أقلام حرة

أقلام حرة

حين تُعيدنا كرة القدم إلى أسئلة الوطن الكبرى

الهزيمة ليست مجرد نتيجة

لم تكن خسارة المنتخب الوطني العراقي أمام نظيره الفلسطيني مجرد تعثر رياضي، بل لحظة تستدعي مراجعة شاملة لفكرة الوطنية نفسها، وللمفاهيم التي نعرّف بها النصر والهزيمة، الفخر والانكسار، النجاح والفشل، الربح والخسارة. إقالة المدرب الإسباني كاساس قد تبدو إجراءً فنياً بحتاً، لكن المسألة تتجاوز الرياضة إلى الثقافة السياسية لدى النخبة والجمهور، والمنطق الذي تُدار به مختلف الملفات، حيث تتحكم العقلية ذاتها في السياسة والاقتصاد والرياضة، فتجعل من أي أزمة فرصة للتخلص من شخص بدلاً من مواجهة المشكلة الحقيقية. ليس المنتخب الوطني سوى تعبير رمزي عن حال مجتمع بأكمله، حيث الانتصارات اللحظية كثيراً ما تُستخدم للهروب من مواجهة الواقع، والأزمات غالباً ما تُقابل بمعالجات سطحية سريعة بدلاً من مراجعات بنيوية عميقة.

ما وراء الإقالة: عقليات لا تُقيل نفسها

ربما تكون الوطنية الحقيقية، لا في الاحتفاء بالنتائج المؤقتة، بل في القدرة على تحويل الخسائر إلى لحظات وعي، حيث لا يصبح الألم مناسبة للندب، بل حافزاً لاكتشاف الذات بعيداً عن أوهام التفوق المريح. في بعض اللحظات، لا تكون خسارة مباراة كرة قدم مجرد نتيجة عابرة على لوح الترتيب، بل تصبح مرآة مكبّرة تعكس هشاشتنا الوطنية وأسئلتنا المؤجلة. الهزيمة، حين تمس مشاعر الجمهور، تكشف ما وراء اللعبة: طريقة تفكيرنا، علاقتنا بالنجاح، وهم الفخر الجماعي، نشوة الانتصارات المؤقتة، اختلال الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غياب الفكر التنموي والفلسفة النهضوية والرؤية الإصلاحية، البحث عن حلول ترقيعية لأزمات متجذرة، الإخفاق في إدراك الأزمات نفسها وتعريفها بصورة سليمة، وعجزنا عن التأمل في واقعنا والتخطيط لمستقبلنا.

في مواجهة المرايا: حين تكشفنا كرة القدم

الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية نحيا فوقها، بل هو وعي متجدّد يتشكل عبر التجارب والاختبارات الجماعية. في كل صدمة أو إحباط فرصة لاكتشاف الذات الوطنية بعيداً عن المبالغات العاطفية والانتصارات اللحظية. كيف يمكن للهزائم، حتى في ميدان الرياضة، أن تكون لحظة وعي، لا انكسار؟ وكيف يمكننا إعادة تعريف علاقتنا بالوطن من خلال مواجهة الحقيقة بدلاً من الهروب منها؟

جرح وطني نحتاجه

لأننا نحب أوطاننا، فمن الضروري أن نشكّ بين حين وآخر بالسرديات التقليدية التي ننسجها حولها. أن نعيد اختبار مسلّماتنا الوطنية، وأن نتعرّض لما يكسر غرورنا الجمعي ويهزّ قناعاتنا المريحة. الخسارات ليست مجرد إخفاقات، بل لحظات تُجبرنا على رؤية ما لا نريد رؤيته. كيف يمكن أن تتحول الهزيمة إلى نافذة نطل منها على حقيقتنا دون زيف؟ وكيف يمكن للجرح في كبريائنا الجماعية أن يكون فرصة للنجاة من الغرق في الوهم؟

لأني أحب العراق، فأنا أشعر بسعادة كلما خسر المنتخب الوطني إحدى مبارياته في منافسات كرة القدم. من الجيّد أن يتعرّض المجتمع لصدمة كي يعيد اكتشاف نفسه. بين الحين والآخر نحتاج إلى جرح نرجسي في الكبرياء الوطنية، هزّة وجدانية تستفز الوعي وتوقظ المجتمع من وهم التفوّق الزائف. الوطنية التي لا تحتمل الهزائم ليست إلا قناعاً هشاً، والمنتخب ليس أكثر من مرآة تكشف لنا واقعنا. كلما انخدعنا بأمجاد كروية مؤقتة، ازدادنا غرقاً في الكسل الجماعي، في الهروب من مواجهة أنفسنا. ومن وقت لآخر، لا بأس بجرح في الغرور الجمعي، علّه يجعلنا نتوقف عن العيش على فتات الانتصارات السطحية، ونفكر في بناء شيء يستحق الفخر فعلاً. وعندما نحقق شيئاً عظيماً حقاً، لن نكون بحاجة للفخر أو التفاخر أصلاً، لأن الإنجاز الحقيقي يمنح أصحابه الامتلاء النفسي والرضا الداخلي والثقة العميقة، ويغنيهم عن مشاعر التفوّق وادعاء الأفضلية.

من الهوس إلى الهواية: كيف نُعيد للرياضة معناها؟

هنا تبرز إشكالية عميقة: النهضة الوطنية الحقيقية لا يمكن اختزالها في قطاع الرياضة، ولا تختصر في منتخب قوي يحقق نتائج مرضية. فالتنمية الرياضية لا تعني فقط رفع كؤوس الفوز، بل تعني أيضاً كيف نوظف الرياضة في إعداد وتأهيل الشباب بدنياً وذهنياً وسلوكياً، كيف نحميهم من السقوط في مستنقعات الإدمان والفراغ واللامعنى. التحدي الحقيقي هو كيف نحول الرياضة من انفعال جماهيري إلى فعل فردي ومجتمعي لتطوير الذات وتحسين الصحة العامة، وكيف نحول كرة القدم من هوس شعبي إلى هواية صحية وثقافة عامة ونشاط يومي. والسؤال الأعمق: كيف نجعل الرياضة وسيلة لإثراء المجتمع لا لإلهائه، رافعة للتنمية لا مسكّناً للوهم؟

النجاح يبدأ من العقل

الهوية الوطنية الناضجة لا تُبنى على أوهام المجد اللحظي، بل على وعيٍ حقيقي يتجاوز نشوة الانتصارات الشكلية نحو إنجازات عميقة وأكثر استدامة. حين ندرك أن الفخر الحقيقي لا يكون بالميداليات والكؤوس بل ببناء وطنٍ قادر على هزيمة الفقر والأمية والتصدي لانعدام العدالة وغياب المساواة؛ في تلك اللحظة نكون قد تجاوزنا الحاجة إلى إثبات تفوقنا للآخرين، ووجدنا بدلاً من ذلك الرضا العميق بمعنى الانتماء ذاته.

النجاح لا يُستورد، ولا يُمنح، ولا يأتي صدفة. إنه فكرة تولد أولاً في العقل، وتُربى في المخيلة، وتُنحت في الوعي الجمعي. قبل أن نحقّق الانتصارات في الميدان، علينا أن ننتصر في أذهاننا، أن نحرّر العقل العراقي من عقدة النقص أو من وهم التفوّق الفارغ، من الكسل المزمن أو الفخر الزائف. لن يكون لدينا وطن منتج ما لم نؤمن أولاً أننا قادرون على الإنتاج. ولا يمكننا بناء قطاع رياضي ناضج ما لم نؤمن أن النجاح فيه ليس صدفة أو حظاً أو قراراً سياسياً، بل نتيجة منطقية لعقل يؤمن بالتخطيط والانضباط والاحترام الحقيقي للوقت والقوانين والكفاءة.

بين وهم الفوز ومواجهة الذات

حين يصبح النجاح عقيدة عقلية جماعية، سينعكس تلقائياً في كل القطاعات: من المدرسة إلى الملعب، من المصنع إلى المختبر، من البرلمان إلى الشارع. أما حين نظل نحتفل بالنجاحات المعلّبة، أو ننهار أمام أول خسارة، فإننا لا نعيش فعلاً في وطن، بل في حالة إنكار جماعية، نؤجل فيها كل أسئلتنا الحقيقية خلف ستار النتائج.

لا بأس بالخسارة… بشرط أن نفيق

في النهاية، ليس السؤال: لماذا نخسر؟ بل لماذا نحتاج إلى انتصار حتى نشعر بوجودنا؟ لماذا نبني هويتنا على لحظات مؤقتة بدل أن نخلق لها أساساً متيناً؟ ربما علينا أن نتعلم كيف نتحرر من حاجتنا الدائمة للتفاخر، لأن الامتلاء الحقيقي لا يحتاج إلى استعراض، ولأن الوطن لا يصبح وطناً إلا حين يكون أكثر من مجرد مرآة لغرورنا.

الوطن الذي لا يعرف إلا نشوة الفوز وطن هشّ، والوطن الذي يخشى النظر في مرآة الخسارة وطن خائف من مواجهة نفسه. لا بأس أن نخسر، لكن الأسوأ أن تمرّ الخسارة دون أن تترك أثراً، دون أن تصبح لحظة تأملٍ فيما نحن عليه. ربما تكون أعظم الانتصارات هي تلك التي تأتي بعد أن نتعلم كيف نخسر بوعي، وكيف نحوّل كل سقوط إلى خطوة في طريق طويل لا يفضي إلى مجد زائف، بل إلى وطن لا يحتاج إلى مرايا ولا إلى أوهام كي يرى نفسه.

***

همام طه

كل منا يحن للماضي الجميل زمن الطفولة والشباب الخالي من المسئوليات والمخاوف.. كل منا يراها أيامًا دافئة في عمق العلاقات بين الأهل والأصدقاء والجيران --- وبلا شك سيكون الماضي عبارة عن صور كثيرة تحتشد في الذاكرة.. بعضها بالألوان والبعض منها فاحمة السواد، ولكن الحنين إلى الماضي الجميل بذكرياته الرائعة أكثر التصاقا بجدران الذاكرة، انه الشعور بالأمان الذي يغمر النفس عندما يزور المرء البيت القديم الذي عاش فيه والحي الذي ترعرع فيه، والمدرسة التي تعلم فيها الأبجدية وحروفها، يجسدها الحنين إلى ذكريات الطفولة ومرابع الصبا وذكريات الشباب، وقد نسترجعها من صورة قديمة أو الجلوس تحت شجرة وارفة الظلال كنا نلعب تحتها في السنين الخوالي، أو شجرة سدر تتعلق فيها أعشاش العصافير الصفراء، أو نتذكر الماضي ونراه يتجدد في سيول الصيف المتدفقة في الأودية والسواقي ويغمر الأطيان الظامئة حتى ترتوي

نحن نعشق الماضي، ونصفه بالماضي الجميل، لشعورنا بالانتماء له، ويذكرنا الماضي بالاحترام وحياتنا البسيطة بدون ترف، كنا لا نملك بيوتا فخمة ولا سيارات فارهه، حياتنا هي سقوف المحبة والتألف والطيبة، كنا نعيش اجواء رمضان وامسياته بالفوانيس والمحيبس وحكايات مضانية بصفاء الروح والوجدان والانتماء للعائلة والوطن عكس كليا مما نراه اليوم حيث ضاعت مأثرنا وسحقت بعجلة الزمن التافه الملىء بالنفود والصراعات والفساد والموبقات والمحرمات!!

نحن نولد في الماضي، ونعيش في الحاضر، ونموت في المستقبل – ونهرب من الواقع المؤسف الى الماضي، كم مرة اخبرك أحدهم بأنه يحب أفلام الأبيض والأسود؛ لأنه يشعر براحة مختلفة عند مشاهدتها؟ وكم مرة اخبرك احدهم و ردد أمامك أن عظمة الطرب قد تلاشت بعد عبد الوهاب وأم كلثوم والاطرش والعندليب؟ وأن كل الجديد في هبوط أو تقليد مبتذل؟ أو آمن أن قصص الحب كانت أصدق وأرق بين المكاتيب الورقية وأثناء انتظار العشاق لنظرة تحت الشرفات العالية؟ وكم مرة اخبرك صديق انه كان يتمنى العيش في فترة الخمسينات والستينات؟ واقعنا يقول إن ماضينا أقوى من مستقبلنا، ولا أتصور أن الانعتاق من "وهم الانتماء" أمر ممكن في الوقت الراهن، لأن الصور المشاهدة التي هي "حلول سهلة" تطغى على الذهن، خصوصا مع صعود مجموعة ذات تفكير "قروسطي" تقود المشهد المعرفي والثقافي وبيدها تشكيل صورة المستقبل، الذي يبدو أنه سيكون أحد الحلقات المكررة للماضي

 الزمن الماضي كان أفضل عموماً من الوقت الحالي أو الفترة التي يعيشها الشخص، حيث تختلف عن التعلق بالذكريات تحديداً، أو بالأوقات السالفة التي عاصرها الشخص، فحنين الشخص لماضيه أمر طبيعي بل مفيد في سياقه المعتدل، خصوصاً مع مرور الإنسان بمراحل أو ظروف انتقالية في حياته "الشيخوخة، التقاعد، الهجرة، وفاة أحد المقربين.. إلخ

الماضي تختزن حالة الحنين إلى «المجهول» أو «الأسطوري» الذي يصعب تعريفه أو تحديده بدقة، وهذا أمر متوقع لأن العاطفة تغلب علينا أكثر من التفكير النقدي المحايد. ويذكرنا الماضي الاسهامات العظيمة التي قدمتها الحضارة الإسلامية للبشرية، ويذكرنا الماضي الابتكارات العظيمة التي اندثرت مع الوقت لكن الغرب أحتضنها وتبناها وطورها وبنى حولها معرفة مؤسسية عميقة نقلت الحضارة الإنسانية إلى ما نعيشه اليوم، ويذكرنا الماضي اننا كنا امة ووطن لا نهاب، كنا واقعا اسطوريا فتوحا وعلما وثقافة، فكل ما يذكرنا الماضي هو مجد ومديح لإنجازات العلماء المسلمين الذين أسهموا بلا شك في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى، والواقع يقول إن المسلمين لم يستطيعوا أن يحولوا اسهاماتهم المبكرة إلى مؤسسة معرفية ولم يصلوا بها إلى مرحلة الإنتاج، والنقد هدفه بحث الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة وليس التقليل من المنجز الحضاري الذي قدمه المسلمون.

***

نهاد الحديثي

عجاف: هزيلة ضعيفة، أو صعبة

البقرات السمان ستأكل البقرات العجاف، ليزداد حليب السمان ويكسبن وزنا وقدرة على محق الضعاف.

الإستقواء بالأقوياء منهج السلوك الدولي المعاصر القاضي بمحق مَن يستجدي الحماية من المهيمنين على مقدرات الدنيا والمتورطين بإفتراس الشعوب وتمزيق المجتمعات، والذين يتخذون من العقائد والأديان والطوائف أسلحة تدمير للوجود البشري على بقعة أرضية غنية بالثروات الطبيعية، فالإستحواذية إرادة الإقتدار العولمي والتناطح الكوكبي الفتاك.

فعن أي سلام يتحدثون؟

هل يعنون به الإستسلام؟

قالت العرب قديما:" إذا لم تكن ذئبا ذؤوبا بالت عليك الثعالب"

فأين الذئاب في سوح الغاب؟

الويل للعرب من الأعراب!!

الويل للعرب من العرب!!

الويل للمسلمبن من المسلمين!!

الويل للوطن من أبنائه!!

الجميع أعداء الجميع، ولا رابح إلا مَن إكتفى بغيره لتأمين مصالحه.

ترابنا يبتلعنا بعد أن تحول إلى حفر وخنادق لردمنا وطمنا، وكلنا نفتخر بدفن بعضنا.

لا نطعم أنفسنا!!

لا نصنع سلاحنا!!

لا نستثمر ثرواتنا!!

نطارد أوهامنا ونحسب خيط الدخان سببا لتحقيق اهدافنا!!

بنا الأيام تمضي نحو ويلِ

فلا أملٌ ولا نجمٌ بليلِ

بأعوامٍ مضمخةٍ بعنفٍ

كأنا في مرابعها كذيلِ

نناشد ذاتنا والجمع داءٌ

يبعثره الضلال بها ويُملي

فهل سنتحرر من دوامة الإندحار الذاتي؟!!

***

د. صادق السامرائي

(إن الرجل هو الرأس، لكن المرأة تديره).. الشاعر الألماني فريدريش شيللر

في خليج فنلندا قامت سيدة الأعمال الأمريكية كريستينا روث باقتناء جزيرة أطلقت عليها اسم "super-she" أو "جنة الجنس اللطيف". وكان الغرض هو إنشاء أو ل تجمع نسوي تطبق فيه ممنوعات ثلاث: السجائر، والكحول، وطبعا الرجال.

يعِدُ هذا الفضاء المرأة بأن تعيد اكتشاف نفسها وتجدد حيويتها بعيدا عن أعين الرجال، من خلال برنامج ترفيهي يتضمن جلسات تدليك، وحمامات ساونا، ووجبات صحية لإنقاص الوزن. غير أنه لم يكن متاحا للنساء جميعا بسبب تكلفته الباهظة، إذ يتعين على كل امرأة دفع مبلغ يفوق ثلاثة آلاف دولار للأسبوع الواحد، عدا عن إجراء مقابلات واختبارات دقيقة لحجز حوالي مئة وأربعين مقصورة لمدة ثلاثة أشهر.

عبّرت بعض النساء عن استيائهن من شروط هذا المنتجع الذي بدا كأنه يخدم الثريات منهن فقط. لكن الطريف في الأمر أن صاحب الفكرة ومصدر تمويلها عو خطيب كريستينا الذي تملك عائلته جزرا قريبة من المنتجع؛ بل إنه المشرف على تصميم المكان، وكأن الرسالة المبثوثة عبر سوبر شي هي: أنت بحاجة للرجل كي تتخلصي منه!

لم تكن جنة كريستينا المحرمة على الرجال فكرة عبقرية، ففي الحكايات القديمة المتوارثة أسطورة مشابهة، تدور أحداثها حول جزيرة للنساء ترابها ذهب لكن لا أحد يهتم به. وفيها صنف من الأشجار تأكل منه النساء فيحملن ويلدن نساء مثلهن، ولو حدث أن اقترب رجل من الجزيرة فسيتعرض للقتل. ويحكى أن مسافرا وصل إلى تلك الجزيرة فأرادت النساء قتله، إلا أن إحداهن رقّت لحاله فوضعته على خشبة وألقت به في البحر.

