقط، قادمة من الجهة الأخرى. اعتدلت جالسة، رمشت بعينيّ، وضغطت بأذني على الجدار. كنت واثقة مما سمعته، متأكدة أنني سمعت طَرقة. لم أكن أعرف إن كانت تعني: "مهلًا، هذا مزعج جدًا"، أم "مهلًا، أنا أفهم"، أم "مهلًا، شكرًا لك"، أم "مهلًا، من فضلك توقفي"، أم ربما كان يحمل كل تلك المعاني معًا، أو ربما شيئًا آخر تمامًا. لكنني كنت على يقين تام بأنها ردّت عليّ بطَرقها الخاص. واثقة تمامًا.
زفرت كل الهواء من رئتي، وسحبت الغطاء فوق رأسي . لكنه كان الصباح. حان وقت الاستيقاظ. ثم تذكرت: لم يكن لديّ عمل. ومع ذلك لم أكن خائفة حقًا. ضغطت وجهي على الوسادة، وأغمضت عينيّ مرة أخرى.
(تمت)
***
............................
المؤلفة: مييكو كاواكامي / Mieko Kawakami وُلدت في 29 أغسطس 1976، كاتبة وشاعرة يابانية تنحدر من أوساكا. حازت أعمالها على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة في اليابان، حيث فازت بجائزة أكوتاغاوا في دورتها الـ138 عن روايتها القصيرة الثديان والمبايض .كما نالت جائزة تانيزاكي عام 2013 عن مجموعتها القصصية أحلام الحب، وغيرها ، وجائزة ناكاهارا تشويا للشعر المعاصر عام 2008 عن ديوانها على الحافة، طعنات وطعنات مرتدة .في عام 2019، نشرت رواية حكاية الصيف ، وهي نسخة موسعة من الثديان والمبايض، وحققت نجاحًا واسعًا، حيث تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان Breasts and Eggs. تُرجمت أعمال كاواكَامي إلى عدة لغات وانتشرت على مستوى العالم.

 

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

ازعاج الحيوانات الأليفة

احتفاظي

بحرباء

كحيوان أليف

*

امر

اندم

الآن عليه.

*

في البدء

بقدر ما استطيع

ان اتذكر،

*

بدا

انه امتزج

بشكل جيد جدا،

*

لكنه تغير

كثيرا

بطرق عديدة

*

لم اره

منذ

اربعة عشر يوما.

***

براين بيلستن

.....................
براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية: (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛ (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

 

قصة: جوزيبي بيرتو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

بينما كان ينتظر ملء خزان الوقود في إحدى محطات الوقود التي لا تعد ولا تحصى في بداية طريق كاسيا، ونحو طريق الخروج من فلورنسا، لم يتوقف المحامي آدمي عن النظر إلى الفتاة ذات القميص الأزرق والجينز، التي كانت واقفة على حافة الطريق أمامه. كانت طويلة ورقيقة، وشعرها أشقر مبعثر وخفيف جدًا، وعند قدميها كانت هناك حقيبة ظهر كبيرة. يجب أن تكون أجنبية، ربما من بلدان الشمال الأوروبي، وواحدة من أولئك الذين يتنقلون عبر أوروبا. لكن لا بد أنها كانت خجولة، أو كسولة بشكل لا يصدق، لأنها سمحت للسيارات بالمرور دون الإشارة إليها بالتوقف. ولم تشر أيضًا إلى المحامي آدمي، لكنه، مدفوعًا بنوع من القلق المتسامح، أوقف سيارته على أية حال، وفتح الباب لدعوتها للدخول، وسأل:

- روما؟

ربما لم تكن الفتاة خجولة ولا كسولة، بل كانت حذرة فقط: نظرت إليه بعينين فاتحتين للغاية، بلون البحر في الأيام الهادئة، ودرسته بجدية كبيرة، قبل أن تقرر موافقتها. ثم جمعت نفسها على المقعد، بعيدًا عنه قدر الإمكان، وبدت أصغر حجمًا، بوجهها الصغير، الذي، في الحقيقة،بدا أيضًا غير معبر جدًا، كما هو الحال غالبًا مع نساء الشمال، وذراعيها النحيلتين اللتين صبغتهما الشمس بالحمرة.

لم يكن المحامي آدمي دون جوان، ولم يكن مُغويًا وقليل الضمير. ومع ذلك، لأنه كان متأكدًا من أنه كان كذلك في شبابه، فقد ترك مع الوعي الهادئ بأنه، في حالة الحاجة، لن يفتقر إلى السحر، ولا الخبرة اللازمة لكسب امرأة. بطبيعة الحال، لم تخطر بباله فكرة استخدام السحر والخبرة مع الفتاة التي التقطها للتو، وفي الواقع، وباستقامة كبيرة، كان يفكر في الغالب في ابنته، وكيف ستكون عندما تكبر. يبدو أن هذه الفتاة في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها، وكانت جميلة وحساسة. في الواقع، لم يكن يمانع على الإطلاق أن تصبح ابنته، بعد عشر سنوات، مثل هذه الفتاة، جميلة وحساسة، لكنه بالتأكيد لن يسمح لها بالسفر حول العالم بمفردها، والمخاطرة بسقوطها في يد بعض الأشرار. لم يكن الأمر خاليًا من الرضا الشخصي، فيما يتعلق بفضيلته، حيث اعتقد أنه يمكن أن يكون هو نفسه شريرًا إذاصار في مواجهة هذه الفتاة الصغيرة جدًا والتي تبدو نقية للغاية، ما يعيقه الشعور بالمسؤولية الذي قد يوصف بأنه الأبوي.

كان المحامي يشعر بالرضا تجاه ضميره، لكن هذا الإحساس بنقاوته واستقامته على وجه التحديد هو الذي جعله يشعر أنه سيقدر ذلك إذا أظهرت الفتاة مزيدًا من الثقة، على سبيل المثال، من خلال الرد عليه بالابتسام عندما يلتفت إليها. ابتسم له. لكنها، بدلاً من ذلك، ظلت منغلقة عى نفسها فى مكانها. ولا يبدو أنها تميل إلى إظهار أي ثقة، لى حد أن الأمر قد يبدو مهينًا، بمعنى أنه يمكن تفسيره على أنه تعبير عن الشك والريبة في أنه، بعد كل شيء، بعد كل شيء، لم يكن يستحق ذلك.

في سان كاسيانو، في المقهى الواقع أعلى التل، توقف للحظة ليشتري كيسًا من الحلوى. في بعض الأحيان يتم استمالة الأطفال بهذه الطريقة، بأشياء صغيرة، وبالفعل ابتسمت أخيرًا عندما وضع الحلوى في يدها، لكنها عادت بعد ذلك مباشرة إلى زاويتها، فقط لأنها كانت الآن تأكل الحلوى. كان الطريق ينحدر من تلال سان كاسيانو، دورة تلو الأخرى، وعلى الأشجار كانت حشرات الزيز تغني في الهواء الذي تدفئه الشمس. وكان الوادي أمامه واسعًا، بظلال لا متناهية من اللونين الأخضر والأصفر، وبيوت زراعية متناثرة. على التلال، ولكل منها أعمدة من أشجار السرو، والمحامي، الذي بسبب حالة ذهنية عابرة شعر تقريبًا بالتأثر بمثل هذا الجمال، كان آسفًا لأن الفتاة الصغيرة التي جاءت من الشمال لم تدرك ذلك، كما بدت كذلك.سألها:

- هل تتكلمين الإانجليزية.

أجابت بهدوء كبير:

- نعم.

ذكر المحامي الوادي بشكل غامض. وقال:

- إيطاليا الجميلة.

أومأت الفتاة الصغيرة برأسها لتؤكد أنها وافقت أساسًا، ولم يكن ذلك تشجيعًا كبيرًا للمحادثة، لكن المحامي ظن أن الأمور جارية بالفعل، وأوضح لها أنه يعيش في روما، وكان لديه فتاة تبلغ من العمر أربع سنوات تدعى جيزيلا، حتى أنه بدأ يقول إنه لن يمانع على الإطلاق إذا كانت ابنته، عندما تكبر، مثلها، لكن هذا كان مفهومًا معقدًا للغاية بالنسبة للغة الإنجليزية، وسرعان ما تعثر، ثم سألها بالفرنسية إذا كانت تستطيع التحدث بالفرنسية، فأجابت نعم بالطبع. لذلك بدأ يشرح لها، باللغة الفرنسية، أنه يعيش في روما، وأن لديه ابنة تدعى جيزيلا، وأنه لن يمانع على الإطلاق، وما إلى ذلك، وما إلى ذلك، ولكن لغته الفرنسية خذلته أيضًا بهذا المفهوم الصعب، وحتى الغامض، الذي لم يستطع تفسيره وشاهدته وهو يعاني من اللغات الأجنبية، ولم يكن وجهها فاترًا الآن، بل مرحًا ومبهجًا،وأخيراً قالت له بلغة إيطالية أكثر ليونة قليلاً من وجهنا أنه يمكنه أيضًا التحدث باللغة الإيطالية، إذا كان يفضل ذلك، لأنها درست في إحدى الكليات في فلورنسا، وبالتالي كانت تعرف اللغة الإيطالية جيدًا.