فهل يمكن حقا للمرأة أن تتخلص من الرجل، أم أنها تعبر عن احتياجها له بشيء من الغموض؟

ولماذا تريد من الرجل أن يشبهها لتشعر بالراحة؟ أليس في الاختلاف بين الطرفين معنى للحياة؟

من المسلم به اليوم الحديث عن اختلافات فسيولوجية تميز الرجل عن المرأة. اختلافات في الجسم وطبقة الجلد ونبرة الصوت، وفي العضلات وتركيب العظام وغيرها. ويستتبع ذلك أيضا اختلاف في الجانب النفسي، ثم أسلوب التربية والمجتمع. لكن هناك معلومة أخرى يقررها العلم الحديث وهي أن كلا من الرجل والمرأة يحملان بداخلهما صفات الذكورة والأنوثة معا، بمعنى عندما يتصرف الرجل بأنانية ولا تهمه سوى مصلحته، فإن قوى الذكورة تطغى على تصرفاته، أما حين ينتبه للآخرين ويهتم بهم وبمشاكلهم، فإنه يبدأ في تلك اللحظة اتصالٌ بقواه الأنثوية. ولا يتحقق هذا الاتصال إلا حين ينجذب الرجل للمرأة، وتنجذب المرأة للرجل.

ومن حيث وظائف الدماغ فإن ما يميز دماغ الرجل هو صفة التخصص، بحيث لا يمكن للجزء الأيمن أن يؤدي وظائف الجزء الأيسر. أما دماغ المرأة فيتميز بصفة التعميم، بمعنى أن كلا الجزأين يعملان بنفس القدر. هذه الحقيقة العلمية تفسر لماذا يُركز الرجل عند أداء مهمة واحدة، بينما يمكن للمرأة أن تؤدي عدة مهام في نفس الوقت.

تلك الطبيعة التركيزية توضح سبب بعض المشاكل بين الأزواج، فقد تغضب المرأة حين تتحدث إلى زوجها وهو يقود السيارة فلا يجيبها، لأنها تجهل أن جل تركيزه منصب على الطريق وعلى السيارات الأخرى، ولا يمكنه أن يُحول انتباهه إليها بسرعة البرق. ويتكرر نفس الشيء تقريبا حين تُحدثه وهو يُجري مكالمة هاتفية فتعتقد أنه يتجاهلها، لكن الحقيقة أن الرجل لا يمكنه التركيز على موضوعين في آن واحد.

ويختلف الرجل أيضا في مسألة الاحتياج العاطفي، فبينما تبحث المرأة عن الاهتمام والرعاية والاحترام، يفتش الرجل في الحب عن الإعجاب والتقدير والثقة. لذا عندما يُبدي رغبته بالمرأة ومشاعرها فهو يتوقع أن تُبادله الإعجاب والارتياح، وتمنحه التقدير الذي يستحقه، وتؤكد قبوله كما هو دون إدخال تعديلات؛ آنذاك يبذل كل جهده لإسعادها.

غير أن المرأة لا تنتبه إلى هذا الاختلاف فتجد في الاعتراف بالحب مناسبة لتشكيل لجنة تطوير، تنتهي أشغالها عادة بالنفور والمشاكل. فعلى سبيل المثال يحتاج الرجل في فترة الخطوبة إلى التعرف على خطيبته، وبث أشواقه وعواطفه لتحقيق الانسجام والتفاهم، بينما تُبدي هي ملاحظاتها على تسريحة شعره، وطريقته في اللبس والأكل. وتستمر التعديلات التي تثير استياءه، وتدفعه للتساؤل عن سبب إعجابها به منذ البداية.

حسب تقريره أعده موقع "هير بيوتي" عن الصفات العشر التي يفضلها الرجل في المرأة، تشكل الثقة والتفهم وتقبل العيوب مزايا أساسية يبحث عنها الرجل في شريك حياته، لأن الحياة المعاصرة تضج بالتحديات والضغوطات التي يحتاج معها الرجل إلى رقة ودفء وتفهم لصراعه اليومي، كما تتطلب قدرا من الثقة وتقبل العيوب لضمان استقرار على المدى الطويل.

ومن صفات الرجل التي تسبب للمرأة قلقا وحيرة هي حالة الصمت التي تنتابه، وتجنبه سماع تفاصيل مطولة. فالكلام بالنسبة لها عملية اكتشاف ومشاركة، لأنها تحب التفكير بصوت مسموع؛ بينما يتحول الكلام عنده إلى مصدر إزعاج. وهنا نستحضر مرة أخرى طبيعته التركيزية، فحين يقع الرجل تحت ضغط العمل مثلا تزداد قوة تركيزه، ويبدو كأنه شارد البال ولا يهتم لوجود أحد؛ والحقيقة أنه في وضعية تفكير صامت، يبحث عن حلول لمشاكله. والمرأة هنا بحاجة إلى مهارات لإخراجه من حالة الانسحاب إلى الجو العام. أما حين تجهل هذا المفتاح لشخصيته فإن جو البيت يتكهرب بشكل يومي. يتعامل هو مع الجهد والتعب بأن ينسحب ويفكر في صمت وهدوء، بينما يشكل الاهتمام طبيعتها الأساسية. لذا تتخلص من الإجهاد بالكلام الذي يُشعرها بالراحة، حتى وإن أثار أعصابه.

حين وجه مركز الأبحاث بولاية مانهاتن الأمريكية سؤالا لحوالي 1900 رجل مفاده: ماذا تكره في المرأة؟ جاء الهوس بالتسوق في المرتبة الأولى، يليه النكد ثم الثرثرة. هل هذا يعني أن الرجل لا يحب الكلام؟

 إن العكس هو الصحيح، فالظاهرة مشتركة بين الاثنين، لكنه يفضل المرأة التي تمنحه الشعور بأنها مسيطرة على مجرى الحديث، ستضيف شيئا جديدا وقيّما. يقول الشاعر الألماني فرِيدريش شيلر: إن الرجل هو الرأس، ولكن المرأة تُديره!

وتبقى الصفة التي يُحذر خبراء علم النفس من ضررها على الحياة الزوجية هي الجدل، والنقاش المنفعل والمشحون بالغضب. إن ما يزعج في الجدل هو طريقة الكلام وليس الكلام بحد ذاته، فالمرأة تشتكي وتتحدى وتوجه النصائح، بينما يرفض هو سماع شيء لأن ذلك برأيه يعني عدم ثقتها وتقديرها لأدواره ومسؤولياته.

إن غيابه خارج البيت على غير العادة يُشعرها بالقلق وعدم الراحة، وقد تُعبّر عن ذلك بأسئلة عادية فيها عنف وعصبية، فيتحول السؤال العادي إلى استجواب، واتهام بعدم المسؤولية. لذا فالثقافة الزوجية بحاجة إلى تعلم فن الإنصات والحوار الهادئ. نتذكر هنا حكاية الريح والشمس حين اختلفتا أيهما يستطيع تجريد الإنسان من لباسه. هبّت الريح بشدة لكن الإنسان تمسك جيدا بملابسه، وتكور على نفسه حتى هدأت. أما الشمس فأشرقت بهدوء مرسلة أشعتها الدافئة، مما اضطره لخلع ملابسه بكل طواعية.

يقودنا النبش في تاريخ الرجل إلى الوقوف على ما يحمله في نفسه من سجلات الحروب والصراعات، والمغامرات الحادة والمخيفة، وما يفرضه ذلك من إظهار الشجاعة. وبينما تسأل المرأة نفسها في عدة مناطق من العالم: " لماذا لا يستطيع أن يُظهر لي مشاعره ببساطة؟" فإن المجتمع والعادات يُقوّيان فيه سلوك الحذر والمنافسة والتحدي. عليه أن يخفي مشاعره ليظل سيد الموقف، ويتألم في صمت لأن الرجال، كما نفثت في روعهم صروف الدهر، لا يبكون.

تُظهر قاعدة البيانات لكل عام في كافة الدول أن متوسط أعمار النساء يتجاوز الرجال. ففي أمريكا مثلا تخطى أربع وخمسون ألف شخص سن المئة عام، بينهم حوالي عشرة آلاف من الرجال مقابل أربع وأربعين ألف امرأة. ويتحمل هرمون التيستوستيرون برأي الباحثين، مسؤولية هذا الفارق المهول باعتباره هرمون البلوغ الذي يمنح الفتيان شعورا بالقوة، فينغمسون في أنشطة مرتفعة المخاطر، كالاقتتال وقيادة الدراجات والسيارات بسرعات جنونية، وتعاطي السجائر والكحول، فضلا عن الانتحار.

نفس الهرمون يمنح الرجل شعورا بأنه سند لحواء في مواجهة المخاوف، وضغوط الحياة اليومية. لذا حين سمع أحد حكام الصين بقصة جزيرة النساء، وجّه سفنه للبحث عنها في أرجاء المحيط، لكنه لم يجد لها أثرا، لتبقى الجزيرة عنوانا على غربة حواء بلا سند!

***

حميد بن خيبش

الأسلاف إبتكروا العديد من الآلات والأدوات ذات القدرات السابقة لعصرها بقرون، لكنها كانت نماذج إختراعية منفردة، لم يتمكنوا من إنتاجها بالجملة فانقرضت معهم، والعلة الفاعلة في أصحاب الأفكار والمخترعات أنهم أنانيون وإحتكاريون فلم يعلموا سواهم، ولم يفكروا بتوريث معارفهم للأجيال، ذلك أن ما عندهم يميزهم ويعيلهم ويمنحهم الجاه والحظوة.

ويشذ عنهم علماء اللغة والدين.

لا يوجد ورثة للعلماء في تأريخ الأمة، أي لا يوجد عندهم تلامذة ومريدين، بسبب الأنانية والإحتكار الفردي للمخترعات، وتقديم نماذج منها ومنع شيوعها بين الناس، لأن العلم لا يليق به أن يكون لدى عامة الناس!!

المخترعات إنتشرت وتطورت بسبب "ماس برودكشن"، فتعامل معها عامة الناس وأضافوا إليها، وتفاعلوا معها بإبتكارية معاصرة.

لو أخذنا أي مخترع لتبين مساره التطوري من كونه نموذج إلى تحوله لسلعة معروضة في الأسواق، هذه العقلية مفقودة لدى مخترعي الأمة عبر مشوارها الحضاري، ربما لأسباب محيطية في حينها.

ولهذا فأن مخترعاتهم ماتت معهم، وما بقي منها إلا الإسم والرسم.

ويبدو أن الأنانية والإحتكارية لا تزال فاعلة في الأجيال، فتمنع التفاعل الإيجابي وتلغي مفردات المصلحة العامة.

أنانيتنا بها وجع ثقيل

فداك بأرضنا قتل الجميل

علائم هوننا إنا احتكرنا

وأمسينا يجافينا الأصيل

صنعنا ما يسابقهم بعصرٍ

نماذجنا إلى حتف تميل

***

د. صادق السامرائي

 

الذين يقولون ان امريكا جاهلة ولا تعرف ماذا تفعل!

تكثر هذا الايام المقابلات مع المحللين الاستراتيجيين العرب في ميدان المال والاقتصاد. وكعادتهم، فأنهم يقدمون النصائح العظيمة للادارة الامريكية ولرئيسها ولخبرائها.!!> يقولون ان ترامب اخطأ وانه مندفع ولا يحسب عواقب قراراته. وان الأمور سوف تنقلب ضد الولايات المتحدة وتضطر الى التراجع عن قراراتها بفرض رسوم على الاستيرادات..

احدهم (وكان عنوانه: كبير المحللين الماليين الاستراتيجيين) قال ان الصين واوربا سوف تتوحد ضد امريكا!.  متناسياً كل الحقائق في ميادين السياسة والقوة العسكرية التي تفرّق بين الصين وأوروبا. لقد تناسى ان بين الصين واوربا خلافات كثيرة في مجال المال والاقتصاد ونسي ان رئيسة المفوضية الاوربية وصفت الصين قبل فترة بانها العدو الاول لاوربا !! بحيث انها عندما زارت الصين بعد ذلك استقبلت بطريقة مهينة!!

الولايات المتحدة، كما يبدو، وجدت ان الاستمرار بالنهج الحالي القائم على فكرة العولمة والتجارة الحرة، سوف لن يساعدها على الصمود امام تقدم الصين الكاسح وانها سوف تتراجع حتماً امام التقدم الصيني..

الولايات المتحدة دولة براغماتية (ذرائعية) وعندما تقتضي مصالحها فانها لا تتردد في القيام بأي شيء والتراجع عن الوعود والاتفاقيات.. كانت هي وراء تأسيس منظمة التجارة العالمية كتعبير عن العولمة والتجارة العالمية الحرة. لكنها الآن تملصت من قيود تلك المنظمة واوقفت التمويل لها.

قد تكون لتلك السياسات آثاراً سلبيةً على التجارة الدولية والنمو الاقتصادي في العالم، لكن الولايات المتحدة تريد اعادة ضبط العلاقات الاقتصادية الدولية بما يخدمها وان تعيد توطين الصناعات الامريكية التي انتقل الكثير منها الى دول اخرى..

انها بصدد عملية اعادة هيكلة حتى لجهازها الاداري الداخلي  وتقليص حجم الحكومة ورفع كفاءتها.

***

د. صلاح حزام

في أزمنة التغيرات العنيفة سواء كانت اقتصادية أو سياسية تحدث فوضى المعايير في المجتمعات فتنهار القيم التي تضبط الإيقاع الاجتماعي ويصبح الحكم على الأشياء والأشخاص مرهونًا بالمصلحة الفردية لا بالمبادئ الراسخة. في الريف المصري يأخذ هذا التغيير شكلًا أكثر خصوصية حيث تتغير الأسماء وتتحول الألقاب وتُعاد صياغة العلاقات بناءً على موازين القوة الجديدة. ذات العائلات التي كانت تُعرف بكرمها ونخوتها قد تصبح متهمة بالاستغلال وذات الوجوه التي كانت رمزًا للتواضع قد تتحول إلى أبراج عاجية مغلقة. كان الريف في الماضي يقوم على منظومة قيمية متماسكة حيث كان "شيخ البلد" هو الحكم الفصل في المنازعات وكانت "الشهامة" و"النخوة" معيارًا أساسيًا في التعامل لكن مع تطور الزمن وتداخل السياسة بالاقتصاد تغيرت هذه الصورة. فمن كان فلاحًا بالأمس أصبح رجل أعمال اليوم ومن كان ابن القرية البسيط صار وجيهًا يُشار إليه بالبنان. في هذا التحول برزت فئة جديدة كانت مختبئة تحت ستار الطيبة والتواضع لكنها في الحقيقة كانت تخبئ رغبة في الهيمنة والاستحواذ. هؤلاء لم يصنعوا أنفسهم بالجهد وحده بل بذكاء الانتهازية واستغلال التحولات الكبرى. فكما أفرزت الحرب في دول أخرى وجوهًا جديدة لم نكن نعرفها أفرز التغيير الاقتصادي والسياسي في الريف أيضًا أشخاصًا لم يكونوا في الحسبان. اليوم أصبح هناك من يُنظر إليه من منظار "الفأس" تمامًا كما يُنظر في الحروب من ناظور البندقية. لم يعد التقييم قائمًا على الأخلاق والموروثات الاجتماعية بل على الحسابات المالية والمصالح المتبادلة. وكما اختُزلت المجتمعات الأخرى في ثنائية حب أو كراهية زعيم سياسي صار الريف أيضًا يختزل الشخص في موقفه من العائلات الكبرى أو من نفوذ رجال الأعمال الجدد. لماذا يُحترم من يملك الأرض والمال أكثر ممن يملك الأخلاق والعلم...؟ لماذا يُختصر الإنسان في موقف سياسي أو في درجة قربه من السلطة والنفوذ...؟

إنها العقلية الاختزالية التي تقتل التنوع وتحول المجتمعات إلى صور نمطية مشوهة حيث يصبح الغني دائمًا هو الناجح والفقير دائمًا هو الكسول ويُنظر إلى المختلف باعتباره تهديدًا لا فرصة. هكذا تتغير الأسماء في الريف لكن المعايير التي تُصنع بها السلطة تظل واحدة. من يملك الفأس هو من يكتب التاريخ.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

العراق لم يحكم من أبنائه على مدى العصور، فهل لديكم حاكم تمكن من الحكم الرشيد حتى سنة 1958. لا يخبرنا التأريخ عن شيئ كهذا.

العراق إعتاد على أن يكون محكوما بغير العراقي. وهذا ربما يفسر عجز العراقيين على إقامة نظام حكم مستقر، وعدم قدرتهم على إستثمار ثروات بلادهم وطاقاته الكبيرة.

تأملوا مسيرته منذ 1958 وحتى اليوم، وستكتشفون معالم هذا العحز والأمية السياسية، والأوهام الثورية والوطنية التي وصلت إلى ما هي عليه.

العراقيون لا يتفقون على مصالح مشتركة، وهم كالفحول التي لا تجتمع بمكان واحد، لأنهم سيتقاتلون ويبيدون بعضهم، فكم قتل العراقيون من العراقيين، وكم ذبحت الأحزاب من بعضها؟!!

هل وجدتم أحزابا عراقية متفاعلة بإيجابية، أم كل يدّعي أنه القائد والسلطان؟

إنها عاهة سلوكية فاعلة في الأجيال، وحان الوقت لمواجهتها والتفاعل معها بأدوات العصر، لكي نشخصها ونعالجها ونتحرر من قبضتها، ونخرج من التوحل في المراوحة والتقهقر، والخطو بثقة وإيمان إلى آفاق المستقبل الفسيح.

وهل أنجب العراق قادة وأنظمة حكم بحجمه؟!!

فارموا المقال بمليون حجر وحجر، وأغمضوا العيون، وتدثروا بالوجيع، والدنيا ربيع.

عراق المجد يا وجع العراقي

بحكمٍ لا يبالي باعتراق

بدورات انقلابٍ وانتقامٍ

تدحرجت الأمور إلى احتراق

فكل وشيجة نكرت أخاها

وأقوامٌ بغلواء افتراق

***

د. صادق السامرائي

..................

* أرجو التفاعل مع المقال بموضوعية وبأدلة وبراهين.

 

على شاشاتنا تتراقص ظلال "الست المصرية" كدمية معلقة بخيوط رخوة.. تارة تهتز بضحك مبالغ يتحول إلى صرخة بلا معنى.. وتارة تتهاوى كشخصية ثانوية في دراما تبحث عن الإثارة بأقل كلفة..

الفنانة والاعلامية الراقية نجوى إبراهيم لمست جرحًا نزف طويلًا.. جرح يختفي وراء أضواء الكاميرات وأصوات المونتاج.. جرح صورة مهشمة تتكرر كالشتيمة نفسها في كل موسم رمضاني.. 

هذه الصورة المشوهة دفعتها للسؤال: عمن يربح عندما تتحول المرأة إلى كليشيهات مبتذلة؟ 

بالطبع هناك من يرى في التشويه تجارة رابحة.. فالإسفاف يبيع أكثر.. والكاريكاتير يعلق في الذاكرة كوشم باهت.. هناك من يخشى المرأة الحقيقية.. تلك التي تحمل تناقضاتها بجمال شرس.. ترفض أن تختزل في دموع مسلسل أو ضحكة مشهد.. هناك من يريدها قناعًا يخفي خلفه عورات المجتمع كله.. 

لكن العالم كله ليس بريئًا من هذه اللعبة.. حتى لو اختلفت الأقنعة.. تظل الأنثى في سينما الأرضِ تصارع من أجلِ ظلها الخاص.. الفارق أن مصر التي صنعت سحر سيدات السينما الذهبية.. أمثال تحية وماجدة.. لم تعد تنجب إلا نسخا مشوهة من ذلك المجد.. كأنما نخلع عن المرأة أجنحتها ونطلب منها أن تحلق بذراعين عاريتين.. 

المؤلم أن التشويه لا يحتاج إلى مؤامرة.. يكفيه صمتنا.. استهلاكنا المتكرر للصورة نفسها.. موافقتنا الضمنية على أن تكون الأنثى مجرد ديكور في خلفية مشهد.. أو كومبارس في سيناريو الذكورة الأزلية.. 

ربما حان الوقت لنسأل: ماذا لو عادت الكاميرا لتصوير المرأة ككون؟ 

كأن تولد من جديد من رحم التعقيد لا من قالب التسطيح.. أن تكون بحرًا له أعاصيره وأمواجه الهادئة.. لا بركة مياهها راكدة تنبت طحالب التشويه.. 

الأمر ليس دفاعًا عن امرأة بعينِها.. بل عن حق الحياة في أن نحب ونكره.. نتعثر وننهض.. نخطئ ونصلح.. دون أن نختزل في صورة تسقط عنا كلما حركنا أيدينا.. 

في النهاية.. السينما مرآة.. لكننا نحن من نرسم انعكاسنا عليها.. فلماذا نصر على أن نكسو المرآة بالأوهام ثم نبكي حين تعكس لنا أشباحًا؟

في عمق الشاشة، حيث تذوب الحكايات في ضجيج المشاهد، تتحول المرأة إلى وهم يباع بالجملة.. كتلة من الصور النمطية تغذيها سيناريوهات جائعة للنجومية الرخيصةِ.. وكأن جسد الأنثى صار سلعة تأخذ شكل الإعلان الأسرع انتشارًا.. لا أحدَ يسأل عن الروح المختبئة خلف الأضواء.. عن ذاك التوتر الخلاق بين القوة والضعف الذي ينسج حياة حقيقية.. 

هنا، في هذا العالم المصغر، تختزل الأنثى إلى أيقونات جامدة: إما ضحية تبكي في صمت، أو مغوية تبيع ابتسامتها في السوق السوداء للمشاهد.. بينما الحياة الحقيقية تعج بنساء يحملن الهزائم والانتصارات كحزم قش ثقيلة.. يمشين على حبل التناقض ببراعة بهلوان.. لكن الكاميرا ترفض تصوير ذلكَ.. تختار الظلال المريحة بدل مواجهة الوهج المربك للحقيقة.. 

السؤال الأعمق: هل نخشى تعقيد المرأة لأنها تذكرنا بتعقيدنا المدفون؟ 

المجتمع الذي يخاف من أنثى لا تُلخص في جملة.. يخشى أن يعترف بأنه هو نفسه لوحة مليئة بالشقوق.. التشويه هنا ليس مجرد استغلال تجاري.. بل هروب من مواجهة المرآة.. نشوه صورة المرأة لأنها الوجه الأوضح لما نرفض رؤيته في أنفسنا: الخوف من الحرية.. العجز عن تقبل التمردِ.. الإدمان على حكايات البطولة الذكورية التي لم تعد تشبهنا.. 

حتى الذاكرة الجماعية تشارك في الجريمة.. نتباكى على أيقونات الماضي الذهبي.. نتغنى بجمال تحية وعبقرية ماجدة.. لكننا ننسى أن تلك العصور لم تكن تقدس المرأة النمطية أيضًا.. لقد جرؤوا يومًا على صناعة نساء سينمائيات يحملن تناقضات الواقع بكل شراسة الحياة.. فلماذا نرفض اليوم أن نرى تلك الشراسة إلا مغلفة بضحكة مزيفة أو دموع رخيصة؟ 

المأساة أن التسطيح لا يقتل المرأة وحدها.. يقتل الذاكرة.. يمحو ألوان الحياة ويبقيها رمادية.. حين تتحول الأنثى إلى دمية في يد السيناريو.. يفقد المجتمع قدرته على رؤية نفسه بإنسانية.. تصير كل العلاقات حوارات مكررة.. كل الصراعات إيماءات فارغة.. 

لكن النور يأتي من حيث لا نتوقع.. من تلك الزوايا المظلمة في الوعي الجمعي.. تطل أصوات نسائية ترفض أن تكون خلفية.. تكتب حكايتها بحروف لا تشبه إلا نفسها.. تذكرنا بأن الثورة الحقيقية ليست في تغييرِ الصورة.. بل في كسر الإطار كلهِ.. 

ربما نحتاج إلى دميِ الشاشات كلها.. إلى سينما ترفض أن تكون سجنًا للأنوثة.. تعيد للمرأة حقها في أن تكون فوضوية.. مقدسة.. عاقلة.. مجنونة.. بشرية.. بكل ما تحمله الكلمة من ثقل.. لا أن تظل حبيسة التعويذة نفسها: "إما ملك.. أو شيطانة".. 

فالمرأة كون.. وحين تختزل إلى جملة.. ينهار الكون.

***

عبد السلام فاروق

المعادلة الكونية عناصرها في تفاعلات وتبدلات، وتنتج مركبات وتحللها وتعيدها إلى موادها الأولية التي دخلت في بنائها.

والبشرية في مسيرتها تخبرنا بأن لكل ما يدور فيها حدود لا يتمكن من تجاوزها، فالأرض كائن محدود القدرات والطاقات، ويحافظ على وجوده بالدوران، ولا يمكن لحالة تبلغ تمامها أن تدوم، لأن النقصان سيداهمها، وهي ظاهرة يخبرنا بها القمر الذي حالما يبلغ تمامه ويكون بدرا، يزحف إليه النقصان وتعاد الكرة كل شهر.

ويبدو أن العالم قد بلغ تمامه في العديد من المجتمعات، وبدأت آفة النقصان تزحرف إليه، والمشكلة أن الدنيا تمتلك ما يفنيها، فما تحقق في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين لا مثيل له فيما سلف من القرون، فالدنيا تجاوزت خيال العصور، وإن دخلت في دوامة النقصان فأنها ستبيد أكثر من ثلثي ما عليها من الموجودات، وستندثر معالم الحياة المعاصرة.

والمخيف في الأمر، ان بوادر الإنزلاق على سفوح النقصان تلوح للناظرين، وتدفع إليها أحداث وقيادات ذات تطلعات وهمية، وتصورات فوضوية، تحسب أنها مخولة من قِوى كبرى للتعبير عن إرادة علوية.

وفي هذا تكمن ماساة لا تخطر على بال بشر.

فهل أن العالم يتدحرج نحو الهاوية؟

وهل سيكون الضعفاء هباءً منثورا؟

وهل ستبتلع الدول القوية دولا؟

بدر الوجود إلى نقصان.. متفاعلن في خافق الإنسان

***

د. صادق السامرائي

 

عندما يرحل الشرفاء ويبقى السؤال؟!

في آخر يوم من شهر رمضان، رحل الشاعر والأديب سمير سعدي، تاركًا خلفه مدينة خرساء، وأصدقاء تحطمت قلوبهم على صخرة الفقد. لم يكن رحيله مجرد خسارة لشاعر مبدع، بل نهاية لعصر من الكرم الفكري، والنبل الإنساني، والوفاء لقيم ثقافية بدأت تذوي في زمن صار "اللصق" فيه فنًا، و"السرقة الأدبية" مهارة، ونسيان الجميل عادة. 

سمير، ابن قنا البار، كان ظاهرة استثنائية. لم تكن قصائده مجرد كلمات تُنسج على الورق، بل كانت هتافًا للكرامة، ورفضًا للصغائر، واحتضانًا لكل من ضاقت بهم السبل. كان بيته مأوى للجوعى إلى الثقافة، وحديثه مائدة يدور حولها المحرومون من الدفء الإنساني. لكن المفارقة التي تدمي القلب هي أن كثيرًا ممن أطعمهم من خبز فكره، وسقاهم من نبيذ قصائده، لم يردوا له التحية حتى بصمت! بل إن بعضهم بنى مجده على أشلاء أفكاره، وحولوا إبداعه إلى سلعة يقتسمون أرباحها في الخفاء. 

لكن سمير سعدي، ككل العظماء، كان سخيًا حتى في غيابه. ترك لنا درسًا عن زمن ينقلب فيه التابعون سادة، والأصدقاء غرباء، والإبداع سلعة. درسًا يقول: "لا تنتظر من جيل القص واللصق أن يرفع الهاتف ليسأل عنك". ومع ذلك، ظل يردد بابتسامة: "دعهم يشبعوا، فالجائع سيظل جائعًا". 

رحل الشاعر سمير سعدي (1963–2025) تاركًا إرثًا أدبيًا يجسد التناقضات بين حياة الصعيد البسيطة وصخب القاهرة، معبرًا عن اغتراب الإنسان في المدينة وانتمائه لجذوره الريفية. يُعد سعدي أحد أبرز شعراء العامية المصرية في جيل الثمانينيات، وتميز بإنتاج أدبي غني يجمع بين الشعر والمسرح والأغنية، فضلًا عن مشاريعه الثقافية الفريدة مثل "دروب الشمس" الذي يوثق تاريخ سكك حديد مصر. 

وُلد سعدي في محافظة قنا عام 1963، وحمل في شعره بصمة الجنوب المتمثلة في التصاقه بالبيئة الصعيدية وتفاصيلها الإنسانية. رغم انتقاله إلى القاهرة للدراسة، ظلت قنا حاضرة في أعماله كـ"حاضن روحي" يظهر في ديوان "هي دى" (1999)، حيث يصور الشوارع والحارات والمقاهي التي تشكل ذاكرة الجنوب. 

في ديوان "ترتيلة بكا" (2000)، يعكس سعدي حنينه إلى طفولته في الصعيد من خلال صور شعرية تمزج بين البساطة والعمق الفلسفي، مثل وصفه لـ"الحيطان العمالة تميل بالضل عليك" كرمز لضغوط الحياة الحضرية. هذا الارتباط العاطفي بالجنوب جعله يهدي أعماله لـ"عمال سكك حديد مصر"، الذين رأى فيهم حماة التاريخ المنسيين. 

انتقل سعدي إلى القاهرة في شبابه، حيث انغمس في الحياة الثقافية لوسط البلد، وتفاعل مع مثقفي جيله. لكن المدينة لم تخف عليه قسوتها؛ ففي ديوان "فوتوغرافيا" (2016)، يصور اغتراب الإنسان في الزحام عبر قصائد مثل "اللحظة"، التي يصف فيها مقهى مليئًا بـ"ناس بوشوش بهتانة وضحك سخيف مرسوم"، ليعكس انهيار القيم الإنسانية في الفضاء الحضري. 

لم تكن القاهرة مجرد مكان إقامة، بل تحولت إلى مختبر فني له؛ إذ تعاون مع فنانيها مثل محمد منير ويولا خليفة، وكتب أغانٍ جمعت بين لهجة الصعيد وإيقاعات المدينة الحديثة. 

في آخر أعماله "حكايات في دروب الشمس" (2024)، يقدم سعدي سيرة ذاتية شعرية تربط بين تاريخ عائلته وتاريخ مصر عبر سكك حديدها. يبرز الديوان شخصية والده "سعد الدين"، العامل بالسكك الحديدية، كرمز للبسطاء الذين بنوا الوطن دون أن يحظوا بالتكريم. يرى سعدي أن السكك الحديدية – وليس النيل – هي من ربطت أطراف مصر، مشيرًا إلى دورها في تشكيل مجتمعات عابرة للطبقات.

هذا المشروع يعكس رؤيته للتاريخ كـ"جغرافيا حية"، حيث يصوغ قصائده من حكايات العمال والمهمشين، معيدًا الاعتبار لهم كـ"صانعي الحدث الحقيقي".   

تميز سعدي بقدرته على المزج بين قصيدة التفعيلة العامية وقصيدة النثر، كما في ديوان "هي دى"، حيث يستخدم لغة بسيطة لكنها محملة بالرمزية. على سبيل المثال، في قصيدة "النظرة"، يصور الشارع كـ"شرك منصوب" ليعكس خداع المدينة. 

كما أظهر مهارة في توظيف اللهجة الصعيدية دون أن تقيده، فاستخدمها لنقل قضايا إنسانية كونية، مثل الهوية والاغتراب، مما جعله صوتًا مميزًا في مشهد الشعر العامي. 

رحيله في آخر أيام رمضان (30 مارس 2025) خلف أسئلة عن مصير الثقافة في زمن يطغى فيه "السرقات الأدبية" على الإبداع الأصيل، لكن إرثه يبقى شاهدًا على أن الشعر يمكن أن يكون ضميرًا حيًا للواقع.

عبر مسيرته، نجح سمير سعدي في خلق توازن فريد بين هوية الصعيد المتجذرة وانزياحات القاهرة الحداثية. لم يكن شاعرًا للمكان فحسب، بل لـ"ناس المكان" الذين حولهم إلى رموز خالدة في قصائده. ربما يختصر ديوانه "فوتوغرافيا" رحلته بأكملها: صور تجمد اللحظات العابرة، لكنها تظل قادرة على إحياء الذاكرة الجماعية. 

***

 د. عبد السلام فاروق

الأمة مرت بفترات أقسى مما هي عليه أضعاف المرات، وتمكنت من تجاوزها والإنطلاق في مسيرتها المعبرة عن رسالتها الإنسانية.

فأعظم الخطوب التي فجعت بها الأمة، ما أصاب بغداد سنة 1258 عندما سقطت دولة بني العباس، وأبيدت بغداد عن بكرة أبيها، وتوهم الناس بأنها القيامة، وإذا بالأمة تنجب قائدا أعاد لها كرامتها وإنتصر على الفلول الغازية في معركة عين جالوت (3\9\1260)، وكان ذلك القائد قطز (1221 - 1260) الذي قتلوه بعد أن إنتصر وأطلق مجد الأمة.

والأمة أنجبت صلاح الدين الأيوبي (1138 - 1193) وغيره من القادة الذين رفعوا رايات وجودها السامي إلى عنان الحياة المشرقة الأبية الرائدة.

الأمة لا تستكين وفيها من الطاقات الحضارية ما لا يُضاهى، والعلة المعاصرة في قادتها الذين قطعوا حبل الوصل ويتمتعون بأمية تأريخية وحضارية مفزعة، وأكثرهم يميلون للتبعية والخنوع ويتعبدون في محراب السلطة والكرسي الذي يمثل لهم كل شيئ.

فما دامت القيادات محجوبة الرؤية ومتحجرة في الكراسي، فأنها تشيع مشاعر اللا أمل بآليات تكرار المآسي والإنتكاسات والإنكسارات المصطنعة لتبرير القنوط والتخاذل والإستسلام.

"وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة...."

فهل أعد القادة ما تستوجبه المنازلات؟

فالواضح المبين لكل مواطن أن القِوى الأخرى متفوقة جويا، فلماذا لا توجد قدرات دفاع جوي مناسبة تتصدى لها؟

إغفال ذلك تهاون وخنوع وتأكيد على أن الهزيمة مقيمة، والنصر يعني المزيد من الضحايا والخسائر الجسام، والبقاء الموجوع المضرج بالدماء.

وهناك العديد من الأمثلة المحزنة التي تقدم مجتمعاتنا قرابين للمعتدين.

أمة تحيا بشعبٍ واعدِ

لا انتصارٌ دون عزمٍ قائدِ

كلما عانت شديدا قاصما

أنجبت فردا حفيد الماجدِ

***

د-صادق السامرائي

 

في قريتنا تلبانة، حيث تُطل البيوت على الترعة كأنها تلقي بظلالها الحنونة على الماء، كان للحب نكهة مختلفة. لم بقلم محمد سعد، من يوميات كاتب في الأرياف.

مجرد نزوة عابرة أو رسائل إلكترونية باردة، بل كان روحًا تحلق في الأفق، يتعانق فيها العشق مع نسيم المساء، ويتشابك صمت العيون مع خرير الماء.

كنت فتى يافعًا، أخطو كفارس فوق جواد، أرتدي جلبابًا أبيض كأنني استعرت خيوطه من سحابة مارقة، وأتطيب بعطر أخفيه عن عيون الكبار، وأدك الأزقة الطينية مرات ومرات، أبحث عن طيفها خلف الشبابيك الخشبية والأواني الفخارية. لم يكن الحب في تلبانة صاخبًا، بل كان حكاية تُروى بالعيون، وموعدًا مكتوبًا على حافة الترعة.

ذات مساء، حين كان البدر بكرًا، والنسمات تحمل سرًّا قديمًا، مشينا بمحاذاة الترعة. إلى يميننا امتدت الحقول الخضراء في سكون، وإلى يسارنا كانت الترعة تغرق في وحشتها، إلا من بقايا قمر يتهادى فوق سطحها. كنا نخشى أن تدركنا العيون، لكن أيدينا تشابكت في حنو لم ندرك معناه إلا حين افترقنا.

مرت السنون، وجبتُ بحارًا، وعبرت مطارات، وعانقت ثقافات مختلفة، وعرفت نساءً من كل الألوان، لكن شيئًا ما كان يرفض الرحيل عني. ظللت أبحث عن ذلك الدرب الريفي، عن لمسة كف محفورة كالوشم في الروح. كأن قلبي لم يغادر تلبانة أبدًا، بل ظل هناك، عند شجر التوت الذي كان على شاطئ الترعة بطريق قرية جديدة الهالة، حيث كنا نتبادل الوعود الصامتة.