كان لدى المحامي شعور، لا أساس له من الصحة على الإطلاق، أن الفتاة كانت تسخر منه، في موضوع اللغات الأجنبية، وهذا ما أزعجه، ليس كثيرًا، لكنه كان كافيًا لتشجيعه على تصور معاملتها بقدر أقل من الاعتبار. تم إلى هذا الحد. في الواقع، فقط بسبب هذه الدفعة، التي سببها له الاستياء الخفي، فعندما اقترب من بلدة بوجيبونسي، راودته الفكرة التالية: إذا كانت هذه الفتاة الصغيرة اللطيفة أكبر سنًا ببضع سنوات، الآن، بدلاً من التوجه إلى روما، سأتجه يمينًا وآخذها إلى سان جيميجنانو، وهو مكان يحبه الأجانب ويمكن أن يؤدي إلى شيء ما. بضع سنوات أكبر؟ حسنًا، لأكون صادقًا، كانت مسألة العمر بالفعل مسألة حساسة. كان يحب الفتيات عندما يكونن صغيرات، أو بالأحرى صغيرات جدًا كما يمكن أن يقول ذلك، ولكن نظرًا لمهنة القانون التي كان يمارسها، فمن المؤكد أنه لم يكن من النوع الذي يتنازل مع فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، على الرغم من أنه إذا نظر عن كثب، ربما كانت في السادسة عشرة أو حتى السابعة عشرة تقريبا. يا إلهى، ماذا لو كانت في السابعة عشرة من عمرها؟ لا تعرف أبدًا ما يتعلق بنساء الشمال: يبلغن متأخرات ويحتفظن بذوقهن العذري حتى لو فقدن عذريتهن منذ وقت طويل. لو كانت في السابعة عشرة لكان الوضع مختلفًا، بل وعكسه. لكنها لا يمكن أن تكون بهذا العمر. في السابعة عشرة من عمرها، كانت فتاة بجانب رجل، على الرغم من أنه تجاوز الأربعين قليلًا، لكنه بالتأكيد ليس غير جذاب، لا تتصرف بهذه الطريقة، بتلك الجدية المنفصلة والهادئة التي كانت تظهرها الفتاة، بينما لا تزال تتناول الحلوى. وخلص المحامي إلى أن إغراء الانعطاف يمينًا إلى سان جيمينيانو، المكان المفضل لدى العشاق، لم يكن سوى خيال غريب.لم يكن من الصواب التصرف بناءً على مثل هذه الرغبات على عكس قانون العقوبات، وبالفعل، عندما وصل بوجيبونسي، بقي بشجاعة في كاسيا، وكان الطريق، بعد مغادرة القرية، محاطًا مرة أخرى بالكروم وأشجار الزيتون، مع العديد من المنعطفات والتقلبات. أصبح المحامي الآن راضيًا، باعتباره شخصًا قام بما يُعرف عادةً بأنه عمل جيد، ولكن لسوء الحظ، لم يكن واحدًا من هؤلاء الأشخاص الذين يحققون الرضا الكامل من ممارسة الفضيلة، وفي أعماقه، ندم على فقدان سان جيميجنانو، مع هذا الجو الخالد الخاص، الذي يسمح لنا بالتحرر من التحيز في عصرنا. ولم يكن لدى المحامي أدنى شك في أن هذه كانت تحيزات وتصورات أخلاقية غبية. من كان سيتراجع في زمن بوكاتشيو، أو مثلا رجل أريتسو - الذي، كما نعلم الآن على وجه اليقين، كان عصرا برجوازيا للغاية - عن مغامرة مثل تلك التي عرضت عليه؟ وحدث حينها ما هو أسوأ بكثير، دون أن يبدي أحد استغرابه أو إزعاجه بسبب قانون العقوبات هذا.

سألت الفتاة بشكل غير متوقع:

- في أي وقت سنصل إلى روما؟

لقد كان سؤالًا عاديًا، وربما هو السؤال الأكثر طبيعية الذي يمكن طرحه في ظل هذه الظروف، ولكن تم طرح هذا السؤال مثلما كان المحامي، الذي شعر بالحنين إلى ما كان يمكن أن يفعله لو أنه ولد في أي فترة تسبق الإصلاح المضاد، يشعر بالحساسية إلى حد ما. سأل:

- لماذا؟ هل ينتظرك أحد؟

نظرت إليه الفتاة بتعبير يكاد يكون عدوانيًا ومضحكًا على وجهها الصغير وأصرت على أسئلتها:

- ماذا عنك؟ أليس لديك أحد؟

شعر المحامي بالرغبة في الضحك. أجاب:

- ابنتي.

قالت الفتاة:

- إذا كانت هناك ابنة، فمن المؤكد أن لديها أم. في إيطاليا لا يوجد طلاق.

حسا، لم اهتمت هل حصل طلاق أم لا؟ ماذا أرادت منه، هل أرادت استفزازه؟ وبقدر ما كانت تشعر بالقلق، كان من الممكن أن يكون منفصلاً بنفس القدر، سواء كان متزوجًا أو حتى أرملًا. للحظة، أراد أن يجعلها تعتقد أنه أرمل بالفعل، لكنه فضل بعد ذلك التصرف كرجل نبيل. أجاب بفخر:

- نعم، لدي زوجة أيضًا.

ثم أضاف بفخر أقل:

- للأسف.

وسارعت الفتاة إلى الرد على الكلمة الأخيرة:

- لماذا للأسف؟ كل الإيطاليين يقولون ذلك.

هذه المرة، كان المحامي منزعجا حقا. أجاب بجفاف:

- أنا لست مسؤولاً عن الإيطاليين الآخرين". "أنا فوضوي، فردي، أقول للأسف وأعني ذلك. لم أتفق مع زوجتي منذ سنوات، إذا كان بإمكاني العودة إلى الوراء...

لقد أوقف نفسه لأنه كان بائسًا جدًا. يمكن للرجل المتزوج أن يكذب بهذه الطريقة، وعادة ما يفعل ذلك، فقط عندما تكون هناك ميزة ملموسة، أي عندما تكون هناك حاجة لاستخدام الحجج العاطفية لإسقاط الاعتراضات المتبقية لامرأة على وشك السقوط. ولكن هناك، مع تلك الفتاة، المنقذة جسديًا، وخاصة كونها قاصرًا من الناحية القانونية، ما هي الميزة التي يمكن أن تكون هناك؟ لقد شعر بالحقد تجاهها، كما لو كانت مسؤولة عن هذه القضية الصغيرة من النفاق الفارغ، وهي كذلك، بطريقة ما، لأنه لم يأذن لها أحد بأن تكون طائشة أو حتى مستفزة، وكان هذا أقل ما كان يعتقدها عنها. تعليم ضعيف على الرغم من الكلية.

لكنه لم يستطع أن يبقى غاضبا، ومن ناحية أخرى، من المؤكد أن أسئلتها وتعليقاتها التي تبدو فاضحة يمكن أن تكون دليلا على الاهتمام المتزايد به. الفتيات المراهقات عرضة بشكل خاص لسحر الرجال في الأربعين من العمر، وكان يعرف ذلك من الناحية النظرية والعملية، منذ أن شاهد ابنة البواب فى مبناه وهي فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، ولكن على عكس هذه الفتاة، حتى أنها متطورة إلى حد ما، كانت تميل إلى الاحمرار في حضوره، والارتباك، وصنع ألف وجه، بمعنى آخر، كانت تظهر بطرق عديدة إعجابها السري به. بالطبع هذه الفتاة لم تكن ابنة البواب، لكن، في حد ذاتها، لم يمنعها شيء من الوقوع في حبه، وسيكون الأمر رائعًا، رغم أنه بطبيعة الحال لن يستغل ذلك بأي شكل من الأشكال، ولا حتى لمداعبة رقبتها وتقبيل فمها المغلق. كان سيحترمها على أية حال، حتى لو عرضت نفسها عليه في وقت ما على سبيل المثال بشكل عفوي، وهو احتمال كان مستبعدًا تمامًا، حيث عادت الفتاة إليها بعد هذا الاهتمام المفاجئ الطائش بحالته الاجتماعية. الزاوية، حيث كانت تتناول الحلوى مرة أخرى بجدية منفصلة وحزينة. هل يمكن أن تكون جائعة؟ كان المحامي سعيدًا بهذه الفكرة لأنها أبعدته، على الأقل إلى حد ما، عن الأوهام المذنبة والمرضية التي كانت تشغل ذهنه في الكيلومترات الأخيرة، ولأنه كان يقترب من سيينا، قرر أن يقدم لها الكابتشينو والمعجنات.

قاد سيارته إلى الساحة وأوقف سيارته بجوار المقهى مقابل قصر ديلا سيجنوريا. كانت الشمس حارقة ولم يكن هناك أشخاص إلا في الظل، باستثناء السياح الذين كانوا يسيرون في الجو الحار مع كاميراتهم وقبعاتهم المصنوعة من القش التي اشتروها للتو، معجبين بالآثار. جلسا تحت مظلة المقهى، حيث كان الجو أقل حرارة، وكان المحامي، على الرغم من تأخره عن موعده، سعيدًا بإحضارها إلى هذه الساحة الرائعة، وبدا كما لو أنه بنى كل شيء بنفسه. عندما وصل النادل، طلبت زجاجة من البيرة الألمانية. سألها: - ألن يكون سيئا بالنسبة لك؟

أجابت بهز كتفيها:

- سيء؟

ثم اعتذرت بأدب ودخلت المقهى. وقبل أن تعود، أحضر لها النادل البيرة والقهوة التي طلبها المحامي. انتظر قليلاً، لكنه قرر بعد ذلك أن يشرب قهوته قبل أن يصبح الجو بارداً جداً،ولم تعد بعد. وظن المحامي، منزعجا، أنه لن يصل إلى روما وقت الإفطار، كما وعد زوجته، وظن أنه لولا حقيبة الفتاة في السيارة، لكان قد تركها هناك، في سيينا، وكأنها تستحق ذلك.. بعد كل شيء، كان حملها مجرد عمل متهور، ولن يأتي منه أي خير، ولم يكن من المبالغة على الإطلاق القول إنه ندم على ذلك، كما يحدث دائمًا مع الأعمال الصالحة التي تتم دون أي منظور. من الربح. ولكن بعد ذلك، عندما عادت للظهور مرة أخرى، تلاشى فجأة كل ما كان يفكر فيه وفسح المجال لشيء يمكن أن يسمى أيضًا سحرًا: لقد وضعت أحمر الشفاه، ورفعت شعرها على شكل كعكة أعلى رأسها، وبقميصها الذي كان مدسوسًا في بنطال الجينز، أظهرت خصرًا رفيعًا ووركين رفيعين، علاوة على ذلك، صدرها الصغير الرقيق، سألها:

- أخبريني الحقيقة كم عمرك؟

تناولت جرعة طويلة من البيرة، ثم التفتت إليه وعيناها تلمعان بالغضب. أجابت:

- ما يقرب من عشرين.

بعد سيينا، يتجول طريق كاسيا عبر التضاريس الطباشيرية، وينحدر إلى الوديان ثم يعود إلى التلال على الجانب الآخر، على ما يبدو دون حاجة كبيرة، مثل المنعطفات الضيقة والمعقدة في كثير من الأحيان، والتي وصل إليها المحامي قبل أن يدرك ذلك، حيث قاد بعصبية تامة. النقطة المهمة هي أن المغامرة مع الفتاة، التي أصبحت فجأة ممكنة وحتى محتملة، فاجأته، ولم يكن مستعدًا لها، بل إنها أخافته بطريقة ما، لأسباب مختلفة. السؤال الأول والأهم، الذي لم يكن يخفيه عن نفسه، هو: هل كان الأمر يستحق خيانة زوجته، أم ابنته، مع فتاة صادف أن التقى بها ولم يتمكن من الحصول عليها بعد؟ عاطفة حقيقية وعميقة؟ حسنًا، لأكون صادقًا، كان عليه أن يجيب بنعم، كان الأمر يستحق ذلك، وليس كثيرًا من أجل المقارنة الأساسية بين الفتاة وزوجته، والتي ستكون غير كريمة للغاية وغير مبررة تمامًا أيضًا. ولكن بالنسبة للاعتبار الأكثر عمومية، فإنه بالنسبة لرجل في الأربعين من عمره، حتى لو كان يتمتع بسحر أكثر من المتوسط، فإنه لا يحدث كل يوم أن يكون لديه فتاة تبلغ من العمر عشرين عامًا، جميلة، طازجة، ذات ثديين بالكاد كاعبين، ولكنها بالتأكيد متحركة، وشقراء بشكل غير عادي. عندما يحدث له شيء كهذا، عادة لا يترك الرجل الأمر، وبالفعل، لم يكن المحامي ينوي السماح لها بالرحيل، ولكن في طيات سرية من ضميره لا يزال يشعر ببعض الانزعاج الغامض بشأن فكرة الزواج. الخيانة الزوجية، وفي الغالب، أرجع هذا الانزعاج إلى حقيقة أنه على الرغم من أن الغزو بدا سهلاً، إلا أنه لم يكن لديه أي فكرة من أين يبدأ. بطبيعة الحال، لم يكن الأمر خائفًا من وجود خلل فني، ولكن هذه الحقيقة هي أنه الآن، تخيل أي اتصال مع الفتاة، حتى أبسطها، جعله يشعر بالارتباك، وربما أكثر إحباطًا من ذي قبل، عندما كان يعتقد أنها كانت مجرد فتاة صغيرة. كان الأمر كما لو كان يواجه امرأة كان يعرفها عندما كانت فتاة صغيرة، وظهرت فجأة وقد كبرت، لكنها لم تتغير بما يكفي للسماح له بنسيانها عندما كانت طفلة، وفي الختام، لم يستطع التخلي عن ذلك. الخوف والاحترام تجاه البراءة الطفولية، وكان يشعر بالأسف تقريبًا لأنها كبرت، لأنه كان مليئًا بالذنب، ولكنه أيضًا مليء بالغضب بسبب الذنب الذي ظهر في أكثر اللحظات غير الملائمة. لقد كان هذا الارتباك في المشاعر هو الذي جعله يأخذ المنعطفات بشكل سيء للغاية.

سمحت له الفتاة بالقيادة كما يشاء لعدة كيلومترات، ولكن بعد ذلك، أثناء الصعود إلى راديكوفاني، أصبح الطريق خطيرًا، وسألته:

- لماذا تقود سيارتك بهذه السرعة؟ هل أنت في عجلة من أمرك للوصول إلى روما؟

سأل المحامي، حيث وجد صعوبة في مخاطبتها بشكل غير رسمي:

- لا وأنت؟

-  أنا فقط بحاجة للوصول إلى هناك قبل منتصف الليل.

- لماذا قبل منتصف الليل؟

- في الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة، يغادر القطار المتجه إلى كالابريا.

- هل أنت ذاهبة إلى كالابريا؟

- نعم.

-  وحدك؟

- لا، مع رجل.

- شخص من بلدك؟

- لا، رجل من نابولي. العام الماضي سافرنا إلى صقلية. هذا العام سنذهب إلى كالابريا. ويقولون إنها أجمل.

لقد تأذى المحامي من هذه الإجابة أكثر مما كان متوقعا، ولكن، كما فهم بشكل صحيح تقريبا عند تحليل حالته العقلية، لم تكن الغيرة، على الأقل ليست الغيرة المعتادة، ولكن الندم لأنه لم يستطع وضع نفسه مكان الشاب النابولي الذي كان ذاهباً معها إلى كالابريا، لم يستطع حتى أن يضع نفسه هناك في خيالاته، لأنه كان متزوجاً بالفعل، وقد ذهب الشباب بالنسبة له، جاءت عليه الحياة باختناق خانق. ثقل المسؤولية والمشاغل، وعدم ترك مساحة للحب خارج حدود المغامرة المتسارعة والمغلقة. هذه هي الأشياء التي تشير في نهاية المطاف، على مر السنين، إلى تراجع الرجل.

وبهذا الشعور بالشفقة على الذات، توصل المحامي آدمي، الذي شعر بطريقة ما بأنه مسموح له بالقبض على كل الزهور التي لا يزال من الممكن قطفها من حديقته، إلى نتيجة مفادها أن أي تردد إضافي من جانبه سيكون في غير محله. وبعبارة أخرى، سيكون وحشًا إذا سمح لتلك الفتاة التي سقطت عليه من السماء بالهروب.

في أكوابيندينتي، على الرغم من عدم وجود حاجة لذلك، توقف للتزود بالوقود، وفي هذه الأثناء، من فندق قريب، اتصل بزوجته وأخبرها أن أحد عملائه من فلورنسا طلب منه التفاوض على شراء صندوق، لذلك فهو لن يصل لتناول الإفطار، وربما حتى لتناول طعام الغداء، لكن لا ينبغي لها أن تقلق بشأن ذلك، لأنه بالتأكيد سيعود إلى المنزل بحلول منتصف الليل.

وبعد أن أزال العقبات النفسية الرئيسية التي وقفت في طريق مغامرته، واجه المحامي آدمي ما يسميه خبراء مصارعة الثيران لحظة الحقيقة، عندما يواجه مصارع الثيران الثور وجها لوجه، ولكن حيث لا يشكك في التوازن. من قوة بينه وبين ضحيته، شعر بالهدوء الشديد، وبالفعل لم يعد يقود سيارته بشكل خطير، بل بأناقة مفعمة بالحيوية والتفاؤل. انحدر الطريق من تلال أكوابيندينتي ليدخل ما يشبه القمع في أسفله بحيرة بولسينا، وكانت الساعة حوالي الساعة الواحدة. أرهقت شمس الصيف كل شيء وكل شخص، باستثناء حشرات الزيز التي صرخت بحماس لا مثيل له على كل شجرة. الفتاة، ربما بسبب الحرارة، بقيت في زاويتها حيث الريح القادمة من النافذة أفضل وبدت غير مبالية بشكل عام. بمعنى آخر، لم تكن متشككة أو على الأقل غير مبالية بما يمكن أن يحدث لها قبل المساء. نساء الشمال، كما عرف المحامي، مثل أي شخص آخر، على هذا النحو: مسالمات، متحفظات، ربما باردات بعض الشيء، لكن في الوقت المناسب يمنحن أنفسهن ببساطة كبيرة، كما لو كان هذا هو الشيء الأكثر طبيعية في العالم، وفي الواقع لم يُقال أي شيء على الإطلاق للادعاء بأنه لم يكن الأمر كذلك.

لم يكن لدى المحامي سبب للقلق بشأن التحفظ الواضح للفتاة، بل كان يفكر بدلاً من ذلك في الصعوبات اللوجستية للأمر، والتي لا يمكن إهمالها، وأيضاً لأن الفتاة لم تبلغ الحادية والعشرين بعد، وهو ما كان بالتأكيد تعقيداً. إذا استبعدنا فندقًا لائقًا، أين يمكن أن يحدث: في الريف خلف الأدغال، في الغابة، في غرفة في بيت ضيافة مشكوك فيه، أو على الشاطئ؟ في هذه اللحظة، أصبح كل شيء ممكنًا، حتى الشاطئ. كانت روما على بعد أقل من 100 كيلومتر، فكانا سيصلان إليها حوالي الساعة الثالثة، وفي ساعة أخرى يمكنهما الوصول إلى تور سان لورينزو، حيث كان يمتلك صديق رسام كوخًا على الشاطئ، يستخدم لهذه الأغراض بالضبط. الإزعاج الوحيد هو عدم العثور على الرسام في المنزل، بسبب المفتاح، ولكن بخلاف ذلك، لم يكن الشاطئ هو الحل الأكثر أمانًا فحسب، بل كان أيضًا الأفضل من حيث القيمة على الإطلاق، وستبدو الفتاة التي ترتدي ملابس السباحة مذهلة بلا شك بجسدها الشاب الطويل والثابت والرزين. سألها فجأة:

- هل لديك ملابس للسباحة؟

انتشلت الفتاة مرة أخرى من لهوها، وابتسمت الفتاة على السؤال.

- بالطبع لدي واحدة. في كالابريا أريد الذهاب إلى الشاطئ كثيرًا. لقد ذهبت دائمًا إلى الشاطئ في صقلية أيضًا.

منزعجًا بعض الشيء من هذا التلميح غير المقصود إلى الماضي والمستقبل الذي ليس له أي دور فيه على الإطلاق، أجاب المحامي بقوة:

- سآخذك أيضًا إلى البحر.

ولأنها كانت تنظر إليه متفاجئة ومتسائلة بشكل غامض، أوضح لها:

- سنصل إلى روما أولاً، ثم نذهب إلى الشاطئ. هل تمانعين؟

ابتسمت ببساطتها المعتادة:

- سيكون الأمر رائعًا.

الآن تخيل المحامي المغامرة بكل روعتها، ولم يكن من الصعب، وهو ينظر إلى الفتاة، أن يتخيل كيف ستبدو بملابس السباحة، أو حتى بدونها، أيضًا بسبب الريح التي كانت تهب من خلال النافذة، كانت تضغط على قميصها العلوي وتبرز ثدييها، اللذين بدا أنهما بحجم مقبول، يلهمان الحنان والمشاعر الأخرى. ولأنه لا يوجد شيء أفضل من الخيال في الحب لأنه يسبب نفاد الصبر للوصول إلى النتيجة المرجوة، أو على الأقل الحصول على تقدم معقول، بدأ المحامي يبحث في الطريق عن مكان مناسب للتوقف فيه.

عندما توقفت السيارة في مكان مفتوح حيث يمكنك أن ترى، بين أشجار البلوط، قطعة بحيرة خلابة، بدلا من أن تنظر الفتاة إلى المنظر، خفضت رأسها كما لو كانت واعية بما سيحدث، وتركته يلف ذراعيه حولها وضمها إليه وتقبيل رقبتها المكشوفة بسبب شعرها المرفوع، ولم تقاوم حتى بعد ذلك، عندما رفع وجهها وبدأ في تقبيل فمها، لكنها لم تكشف أيضًا عن أي شكل من أشكال المشاركة، مما جعله غير راضٍ تمامًا في نهاية القبلة الطويلة، بل وحتى مستاءًا. من جانبها، لم يبدو أنها في مزاج أفضل، بل قامت على الفور بخفض رأسها للأسفل، دون أن تفعل أو تقول أي شيء.