جلست أتذكر السدة الشتوية، حين كنا نسبح في الترعة للصيد والاستحمام، ونغسل أجساد المواشي والحمير، بينما تقف أسراب الأوز على شاطئ الترعة تزين المكان، يتقدمها أوز صغير بريش أخضر جميل، كالطفل يحبو وراء أمه في البيت. وعلى الضفاف، كانت أشجار الصفصاف تتمايل مع النسيم، كأنها تهمس بأسرار المكان.

قبل الغروب، كانت الطرقات تمتلئ بعودة المواشي والأغنام من الحقول، والحمير تحمل أحمال البرسيم، سيمفونية تتناغم مع عودة طابور الأوز إلى البيوت. نحتاج إلى لحن حزين بعد أن تبدلنا إلى ذئاب ووحوش في عصر لا يرحم الضعيف.

اليوم، حين أعود إلى قريتنا، أجد الترعة ذاتها، لكنها ليست كما كانت، والبيوت نفسها، لكنها فقدت بعض حكاياتها. ربما تغير المكان، لكن الذكرى باقية، تفوح في الروح عبقًا، حزن وحنين.،،!!

***

بقلم محمد سعد - من يوميات كاتب في الأرياف

يعتمد جزء من صحتنا النفسية على حياة زوجية هادئة وسعيدة، يكون الحب والتفاهم عنصرا حيويا لاستقرارها. حين نحب فنحن على استعداد لفعل أي شيء كي نظل بجوار من نحب. لذا ليس غريبا قولهم: إن الحب يصنع المعجزات.

لكن هذا الشعور الجميل يتطلب المحافظة عليه، خاصة بعد الزواج. فهو حالة استئناس دائم بين زوج وزوجة، هي رأت فيه فارس أحلام رسمه خيالها، وهو التمس فيها صفات شريك يحرك مشاعره.

دلت البحوث وعمليات المسح التي أجريت حول نشاط المخ لدى عينة من رجال ونساء يجمع بينهم رباط الحب، أنه غريزة أساسية كالطعام والشراب، واحتياج سيكولوجي يدفعنا إلى التودد والإلحاح العميق كي نفوز بشريك الحياة. أما الزواج فهو بمثابة سلسلة اختبارات لصدق المشاعر وثباتها.

حين نعبّر عن الحب فنحن بحاجة إلى لغة يفهمها الشريك ليعمّ التوافق. هل تكفي الكلمات الرومانسية والعشاء على ضوء الشموع؟

هل تكفي الرغبات أم أن الأمر بحاجة إلى عطاء واهتمام متواصل، وتضحية بالوقت والجهد؟

إن الوقوع في الحب مجرد بداية، أو لنقل إنه هوس عاطفي بحاجة لأن يتحول إلى حب حقيقي. في الدراسات التي أجرتها عالمة النفس دوروتي تينوف على عشرات الأزواج والزوجات، توصلت إلى أن متوسط عمر تجربة الوقوع في الحب لا يتجاوز عامين، وبعدها نكفّ عن التحليق في السماء ونبدأ بالهبوط إلى الأرض.. تنفتح أعيننا على العيوب الصغيرة والملاحظات، والتصرفات التي تسبب الضيق. كنا نرى المحبوب مثاليا، ثم اكتشفنا فيما بعد أنه شخص عادي، فيتردد بين جوانحنا سؤال: لماذا تزوجنا، فليس بيننا تفاهم أو قواسم مشتركة؟

ما الذي يجب فعله لننتقل إلى حب متجدد وحقيقي؟

وكيف نستثمر الأمان العاطفي لوضع قواعد صلبة للحياة الزوجية؟

وضع غاري تشابمان خمسة مفاتيح أساسية تساعد على توصيل الحب باللغة التي يفهمها الشريك. وهو في ادعائه هذا ينطلق من حصيلة ثلاثين عاما كاستشاري علاقات زوجية، حيث يؤكد أن لغة الحب العاطفية قد تختلف بين الزوجين اختلاف اللغة الصينية عن الإنجليزية. ومن المهم لمن يرغب في توطيد علاقته الزوجية أن يتعلم لغة الحب الأساسية لشريكه في الحياة.

إن أعمق حاجة للإنسان، يقول الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس، هي حاجته للإحساس بالتقدير. وحين يأتي علينا زمن نشعر فيه بعدم الأمان فإن الإطراء والكلمات المشجعة تحفز قوتنا الكامنة. تلك الكلمات ينبغي أن تكون رقيقة، تُعبر عن الرغبات لا عن الأوامر، لأن الحب هو الطلب وليس الأمر.

أما اللغة الثانية فهي تكريس الوقت، ومنح الشريك انتباها كاملا وتركيزا خلال المحادثات اليومية. وبفضل هذا المفتاح يتغير المناخ العاطفي داخل البيت حين يقضي الأزواج وقتهم معا، بدل أن يقضوه على مقربة من بعضهم البعض.

وتأتي الهدايا في المقام الثالث باعتبارها رموزا مرئية للحب. وفي الحقيقة فهي أسهل لغات الحب تعلما، وبإمكانها أن تجعلك مانحا رائعا، سواء كانت قيمة الهدية دولارا واحدا، أو كانت حضورك إلى جانب الشريك في الأوقات الصعبة.

تبعث كل هدية رسالة مفادها:" انظر، إنه يفكر فيّ"، لذا حين يقرر أحدهم وضع خاتم الزواج في جيب سترته، أو ترك ساعة يده معطلة، فتلك علامة بصرية على أن هناك مشكلة خطيرة تكتنف تلك العلاقة.

للحب لغة رابعة هي الأعمال الخدمية اليومية التي يؤديها الشريك أو يسعد بتقديمها. ورغم أن الدور النمطي للرجل والمرأة قد تأثر إلى حد كبير بالتغيرات الاجتماعية التي أفرزها مجتمع التصنيع، إلا أن بعض الأزواج يفضلون التمسك بتلك القوالب كتعبير عن الحب.

وأما اللغة الخامسة التي تعد وسيلة فعالة لتوصيل الحب بين المتزوجين فهي العلاقة الحميمة، بمفرداتها وأساليبها وأشكالها المختلفة. وللزوجين حرية اختيار المناسب و غير المناسب من طرق اللمس والاتصال الجسدي، تبعا للقواعد والعادات التي تضبط المؤشر السلوكي.

لكل لغة وضعها تشابمان لهجات تختلف باختلاف المجتمعات البشرية، فما يبدو وسيلة للتعبير عن الحب في مجتمع ما قد يشكل إيذاء أو إساءة في مجتمع آخر. لكن ما يهم في المقام الأول هو اكتشاف لغة الحب الخاصة بالشريك، والحرص على تنميتها للحفاظ على الخزان العاطفي مملوءا.

أما الزيجات التي تمت على أساس التقاليد والمواضعات الاجتماعية، فمنوط بالحب فيها أن ينمي ما سبق أن أتمه الزواج، وهذا الأمر يتطلب أن نصبح واعين بأن الحب "فن" يمكن تعلمه مثل باقي الفنون، من موسيقى ورسم ونجارة وغيرها. وكأي مجتمع يتمثل القدوة في سلوك أفراده، ويبحث في النماذج عن صيغ التوافق المثلى مع الذات والآخر، فإن السيرة النبوية تُمد المسلم المعاصر بأنبل لغات الحب التي تؤلف بين شريكين.

كانت تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين تجسيدا للغات الحب، وتساميا بهذا الشعور الإنساني الجميل ليصير "عقدة حبل" بين الزوجين. روى أبو نعيم في الحلية عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة قالت قلت: يارسول الله، كيف حبك لي؟ قال: كعقدة الحبل، فكنت أقول: كيف العقدة يا رسول الله؟ فيقول: هي على حالها.

ويتعزز صدق المشاعر بالفعل الذي يضاهي القول أو يتقدم عليه، حيث يفيض الحب على جوانب السلوك اليومي في أبسط مظاهره. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الحديث الذي رواه مسلم:" كنت أتعرق العظم- آكل منه بأسناني- وأنا حائض، وأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه على الموضع الذي فيه وضعته. وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه."

تؤسس لغات الحب ذاك الاتحاد الجميل بين روحين في عالم المشاعر الإنسانية. بل إن المرء حين يحب فإنه يحدث فرقا في الوجود بأسره. يصف القرآن الكريم محبة المؤمنين لربهم بكونها جامعة لخيري الدنيا والآخرة، متى تحقق فيها شرط اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، مصداقا لقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران:31

  ***

حميد بن خيبش

الشيء المؤكد أني لا ألتفت إلى العيد، ولا أحفل به، هذه هي الحقيقة التي لا تقبل شكاً أو جدالاً عندي، لم تعد نفسي تخضع لسلطانه، بعد أن باتت فتنته مقبورة في المساجد والبيوت التي نطوف بها على عجل، لم يعد العيد يؤثر في نفسي تأثيراً عميقاً كما كان يفعل في الماضي البعيد، لقد تغيرت نظرتي للعيد، ولم تعد تلك النظرة التي أعرفها له من قبل، لقد كانت نظرة تمتاز بوقع خاص في دواخلي، لم يعد لتلك النظرة بريقها الذي ينفذ إلى قلبي، ويسيطر على عقلي، ويستأثر بثنايا نفسي، وفي الحق   لم أظن  أنه سيأتي عليّ يوماً قريباً أو بعيد تتغير فيه نظرتي تلك إلى العيد، لقد أمسى يوم العيد عندي كسائر الأيام التي قد أعرف فيها الرضى والسخط، وأعرف فيها الابتهاج والاكتئاب، بل قد يمر عليّ يوم العيد وأنا بائسا يائساً مغرق النفس، مكلوم الفؤاد، وليس في الأمر غرابة، ولا أخال أن الأمر قاصراً على شخصي الهزيل، فما ينتابني ينتاب غيري من الناس، فالناس- كل الناس- ودعوني أظهركم على حقائق قد تعرفونها ولكنكم لا تلتفتوا إليها أو تقفون عندها، الناس بعد أن يلموا بالمساجد، ويعكفوا على بيوت جيرانهم وأقاربهم، وينفقوا فيها وقتاً قصيراً أو طويل، يمضون بياض أيامهم، وسواد لياليهم في كسل وتراخي، حتى تنقضي أيام العطلة التي تزدريها المرافق الخاصة ويتطلع إليها العامة، لأنها تتيح لهم التوسع في الدعة والتواني، إذن العيد هو من فتح الباب لهذه الإجازة، ومهد لها طريقها، وأتاح للناس فرصة قلما تتاح لهم، إذن الكبار من الناس شغفوفين بالعيد لأنهم استيقنوا بعقلولهم وأفئدتهم، أن العيد أقصى ما يطمحون إليه فيه أن يهرعوا إلى أسرتهم ومخادعهم، بعد أن تنقضي مراسمة فيلازمونها اشفاقاً من ألا تتاح لهم فرصة أخرى قريبة تجعلهم يبلغوا منها منازل الرضا والحبور.

لم يعد العيد يملأ نفوسنا غبطة، وقلوبنا سعادة، مثلما كان يفعل ونحن في ميعة الصبا، وبواكير الشباب، لقد كان العيد ونحن في تلك السن يمتعنا بأريحيته وفكاهته، لقد كان العيد يسعدنا حقاً دون أن يكلفنا في ذلك مشقةً أو جهداً، لقد كنا نستطيع ونحن في تلك المرحلة العمرية أن نصرف لحظاته كما نحب ونهوى، لأن عواطفنا الجياشة لم يكن هناك شيئاً يدعوها إلى التحفظ والاحتياط، لقد كنا نتخذ من العيد مثلاً وأنموذجاً للمتعة التي لم يكن يعوقنا عنها عائق، لقد كانت كل أيام العيد ثراءً وخصبا، لأن حياتنا في تلك الحقبة لم تكن تعرف اضطراب النفوس وهلعها من الغد، وما يحمله هذا الغد من صعوبات وتعقيد، كنا نعشق العيد وأيامه لأن هناك يداً حانية تغدق علينا، ومهجاً حادبة لا تضيق ذرعاً بحركاتنا، كنت أحب العيد لأن العيد في أروع صوره، وأقوى مظاهره، يتمحور في شخص والدي الذي يقهر المشقات، ويذلل العقبات، وييسر ما لم يكن سبيل إلى تيسيره من أجلي، لأجل ذلك كنت أدب في هذه البسيطة دون خوف أو تردد، كانت أيام العيد هانئة لا تعقبها مرارة،  لأن طيف أمي حاضراً لم يزول، أمي  طاهرة الذيل، نقية الضمير، جوهر حياتي الذي انقضت عهوده ليثير في القلب ذلك الحزن الباق، والأسى المقيم، لم أنكر فرحة العيد، وارتاب فيها، وأنفر منها، إلا بعد أن غاصت بشاشتها، وملامحها الوادعة بعد أن اشتدت على نفسي الأزمات، وأخذتها الخطوب، برحيل حانية انفقت كل جهدها، وأفنت كل عمرها، من أجل آخر العنقود فتاها المدلل، حتى لا تمضي وتيرة حياته متباطئة متثاقلة.

لم يعد بيني وبين فرحة العيد ونشوته حجباً صفاقا، وأستاراً كثافة إلا بعد أن رحل من يمنحوه فضلاً من قوة، وأرتالاً من حنان، وكثيراً من عطف. رحم الله من صاغوا حياتي ونضروا لي أعيادها.

***

د. الطيب النقر

 

لا توجد عقيدة في تأريخ البشرية إلا وتقسمت، ولا دين إلا أصابته إنشطارات متواصلة، فلا دين يبقى على طريق واحد وإن كانت الغايات واحدة، بل وفقا لمفهوم، كل الطرق تودي إلى روما، يتحرك أتباع العقائد والأديان.

فلماذا الإستغراب من عدم التوافق على حالة ما؟

إنه الطبع البشري وما إستطاعت العقائد والأديان أن تطبّعه.

الحقيقة القاسية المغفولة أن كل دين لكي يبقى لابد له أن يتبضع، ويحصل فيه صراع داخلي يزوده بطاقة التواصل الحامي.

فلا دين ولا عقيدة بلا صراع داخلي.

في الإسلام مثلا، لا يتفقون على يوم العيد أو بداية ونهاية شهر رمضان، ويختلفون في قراءة الآيات وتأويلها كل حسب رؤيته، ويؤسس أتباعا له، وبهذا وجدت المذاهب والمدارس والتكتلات والحركات، التي ترفع رايات أنا الأدرى والأعلم والقابض على علم اليقبن، ومَن لا يتبعها ويرى وفقا لما ترى فهو من المارقين.

القرآن فيه أكثر من (150) تفسير، ولا يزال المسلمون منهمكين بالتفسيرات والتأويلات، كل على هواه وما يراه، وكأن الدين منطلقات أهواء وتصورات، وكل يحسب هو الفاهم العليم !!

"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"

و"إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"

و"الفتنة أشد من القتل"!!

إختلاف الرأي يحكمه البقاء

وكل فريدةٍ فيها انتهاء

فمن طلب التواجد فوق أرض

تعدد كنهه وعلا اللواءُ

يحارب ذاته والبعض منه

فهل ضاع التآلف والإخاءُ

***

د. صادق السامرائي

(إِن الله يخلص إِلَى الْقُلُوب من بره حسب مَا خلصت الْقُلُوب بِهِ إِلَيْهِ من ذكره فَانْظُر مَاذَا خالط قَلْبك).. الجنيد

كان الخير جنة، فهوى إلى السحيق، وصار بين ميل للماء وآخر للعطش، انعطاف للشبع المجنون، وأخر للجوع الحقير. هكذا تتلمس الأنفس مراعيها وأكنافها لتشحذ سواعدها كسبا ونهبا، عصفا ورصفا، كي تتوهم العيش وترفل في حياض من الدنيا لا تدوم كما تدوم الهناءة والتيسر، فيكون العقل في معدن القناعة والحكمة أشح من دعاء وأبكر من إيمان نظيف.

المجيب بالخير كالباحث عن كنز مجهول، يطاوع الذات في تصريفها وتجريفها، حتى تسال المواجد في فلوات الصحو، فلا يرعوي غير ناظم أو شاخص النظر. مرة يأتي كغيمة مرتابة، تدنو فتنفلت. وحينا يقضم الحسرة قبل الفكرة، فلا ينثني غير آبه بما يؤول ويجزم. فما للأخيار لا يعبرون الساعات المكشوفة في غوغاء السدم اللقيط؟ وما لهم لا يأبهون بما تدس لهم المكائد والصروف الدنية؟ حتى إذا جاء ما يعكس الخير، شرا كان أو ضرا، لزموا عزلة الزهد والتجاهل والإغفال المقصود، ولم يوغروا صدور العداوة ولا أعباءها الغاربة المكذوبة.

إنما يتبقى من شامة هذا اللطف الخيري، ما تشربه أخلاق ذاك المغمور المطمور في جبة الناسك، ذي العفة، المتمنع عن السخف والإسراف وضلالة القول. حتى إنه لا يحقر الصنيع أو الافتراء عليه، مهما كان نذرا من مستصغر الشرر. يقول الشاعر:

لا تحقرن صنيع الخير تفعله

 ولا صغير فعال الشر من صغره

*

فلو رأيت الذي استصغرت من حسن

عند الثواب أطلت العجب من كبره

بل إن في رتاق هذا الصلاح، ما يعدل حصول الوعد بالانتفاع والتجرد والممالأة. حيث يكون السالك فيها، كمن يزرع وينثر دون هوادة، معرفة واقتدارا بالحاصل منه، والناتج المرصود بعين القلب لا حساب اليد والأهواء:

له في ذوي المعروف نعمى، كأنه

 مواقع ماء القطر في البلد القفر

*

إذا ما أتاه السائلون لحاجة

علته مصابيح الطلاقة والبشر

من ثمة لا يعدل الخيرون السائلون، عن مجالسة حالات الإرواء وآثاره في الأرض الخصب والينابيع الموحشة. فلا ينكأ العلة غير افتضاضها بنباهة الدواء وفضيلة التدبير ونبل النية. والمصابيح المضيئة تكشف هذا التناظر المجيد، في أقصى الكينونة البشرية، حيث تكتسي دربة الرائي وتجربته في الحياة والتماس الخير، جدارة الوعي ونقاءه الباعث على الفيض والاستكانة والحلول، كحلول ماء الورد في الورد، فنُسمّى الساري حالاًّ، والمسري فيه محلاًّ، والواصل موصولا، والساكن مسكونا، والمبدع في سراة الليل قمرا مستنيرا.

كما أن للأرزاق أخيار، يزفون إلى مباهجهم، دون قهر أو تعب أو بحث مسرف. أرزاق بخير تمشي وتستدير. وخير بها يبادر إلى التجلي والتهجد، فينأى بشك الانتزاع والاستدبار. ومنها صفات تذكر في الصحف والأذكار، من بينها القناعة عند السخاوة، والرضا والقبول عند الابتلاء، و"كل راحة قناعة ما لم تضم"، كما قال مهيار الديلمي.

وقديما قال حكماء العرب: من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم، فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء الذي يعرج بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يوثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه، والكرام أصبر نفوسا، واللئام أصبر أجسادا.".

إنها حجة على من يتوق إلى فعل الخير، فيأنف أن يذكر به إن قصد سحته ورياءه. وما الضائع في تينك الزلة، غير المبادر إلى العطاء والأثرة، من دون أن تعرف يسراه ما صدقت يمناه.

ومن التمس الخير صار خيرا. والأرزاق مقسومة معلومة، ولو نامت في قيعان البحار وصخورها المقبورة:

لعمرك ما الأرزاق من حيلة الفتى

 ولا سبب في ساحة الحي ثاقب

*

ولكنها الأرزاق تقسم بينهم

 فما لك منها غير ما أنت شارب

***

د. مصطفَى غَلْمَان

الدول تبلع بعضها، والتأريخ يبين لنا العديد من الدول التي تم إبتلاعها من قوى ظهرت وهيمنت وتنامت وهوت.

دول حيتانية الطباع، وثعبانية الإبتلاع، فهي تسرط ولا تعرف غير السرط.

الدول القوية حيتانية، وبعضها ثعبانية، وهي تطارد فرائسها وتبتلعها، بعد أن تشلها وتنوَمها لتكون جاهزة للبلع، بعد إستسلمت وتباطأت أنفاسها.

ويبدو أن الواقع في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يسعى لمتوالية إبتلاعية بدأت بأساليب غير مباشرة، وإنتقلت بعد ذلك إلى المباشرة وبإنفلات لا يعرف الروادع، والدول المؤهلة للإبتلاع هي الفاشلة  الضعيفة الفاسدة التي فقدت معالم وجودها المميز لها.

فكم دولة في المنطقة سيتم إبتلاعها؟

الدول الثرية والصغيرة ستتلقفها الحيتان المتنافسة على الإبتلاع، فالدول القوية تعتاش على الدول الضعيفة، وتبتزها وتبني سعادتها على أشلائها، فالقوية سعيدة والضعيفة تعيسة، والقوية غنية والضعيفة فقيرة ومواطنوها يعانون الفاقة والحرمان ومصادرة حقوق الإنسان، وإن توهمت الثراء والتخمة النفطية.

تلك حقائق التدافع الأرضي المتواصل منذ الأزل، فالصراعات تحركها الموارد والثروات، وكل قوة تطمع بالتنامي والهيمنة والتجبر والإستئساد.

أسماك وحيتان، أسود وأرانب، وهكذا هي أحوال البرايا فوق تراب متعطش للدموع والدماء.

فهل أن القرن الحادي والعشرين قرن الإبتلاع والسرط الخلاق المهين؟!!

مضغة أضحت فنادت ضاريا

دولٌ هانت فأبلت عاليا

قوةٌ دامت وسطوٌ همها

وشعوبٌ إستطابت قاسيا

بنواميس وجودٍ قائمٍ

فاعل الخلق فأرسى باقيا

إستكانت لغفولٍ جاهلٍ

ورأته ملهما أو حاديا

***

د. صادق السامرائي

في ليلة حالكة من السواد، جلست على الناصية، فوق مصطبة عريضة، أراقب ظلال الماضي وهي تتراقص أمامي كأطياف بعيدة. كان الهواء ثقيلاً، مشبعًا بصمتٍ يذكّرني بتلك الليالي الخوالي، عندما كانت السماء تحتضن أحلام الطفولة، ولم يكن للحزن مكانٌ في قلبي.

تذكرت ليلة العيد في قريتي، حيث كانت الأضواء الخافتة المنبعثة من مصابيح الزيت تضفي سحرًا خاصًا على الأزقة الضيقة. كنت أركض حافي القدمين بين الحقول، أستنشق عبير الأرض الندية، وأحلم بعالم لا يعرف سوى الفرح. كان الزمن آنذاك لطيفًا، لا يسرع خطاه كما يفعل الآن، وكأن الأيام كانت تمنحنا فسحةً لنتذوق الحياة دون استعجال.

يا ليلة العيد، ماذا تحملين لنا من الذكريات؟ هل تعيدين لنا الحنين فقط، أم أن العمر مضى وكبرنا، وأصبحنا ذاكرة عابرة ستطويها الأيام؟ ليلة غاب فيها القمر، وبقيت أنا أعيش وسط حنين لا ينتهي، وذكريات تتدفق في داخلي كالنهر، تحملني إلى زمن كنت فيه أكثر امتلاءً بالحياة.

الآن، وأنا جالس في هذه العتمة، أشعر أنني محاط بتراث عابر رمادي، لا لون له سوى الحنين. هل كانت تلك الأيام مجرد سراب، أم أن الحياة هي التي فقدت بريقها؟ أبحث في وجوه العابرين عن ملامح الطفولة، فلا أجد سوى انعكاسات باهتة لما كنّا عليه. أصبح الأمل مثل نجم بعيد، يلوح من حين لآخر لكنه لا يقترب أبدًا.

تمر الأيام، وتمر معها سحابةٌ غير ماطرة، تلوّح لي بأن القادم قد يكون أكثر قسوة. لكنني أتمسك بذرات الضوء القليلة المتبقية، لعلّني أجد فيها طريقًا للخلاص من هذا الظلام الممتد. وربما، في ليلة أخرى، تحت سماء أكثر صفاءً، أتمكن من استعادة ذلك الإحساس العذب الذي كان يملأ روحي ذات يوم....!!

***

من يوميات  كاتب في الأرياف

 محمد سعد عبد اللطيف، كاتب وباحث مصرى.

 

الطبع البشري مشترك وثابت الوضوح، ولا فرق بينهم عندما يتعلق الأمر بالحكم وبناء الدولة، ولا يهذب الطباع أي معتقد أو تصور مهما توهمنا.
فلا فرق بين مؤسسي الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وبينهم وبين بناة دولهم في القرن العشرين، فمنهم من دمّر ومنهم مَن عمّر، ولكل مثالبه ومحاسنه، ولا يوجد مثالي ومنزه من الخطأ.
لو درسنا بناة الدول منذ فجر الحضارات قبل التأريخ، فلن نجد إختلافا في سلوكهم، وأي إدّعاء غير ذلك يثير أسئلة.
القيام بدور بناء الدولة وتأسيس نظام حكم يتطلب قدرات ذاتية وظروف موضوعية تساهم في تفتح ما فيه، وتجتذب الرعية إليه، وحصر القوة في يديه.
وما يميزهم، التعبير عن سلوك الأسد في الغاب، وما يتصفون به يظهرونه بإنفلاتية مطلقة.
كبرياء، إستبداد وطغيان، وتوحش، ورغبة للإفتراس وسفك الدماء، ومحق الأعداء دون تردد، فالقوة أداتهم التي تمثل وجودهم وتسلطهم، وخضوع الجميع لهم، ومن يرفع رأسه يتم بتره.
وكلهم أعتى من فرعون!!
ولن يتغير لو حاوره ألف نبي، وأكثرهم يتوهمون بأنهم ينفذون إرادة قوة كونية عليا، سخرتهم لتأكيد شرائعها وما تمليه عقائدها، وفي هذا التوافق خطر مروع، لأن السلوك مهما كان قاسيا لن يتسبب بتأنيب ضمير، أو مساءلة ذاتية، فالحاكم ينفذ أوامر وغير مسؤول، ومَن يُفتك به، فهذا عقابه من القوة العليا وهو وكيلها.
لا فرق بين خليفة وملك وأمير وقائد وحاكم ورئيس وغيرها من المسميات، فجميعهم بشر ويعبرون عن خُلق التراب، إلا ما شذ وندر.
فمعادلة العلاقة بين الكرسي والبشر ثابتة، وتخضع لذات القوانين والعوامل المساعدة!!
فالدولة دولة بما تمليه على قادتها، والقوة سلطان مطلق الخصائل والمميزات، فالقوة عامل مشترك ومتجبر وتتمتع بطغيان وإستبداد، وجور مبين، لكنه في عرفها عدل مكين.
فالدول عبر العصور تدين بالقوة والهيمنة على غيرها، ولا شيئ يعلو على القوة في عرفها.
فهل بنبت الدول والإمبراطوريات بغير القوة؟!!


يا سراةً يا حماة الأمة
أبعثوها بصراط القوة
قوةٌ سادت وأمٌ إرتقت
برجالٍ من ذواتٍ القدرة
لا تقل أني وأنا بُعثرت
ورؤانا بعميق الحفرة
خطوة تاهت وأخرى بعدها
وضياعٌ في وخيم الغفلة
***

د. صادق السامرائي

 

في حياة الأمم مؤسسات تشبه السفن العابرة للأعاصير، تحمل في طياتها ذاكرة الشعب وقيمه، وتظل صامدة رغم تقلبات الزمن. الأهرام ليست جريدة فحسب، بل هي حكاية مصر مع الكلمة الحرة، ومع رجال نحتوا تاريخها بحروف من نور. وإبراهيم نافع أحد هؤلاء الرجال، فارس من فرسان الكلمة الذين جعلوا من المهنة هيكلا للشرف، ومن النقابة بيتا يجسد كرامة الصحفي.
ليس غريبا أن تثور قلوب الصحفيين اليوم دفاعا عن رجل مثل إبراهيم نافع؛ فالهجوم على الرموز ليس هجوما على أشخاص، بل هو اختراق لـ"الخط الأحمر" الذي يفصل بين النقد المشروع وبين العبث بتراث أمة. نافع لم يكن مجرد رئيس لتحرير الأهرام، بل كان حارسا لضمير المهنة، وبانيا لمؤسسات ما زلنا نرفع رؤوسنا بها، كـ"مبنى النقابة" الذي تحول إلى صرح يذكر الأجيال بأن الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة.
لا يلام أحد إن اختلف في الرأي حول مرشح أو خيار نقابي، فالحرية والاختلاف هما وقود الديمقراطية. لكن الفارق شاسع بين النقد وبين تشويه سيرة رجال صنعوا مجدا لمصر. إبراهيم نافع لم يخلق من فراغ؛ فقد عاش زمنا كانت الكلمة فيه مسئولية، والصحافة بوصلة ترشد الشعب لا أداة للصراعات.
الأهرام مدرسة تخرج منها عمالقة الفكر والأدب، من توفيق الحكيم إلى نجيب محفوظ، ومن هيكل إلى نافع. فكيف يعقل أن يهان رجل كان جزءا من ذاك النسيج الوطني؟! لقد علمنا نافع أن الصحفي "ابن وقته"، يصارع بالكلمة، ويبني بالعقل، ويدافع عن شرف المهنة كأنها كائن حي.
الزملاء الذين ينهضون اليوم لرد الهجوم عن نافع، إنما يدافعون عن ذواتهم قبل أي شيء. ففي زمن الضجيج الرقمي، حيث يختزل التاريخ في "منشور"، ويبادر البعض إلى تشويه الرموز بحثا عن تفاهة الشهرة، يصبح الصمود أمام هذه العاصفة واجبا. وكما قال هيكل ذات يوم: «الرجال لا يموتون إذا دخلوا الذاكرة الجمعية».
لنعلم أجيالنا الجديدة أن حرية الرأي تكمله أخلاق الرأي. نختلف، ننتقد، نفند، لكننا لا نسمح بأن تتحول الساحة إلى مزبلة تلقى فيها جثث الرموز. إبراهيم نافع، ومرسي عطا الله، وأنيس منصور، وآخرون.. هم أوطان صغيرة داخل الوطن الكبير. فلنحافظ على هذه الأوطان، كي لا نصير أمة بلا ذاكرة.
عندما تهز أركان المهنة بزوبعة الاتهامات، تظهر حقيقة المؤسسات العتيقة وأبنائها. الأهرام، التي ولدت قبل قرن ونصف، لم تكن يوما مجرد صحيفة توزع على الأرصفة، بل كانت – وما تزال – حصنا للكلمة التي تضيء ولا تحرق، تنير ولا تذل. وإبراهيم نافع، كسابقيه من عمالقة الأهرام، عرف أن معركة الصحافة الحقيقية ليست في سباق العناوين، بل في بناء الإنسان. فهل ننسى أن مبنى النقابة، الذي يقف شامخا اليوم، كان حلما راود نافعا وأقرانه، فحولوه إلى حجر يصد عن وجه المهنة عوادي الزمن؟
الهجوم على رموز الأهرام والنقابة ليس حدثا عابرا، بل هو اختبار لضمير جيل. وكما كان هيكل يقول: «الرموز لا تورث، بل تكتسب بالعرق والوقت». إبراهيم نافع لم يصل إلى مكانته بمنشور أو خطاب، بل بصحافة كانت ترفض أن تنحني إلا للحقيقة. فكيف نقبل اليوم أن يتحول "اللا مسئولية" إلى سلاح يشوهون به سيرة رجل أدار الأهرام في أصعب لحظات مصر، وحافظ عليها كـ "بيت كبير" يجمع المختلفين تحت سقف الاحترام؟
لا خلاف على أن النقد حق مقدس، لكن الفارق بين النقد والتدنيس كالفارق بين النهر والسيل؛ الأول يروي، والثاني يدمر. نستطيع أن نختلف مع سياسات أي مرشح، أو نرفض نهجا نقابيا، لكن العبث بميراث رجال صنعوا تاريخا هو جريمة ضد المستقبل. هل ننسى أن الأهرام كانت شاهدة على ميلاد أفكار غيرت وجه الوطن؟ وأن نافعا كان أحد حراس هذه الأفكار؟
اليوم، أمام سيل "الرقمنة" و"الترندات"، يخيل للبعض أن التاريخ يكتب بلغة السخرية والإلغاء. لكن الحقيقة التي يعرفها كل من مشى في رحاب الأهرام أن التاريخ يبنى باحترام السابقين، لا بإعدامهم. الزملاء الشباب الذين ينهضون للدفاع عن نافع إنما يوقظون فينا سؤالا: ماذا سنترك لمن بعدنا؟ هل سنكون جيلا محايدا يراقب عبث العابثين، أم حراسا لـ "خط أحمر" اسمه كرامة الرموز؟
قد يظن البعض أن معركة الدفاع عن إبراهيم نافع معركة أشخاص، لكن الحقيقة أنها معركة ضمير. فالأهرام، كصرح إعلامي، لم تنج من العواصف إلا لأن رجالها آمنوا بأن الصحافة "مهمة مقدسة" لا تباع. نافع، كـ "هيكل" زمانه، كان يرى أن الكلمة سلاح ذو حدين: إما أن ترفع أمة، أو تذلها. فاختار دائما أن تكون كلماته سلما يصعد إلى القمة.
ليس دفاعنا عن إبراهيم نافع دفاعا عن فرد، بل هو إعلاء لمعنى يخشى البعض من صعود: أن تكون الصحافة رسالة، لا وظيفة. وأن تكون النقابة بيتا، لا سوقا. وأن نتعلم من رجال مثل نافع وهيكل أن العمر القصير للإنسان يطول إذا زرع فكرة، أو بنى صرحا، أو دافع عن حقيقة.
فلنقل للعابثين: "كفاكم عبثا بتراث من علمونا كيف نكون".
فالأهرام ورجالاتها.. سير لا تمس.
***
د. عبد السلام فاروق

تبدو ردود الفعل على الإساءة "المفترضة" من بعض المشجعين العرب ضد العراق خلال مباراة كرة قدم، والمطالبات باعتذار حكومات دولهم، وكأنها تعبّر عن إسقاط ثقافي وسياسي، بمعنى محاولة تطبيق مفاهيم تنتمي لسياق اجتماعي أو أيديولوجي معين على سياق مختلف.
ففكرة أن يتم تحميل دولة أو حكومة المسؤولية عن تصرفات مجموعة من مواطنيها في مدرجات ملعب، هي فكرة مثيرة للاستغراب والتأمُّل حقاً!
الدولة ليست عشيرة، والمواطن في الدولة الحديثة ليس "مربوطاً" بديوان العشيرة (كما يُقال في العرف العشائري)؛ ليكون من حقنا، وفق المنطق العشائري، في حال أساء هذا المواطن أن نلجأ إلى شيخ عشيرته ونطالبه بمحاسبته على إساءته أو الاعتذار عن أفعاله. وهو ما يُعرف في الثقافة العشائرية بـ "المكاومة" وتعني تحمّل شيخ العشيرة مسؤولية أفعال أفراد عشيرته، فإذا أخطأ فرد من العشيرة، يُمكن، وفق التقليد العشائري، أن تتم مطالبة شيوخها بالتعويض عن خطئه، كجزء من التضامن العشائري، حيث يُنظر إلى الفرد على أنه ممثل لعشيرته، وليس ككيان مستقل، مما يجعل العشيرة كلها مسؤولة عن تصرفاته.
ليس من المنطقي أن تتعامل الدول مع بعضها كما تتعامل العشائر فيما بينها، أو أن ننقل المفاهيم العشائرية مثل "الفصل" و"المكاومة" و"العطوة" و"الدكة" من المجال العشائري إلى المجال الدولتي والمؤسساتي. فمنطق الدولة الحديثة لا يشتغل بطريقة القبيلة، ومسؤولية المواطن أمام الدولة، ومسؤولية الدولة عن المواطن، يحددهما القانون وليس مجرد انتماء المواطن للدولة.
وهذا ليس تقليلاً من شأن العشيرة، ولكن منطق الدولة الحديثة وفلسفتها يختلفان تماماً عن منطق العشيرة وأعرافها. منطق الدولة يقوم على الفردية والاستقلالية والعقد الاجتماعي، ومنطق العشيرة يقوم على الأبوية والجماعوية والتكافل العصبوي.
كذلك فإن فكرة أن الفرد يذوب في الجماعة، والجماعة تُختزل في الفرد، هي فكرة شمولية وفاشية بامتياز. ففي النظم الشمولية تهيمن الدولة على كل جوانب الحياة، حيث تُلغى استقلالية الأفراد لصالح السلطة أو الجماعة. وفي النظم الفاشية يُعامل الفرد كجزء من الكيان الأكبر (الأمة، الحزب، القائد) وليس ككيان مستقل.
الأمر الذي يجعل ردود أفعالنا على حادثة الإساءة "المفترضة" معبّرةً عن الثقافة العشائرية التقليدية والإرث الأيديولوجي الشمولي اللذين يبدو أنهما ما زالا يؤثران في أنماط التفكير السائدة في المجتمع العراقي.
إن الإسقاط الثقافي والسياسي هو تفسير واقعة أو ظاهرة ما باستخدام مفاهيم ومعتقدات مستمدة من بيئة ثقافية وسياسية مختلفة، دون مراعاة الفروق بين السياقات. وقد حان الوقت للتوقف عن محاولة إسقاط الثقافة التقليدية والإرث الشمولي على فهمنا لفكرة الدولة الحديثة، في العراق، وفي العالم من حولنا.
***
همام طه
...............
ملاحظة (1): وصف المقال للإساءة بأنها "مفترضة" ليس محاولة لإنكارها أو تبريرها أو الدفاع عن المسيئين، ولكن لأن كاتب المقال لم تسنح له الفرصة للتأكّد من صحّة فيديو الإساءة، لا سيّما مع وجود "مزاعم" بأنه "مفبرك".
ملاحظة (2): يحترم هذا المقال جميع أفراد المجتمع العراقي وخياراتهم الشخصية، ولا يسعى للانتقاص من مفهوم العشيرة أو التقاليد والأعراف العشائرية، ولا يهدف للمساس بشعور أو كرامة العراقيين والعراقيات الذي يعتزون بالانتماء لعشائرهم.