سألها:

- ألم تكونى ترغبين في ذلك؟

وسألت:

- لماذا فعلت ذلك، ألأنك تحبني؟

بدا السؤال، حتى مع الأخذ في الاعتبار قلة خبرة الفتاة المحتملة، بلا شك غير مناسب، وفي الواقع، يعلم الجميع أنه ليس من الضروري بالنسبة للقبلة أن يكون لديك مشاعر ملزمة وقوية مثل الحب. الآن، المحامي لم يرد أن يعتقد أنه قبلها لمجرد المتعة أو لمحاولة الفوز بها، في الواقع، في هذه اللحظة، لا يمكن لأحد، ولا حتى هو، أن يدعي أنه لم يكن يحبها بالفعل، على الأقل قليلاً، لكن الحديث عن الحب قبل أن يبدأ كان أمرًا محفوفًا بالمخاطر بعض الشيء. على أية حال، إذا كان استمرار المغامرة يعتمد على كذبة صغيرة، فإن المحامي كان على أتم استعداد لقولها. قال بأكبر قدر ممكن من الصدق: "أنا أحبك".

اعترضت الفتاة دون أن ترفع رأسها:

- كل الإيطاليين يقولون ذلك.

كان المحامي، الذي شعر بالإهانة في محاولته أن يكون صادقًا، على وشك الرد بشكل سيئ عندما لاحظ سقوط بضع قطرات على بنطاله، والتي لا يمكن أن تكون سوى دموع، نظرًا للموقف والظروف الأخرى. سألها قليلا بغباء:

- هل تبكين؟ لماذا علينا أن نبكي؟

أجابت وهي تشهق:

- أنت مثل الآخرين. ولكن هذا ليس ما يجعلني أبكي. أبكي لأنني مثل الآخرين، الأجانب الذين يأتون إلى إيطاليا لممارسة الحب مع الإيطاليين.

بدأ بالبكاء بقوة أكبر. وأضافت:

- أنا لست مثل الآخرين.

سحبها على كتفه لتبكي، ومسد على شعرها بلطف، ثم قال:

- لا يجب أن تبكي، فكلانا مختلفان.

لكن مهما حاول، لم يستطع التفكير في سبب هذا البكاء. ولكن الآن، وليس فقط من باب الشعور بالفخر الراضي، بدأ يشعر أنه والفتاة مختلفان بالفعل عن الآخرين، لقد شعر أن هناك شيئًا لا يمكن وصفه يزحف في روحه، وأنه إذا لم يكن الحب، كان الأمر مشابهًا بالتأكيد، لكن هذا أدى إلى تعقيد الأمر كثيرًا، لأنه لم يستطع أن ينسى أن لديه زوجة في المنزل، ولأنه كان يعلم أن الطريق العاطفي ليس أقصر طريق لتحقيق نتائج معينة، وهنا يوجد بالتأكيد لا وقت لتضيعه. ربما تكون بضعة أكواب من النبيذ من أورفيتو أو مونتيفياسكوني كافية لإعادة المغامرة إلى مسارها الطبيعى المعتاد. سأل الفتاة التي كانت لا تزال تبكي:

- أأنت جائعة؟

فأجابت بنعم بسهولة كالطفل.

- لنذهب إذا. سنتوقف عند المطعم الأول.

فأجابت:

- لا، أفضل الذهاب إلى روما.

وبعد أكثر من ساعة بقليل، كانا جالسين، قريبين جدًا من بعضهما البعض، تحت عريشة أحد المطاعم التي تقع على طول كاسيا، على مشارف روما، وتمكن المحامي من معرفة مدى صحة توقعه. أن القليل من النبيذ سيكون كافياً لطرد أي حزن. شعر أنه في أفضل حالة جسدية وعقلية، وأما الفتاة فقد تغيرت تماما. كانت تلوي، بعدم كفاءة مضحكة، الفيتوتشيني مع الصلصة حول الشوكة، وكانت تضحك، تضحك باستمرار، وتسأله: «هل تحبني؟ قل لي أنك تحبني”، لكن دون أن تتوقع أي جدية في إجابته، كما في إحدى الألعاب.

وأقسم أنه يحبها، وسكب لها الشراب مرة أخرى، وتوسلت إليه ألا يجعلها تشرب أكثر من اللازم، لأنها كانت تحبه، وبالتالي لم تكن تريد أن تسكر، وضغطت على نفسها بشدة. كان جسدها الصغير الدافئ والجاف، وتبادلا القبلات، يمكنهما فعل ذلك لأنه لم يكن هناك زبون آخر في تلك الساعة تحت العريشة، ولم يعيرهما النادل أي اهتمام، مخدرًا بالحرارة الأمل في بقشيش جيد. كانت تسأل:

- ماذا سنفعل بعد ذلك؟

- سآخذك إلى الشاطئ، إلى مكان يسمى تور سان لورينزو. هناك كوخ هناك...

قاطعته بشكل جميل، لأنها شربت كثيرًا بالفعل:

- قلبان وكوخ

وأوضح:

- إنه كوخ في الهواء الطلق. ولكن في الداخل مرتب بشكل جيد للغاية. هناك دش ومطبخ صغير مع ثلاجة، وهناك سرير كبير مع بطانية مطبعة بالزهور...

- سرير كبير.

كررت ذلك بخبث مثير للقلق، فشعر بالاضطراب، وعادا إلى التقبيل. وبعد ذلك، سألت، وفمها مبتل، مذهولة من القبلة:

- والمفتاح، هل لديك المفتاح؟

- لا، ولكن سأتصل بصديقي...

- ألم تتصل به بالفعل؟

- نعم، لكنه كان نائمًا. يستيقظ في الساعة الرابعة والنصف. في الرابعة والنصف سأتصل به مرة أخرى.

كررت:

- في الساعة الرابعة والنصف.

وقد أصبحت فجأة حزينة وكأن الانتظار يثقل كاهلها، أو لسبب آخر لا يُعرف.

- أي ساعة؟

-  أربعة تقريبًا.

كانت تقول:" الرابعة تقريبًا"، ويزداد حزنها، إلى أن بدأت تضحك مرة أخرى بشكل غير متوقع وتسأل:

- هل تحبني ؟ هل تحبني؟ قل لى إنك تحبنى.

وهو، على الرغم من أنه فهم أن كل هذا لم يكن سوى لعبة سخية، أجاب أنه أحبها، يا إلهي كم أحبها، وبينما كان يقول هذا لم يعد يستطيع أن يفهم ما إذا كان قد تجاوز الحدود بالفعل فى هذه اللعبة، لأنه في الواقع كان كما لو كان يحبها حقًا، كل شيء عنها سحره، شبابها، جمالها، نضارتها، وفوق كل شيء قدرتها الرائعة على الجمع بين أكثر الأشياء تباينًا، الدجاجة الشيطانية والقبلات والدموع والفرحة، والوقاحة التي نظرت إليه بها عندما تحدثا عما سيفعلانه في كوخ الشاطئ، والبراءة الطفولية التي عادت إلى الظهور فيها أن انشغلت بشيء خاص بها أو مشاهدة قطة تأتي للبحث عن الطعام، أو اللعب بفتات الخبز على مفرش المائدة. سألت:

- أي ساعة؟

- الرابعة والربع.

عادت لتسأل عن الوقت ست أو سبع مرات أخرى، قبل أن تصبح الرابعة والنصف، وضحكت أقل فأقل، كما لو أن فرحتها بدأت تختنق تدريجياً بسبب نفاد صبرها للوصول إلى شاطئ البحر، ولكن بعد ذلك، عندما حان الوقت وأخيراً صار الرابعة والنصف، لم تكن تريده أن يذهب ويتصل بعد الآن. وقالت:

- انتظر قليلا. أكثر قليلا.

- لكن إذا انتظرت، فقد يخرج، وحينها لن نجد المفتاح.

كررت بحزن مؤلم:

- من فضلك، أكثر قليلا.

ومن الممكن أيضا أنها كانت في لحظة حب حادة لدرجة أنها تفضل أن تنحرف بقية المغامرة عن مسارها حتى لا تنفصل عنه في ذلك الوقت. لحظة شديدة، وبلا شك كان شعورًا جميلًا ومؤثرًا، هذا، لكن المحامي لم ينس أن بقية المغامرة هي الأكثر أهمية، ومن ناحية أخرى كانت هي التي أثارته معها أسئلة مستمرة حول ما سيفعلونه في الكوخ، لذلك لم يكن من الواضح لماذا يريد الآن إبقائه عرضة لخطر فقدان الأفضل، وباختصار، على الرغم من أنه استمر في الاعتقاد بأن هذه هي الفتاة الأكثر استثنائية ورائعة التي حدث له ذلك من قبل، ولعل ذلك إلى حد ما بسبب التغيرات غير المتوقعة في لهجتها ومزاجها، وقد بدأ أيضًا يتساءل عما إذا لم يكن من الأفضل لو كان التقى بفتاة. فتاة أقل تعقيدا.

في الرابعة والخامسة والأربعين، على الرغم من أنها استمرت في التوسل إليه أن ينتظر لفترة أطول قليلاً، إلا أنه لم يعد يستمع إليها وذهب إلى المطعم، حيث يوجد الهاتف.

كان صديقه الرسام لا يزال نائمًا، لكنه طلب من مدبرة منزله أن توقظه، وهو ما فعلته، وبعد أن استيقظ الرسام في منتصف فترة ما بعد الظهر الرطبة، اتصل بالهاتف في مزاج سيئ ومنزعج. بدأ بالمطالبة بمعرفة من هي الفتاة بالضبط. ولم يتمكن المحامي إلا من إخباره أن اسمها إنجي وأنها سويدية، وليس من ستوكهولم، ولكن من لوليا، وهي بلدة قريبة من القطب الشمالي، على ما يبدو. ثم سأله الرسام أين وجدها، وأراد منه أيضًا أن يصفها، ووصفها المحامي، رغم انزعاجه من إضاعة الوقت، وهو يشعر بالرضا عن الذات بشكل مبرر، لأنها في نهاية المطاف، جعلته يبدو جيدًا. أخبر صديقه أنها لم تبلغ العشرين من عمرها بعد، وكانت رائعة، نحيفة ولكن ليس كثيرًا، شقراء بشكل لا يصدق، ونعم، ساقاها كانتا مثاليتين أيضًا، وثدييها كانا كذلك، لكن ذلك كان يناسبها تمامًا، لم يكن من الممكن أن يكون لديها أي ثديين مختلفين. بعد أن تم رسمها بشكل جيد للغاية، مع وفرة التفاصيل اللازمة، قفز الرسام قائلاً إنه يريد أيضًا أن يأتي إلى تور سان لورينزو، وكان على المحامي أن يعمل بجد ليجعله يفهم أن الأمر ليس كذلك، نعم لقد كانت فتاة محترمة، يُعتقد أنها فتاة جامعية، وإذا لم يتم استخدام أقصى درجات الحذر، فسيكون هناك خطر فى إفساد كل شيء، وبقدر ما كان يكره العودة إلى الماضي. يجب ألا ينسى الرسام أنه قدم له الكثير من الخدمات، حتى أنه دافع عنه عدة مرات في المحكمة دون أن يطلب منه أي شيء في المقابل،وإذا لم يعطه المفتاح الآن فهو ليس صديقًا، وأجاب الآخر بأنه هو نفسه لا يتصرف كصديق، لأن الأصدقاء الحقيقيين يتشاركون في كل شيء، وخاصة الفتيات، لكنه في النهاية سمح لنفسه بذلك. ثم رضى أخير بإعطائه المفتاح، لكنه أراد منه أن يُظهر له على الأقل هذه السويدية الرائعة عندما يأتي للحصول على المفتاح.

خرج المحامي ولم يجد الفتاة فى مكانها، ربما ذهبت إلى المرحاض لضبط مكياج وجهها بعد الأكل، وفي هذه الأثناء طلب الفاتورة، وأثناء الانتظار جلس، ومن الطبيعي أن يظل يتخيل الفتاة في البحر والكوخ وما ستكون أفضل مغامرة في حياته، لكن الفتاة لم تعد.، هل من الممكن أنها شعرت بتوعك في الحمام، لأنها شربت كثيرًا حقًا، وسيكون ذلك بمثابة عائق حقًا. سأل النادل الذي عاد بالفاتورة.

- هل رأيت الشابة التي كانت معي؟

وبهدوء قد يكون وقحًا في هذه اللحظة، أشار نحو الشارع. قال:

- لقد ذهبت.

شعر المحامي بأول ألم في قلبه.

- ذهبت؟ وأين؟ ولماذا قبل كل شيء؟

وبما أن النادل لن يتمكن من الإجابة على هذه الأسئلة المضطربة، تحرك المحامي بحيوية مندفعة نحو الشارع، أو نحو السيارة التي كانت متوقفة في الفناء، ولم يكن متأكدًا حتى من نفسه، لكن النادل أمسك بذراعه باحترام:

- الفاتورة يا سيدي.

عنده حق وزيادة.ولكن بسبب هذا الطلب التافه على وجه التحديد، شعر المحامي بالألم الثاني الذي لا يقل خطورة في قلبه، لأنه لم يجد محفظته في الجيب الخلفي لبنطاله، حيث كان يحتفظ بها عادة، ولا في أي جيب آخر.. من بدلته. الآن، على الأقل ظاهريًا،تحولت المغامرة الرائعة والفريدة من نوعها، التي طال انتظارها وخطط لها لفترة طويلة، إلى سرقة ونشل، وهو شيء مؤلم ومثير للسخرية في نفس الوقت، ولكن بما أنه لم يتمكن للحظات من فهم الجانب السخيف منه، شعر المحامي بالغضب المقدس.

أثناء القيادة بتهور على طول الجزء الأخير والصعب من طريق كاسيا فيكيا، في اتجاه بونتي ميلفيو، عند مدخل روما، سيطرت الرغبة في خنق الفتاة على المحامي أدامي، وليس فقط بسبب أن المحفظة تحتوي على سبعين ألف ليرة أو أكثر ولكن لأنها حقيقة كانت على درجة من الفظاعة غير المسبوقة. كان هذا الدافع الباهظ طبيعيًا جدًا، إن لم يكن مشروعًا، لكنه هو نفسه فهم أنه من أجل وضعه موضع التنفيذ، كان من الضروري أولاً الإمساك بالفتاة. الآن، كان هناك احتمالان: إما أنها أوقفت سيارة عابرة كانت تقلها إلى مكان ما في المدينة، الله أعلم أو أنها استقلت الحافلة رقم 201، التي كانت تسير على طول كاسيا فيكيا، وتنتهي عند جسر ميلفيو. إذا كان المحامي آدمي يركض بهذه الطريقة بسرعة فائقة على طول طريق خطير بلا شك ومدرج ضمن علامات الحد الأقصى للسرعة، فلم يكن ذلك للتنفيس عن الإثارة الغامرة لروحه، بل بالأحرى لمحاولة الوصول إلى واحدة من تلك الحافلات وتجاوزها. ونجح في ذلك، وتوقف عند المحطة، مستعداً للانقضاض على الفتاة لحظة ظهورها. لكنها لم تنزل من تلك الحافلة أو الحافلة التالية، وزاد غضب المحامي، بدلا من أن يهدأ، وكذلك تصميمه العنيد على العثور عليها مرة أخرى، مهما كان ذلك غير معقول. كان يبحث عنها في جميع أنحاء روما، وعلى أي حال، في الساعة العاشرة حتى منتصف الليل، سيلحق بها في القطار المتجه إلى كالابريا، على الرغم من أن قصة كالابريا، عند التفكير في الأمر، يمكن أن تكون أيضًا واحدة من الأكاذيب العديدة التي روتها الفتاة. وفي الواقع، كان من العبث تقريبًا أن تقوم جانحة من هذا النوع، والتي كانت مهارة السرقة مهنة حقيقية بالنسبة لها، بتزويده بالمعلومات الصحيحة التي تساعده في القبض عليها. لا، لم يكن بإمكانه البحث عنها إلا في روما، ولهذا الهدف الواضح، قام المحامي بتشغيل السيارة مرة أخرى وقادها إلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، الساخنة مثل الفرن في نهاية يوم صيفي.

لم يكن الافتراض، وفقًا لاستدلال المحامي، سهلاً، ولكنه لم يكن أيضًا صعبًا إلى حد السخافة كما قد يبدو للآخرين أقل خبرة منه، وفي الواقع يمكن أن تقتصر عمليات التفتيش، وفقًا للمنطق السليم، على تلك العشرات أو نحو ذلك. أكثر بقليل من المواقف التي يفضلها الأجانب في روما. على افتراض أن تلك المجرمة أجنبية، فكر المحامي بمرارة، وفي الواقع يمكن أن يكون الأمر كذلك، حتى لو كانت من ميلانو أو البندقية، لكن لا، إيطاليا لا تنتج مثل هذا الشعر الأشقر ولا مثل هذه العيون الفاتحة، وفي النهاية لقد كان بالتأكيد أول مواطن إيطالي يتعرض للنشل في وطنه على يد سويدية. وكان من الضروري، أيضاً من وجهة نظر الهيبة الوطنية، القبض عليها.

انطلاقًا من خطة واضحة، استكشف المحامي أولاً منطقة قلعة سانت أنجيلو وكاتدرائية القديس بطرس، ثم تسلق جبل جيانيكولو، ثم نزل إلى الكولوسيوم والمنتديات الإمبراطورية ثم تسلق تلة أخرى هي كامبيدوجليو. في كل مكان كان يتوقف لينظر بنظرة جامحة إلى فتاة ترتدي الجينز، نحيفة وشقراء، بمظهر زائف للفتاة الطيبة. نزل من كامبيدوجليو إلى ساحة فينيسيا، وبعد ذلك، بعد أن أصبح محبطًا تدريجيًا، قاد سيارته عبر العديد من الطرق والساحات في المركز، التي أصبحت الآن مليئة بالسيارات والأشخاص الذين خرجوا للاستمتاع بالأمسية الباردة نسبيًا. كما مر بالسيارة بالقرب من البريد المركزي، والذي، على الرغم من أنه لم يكن معلما سياحيا جميلاً، إلا أنه أحد الأماكن التي يزورها الأجانب كثيرًا. ثم عاد بعد ذلك إلى مسار سياحي مزدحم، حيث زار ساحة إسبانيا وساحة ديل بوبولو، حتى غروب الشمس تقريبًا، خطر بباله أن اللص الصغير يمكن أن يكون على شرفة Pincio، حيث يمكن للمرء الاستمتاع برؤية غروب الشمس الشهير، وحيث يمكن للنشال دائمًا العثور على القليل من العمل.

في بينشو بدا وكأن هناك معرضًا، لدرجة أن المنطقة كانت مزدحمة بالناس، وخاصة الفتيات الصغيرات، لكن لم تكن أي منهن ترتدي الجينز الأزرق، وفوق كل شيء لم تكن أنيقات وشقراوات ولها وجه جميل مليء بالبراءة الطفولية، حلوة جدًا في الذاكرة لدرجة أن المحامي، على الرغم من نفسه، سمح للحنين الشديد إليها، مهما كانت روحها مظلمة، ولم يتساءل إلا لماذا سمح الله بمثل هذا المزيج الخطير بين جمال الشكل والفساد الأخلاقي، والتذكير لقد برأها إلى الله بطريقة معينة، على الأقل جزءًا من خطاياها، وفي الواقع بدا له أنها الآن، لو أصبحت في متناول يده، لما كان سيخنقها أو يجرها إلى أقرب مركز الشرطة، لكنه كان سيكتفي بفهم سبب انحرافها، وبمجرد أن يفهم ذلك، سيطلق سراحها، ربما حتى مع الستين ألف ليرة أو أكثر. لقد أصبح كل شيء مريرًا بالنسبة له، في ذلك المساء الذي كان ينزل بلطف، وليس بسببها فقط، لأنها في نهاية المطاف كانت مجرد رمز للعديد من الأشياء الخاطئة في العالم، وهذا ليس صحيحًا تمامًا. بالتأكيد لماذا هم مخطئون.