الدول المفلسة تكنولوجيا تحولت إلى فرائس لأساطين التكنلوجيا الفاغرة الأفواه.
القوة المعاصرة تكنلوجية، وقدرات العديد من المجتمعات خالية من المفردات التكنلوجية، فهي تتحرك في الفراغ وتتسكع على هامش الزمان والمكان.
العقول التكنلوجية تسعى لتتوطن المريخ، وعقول بعض المجتمعات منهمكة في حل مشاكل الرميم، وتستنزف طاقات أجيالها في مطاردات السحب السرابية الهابة عليها من قمقم إفتح يا سمسم.
و"إن السلاح جميع الناس تحمله...وليس كل ذوات المخلب السبع"
المجتمعات المتأخرة تكنلوجيا، والغاطسة في متاهات الغابرات، والساعية لإحياء الماضيات، والتعلق بالواهيات، ماذا تستطيع أن تعمل في دنيا الهيمنة التكنلوجية؟
هل تستسلم؟
هل تعتمد على الدول القوية تكنلوجيا لحمايتها من آفات السطو والافتراس؟
خياراتها بأنواعها تؤكد أنها مجتمعات عالة على عصرها، ولا بد لها أن تتبع وتقبع وتستكين لإرادة الآخرين الذين يأمرونها، ويجبرونها على الانصياع لإرادة القوة التكنلوجية.
المجتمعات القوية تكنلوجيا مرعوبة من بعضها، وتتهيب من المواجهة والتحدي، لأن في ذلك فناؤها.
ما العمل؟
لا بد من تفعيل العقول، والتعبير عن المهارات السياسية الفائقة، والعمل على تأهيل طاقات المجتمعات للتعبير عن جوهرها الإبداعي الابتكاري، والتأكيد على مراكز البحوث والدراسات، والابتعاد عن المواجهات العسكرية، فالضعيف تكنلوجيا لا قِبل له بمواجهات عمالقة الاقتدار التكنلوجي.
المجتمعات المقموعة تكنلوجيا، خياراتها أن تؤمن بمستقبلها وتستوعب مسيرتها وتدرك طاقاتها وترى أنها ستتوثب بعزيمة مطلقة نحو مستقبل عزيز مقتدر، ومهما تداعت في أوعية الضعف والامتهان، فأنها ستتحرر من قبضة الحفرة وستتسلق سفوح الصعود إلى ذروة ذاتها وموضوعها، وما يعوزها قيادات ذات إبصار واصطبار، ووعي لمعنى أن تكون مجتمعاتها أمة حية وليست دولا ذات أنين وهوان.
فالحياة الحرة الكريمة تنبثق من روح الإنسان!!
تعطلت العقول بما اعتراها
وأسئلة أهانت محتواها
فما انتصرت بها أمم أطاعت
سراةً لا تشاكس من طواها
***
د. صادق السامرائي

الشك بدأ يدب في النصوص المنشورة، ويتهمها بأنها من نتاج الذكاء الاصطناعي. إنه مخترع يتفاعل مع البشر وكأنه عقل آخر، والبعض يرى أنه سيكون منافسا لعقولنا في العقود القادمات، وإن صح هذا التوقع فأن أدمغتنا ستضمحل، وعقولنا ستبيد، وستتحكم بنا الآلة.
قبل عقود قال لي زميل صيني: "سيأتي اليوم الذي نستغني فيه عن عقولنا "، وتعجبت من كلامه وما اتفقت معه، لكننا اليوم نعيش على أعتاب ذلك التطور الاختراعي المرعب.
تطبيقاته تجيبك على أي سؤال، وتنفذ طلباتك، سألته ذات مرة أن يكتب لي قصيدة بالعربية عن الحب، وإذا بها تظهر أمامي على الشاشة، وما احتاجت إلا لبعض التحرير.
أحد الأخوة يقول بأنها خالية من العاطفة وتشير إلا أنها من إبداع الآلة!!
نعم الآلة تبدع!!
فهل ستغلبنا مخترعاتنا؟
الآلات تتحاور، وربما ستتفوق علينا بقدراتها الابتكارية، لقابلياتها على استحضار المعلومات بسرعة فائقة.
ما هذا العالم الذي نحن فيه؟
الدنيا تنطلق كالصاروخ نحو المستقبل البعيد، وتريد استعمار الكواكب الأخرى، وفيها مَن يدور في ناعور الغابرات، ويتمنطق بالماضيات، ويحسب الزمن يتقهقر للوراء.
الذكاء الاصطناعي يحكمنا، ومنا مَن تتحكم به الأموات، ويستهلك عمره في الثأر للأجداث، وفقا لتصوراته المعتقة في أقبية الدجل والضلال.
ترى ماذا سيكون جواب الذكاء الاصطناعي لو طرحنا عليه أسئلة الغابرين؟
"والذكاء الاصطناعي يهدف إلى محاكاة الذكاء البشري، ويتضمن القدرة على التعلم والفهم والتحليل والتكيف مع المواقف الجديدة، واتخاذ القرارات بناءً على البيانات المتاحة".


صنعنا ما ينافسنا كأنا
بآلتنا كشفنا منتهانا
بأجهزةٍ عقول الخلق هانت
بعاديةٍ تخيّب مرتقانا
***

د. صادق السامرائي

 

خرج علينا رئيس الوزراء الاسبق السيد حيدر العبادي، ليعلن ان فرض الفكرة والسلوك على الناس ليس منهجا صحيحا للحكم، ليتطرق الى موضوعة الحجاب ليقول لمقدمة البرنامج: "في مسألة الحجاب مثلاً: هل فرض الحجاب بالقوة في المدينة؟ – يقصد المدينة المنورة في بدايات الدعوة الاسلامية –"، ثم يضيف: "بدليل كانت هناك سافرات، وهن الإماء.. حتى يميزوهن عن المؤمنات المحجبات"، صفق الجميع للسيد حيدر العبادي فالرجل ظهر لنا "مدني " بامتياز، ولم ينتبه الكثيرون للاسف ان السيد العبادي وصف السافرات بالإماء وعندما نرجع للتفاسير والقواميس سنجد ان الإماء هن الجاريات.
ماذا تشعر عزيزي القارئ وانت تسمع إلى مثل هذه الكلمات، بل ما الذي ينتابك وانت تشاهد وتسمع الخطابات التي يلقيها الساسة العراقيون هذه الأيام بمناسبة اقتراب انتخابات "الفرهود"؛ عفوا أقصد مجلس النواب؟، ربما لا تعاني من البطر مثل جنابي لتتابع خطابات قيلت على مدى أكثر من واحد وعشرين عاماً، وجميعها تحمل عبارات، الدولة المدنية، نبذ الطائفية، السلاح بيد الدولة، الإعمار، الخير القادم، ولكن متى؟ لا أحد يعرف. تضاف لها بالتأكيد محفوظات عن التقصير والأخطاء التي ارتكبت واللحمة الوطنية، ويغيب عنها "معجون المحبة " الذي اشتهر به العلامة إبراهيم الجعفري.
منذ أسابيع ونحن نسمع عن الانتخابات القادمة، الجميع يرفع شعار شعار إلى الأمام،، والكل يجري عمليات تجميل لتحالفات سياسية، عشنا معها سنين من الفشل والإصرار على المحسوبية والطائفية.
كنتُ وأنا أستمع إلى السيد حيدر العبادي يقول "إنّ العملية السياسية تحتاج إلى تغيير"، أقرأ في مذكرات الحائز على نوبل بوب ديلان "أخبار الأيام" التي يخبرنا فيها أنّ الإنسان دائماً ما يتعلق بأمل زائف. سيقول البعض؛ بماذا تفكر يارجل؟، الجميع اتفق ولم تتبق سوى خطوات على انتخابات البرلمان، ياسادة لا أعرف بماذا يفكر المواطن العراقي وهو يشاهد ما يجرى في انتخابات الدول التي تحترم ارادة المواطن، نحن من جانبنا "عرّقنا" الانتخابات فأصبح لزاماً أن يشارك فيها ابو مازن، ثم تخبرنا عالية نصيف بانها ستصرخ: "مزوّرة"، لو لم تحصل على كرسي البرلمان للمرة الخامسة، بعدها تتوزع الكراسي على الجميع . بدأ ذلك منذ أن أعلن السيد نوري المالكي عام 2010 عدم رضاه على النتائج، ولا بدّ من إعادة العدّ والفرز، ولا يهمّ أن تنقلب الصناديق على رؤوس الناخبين، أو تضاف صناديق جديدة، فهذا كله يصبّ في مصلحة المواطن .
إسمح لي عزيزي القارئ، لأقول لك بكلّ صراحة، من دون أيّ لفّ أو دوران، إننا، أنا وأنت والملايين مثلنا جميعاً شركاء في ما يجري، الكلّ ساهم لنصل الى اللحظة التي يخرج فيها رئيس وزراء سابق يقول: لنسمح للسافرات ان يتجولن في الشارع فهن لايختلفن عن "الإماء".
***
علي حسين

 

المتغيرات التي حصلت في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، تسببت بتداعيات سلوكية أصابت البشر في أصقاع الدنيا كافة، وإنتشرت في ربوع أماكن صناعة القرارات، مما أدى إلى نكبات تفاعلية بين القوى المهيمنة المحتكرة لأفظع الأسلحة التدميرية.
ويمكن الإشارة إلى بعض نتائجها:
القلق
شعور بالتوتر وعدم الإرتياح، كرد فعل لما يدور في الدنيا من تقلبات مصيرية، مما يتسبب بتحفيز الغدد الصماء، ومعاناة البشر من تسارع ضربات القلب.
الخوف
إستجابة للشعور بالتهديد، وما يتوفر من معلومات متسارعة، توحي بالأخطار، وتستدعي التفكير بأساليب البقاء، وربما تؤدي إلى إستجابات إنعكاسية سلبية.
تشتت الإنتباه
القدرة على التركيز لفترة طويلة إضمحلت، وتسببت بضعف الإنجازية، وعدم القابلية على متابعة القراءة والتفاعل مع الكتاب، لأن الهاتف النقال صار سيد المكان والزمان، ولا بد له أن يتدخل فيما يقوم به الأشخاص من أعمال، فيحجب إنتباههم ويمزق سلسلة أفكارهم.
عدم الشعور بالطمأنينة
الراحة النفسية والسلام الداخلي في خطر للقلق والتوتر، وبسبب العزلة والتحول إلى التصورات المادية، وضمور التوجهات الإيمانية، فالبشر يركض وكأنه يطارد سرابا.
العدوانية
العنف والرغبة في إلحاق الأذى بالغير، منبعها الإحباط والغضب، والتوجهات العقائدية المتطرفة، والغلو المسرف بالأفكار، وتغذيها المعلومات المتدفقة على الشاشات.
إنكماش التفاعل الإجتماعي
إستخدام التكنولوجيا المفرط والإدمان على وسائل التواصل المعاصرة، أضعفت التواصل الحي بين البشر، خصوصا الأجيال المولودة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وخيمت العزلة ومعطياتها على السلوك.
زيادة الفقر
بسبب الأنظمة الإقتصادية الفاشلة، والحكم القهري، العاجزة عن توفير الطعام والسكن والرعاية الصحية، وتزايد النزاعات والحروب، والكوارث الطبيعية والأزمات الإقتصادية والتضخم والبطالة وقلة الأجور.
فقدان قيمة البشر
عدم إحترام كرامة الإنسان وحقوقه، للتهميش الإجتماعي، والظلم بأنواعه، والعنف والإساءة، والإقصاء المتحامل بين أنظمة الحكم وأبناء المجتمع.
اليأس
الشعور بالعجز وفقدان الأمل، بدوام التحديات، والعزلة والضغوط النفسية والتعرض للإحباط والظلم والخسائر المتواصلة.
تصنيع الآراء
تشكيل آراء الناس حول موضوع ما، بواسطة الإعلام الموجّه والمضلل وبالتكرار، وغيرها من الأساليب الخداعية اللازمة لإسقاط الناس في حبائل الهدف الطلوب.
التغيرات البيئية
الأرض تتعرض لمخاطر وخيمة تزعزع مكوناتها اللازمة للحفاظ على الحياة، فهي حاضنة كونية لصناعة الحياة والحفاظ على ديمومتها، وبإضطراب ما فيها من معززات الإحتضان، تتحقق سلوكيات متوافقة مع ذلك، مما يعني تهديد آليات البقاء والنماء.
ويمكن التوسع بالمعطيات وما يتصل بها من سلوكيات متوالدة ومتراكمة، ولطول الموضوع إقتضى الإختصار والإشارة.
***
د. صادق السامرائي

 

تطوير المساجد التاريخية ليس مجرد عملية ترميم، بل هو استثمار حضاري وثقافي يعزز مكانة الدولة كحاضنة للتراث الإسلامي، كما يوفر المشروع إرثًا مستدامًا يعزز القيم الدينية والثقافية والوطنية للأجيال القادمة مع الحفاظ على الهوية العمرانية الأصيلة وإبراز البعد الحضاري و الديني والثقافي، وتكون معلما سياحيا دينيا -- اضاقة الى ان أهم الفوائد التي ستنعكس على أجيال المستقبل، من خلال الحفاظ على الهوية الدينية والتاريخية، وتعزيز الفخر الوطني والانتماء مساهمةً في غرس روح الفخر الوطني لدى الشباب، من خلال التعرف على العمارة الإسلامية التقليدية في بلادهم، وتعزيز الشعور بالانتماء للوطن من خلال الحفاظ على المساجد التاريخية كجزء من الهوية الوطنية والثقافة الإسلامية
الأهمية الدينية تبرز بالمحافظة على قدسية المساجد التاريخية التي كانت أماكن عبادة لعدة أجيال، وتوفير بيئة مناسبة وآمنة للمصلين مع الحفاظ على الطابع الإسلامي الأصيل، وإعادة إحياء المعالم الدينية المرتبطة بالتاريخ الإسلامي، مثل المساجد التي صلى فيها الصحابة أو كانت محطات رئيسية في التاريخ الإسلامي، وتأتي الأهمية الثقافية والتراثية في الحفاظ على الطراز المعماري التاريخي للمساجد، مما يسهم في توثيق الموروث العمراني الإسلامي، وكذلك بدعم جهود اليونيسكو والمنظمات العالمية لحماية التراث، مما يعزز مكانة الدولة ثقافيًا، وإحياء القصص والتاريخ المرتبط بهذه المساجد، مثل مسجد البيعة في مكة، الذي شهد بيعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم،، وتبرز الأهمية الاجتماعية في تعزيز الروابط المجتمعية من خلال ترميم المساجد التي تمثل جزءًا من حياة الأحياء والقرى، وكذلك بدعم المبادرات التطوعية والمجتمعية، حيث يشارك المهندسون والحرفيون في ترميم المساجد وفق معايير التراث العمراني، أما الأهمية الاقتصادية فتكمن في خلق فرص عمل للمهندسين والفنيين والحرفيين المتخصصين في الترميم المعماري، وتعزيز السياحة الدينية والتراثية من خلال إعادة تأهيل المساجد التاريخية، مما يجذب الزوار والباحثين في التاريخ الإسلامي، مع تحفيزٍ للقطاع الخاص للمساهمة في مشاريع الترميم، مما يدعم الاقتصاد الوطني
العراق يضم الكثير من المعالم الأثرية والتاريخية الهامة والمعروفة، من ضمنها المساجد العريقة، حيث تحتوي على الكثير من المساجد التي يعود تاريخها إلى بداية فترة العصر الإسلامي، وخصوصاً بعد فتح العراق، وهناك – 10 –مساجد هي الاقدم تاريخيا، يُعد مسجد البصرة القديم أقدم مسجد في العراق،وليه مسجد نبي الله يونس في الموصل، مسجد البصرة يرجع تاريخ بنائه إلى عام 635، أي خلال فترة عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، بحيث تم العمل على تأسيسه قبل الانتهاء من فتح المدينة بشكل كلي، وجاء بتصميم من أجذاع النخيل، إلا أنه تعرض لحريق أدى إلى تدميره، لكن تم العمل على إعادة بنائه خلال فترة عهد الخليفة الأموي الثالث عمر بن عبد العزيز، ومرة أخرى بعد أن تعرض للتدمير بفعل فيضان خلال فترة العهد العباسي-- ومسجد نبي الله يونس تاريخ بنائه يعود إلى القرن الرابع هجري، فيما يتخذ موقعاً له على السفح الغربي من تل النبي يونس أو كما يُعرف باسم تل التوبة، في الموصل ثم مسجد الكوفة حيث تم الانتهاء من بنائه عام 670، وبذلك أصبح يُمثل أول مبنى يتم إنشاؤه في مدينة الكوفة، ومقراً لخلافة الإمام على بن أبي طالب
والمساجد لها دور كبير ومؤثر في حياة المجتمع الإسلامي ونهضته دينيا وفكريا وسياسيا، كما أن معظم المساجد كانت مراكز إشعاع حضاري، وجامعات علمية مكتملة التخصصات، يتلقى فيها الطلبة مختلف العلوم على أيدي علماء متمكنين من تخصصاتهم، تحتوي العاصمة بغداد على عدد كبير من الجوامع والمساجد، منها 912 جامعا تقام فيها صلاة الجمعة، و149 مسجدا صغيرا تقام فيها الصلوات الخمس فقط"، مبينا أن جامع الخلفاء في بغداد إلى جانب جامعي المنصور والرصافة من أكبر جوامع المدينة التاريخية، التي كانت تقام فيها صلاة الجمعة خلال القرون الأربعة الأخيرة من الخلافة العباسية، وتعد سامراء من أمهات المدن العراقية القديمة، وما زالت تزخر بالآثار الإسلامية، وتقع المدينة على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وتبعد نحو 118 كيلومترا إلى الشمال من العاصمة بغداد، وقد بناها الخليفة العباسي المعتصم بالله سنة (221هـ/835م) فكانت عاصمة الخلافة العباسية الأهمية الدينية تبرز بالمحافظة على المساجد التاريخية وتوفير بيئة مناسبة وآمنة للمصلين مع الحفاظ على الطابع الإسلامي الأصيل، واعادة احياء المعالم المرتبطة بالتايخ الاسلامي، مثل المساجد التي صلى فيها الصحابة،او كانت محطات رئيسية في التاريخ الإسلامي
***
نهاد الحديثي