بعد أن سيطرت عليه هذه الفكرة المقفرة عن الحياة والكون بأكمله، عاد المحامي إلى سيارته، وسار بلا هدف لبعض الوقت عبر أزقة فيلا بورغيزي، وشعر بالروائح النفاذة لأشجار الليمون مثل الصفراء الميتافيزيقية، ورأى حتى الأطفال يلعبون. مع الكلاب على العشب كبشر متحللين، وأخيرًا، خاصة من أجل الهروب من خيبة الأمل التي يبدو أن الطبيعة قد منحتها له، قاد سيارته إلى بورتا بينسيانا ودخل فيا فينيتو، التي كانت في ذلك الوقت مشرقة بالأضواء واللافتات، مزدحمة بالسيارات ومليئة بالناس الذين يسيرون كما لو كانوا في موكب على الرصيفين المزدحمين بطاولات المقاهي. وهناك، وسط الحشد، بين أكشاك بيع الصحف، رآها، بعد أن توقف عن التفكير فيها ككائن طبيعي، أو بالأحرى، لاحظ رأسًا أشقر، ومن اضطراب المشاعر المتضاربة التي اشتعلت. فجأة، شعر على الفور بالتأكد من أنها هي. وبدون تفكير مرتين، قفز من السيارة، واندفع وسط الحشد، وتقدم كالمجنون حتى، قبل أن يصل إليها، أدرك أن رأسها الأشقر ليس رأسها، فالشعر الأشقر لا يشبه رأسها ولو من بعيد، لكنه في هذه الأثناء تسبب بالفعل في الكثير من المتاعب حيث كان نصف شارع فيا فينيتو يطلق أبواقه وكان شرطي غاضب يصفير له صفير مثل صفير الإله عولس في وجه العاصفة للسائق المتهور الذي ترك سيارته في منتصف الطريق خلال ساعة الذروة.

امتثل المحامي للأمر بنقل سيارته إلى طريق جانبي وهناك، مدركًا بشدة لخطر دخوله السجن بسبب الاعتداء اللفظي على شرطي، استعد لبدء جدال مع الشرطي، ليس لأنه كان يعتقد ذلك. لقد كان على حق ولو قليلاً، ولكن لأن هذه الحادثة، التي حدثت في أعلى نقطة في يوم مشؤوم بشكل خاص، تجاوزت حقًا المقدار اليومي من الحظ السيئ الذي يمكن للرجل أن يتحمله بشكل معقول. لذلك، عندما بدأ الشرطي بالسؤال عما إذا كان مجنونًا بأي حال من الأحوال، انفجر وصرخ قائلاً: إنه، وهو موظف محترم، لم يكن يسمح لأحد بأن يشكك في توازنه العقلي، وكان على الشرطي أن يتعلم احترام المواطنين الذين يدفعون الضرائب، بل والقيام بواجبه إذا أراد ذلك، ولكن دون الكثير من الضجة، لأنه لم يكن لديه وقت يضيعه.. عندها شرع الشرطي، بابتسامة التفوق التي لا يملكها إلا الأقوياء، في إضاعة أكبر قدر ممكن من الوقت، وبدأ بدعوته إلى إبراز وثائقه: وثيقة تسجيل المركبة ورخصة القيادة.

لقد فهم المحامي، الذي كان يتمتع بحس قانوني جاهز إلى حد ما في مهنته، أنه أوقع نفسه في فوضى كبيرة، لأنه تذكر فجأة أن رخصة القيادة كانت في المحفظة ولم تعد المحفظة معه. كما أنه لا يستطيع أن يقول إنها سُرقت منه بين الساعة الثالثة والرابعة بعد الظهر، لأنه، بصرف النظر عن الإزعاج الذي كان يمكن أن يصيبه من زوجته إذا علمت بتفاصيل معينة عن القضية، فإن واجبه المحدد كان سيتمثل في للإبلاغ عن السرقة في أسرع وقت ممكن وبشكل عفوي.

توصل المحامي، بعد تحليل عقلي سريع جدًا للموقف، إلى نتيجة مفادها أنه من أجل الخروج من الموقف بأفضل طريقة ممكنة، من الأفضل أن يتخذ إجراءً. بلفتة واثقة، أحضر يده اليمنى إلى الجيب الخلفي لبنطاله ليخرج محفظته، وعلى الفور رسم وجهًا غاضبًا، ولكن في الغالب مرتبكًا، كما لو أنه فوجئ بعدم العثور عليها. ثم، بقدرة احترافية، غيّر تعبيره قليلًا، مضيفًا لمسة من النظرة التائهة، وفي هذه الأثناء يقول لنفسه، ولكن بصوت عالٍ بما يكفي حتى يسمعه الشرطي:

- غريب، لا أجد محفظتي... قليلًا". كانت معي منذ فترة قصيرة... أنا حقًا لا أفهم... أتمنى ألا أفقدها، فقد كانت رخصتي بالداخل....

سخر الشرطي منتصرًا، وربما كان يعتقد أنه لا يتعامل مع محامٍ بل مع لص سيارات. قال دون أن يحاول حتى إخفاء السخرية في صوته:

- حاول أن تبحث عنها بشكل أفضل. ربما تجدها."

بعد ذلك، غادر المحامي السيارة، وهو يشعر وكأنه مهرج، وأسوأ من الدودة، وخلع ستراته، مظهرًا أنه كان يأمل أن تظهر المحفظة بأعجوبة من مكان ما، ولأن الشرطي لا يزال غير راضٍ، بدأ يبحث أيضا داخل السيارة. بين المقعد ومسند الظهر، ثم حتى تحت المقعد، وهناك، ولم تكن مخفية تمامًا، وجد المحفظة التي يبدو أنها سقطت منه بعد دفع ثمن الوقود في أكوابيندينتي، وكان بداخلها كل شيء، الرخصة وأكثر من سبعين ألف ليرة.

مختبئًا خلف أحد الأعمدة التي تدعم سقف الرصيف 7 في محطة تيرميني في روما، رأى المحامي الفتاة النحيلة والشقراء تصل عند منتصف الليل تقريبا، يتبعها حمال يحمل حقيبة ظهرها الكبيرة. استقلت القطار المتجه إلى ريجيو كالابريا، ونظرت من النافذة على الفور تقريبًا، وبقيت هناك لمدة خمس دقائق كاملة حتى غادر القطار. بدت حزينة وربما قلقة بعض الشيء، وكأنها تنتظر، ولكن دون أمل كبير، أن يأتي شخص ما ليودعها.

انتظر المحامي خلف العمود حتى غادر القطار، ثم خرج من المحطة، وركب السيارة وانطلق نحو بيته، أي نحو زوجته وابنته ومصيره، وكان يشعر أيضًا ببعض الكآبة، ولكن مع ذلك القدر المناسب من الكآبة التي لا يستطيع كل إنسان أن يرفض حملها. الآن عرف أن الفتاة كانت رائعة حقًا، كما كان يظنها، وإذا هربت بهذه الطريقة الغريبة فذلك لأنه بالنسبة لها، بالنسبة لها أيضًا، تلك المغامرة التي بدأت تقريبًا مثل مزحة، قد تجاوزت الحدود المسموح بها للمغامرة ولم يكن من الصواب إكمالها، ويجب أن تظل واحدة من الأشياء التي لا تحدث، وبالتالي تظل مثالية بطريقة ما حدث لا يمكن أن يكون.

***

.....................

المؤلف: جوزيبي بيرتو (1978-1914) روائي وناقد سينمائي وكاتب مسرحي إيطالي. تخرج من جامعة بادوا. في عام 1939، حصل على الميداليات الفضية والبرونزية من الحكومة الإيطالية للإصابات التي لحقت به أثناء القتال في شرق أفريقيا. توفي عام 1978.

 

روي سبايفي:

(السفر مع نجم سينمائي)

قصة: ميراندا جولي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

جلستُ مرتين في الطائرة بجوار شخص مشهور. الأول كان جيسون كيد من فريق نيوجيرسي نتس. سألته لماذا لا يسافر في الدرجة الأولى، فقال إن السبب هو أن ابن عمه يعمل في شركة يونايتد.

" أليس ذلك سببًا إضافيًا للحصول على مقعد فى الدرجة الأولى؟"

قال وهو يمدّ ساقيه في الممر:

"لا بأس، الأمر بسيط."

تركت الأمر يمضي، فماذا أعرف أنا عن خفايا حياة المشاهير في عالم الرياضة؟ لم نتحدث لبقية الرحلة.

لا يمكنني ذكر اسم الشخص الشهير الثاني، لكن يمكنني أن أخبرك بأنه نجم وسيم من هوليوود ومتزوج من نجمة سينمائية. أيضًا، يحتوي اسمه الأول على الحرف "V". هذا كل شيء—لا أستطيع قول المزيد. فكّر في عالم الجاسوسية. حسنًا، انتهى الأمر—حقًا، هذا كل شيء. سأدعوه "روي سبايفي"، وهو تقريبًا جناس استبدالي لاسمه الحقيقي.

لو كنتُ شخصًا أكثر ثقةً بنفسه، لما تطوّعتُ للتخلي عن مقعدي في رحلة مزدحمة، ولما حظيتُ بترقية إلى الدرجة الأولى، ولما جلستُ إلى جواره. كان هذا مكافأتي على كوني سهلة الإرضاء.

نام في الساعة الأولى، وكان من المدهش أن أرى وجهًا بهذه الشهرة يبدو هشا وفارغًا. كان مقعده عند النافذة ومقعدي عند الممر، وشعرتُ وكأنني أحرُسه، أحميه من الأضواء الساطعة ومن المصوّرين. نم، أيها الجاسوس الصغير، نم.

هو ليس صغيرًا في الواقع، لكننا جميعًا أطفال حين ننام. لهذا السبب، أسمح للرجال برؤيتي نائمة في وقت مبكر من العلاقة. يدركون عندها أنه رغم أن طولي خمسة أقدام وإحدى عشرة بوصة، فإنني هشّة وأحتاج إلى من يعتني بي. الرجل الذي يرى ضعف العملاق يدرك أنه رجل بحق. وسرعان ما تصبح النساء الصغيرات في نظره أشبه بالكيانات الخفيفة—وهكذا، فجأة، يصير لديه ولَعٌ بالطويلات من النساء.

تحرك روي سبايفي في مقعده، مستيقظًا. أغلقت عينيَّ بسرعة، ثم فتحتهما ببطء، وكأنني كنت نائمة أيضًا. لكنّه لم يفتح عينيه بالكامل بعد. أغلقتُ عينيّ مجددًا ثم فتحتهما فورًا، ببطء، ففتح هو عينيه أيضًا، ببطء، والتقت نظراتنا، وكأننا قد استيقظنا من نومٍ واحد، من حلم امتد طوال حياتنا.

أنا، امرأة طويلة لكن بلا تميّز يُذكر؛ وهو جاسوس بارز، لكن ليس حقًا، مجرد ممثل، لكن ليس حقًا، مجرد رجل، وربما حتى مجرد فتى. هذه إحدى الطرائق التي تؤثر بها قامتي على الرجال، الطريقة الأكثر شيوعًا: أن أصبح أمّهم.

تحدثنا بلا انقطاع طوال الساعتين التاليتين، نخوض في الحديث الذي يدور حول كل شيء تحديدًا. أخبرني بتفاصيل حميمة عن زوجته، السيدة الجميلة "م"، ومن كان ليظن أنها كانت مضطربة إلى هذا الحد؟

-  "أوه، نعم، كل ما يُنشر في الصحف الصفراء صحيح."

-  "حقًا؟"

-  "نعم، خاصة ما يتعلق باضطرابها الغذائي."

-  "وماذا عن الخيانات؟"

-  "لا، ليس الخيانات، بالطبع لا. لا يمكنك تصديق الصحف الصفراء."

-  "الصحف الصفراء؟"

- "نحن نسميها 'بلويد'، أو 'تابز'."

عندما قُدمت وجبات الطعام، شعرنا وكأننا نتناول الإفطار معًا في السرير، وعندما نهضتُ للذهاب إلى الحمام، مازحني قائلاً:

"أنتِ تتركينني!"

فأجبته مبتسمة:

"سأعود!"

وأنا أسير في الممر، كانت أعين العديد من الركاب تلاحقني، ولا سيما النساء. انتشر الخبر بسرعة في هذه القرية الطائرة الصغيرة. ربما كان هناك بعض كُتّاب الصحف الصفراء على متن الرحلة، وبالتأكيد بعض قرّائها. هل كنا نتحدث بصوت عالٍ؟ بدا لي أننا كنا نهمس.

نظرتُ إلى المرآة بينما كنت أتبول، متسائلة إن كنتُ أقبح شخص تحدث إليه يومًا. خلعتُ بلوزتي وحاولتُ غسل إبطيّ، وهو أمر يكاد يكون مستحيلًا في حمام صغير كهذا. رششتُ حفنات من الماء باتجاه إبطيَّ لكنها سقطت على تنورتي، المصنوعة من قماش يصبح داكنًا جدًا عند البلل. وجدتُ نفسي في مأزق حقيقي.

تصرّفتُ بسرعة، خلعتُ التنورة ونقعتها بالكامل في الحوض، ثم عصرتها وارتديتها من جديد. مررتُ يديّ عليها لتسويتها. ها قد أصبحت بلون واحد، أغمق قليلًا. سرتُ عائدة عبر الممر، حريصةً على ألا ألمس أحدًا بتنورتي الداكنة.

عندما رآني روي سبيفي، صاح قائلاً:

- لقد عدت!

ضحكتُ، فقال:

- ماذا حدث لتنورتك؟

جلستُ وشرحتُ له الأمر كله، بدءًا من الإبطين. استمع بصمت حتى أنهيت حديثي.

- إذن، هل تمكنتِ من غسل إبطيكِ في النهاية؟

- لا.

-  هل تفوح منهما رائحة كريهة؟

- أعتقد ذلك.

- يمكنني أن أشمّهما وأخبركِ.

- لا.

- لا بأس، هذا جزء من عالم الاستعراض.

-  حقًا؟

-  نعم. تعالي.

انحنى نحوي وضغط أنفه على بلوزتي.

- ثمة رائحة كريهة.

- أوه. حسنًا، لقد حاولت غسلها.

لكنه كان قد وقف الآن، متجاوزًا مقعدي باتجاه الممر، يبحث في الصندوق العلوي. ثم عاد إلى مقعده بحركة درامية، ممسكًا بزجاجة ذات مضخة.

- فبريز.

-  آه، سمعتُ عنه.

- يجف في ثوانٍ، ويأخذ الرائحة معه. ارفعي ذراعيكِ.

رفعتُ ذراعي، فرشّ بتركيز شديد ثلاث بخّات تحت كل كم.

- من الأفضل أن تبقي ذراعيكِ مرفوعتين حتى يجف.

مددتُ ذراعيّ. إحداهما امتدت إلى الممر، والأخرى عبرت أمام صدره، ويدي تضغط على النافذة. فجأة، بدا واضحًا كم كنتُ طويلة. لا يمكن إلا لامرأة طويلة جدًا أن تمتلك مثل هذا الامتداد. حدّق في ذراعي الممتدة أمام صدره للحظة، ثم زمجر وعضّها. ثم ضحك. ضحكتُ أنا أيضًا، لكنني لم أكن أفهم ماذا يعني هذا العَضّ على ذراعي.

- ما ذلك؟

- هذا يعني أنني معجب بك!

- حسنًا.

- هل تريدين أن تعضّيني؟

- لا.

- ألستِ معجبة بي؟

- بلى، معجبة بك.

- هل بسبب أنني مشهور؟

- لا.

- كوني مشهورًا لا يعني أنني لا أحتاج ما يحتاجه الجميع. ها، عضيّني في أي مكان تريدين. عضي كتفي.

أزاح سترته إلى الخلف، ثم فكّ الأزرار الأربعة الأولى من قميصه وسحبه جانبًا، كاشفًا عن كتفٍ عريضٍ مسفوع. انحنيت نحوه بسرعة، وعضضته برفق، ثم التقطت كتالوج سكاي مول وبدأت في قراءته. بعد دقيقة، أعاد إغلاق أزراره ببطء، ثم التقط نسخته من سكاي مول. قرأنا على هذا النحو لمدة نصف ساعة كاملة.

خلال هذا الوقت، حرصت على ألا أفكر في حياتي. كانت حياتي بعيدة في الأسفل، داخل بناية سكنية من الجص بلون وردي مائل إلى البرتقالي. شعرت وكأنني قد لا أعود إليها أبدًا. ظلّ مذاق ملوحة كتفه على طرف لساني. ربما لن أقف مجددًا في منتصف غرفة المعيشة، مترددة، لا أعرف ما الذي ينبغي عليّ فعله. كنت أقف أحيانًا لساعات، عاجزة عن جمع ما يكفي من العزم لأتناول طعامًا، أو أخرج، أو أنظف، أو أنام. بدا من غير المعقول أن تواجه امرأة، تذوقت وذاقها رجل شهير، مثل هذه الحيرة.

قرأت عن مكانس كهربائية تلتقط الحشرات من الهواء، وتأملت رفوفًا تدفئ المناشف تلقائيًا، وألقيت نظرة على صخور مزيفة تُخفى داخلها المفاتيح. بدأنا في الهبوط. أعدنا المقاعد إلى وضعها المستقيم وأغلقنا الطاولات أمامنا. التفت إليّ روي سبايفي فجأة وقال:

- مرحبًا.

قلت:

- مرحبًا، استمتعتُ كثيرًا معكِ.

- وأنا كذلك.

- سأكتب لكِ رقمًا، وأريدكِ أن تحفظيه جيدًا، كأنه روحك.

- حسنًا

-  إن وقع هذا الرقم في الأيدي الخطأ، سأضطر إلى تغييره، وذلك سيكون أمرًا مزعجًا للغاية.

- حسنا.

كتب الرقم على صفحة مستلة من كتالوج سكاي مول، ثم دسّها في كفّي.

- هذا هو الرقم الشخصي لمربية أطفالي. لا يتصل بها أحد على هذا الخط سوى صديقها وابنها. لهذا، ستجيب دائمًا. ستتمكنين من الوصول إليّ في أي وقت، وهي ستعرف أين أكون. "

نظرت إلى الرقم.

إنه ناقص رقمًا.

- أعلم. أريدكِ أن تحفظي الرقم الأخير فقط، لا تكتبيه، بل احفظيه عن ظهر قلب.

- حسنًا.

- إنه أربعة.

أدرنا وجهينا إلى مقدمة الطائرة، وأمسك روي سبايفي يدي برفق. كنت لا أزال أمسك بالورقة التي تحمل الرقم، فقبض عليها معي. شعرتُ بالدفء والبساطة. لم يكن بإمكان أي شيء سيئ أن يحدث لي بينما كنت أمسك يده، وعندما يتركها، سيكون لدي الرقم الذي ينتهي بأربعة. كنت أريد رقمًا كهذا طوال حياتي.

هبطت الطائرة برشاقة، كما لو كانت خطًا مرسومًا بخفة. ساعدني في إنزال حقيبتي من المقصورة العلوية؛ بدت لي الحقيبة مألوفة بشكل مُزعج.

- سيكون رجالي بانتظاري هناك، لذا لن أتمكن من توديعك كما ينبغي.

- أعلم. لا بأس.

- لا، ليس حقًا. هذا سخيف

- لكنني أفهم.

- حسنًا، هذا ما سأفعله. قبل أن أغادر المطار بلحظة، سأتوجه إليك وأقول: 'هل تعملين هنا؟

- لا بأس، أنا حقًا أفهم.

- لا، هذا مهم بالنسبة لي. سأقول: ’هل تعملين هنا؟‘ وأنتِ ستقولين جملتك.

- ما هي جملتي؟

- تقولين: ’لا.‘"

- حسنًا.

- وسأفهم ما تعنينه. سنفهم المعنى الخفي.

- حسنًا.

تبادلنا النظرات بطريقة تقول إن لا شيء يهم بقدر ما يهم وجودنا معًا. سألت نفسي إن كنت سأقتل والديّ لإنقاذ حياته، وهو سؤال ظللت أطرحه على نفسي منذ أن كنت في الخامسة عشرة. كان الجواب دائمًا نعم. لكن مع مرور الوقت، تلاشى جميع أولئك الفتيان، وبقي والداي. أصبحت أقل استعدادًا للتضحية بهما من أجل أي شخص؛ بل صرت أقلق على صحتهما. لكن في هذه الحالة، كان عليّ أن أجيب بنعم. نعم، سأفعل.

سرنا عبر النفق الفاصل بين الطائرة والحياة الحقيقية، ثم، دون أن يلقي حتى نظرة في اتجاهي، انساب بعيدًا عني.

حاولت ألا أبحث عنه في منطقة استلام الأمتعة. سيجدني قبل أن يرحل. دخلتُ الحمام. التقطتُ حقيبتي. شربتُ من نافورة المياه. شاهدتُ الأطفال يضربون بعضهم البعض. أخيرًا، سمحتُ لنظري أن يجول بين الجميع. لم يكن أي منهم هو، حتى آخر واحد بينهم. لكن الجميع عرفوا اسمه. الموهوبون في الرسم كانوا قادرين على رسمه من الذاكرة، والبقية بلا شك يمكنهم وصفه—لو اضطروا—لشخص كفيف، مثلًا. المكفوفون هم الوحيدون الذين لا يعرفون كيف يبدو شكله. لكن حتى المكفوفين كانوا يعرفون اسم زوجته، وبعضهم ربما كان يعرف اسم البوتيك الذي اشترت منه زوجته قميصًا بلون اللافندر وسروالًا قصيرًا متناسقًا معه. روي سبايفي كان في كل مكان ولا مكان في آنٍ واحد.

شعرتُ بيد تلامس كتفي.