نمطية إبداعية طاغية، ومتواصلة لأكثر من قرن، وما أوجدت ما ينفع الناس، وخلاصتها الكتابة بمداد الدموع والدماء على سطور التبعية والإزدراء.
للكتابات المتوجعة المتظلمة أسواقها ومتابعيها والمترنمين بعباراتها، لأنها ترسخ الآلام وتعزز القنوط والإستكانة والإستسلام، وتمنح السكينة والشعور بالإطمئنان.
قصائد الشعراء معظمها رثاء ذاتي، وتفوح منها الحسرات، وتشعر وكأن الصراخ والعويل إيقاعها، وهذا يعني أنها ترقيدية، وتساهم في كسر ظهر المجتمع، وحني الرؤوس أمام التحديات.
مقالاتنا، دراساتنا، قصصنا، رواياتنا، مسرحياتنا، مسلسلاتنا، أغانينا، خطاباتنا، تبريرية، تسويغية، تؤكد على إستلطاف ما هو قائم، والخنوع لكل ظالم.
للشعر دور إستنهاضي يقظوي يؤسس لبناء العزائم وشحذ الإرادات، ويساهم في التوثب الواثق المكلل بالإنتصار والوصول إلى الأهداف والتطلعات، لكنه يقدم جرعات إحباط ويأس وأنين.
كتابات المفكرين والفلاسفة والمثقفين، تجد فيها المشاريع والطروحات البعيدة عن واقع الحياة ومفرداتها اليومية، وكأنها تضع الملح على الجراح.
الكتابات الخالية مما يعتلج في دنيا الناس، وتعبر عن تطلعاتهم ويعزز إرادتهم، وترسم برامج أهدافهم، لا تلامس إهتمامهم، وتلهب ضجرهم، وتوقد نفورهم من السطور.
الإبداع ليس تفاعلا نقليا، وإنما تواصل خلاّق مع مفردات الواقع، وتوظيفها لإنطلاقات مشرقة ذات عزيمة وثابة نحو قادم أفضل، وأصلح للقوة والإقتدار الحضاري الأصيل.
فلماذا مدادنا الدموع؟!!
أمة الشعب وشعب الأمة
روحها دامت بعزّ الفكرة
*
شعبها نورٌ بديعٌ ساطعٌ
ألهم الأجيال حسن الصنعة
*
أيها الإبداع أطلق ما بنا
جوهرٌ فينا عظيم القدرة
***
د. صادق السامرائي

 

الواقفون اليوم، على عتبات الفن يمسكون ميكروفوناتهم ويصرخون بحماس: "أيها الجمهور، فلنعقم الدراما ونطهرها من الجراثيم، فلننقها من شوائب الإبداع، ولنغسلها بالماء والصابون كي تصبح نقية كالزجاجة المعقمة!" وكأن الفكرة العبقرية هذه أتت من أناس يظنون أن الفن سجادة يمكن تنظيفها بالمِكنسة، أو طبق سلطة يغسل تحت الصنبور! لكن الفن ليس عدوى ولا فيروسًا، إنه شعلة متألقة تحرق أي قفاز بلاستيكي، وتتفجر من أي صمام مغلق.
التاريخ يضحك بصوت عال، حين تتذكر أن "نجم" الذي أثار الدنيا بصوته، و"إمام" الذي قلب المواجع بجرأة، كانا ممنوعين في زمنٍ كان الممنوع هو المسموح الوحيد! كانت أغانيهما تُنسخ على أوراق كراسات المدارس، وتتسرب عبر أشرطة لا تحمل عنوانًا. الحقيقة تخترق أي ثقب، فالسجن لا يُخنقها، والمنع يزيدها اشتعالًا كالماء الذي يغلي تحت الضغط.
أما اليوم، فقد حل عصر الميديا، حيث يمكن لطفلٍ يمتلك هاتفًا قديمًا أن يحوّل العالم إلى سينما، والفن التلقائي ينتشر كالنار في الهشيم. لا أحد يستطيع التحكم في الريح، أو تقييد صوت الموسيقى بسلاسل حديدية. الكلام الجريء يتخطى الجدران، والأعمال الفنية المبتذلة التي تروج للدعاية تفسد في اليوم التالي كعلبة زبادي منتهية الصلاحية.
الفن الحقيقي ليس سلطة مغلفة تحت إشراف الرقابة، إنه يولد عاريًا صارخًا ملطخًا بتراب الواقع، ويرفض أن يتنظف ليرضي من يبحثون عن صورة مثالية في المرآة. الفن الذي يدافع عن نفسه بموهبة لا بموافقات مسبقة، الفن الذي يخيف الجبناء ويحاربه العاجزون، هو الفن الذي سيظل ينزف ألوانًا على جدار الصمت، ويحرق أي قطعة قماش بياء تحاول تغطية عيوب النظام.
اتركوا الشعلة تذيب القيود، اتركوا الموهبة تدور في فضاءاتها وتولد رغمكم جميعًا. الفن الحقيقي لا يحتاج إلى تصريحكم، فهو أكبر من كل اللجان. لو فتحتم الباب، سيدخل من النافذة، وإن أغلقتم النوافذ، سينزل من الأنابيب، وإن أغمضتم أعينكم، سيتسلل تحت الجفن. الفن الحي يستمد روحه من الشارع، لا من ورقةٍ مكتوب عليها "تصريح".
ومصر العظيمة، التي تنفست الفن منذ أن كان النيل يلعب في تربتها كطفلٍ يلهو بالملوخية، لا تحتاج إلى تعقيم ولا تنظيف. هي تحتاج إلى أناسٍ يفهمون أن العظمة لا تكمن في التحنيط، بل في إطلاق الروح لتحلق حيث تشاء.
بينما “الحرس القديم واقفين على الأسوار بمناشيرهم ومطارقهم عايزين يبنوا سورًا حول الفن عشان ما يتعداش حدود الخيال المسموح! يتخيلوا إن الإبداع قالب جبنة نستطيع تقطيعه بمقاسات متساوية وتغليفه بورق شمع كي لا يتعرض للهواء! "
لكن الفن الفطري المشوه ذاك الذي يتسرب من بين أصابعهم، مثل الماء من وعاء مهترئ، يروي العطشى في الصحراء، قبل أن يدركوا أنهم أضاعوه بين رمال التحكم!
هل تعلموا.. أن أعظم اللوحات الفنية في التاريخ، ولدت من رحم الفوضى؟ أن أجمل السيمفونيات هربت من قيود النوتات؟ أن الشعر الحقيقي كتبه عشاق مجانين على أوراق مبعثرة في المقاهي؟ لكن لجان التطهير تريد أن تقدم لنا فنًّا معقمًا في قفاز طبي، فنًّا لا يعطس ولا يسعل ولا يصرخ، فنًّا مغلفًا ببلاستيك شفاف نعرضه في متاحف البروباجندا!
الغريب أنهم يصرون على محاربة الأشباح! ألا يرون أن عصر "التابوهات" انتهى عندما صار كل بيت مسرحًا وكل جدار شاشة سينما؟ يحاربون ظلالًا بأيد فارغة، بينما المبدعون الحقيقيون يحولون القيود إلى سلالم، والرقابة إلى نكات ساخرة تنتشر كالنكتة الممنوعة التي يضحك منها حتى الحراس!
أما صناعة "الفن المطابق للمواصفات"، فهي كمن يحاول إنعاش جثة بالعطور! تنتج مسلسلات كالوجبات السريعة: مليئة بالمواد الحافظة، فاقدة للطعم، تشبع الجيوب ولا تشبع العيون! بينما الفن الذي يُصنع في السراديب، بين أكواب القهوة الباردة وأنفاس اليائسين، يظل كالنبيذ القديم: كلما حاولوا إخفاءه، ازدادت قوته وعطره فتنة!
ولا تنسوا أن "الرقابة الذكية" التي يتغنون بها هي مجرد وهمٍ كبير! فالشباب الذي يشاهد مسلسلًا ممنوعًا عبر شاشة هاتف في ظلام الغرفة، سيحفر الكلمات المحذوفة في ذاكرته أكثر من أي مشهد معَـد مسبقًا! الحظر لا يمحو، بل يضاعف القداسة! كأنك تُشعل مصباحًا في قاع البحر؛ كلما زاد عمقه، اتسعت هالة الضوء حوله!
فكروا للحظة: ماذا لو حولوا كل هذه الطاقة المهدرة في المراقبة والتطهير إلى دعم الموهوبين الذين يصرخون بأفكارهم من فوق الأسطح؟ ماذا لو كان "تعقيم الفن" يعني حمايته من التلوث التجاري لا خنقه بأكياس بلاستيكية؟ لكنهم للأسف كالطبيب الذي يقتل المريض ليطهر الجرح!
ومصر التي علمت العالم كيف ينحت الأحجار ويصهر الذهب، أليست جديرة بأن يولد فنها من رحم معاناتها دون وصاية؟ أليست الثورات الفنية التي انطلقت من حواريها عبر القرون أكبر برهان على أن الإبداع ابن الحرية لا ابن التوجيهات الرسمية؟
الخلاصة: الفن لا يدار بالدبابيس على الخريطة، ولا يقاس بمسطرة البيروقراطيين. كل محاولة لترويضه ستجعل منه وحشًا أجمل، وكل سجنٍ لصوته سيحوله إلى ترنيمة تهمس في الأذن سرّا. فابقوا في أبراج المراقب، ونحن سنبقى نحفر أنفاقًا تحت أسواركم... فالحياة أقوى من كل التعليمات، والفن أقسى من كل السجون!.
***
د. عبد السلام فاروق

من عجائبنا المتكررة تقديس الأشخاص الأموات وإتباعهم، وإعتبارهم لا ينطقون عن الهوى، وكأنهم ليسوا بشرا، مما يتسبب بتفاعلات خسرانية فادحة. ويحصل السلوك في المجتمعات المأسورة بالكراسي وبالأشخاص، فدولها لا تعرف الدستور ولا القانون، ويكون تداول السلطة فيها دمويا مروعا.
يتحدثون عن الأشخاص وما يتصل بهم من حالات، ويمعنون بتجاهل الوطن وقهر المواطنين، فالمهم الشخص المَعني، فأما أن تكون تابعا له أو أنت عدوه، وعليك يقع القصاص القاضي بمحقك.
هذه العجيبة السلوكية لعبت دورها في مسيرة الأمة، وتأكدت في أنظمة حكمها منذ أمدٍ بعيد، وهي لا تختلف عن أي نظام حكم منذ فجر التأريخ.
الحكام مشخصنون، وفترات حكم واحدهم مرهونة به، فما يقوله ويقرره الحق وسواه باطل، فهو الذي يحكم ويحاسب، ولا يوجد مَن يسائله.
ويبدو أن البشر ميال لإخراج ذوي القوة والسلطان من كينونتهم الآدمية، وتحويلهم إلى رموز معبرة عما بعتمل في أعماقه، ليتبعهم ويتحرر من المسؤولية، فهذه الظاهرة ليست جديدة، وإنما مترسخة عبر العصور، ولا تزال فاعلة في المجتمعات التواقة للشخص المنقذ لها من الوجيع الرابض على صدور أجيالها.
وبتوافر وسائل التواصل الحديثة وتسارع التفاعلات بين الناس، أصبحت آليات التعظيم والتفخيم والتقديس متنوعة، وذات تأثيرات كبيرة على مسيرة الحياة في المجتمعات المتأخرة عن غيرها.
وتجد بعضها وكأنها كينونات مرهونة بشخص أضفت عليه ما ليس فيه، وربما حسبته أحد أسلافه الذين برزوا في مسارٍ ما، فالحالة ذات توريث وتفعيل يظهر على الأحفاد بتأثير الأجداد وما قبلهم.
وهذه مأساة تفاعلية بين الأجيال، لأنها ستكون مرهونة بمدارات ضيقة وبإنفعالية عالية، تساهم في تعطيل العقول وتـأجيج نوازع النفوس، وتحويل الناس إلى تابعين قابعين في ميادين المرهونية بهذا الشخص أو ذاك، فيتحولون إلى أرقام .
دولة الشخص وشخص الدولة
شعبها عانى وجيع الفرقة
وتوارى بقنوطٍ مرعب
فأصيبت أمةٌ بالعلة
وبها التأريخ ينعى كلها
إذ تناءت عن سديد اللحمة
***
د. صادق السامرائي

 

في زمنٍ تتدافع فيه الشاشات بالضوضاء، ويغرق الإعلام في سيل التفاهة، يطل أحمد المسلماني كمن يبحث عن بصمة نور في جدارِ الظلام . هل يعيد ماسبيرو إلى الحياة؟ أم يعيد الحياة إلى ماسبيرو؟ السؤال يجر أسئلة أكبر: هل يمكن للحنينِ أن يبني مستقبلًا؟ أم هو مجرد قبلة وداع للماضي؟
ماسبيرو فكرة... فكرة عن إعلام يرفع لا ينخفض، يبني لا يهدم، يحترم عقل المشاهد قبل عينيه. حين تسقط الفكرة، لا تنفع إعادة البناء. فهل يعي الكاتب أحمد المسلماني (رئيس الهيئة الوطنية للإعلام) أن المعركة ليست في ترميم المبنى، بل في إحياء الروحِ؟ روح صنعت دراما امتزجت بالوجدانِ العربي، فصارت جزءًا من ذاكرتنا كأغنية أم أو رائحة طفولة.
الدراما التي تتحدث عنها المنصة الجديدة ليست حكايات نرويها، بل مرايا نرى فيها أنفسنا. حين تصبح المرايا مشوهة، تتحول الذكريات إلى أوهام والمسلماني يحمل مطرقة المثقف الذي يؤمن بأن الإصلاح يبدأُ بكسرِ المرايا القديمة، ليصنع من أجزائها فسيفساء العصرِ. لكن.. أي عصرٍ هذا الذي نعيش؟ عصر تذوب فيه الهويات كالثلجِ تحت شمسِ العولمة. هل تكفي منصة إلكترونية لصناعة حصنٍ ثقافي؟
الإعلام الجاد كالنحلة، يصنع العسل من رحيقِ الواقعِ المرِ. قرارات المسلماني بمنعِ المنجمين وإحياء القرآنِ في الأثيرِ وإنقاذ براءة الأطفالِ من شاشات الانزياحِ، هي محاولة لاستعادة البوصلة. لكن السفينة الثقافية لا تكفيها بوصلة واحدة، بل تحتاج أشرعة تلتقط رياح التغيير دون أن تنكسر.
التحدي الأكبر ليس في استعادة الزمنِ الجميل، بل في صناعة زمنٍ أجمل. الزمن لا يعود إلى الوراء، لكن الحكمة يمكن أن تسافر عبر الأجيال. ماسبيرو الجديدة ستنجح إذا فهمت أن الماضي لم يكن مثالياً، بل كان يناضل هو الآخر ضد رياحِ زمانه. الفرق أنهم كانوا يصنعون الفن كأنه صلاة، لا سلعة.
الثقافة والإعلام توأمانِ سياميانِ. حين يمرض أحدهما، يسمع أنين الآخرِ. هما وجهانِ لمعركة واحدة: معركة الهوية ضد العولمة، والعمق ضد السطحية، والروح ضد المادة.
الغرب يبيع أحلامه عبر شاشاته كمن يبيع الماء في البحرِ. ونحن نحاول أن نبيع تاريخنا كسوقِ النخاسة! الفرق أنهم يصنعون حاضراً يغري بالمستقبل، ونحن نحن إلى ماض لن يعود. هذا هو الدرس الذي يجب أن تتعلمه مبادرات الإحياء: لا تبيعوا الماضي، بل اصنعوا من عصارته دواء للحاضر.
الدكتور خليل صابات كان يسأل: لماذا نستورد فلسفات جاهزة بينما في تراثنا كنوز لم تفتح؟ السؤال نفسه يصلح للإعلام. لماذا نقلد برامج الغرب بينما في قصصنا ما يشفي العيون؟
الخطورة ليست في الفشل، بل في النجاحِ الوهمي. قد تنجح منصة أو برنامج، لكن المرض يظل في الجسد . الإعلام العربي يحتاج إلى ثورة تشبه غضبة المتصوفين: تدمير من أجل البناء، صمت من أجل كلام أعمق، موت من أجل حياة أرقى.
السلطة وأصوات الشوارع
الإعلام الحقيقي ليس صدى للسلطة، بل صوت الذين لا صوت لهم. حين تتحول المنصات إلى مجرد مكبرات للخطاب الرسمي، تفقد شرعيتها كجسرٍ بين الحكام والمحكومين. ماسبيرو القديمة، رغم كل ما يقال عنها، كانت أحيانًا تسرق اللحظة لتعكس همس الناس قبل صراخ السياسيين.
الصديق أحمد المسلماني يواجه معضلة وجودية: كيف يوازن بين ولائه للدولة وولائه للحقيقة؟ الإعلام الحكومي غالبًا ما يكون أسير هذه المعادلة المستحيلة. النجاح هنا لا يقاس بالجماهير، بل بالجرأة في رواية القصص التي تزعج النظام، وتريح قلوب البسطاء.
لو كانت منصة ماسبيرو مجرد ذراعٍ إعلامي للدولة، فستكون كطائر في قفص مذهب. أما إذا تحررت من عقدة التبعية، وأصبحت منبرًا للحوارِ الحقيقي، فستكون كالنهر الذي يروي الأرض دون أن يسأل عن هوية العطشان.
الفن كالماء.. يبحث عن طريقه
قد تغلق السلطة الأبواب، لكن الفن الحقيقي ينساب كالماء من بين الشقوقِ. محاولات إحياء ماسبيرو يجبُ أن تفهم أن العصر تغير. الجمهور لم يعد مشاهدًا سلبيا، بل أصبح شريكًا في صناعة المحتوى. السيطرة على الإعلام لم تعد حكرًا على القنوات التقليدية؛ فمواقع التواصل فتحت نوافذ لا تحصى.
الدراما التي تريد منصة ماسبيرو إنتاجها يجب أن تصارع من أجل البقاء في عالم يتدفق بالمحتوى المجاني. المنافسة ليست مع الماضي، بل مع ذكاء الخوارزميات التي تدفع الجمهور نحو "التيك توك" و "الريلز". كيف تقنع جيل السرعة ببطء الدراما الكلاسيكية؟
الجواب قد يكمن في "الدمجِ" لا "المواجهة". فنون الماضي يجب أن تلبس ثياب الحاضرِ. مسلسل تاريخي ينتج بتقنيات الواقعِ الافتراضي، أو دراما اجتماعية تتفاعل مع الجمهور عبر اختيارات متعددة النهايات. الإبداع هنا هو مفتاح البقاء.
العلاقة بين الإعلامِ والسياسة كالعلاقة بين النارِ والهواء. كلما اشتدت الأزمات السياسية، احتاج الإعلام إلى أن يكون كالطبيب الذي يشخص الداء دون أن يخضع لضغوط المريض. ماسبيرو في عصرها الذهبي كانت تعيش تناقضًا مشابهًا: تقدم الفن الجميل بينما الجماهير تعاني تحت وطأة الأزمات .
اليوم، يعيد التاريخ نفسه بأدوات مختلفة. المسلماني يحاول أن يقدم إعلامًا نقيا في زمنِ السمومِ. لكن ماذا لو كانت النقاوة نفسها نوعًا من التلوث؟ حين يمنع الظلام من الظهورِ، يفقد النور قيمته. الفن الجريء ليس ذلك الذي يخشى الرقابة، بل الذي يحتضن التناقضات ويظهرها بكل بشاعتها وجمالها.
الخطر كل الخطرِ أن تتحول المنصة إلى وجهة للهروب من الواقعِ بدل أن تكون مرآة له. الشعب الذي يعيش أزمات اقتصادية واجتماعية لا يحتاج إلى دراما ترفيهية تنسيه همومه، بل إلى فن يجعله يواجه نفسه قبل أن يواجه نظامه.
النهاية ليست نهاية..
كل نقاشٍ عن إعادة إحياء ماسبيرو هو في الحقيقة نقاش عن إعادة إحياء أنفسنا. الروح التي نبحث عنها في الإعلام هي ذاتها التي فقدناها في حياتنا: روح العمق، والصبر، والجمال.
المسلماني ومبادراته، كلها محاولات لإنقاذ ما تبقى من أرواحنا في زمنِ الموت الرمزي. النجاح والفشل هنا نسبيانِ؛ فالبذرة التي تزرع اليوم قد تحتاج إلى قرونٍ لتنمو. المهم أن نستمر في الزرع حتي لو جنينا في العمر ظل ورقة واحدة .
السؤال الأهم : هل نستحق نحن – كجمهور- إعلاماً جاداً ؟ أم أننا أصبحنا جزءا من آلة التدمير ؟ الجواب عن كل فرد فينا ، حين يقرر أن يطفئ هاتفه المحمول قليلا، ويقرأ كتاباً ، أو يشاهد عملاً فنيا يثقل الروح بدل أن يخدرها !
الإعلام كالمرآة ..فماذا تظهر مرآتنا عنا ؟
***
د. عبد السلام فاروق