- عذرًا، هل تعملين هنا؟

كان هو. لكنه لم يكن هو، لأن عينيه كانتا بلا صوت؛ كانتا صامتتين. كان يمثل. قلتُ جملتي:

- لا.

عندها، ظهرت بجانبي موظفة مطار شابة وجميلة، وقالت بحماس:

- أنا أعمل هنا، ويمكنني مساعدتك.

توقف لجزء من الثانية ثم قال:

- رائع.

انتظرتُ لأرى ما سيفعله بعد ذلك، لكن الموظفة حدّقت بي بامتعاض، وكأنني أتطفل، ثم رفعت عينيها نحوه، وكأنها تحميه من أمثالي.

أردتُ أن أصرخ: "كان هذا شِفرة! كان له معنى خفي!" لكنني كنتُ أعرف كيف سيبدو الأمر، لذا رحلت.

في تلك الليلة، وجدتُ نفسي واقفة في منتصف أرضية غرفة المعيشة. كنتُ قد أعددتُ العشاء وأكلته، ثم خطرت لي فكرة تنظيف المنزل. لكنني توقفتُ في منتصف الطريق إلى المكنسة، مدفوعةً بنزوة، العبث بالفراغ في وسط الغرفة.

أردتُ أن أختبر إن كنتُ قادرة على البدء من جديد. لكنني كنتُ أعرف الإجابة، بالطبع. كلما واصلتُ الوقوف هناك، زادت احتمالية أن أبقى عالقة في مكاني. كان الأمر معقدًا ومتضاعفًا بشكل متسارع. كنتُ أبدو وكأنني لا أفعل شيئًا، لكنني في الواقع كنتُ منشغلة كعالم فيزياء أو سياسي. كنتُ أضع استراتيجيات لخطوتي التالية. وحقيقة أن خطوتي القادمة كانت دائمًا ألا أخطو أي خطوة لم تجعل الأمر أسهل.

تخلّيتُ عن فكرة التنظيف، واكتفيتُ بالأمل في أن أتمكن من الذهاب إلى الفراش في ساعة معقولة. فكرتُ في روي سبايفي وهو في السرير مع الآنسة "م". ثم تذكرتُ الرقم. أخرجته من جيبي. كان قد كتبه على صورة ستائر وردية. كانت مصنوعة من قماش صُمم في الأصل لمكوك الفضاء؛ يتغير كثافتها وفقا لتقلبات الضوء والحرارة.

حركتُ شفتيّ بجميع الأرقام ثم نطقتُ الرقم الناقص بصوت مسموع: "أربعة." شعرتُ أن الأمر ينطوي على مجازفة، شيء غير مشروع. صرختُ: "أربعة!" ثم تحركتُ بسهولة نحو غرفة النوم.

ارتديتُ قميص النوم، غسلتُ أسناني، وذهبتُ للنوم.

على مدار حياتي، استخدمتُ ذلك الرقم مراتٍ عديدة. ليس رقم الهاتف، بل الأربعة فقط. عندما التقيتُ بزوجي لأول مرة، كنتُ أُتمتم بـ"أربعة" أثناء الجماع، لأنه كان مؤلمًا جدًا. ثم اكتشفتُ عملية جراحية صغيرة يمكنني الخضوع لها لتوسيع نفسي.

تمتمتُ بـ"أربعة" عندما توفي والدي بسرطان الرئة. وعندما تورطت ابنتي في مشكلة في مكسيكو سيتي، لا أحد يعلم ما كانت تفعله هناك، قلتُ "أربعة" في داخلي بينما كنتُ أملي عليها رقم بطاقتي الائتمانية عبر الهاتف. كان ذلك مربكًا—أن أفكر في رقم وأقول رقما آخر.

يمزح زوجي دائمًا بشأن رقمي المحظوظ، لكنني لم أخبره قط عن روي. لا ينبغي التقليل من قدرة الرجل على الشعور بالتهديد. لستِ بحاجة إلى أن تكوني آيةً في الجمال لكي يتعارك الرجال بسببك.

في حفلة لمّ شمل مدرستي الثانوية، أشرتُ إلى أستاذ كنتُ مغرمةً به ذات يوم، وبحلول نهاية الليلة كان الأستاذ وزوجي يتعاركان في موقف سيارات الفندق. زوجي قال إن الأمر كان يتعلق بمسائل عرقية، لكنني كنتُ أعرف. هناك أشياء، الصمت بشأنها أبلغ من أي تفسير.

في هذا الصباح، نظّفتُ علبة مجوهراتي، فوجدتُ قطعة ورق صغيرة عليها صورة ستائر وردية. كنتُ أظن أنني فقدتها منذ زمن، لكنها كانت هناك، مطوية أسفل ظفر جافٍّ وعددٍ من الأساور الثقيلة وغير المستعملة. لم أهمس "أربعة" منذ سنوات. فكرة الحظ بدت مرهقة الآن، كما يبدو عيد الميلاد حين لا يكون المرء في مزاج للاحتفال.

وقفتُ بجانب النافذة وتأملتُ خطّ يد روي سبايفي في الضوء. لقد كبر في السن الآن—مثلنا جميعًا—لكنّه لا يزال يعمل. لديه برنامجه التلفزيوني الخاص. لم يعد جاسوسًا؛ بل صار يؤدي دور والدٍ لاثني عشر طفلًا مشاغبًا. في تلك اللحظة، أدركت أنني لم أفهم الأمر على الإطلاق. لقد أرادني أن أتصل به.

نظرتُ عبر النافذة، فوجدتُ زوجي ينظّف السيارة بالمكنسة الكهربائية في الممر. جلستُ على السرير، الرقم على ركبتي والهاتف بين يدي. أدخلتُ كل الأرقام، بما في ذلك ذلك الرقم المخفي الذي رافقني طوال حياتي البالغة. لم يعد في الخدمة. بالطبع لم يكن موجودا. كان سخيفًا مني أن أتصور أنه لا يزال خط مربيته الخاص.

كبر أطفال روي سبايفي، كبروا منذ زمن. ربما تعمل المربية لدى شخص آخر الآن، أو ربما نجحت في حياتها—أنهت دراستها في التمريض أو إدارة الأعمال. أحسنت صنعا. نظرتُ إلى الرقم في حجري، وشعرتُ بموجة عارمة من الفقدان. لقد تأخرتُ كثيرًا. انتظرتُ طويلًا جدًا.

أنصتُ إلى زوجي وهو يضرب دواسات السيارة على الرصيف. التصق قطّنا العجوز بي، ضغط بجسده على ساقيّ، يطلب الطعام. لكنني لم أستطع النهوض. مرّت دقائق، قاربت الساعة. بدأ الليل يرخي سدوله. كان زوجي في الطابق السفلي يُحضّر شرابه، وكنتُ على وشك النهوض. فى الخارج تُغرِّد الصراصير في الفناء، وكنتُ على وشك النهوض.

(تمت)

***

..........................

الكاتبة: ميرندا جولي / Miranda July فنانة أمريكية متعددة المواهب. فهي كاتبة، وكاتبة مسرحية، وكاتبة سيناريو، ومخرجة، وممثلة، وفنانة أداء، وموسيقية، وفنانة فيديو. في عام 2007، فازت مجموعتها القصصية لا أحد ينتمي إلى هنا أكثر منك بجائزة فرانك أوكونور الدولية للقصة القصيرة، وهي جائزة مرموقة تُمنح في أيرلندا. أما فيلمها أنا وأنت وكل من نعرفه، الذي كتبته وأخرجته ولعبت دور البطولة فيه، فقد فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2005، بالإضافة إلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان صندانس السينمائي.

وُلدت جولي في بار، فيرمونت، في 15 فبراير 1974، لوالدين كانا كاتبين وأستاذين جامعيين آنذاك. نشأت في بيركلي، كاليفورنيا، حيث بدأت بكتابة المسرحيات وعرضها في نادٍ محلي. التحقت بالجامعة في كاليفورنيا لكنها تركتها في عامها الدراسي الثاني وانتقلت إلى بورتلاند لبدء الظهور على المسرح بنفسها. هناك، في سن الثانية والعشرين، بدأت مشروعًا أطلقت عليه اسم جوني فور جاكي—وهو مشروع فيديو بطريقة "رسالة السلسلة" يهدف إلى تمكين وتعزيز أعمال صانعات الأفلام. نُشرت قصصها في مجلات النيويوركر وباريس ريفيو وهاربرز ماجازين وغيرها، وتمت قراءتها عبر محطات إذاعية في جميع أنحاء أمريكا. نُشر أول رواية لها، أول رجل سيئ، في عام 2015.

بقلم: سكوت ماينار

ترجمة: صالح الرزوق

***

أن تقرأ بورغيس يشبه إسدال شاشة رقيقة

أمام عين الكاميرا أو

تنحيتها

وأنت على الشرفة و

الشمس ملتهبة

فوق طاولة مفصلة من الحديد

وعلى يديك المتشققتين.

هذا السطوع

لم أتوقعه،

ولم تشاهده في حياتك

لأن عينيك

تموتان ببطء

والليل يزحف

مثل سيارة صامتة

ليخرج من نهار كنت

تعتقد أنه مثالي

حتى ثبت سوى ذلك. حقا،

إنه مثل النمر في ضوء النهار،

أو

تاريخ غني بالألوان

وأعدنا تدوينه.

وهذا لا يمكن ولا يجب أن يكون واقعيا.

قال، تقريبا، أشعر ماديا

بوزن

الكتب، وهدوء

النظام المهيمن، والوقت

الساحر الذي نجففه،

لنحافظ عليه. كتاب

يحتضن كتابا آخر. إنها تتيبس و

تتخثر

على محتوياتها، هي ليست جافة

ولكنها مصنوعة من هواء

مفعم بعذوبة

الماغنوليا

وورود البرتقال

فبعض الكلمات تتحول

إلى تاريخ و

وبدايات.

صمدت أجنحة ديدالوس،

لكن أجنحة ابنه ذابت

فوق بحر مؤقت –

ومع ذلك

لها طعم الملح و

الاستهلاك اليومي

الفائض

حتى نهاية الخليقة.

أنت

المخترع الموهوب

الذي هرب

من الحصار.

وألفيرا دي

ألفير

العلامة التي

اهتم بها الموت نفسه،

تقترب ببطء، وبــ

هدوء

تام مثل مخلب نسحبه

عن الأوراق الجافة

في الساحة الجميلة.

***

...........................

سكوت ماينار Scott Minar  شاعر وأكاديمي أمريكي. أستاذ متقاعد في جامعة أوهايو. الترجمة بالاتفاق معه.

الصفحة 1 من 7

في نصوص اليوم