يترجل السيد علي الطالقاني من "جكسارته" الحديثة، يحيط به فوج من الحماية الذين يمنعون " الفضوليين " من الشعب الاقتراب من " فخامته " . يقف على كورنيش شط العرب ليعلن غزوته ضد القوى المدنية، باكيا على هوية البصرة التي يريد المدنيون سلخها عبر اجندات تمولها السفارات .. معلناً ان البصرة ستبقى شيعية، طبعا أنا كمواطن يمكن أن أصدق السيد علي الطالقاني واصفق لحماسته الخطابية التي ظهر فيها، وخوفه من المنظمات المدنية والسفارات، لو ان السيد الطالقاني لم يكن جزءاً من المنظمات المدنية التي يهاجمها الآن، وسأصفق له لو لم يكن قبل سنوات يتجول بين السفارات والبلدان الغربية يوزع الورود، ويعلن انتماءه لافكار فولتير وجان جاك روسو واضاف لهما المرحوم عالم الاجتماع " إميل دوركايم "، زوكيف ذرف الدمع وهو يزور قبر احد الكهنة البوذيين، ولو تركوه لالتقط صورة امام قبر كارل ماركس معلنا انتماءه للحركة الشيوعية، لكن الله كان لطيفا بعباده ولو لم يلتقط السيد علي الطالقاني سوى صورة مع تمثال جان جاك روسو، وصورا اخرى يوزع فيها الورد على النساء في هولندا في الوقت الذي قرر ان يوزع على اهالي البصرة خطابات تثير الانقسام والنعرات الطائفية .
الخطبة الاخيرة للسيد علي الطالقاني تأتي متزامنة مع دعوات تقسيم العراق الى دويلات طائفية، وفي الوقت الذي يحتاج فيه العراق إلى مشروع وطني يساعده على التنمية والاستقرار .
كنت اتمنى على السيد علي الطالقاني وهو يتجول في سيارته الحديثة ومعه فوج حمايته الخاص ان يتذكر درس الامام علي بن ابي طالب " ع " بالزهد، وماذا فعل وهو خليفة المسلمين عندما طلب منه سادة قريش أن يميزهم بالعطاء، قال لهم "لو كان المال مالي لسوّيت بينكم فكيف والمال مال الله"، ومن هذا الاعتبار قال لأهل الكوفة: "يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي فحاسبوني". فهو يرى أن أموال المسلمين مسؤولية مقدسة لا يمكن التفريط بها، وأن القدسية هي في الحفاظ على حياة الناس لا في الشعارات الطائفية .
مشكلتنا اليوم أن الجميع يلقي الخطب الدينية، فيما الناس تريد من يوفر لها الأمن والاستقرار، ويشعرها بالأمل في الغد ويطمئنها على مستقبل أبنائها، الناس لا تريد رجل دين " يفرق " ويبث سموم الاحتقان الطائفي، ويؤلب فئة على المختلفين معه، الناس لا تريد من يركب الجكسارة الحديثة ويسكن في القصور، ويطالبهم بان يتركوا ملذات الدنيا لانهم منذورين للاخرة .. بينما هو منذور للسياحة في حدائق لوكسمبورغ.
***
علي حسين

 

التطرف هو الارتهان للتراث الديني، والتعصب له، واستعادته في كل وقت وحين، والاستغراق فيه، وإخضاع الحياة المعاصرة لتعاليمه وأحكامه ونصوصه وشخوصه قسرًا وقهرًا وإكراهًا. كما يتجلى في الشعور غير العقلاني بأن الانتساب لهذا التراث والتماهي معه يمنح الفرد أو الجماعة أفضلية دينية وأخلاقية مطلقة على الآخرين، مما يؤدي إلى تجذير العنف النفسي الخفي (الكراهية الباسمة والازدراء الناعم) تجاه المختلفين والمخالفين، وتأصيل وتبرير وشرعنة العنف اللفظي والمادي ضدهم، تلميحًا وتضمينًا تارة، وتصريحًا وتدوينًا تارة أخرى، وفعلاً وممارسةً تارة ثالثة، ونهجًا وسياساتٍ تارة رابعة، وصولًا إلى تكريسه في البنى الثقافية والهياكل الاجتماعية والمؤسسات السياسية.
بناءً على ذلك، يمكن النظر إلى تصريح أحد أعضاء هيئة كبار العلماء التابعة لمشيخة الأزهر في مصر بتحريم مشاهدة مسلسل "معاوية"، الذي يُعرض خلال شهر رمضان، بسبب تجسيد الصحابة دراميًا، بوصفه نموذجًا للتطرف الممنهج، يمكن تلخيصه بالمعادلة التالية:
"مؤسسة دينية تُصدر فتوى متشددة، بدافع من رؤية متزمتة، تجاه عمل درامي يحمل بعدًا صراعيًا في سياق مشحون".
ويمكن تفكيك هذه المعادلة على النحو التالي:
1- مشيخة الأزهر تعزز الرؤية التقليدية المغلقة لأنها ترعى عمليات إعادة إنتاج واستدعاء التراث الديني وتسويقه ضمن خطاب يهدف إلى تكريس هوية دينية انعزالية، تفرض سلطتها وسطوتها على العقول والضمائر. كما يُسهم هذا الخطاب - عبر التصريح والتلميح، والسياسات المؤسسية، والسلوك الدعوي والتربوي الممنهج، والفتاوى التطبيقية - في التشكيك بإيمان كل من لا يلتزم بتعاليمه، ويؤسس لشعور بالتفوق الديني ويجذّر الكراهية ضد الهويات الأخرى.
2- فتوى تحريم مشاهدة مسلسل "معاوية" تندرج ضمن الوصاية الدينية لأنها تفرض رؤية دينية تقليدية على الجمهور، وتحد من حرية الأفراد في الاختيار والتفاعل مع المحتوى الفني.
3- الدافع وراء الفتوى يعكس نزعة تقديسية غير نقدية للتاريخ حيث ينطلق من اعتقاد بحرمة تجسيد الصحابة دراميًا، مما يضفي عليهم قداسة ترفعهم إلى مقام فوق بشري، وهو تصور يعمّق الطابع الأسطوري للتاريخ الإسلامي بدل إخضاعه للبحث العقلاني.
4- المسلسل ذاته يعكس قراءة أحادية للتاريخ تعكس وجهة نظر طرف واحد في الصراع المذهبي. ومهما حاولت هذه القراءة أن تبدو محايدة وموضوعية، فإنها تبقى قراءة صراعية لن يرضى عنها "الطرف الآخر".
5- إنتاج المسلسل يأتي ضمن سياق سياسي - ثقافي أوسع حيث يُعيد تقديم الإسلام مقترنًا بالسيف والحروب والدماء والصراع غير الأخلاقي على السلطة الروحية والسياسية. قد يُقال إن هذا هو التاريخ، نعم، لكنه ليس مجرد استدعاء انتقائي، بل هو انعكاس لسردية العنف والدم السائدة في الوعي العربي الإسلامي، والتي لم تكن يومًا محل إدانة حقيقية، لا على مستوى الجمهور ولا على مستوى النخبة السياسية. إن هذه السردية ليست مجرد أداة خطابية يتم تفعيلها وفقًا للمصلحة، بل تمثل منظومة فكرية وثقافية مترسخة في الوجدان الجمعي، يُعاد إنتاجها باستمرار عبر المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، مما يجعلها جزءًا من البناء الهوياتي والسياسي في المنطقة.
***
همام طه

هل يُصْلِحُ العَطّارُ ما أفسده الدَّهْرُ؟

منذ بعث الرسالة المحمدية، تابع الإسلام سيره مخترقا الحدود الطبيعية والجغرافية حتى وصل شرقا إلى إيران والهند والصين وغربا إلى إسبانيا، وشمالا إلى جزر البحر الأبيض المتوسط وبلاد الأناضول وأرض روسيا، وجنوبا إلى قلب أفريقيا وسواحلها الشرقية والغربية، غير أن العالمين العربي والإسلامي لم يعيشا عيشة الجسد الواحد، ولم يعملان بدستور الإسلام، هذا ما تؤكده العديد من الكتابات، فلم يعرف التاريخ مجتمعا نشأ سليما، أبيا مثل المجتمع العربي، ذلك أن المجتمع العربي أقبل في حماسة لكل ما يجلب له الخير والنفع، لقد كان العرب منذ أن ظهروا على مسرح الأحداث العالمية أصحاب رسالة سامية يدعون فيها إلى المحبة والإخاء، غير أنهم لم يستثمروا في أفكار غيرهم، فسقطوا في وحل التطرف كانت لهم الفرصة ولا تزال، بدلا من أن يتصارعوا فيما بينهم أن يحولوا هذا الصراع نحو أعدائهم الذين يقتلون الأبرياء من أطفال فلسطين وغزة وفي البلدان الأخرى التي لا تزال تعيش تحت نير الإستعمار وتعاني من المجاعة والأمراض بسبب الفقر.
فالسيطرة الغربية اليوم تشكل تحديا مستمرا لكل الشعوب علميا وعسكريا وسياسيا وصناعيا وروحيا، وهو الأمر الأكثر خطرا من كل هذه التحديات، لأن القومية الغربية لا تزال محافظة على دينها رغم أنه دين باطل، وبعقيدتها المزعومة توسعت دائرتها، في الوقت الذي تتعرض القومية العربية إلي الذوبان، إن لم نقل لم يعد لها أثر في الساحة، بسبب التطبيع مع الكيان، لأن الغرب بقيادة أمريكا زرع الانقسامية، حيث قسّم العرب إلي مشرق عربي ومغرب عربي، وهي كما يقول مفكرون قسمة عنصرية لا علاج لها، فبقي الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا، وفي ظل هذه الانقسامية وكما يقول برهان غليون يزداد إيمان الشعوب الضعيفة بعجزها وفقر ثقافتها، ويترسخ لديها النزوع إلي الاقتداء وتقليد الغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله، وأدّي بها هذا التقليد إلي فقدان هويتها وانسلاخها عن قوميتها، والاستسلام لفكرة القبول بحتمية التخلف التاريخي والعنف والبربرية.
هذا ما قاله برهان غليون، ولم تخطئ رؤيته لأن ما شهدناه وما نشهده إلى الأن من حروب أهلية في البلدان العربية وتفرقها، لخير دلالي علي الإنهزامية التي يشهدها العالم العربي، الفارق شاسع طبعا بين القومية العربية التي تعيش اليوم الانحدار والانحطاط والانهيار والقوميات الأخرى، ذكرها بِندكت أندْرسن (أكاديمي ايرلندي) في كتابه: الجماعات المتخيلة " تأملات في أصل القومية وانتشارها " حيث أرجع الأسباب إلي الهجرات وما تنتجه من هويات، أصبح العربي يخجل من أن يقول: " أنا عربيّ"، وذكر هذا الكاتب أمثلة، كانت أسئلة طرحها علي تلامذته، وهم شباب مغتربون في أمريكا هاجروا من أجل التحصيل العلمي، فكان رد أحدهم وهو من سنغافورا وبغضب شديد: " أنا سنغافوري وأعتز بهويتي وقوميتي، اللعنة، لقد تعبتُ من الأمريكيين الذين يحسبونني صينيا، لست صينيا"، طبعا هو الإعتزاز بالهوية في قمّة أشكالها، لأن الصيني في أمريكا يحسب نفسه أمريكيا، فأمريكا ودويلاتها شكلت ما سمّاه هذا الباحث بـ: "القوميات الكريولية" وهي الأن رغم توسعها تريد التوسع أكثر.
هي في نظره "ظاهرة عالمية" ولها أثر جانبي غير متوقع، فكثير من الأمم اليوم تتقاسم اللغة الإسبانية والفرنسية والإنجليزية، والصينية وحتي اللغة العبرية، وهذه القوميات تتجه الأن نحو "القومية الرسمية" (القومية العالمية)، لأن أمريكا تريج عولمة القوميات وجمعيها في قومية واحدة بهده القضاء علي القومية العربية الإسلامية، وهذه واحدة من المخططات التي تعمل للقضاء على الإسلام كدين سماوي، حيث ظلت القومية العربية تتصارع فيما بينها (هذا شيعي وذاك سُنّي، وهؤلاء عرب مسيحيون...الخ)، واختلفوا في نوع ثقافتهم إن كانت ثقافة عربية أم ثقافة إسلامية، وراحوا يستلهمون قيمهم من ثقافات أخرى، تبنوا خطابا معاديا، غير معتدلٍ فتناحروا وكفّر بعضهم بعضا، رغم أنهم شعب واحد جمعتهم اللغة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، لكنهم فقدوا هذه العناصر فعجزوا عن النهوض بنهضتهم التي ضيعوها في فترة ازدهارهم، لدرجة أننا نجد العربي (المسؤول) اليوم يخجلُ من أن يتكلم بلسان قومه أي لغته الأمّ (اللغة العربية الفصحي) ويخاطب بها الأخر في اللقاءات الدولية الرسمية وأمام الرأي العام الدولي، وكاميرا الصحف العالمية، فهل يصلح العطّار ما أفسده الدهرُ؟
***
علجية عيش

في لحظة من لحظات الوعي الجمعي، حين يحتدم التنافس الشريف بين الأقدام السريعة والعقول المدربة، ينبري رجال الدين ليعلنوا اعتراضهم، مطالبين بتأجيل مباراة مصيرية بين العراق والكويت. يرفعون صوتهم، كما اعتادوا، ليُذكّروا الجماهير أن الحياة لا ينبغي أن تُعاش وفق نسقها الطبيعي، بل وفق ما تمليه العمامة، وأن الرياضة، مثلها مثل السياسة والمجتمع والثقافة، يجب أن تخضع لوصايتهم.
غير أن المشهد هذه المرة لم يكن كما كان من قبل. ففي المدرجات كان هناك وعيٌ جديد، وفي الميدان إرادةٌ تتحدى، وفي الهواء صرخةُ تحررٍ لم تعد تخشى فتاوى العصور الغابرة. حين ارتفعت الكرة في السماء، وانقض عليها رأس لاعبٍ عراقيٍّ جسور، لم تكن تلك مجرد ضربةٍ في الشباك، بل كانت ضربةً في صميم الكهنوت القروسطي، الذي لم يدرك أن الزمن قد تغير، وأن الشعوب لم تعد تقبل أن تُقاد بعصا الماضي الثقيلة.
لطالما اعتبر الكهنوت نفسه المالك الشرعي للحقيقة، والمتحدث الرسمي باسم الله، والوصيّ على العقول والضمائر. في القرون الوسطى، حين كانت أوروبا تئنّ تحت نير الباباوات، لم يكن للإنسان أن يحلم إلا بمقدار ما تسمح له الكنيسة، ولم يكن له أن يسأل إلا بحدود ما تجيزه كتب اللاهوت. كان الفكر محاصراً، والعلم مكبلاً، والرياضة – إن وُجدت – محرّمةً أو مدنّسة، لأنها تُلهي عن الطاعة العمياء للسلطة الدينية. لكن النهضة جاءت، والعقل تحرر، والإنسان اكتشف أنه لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين الحياة. انطفأت شموع المحاكم التفتيشية، وسقطت سلطة الفاتيكان على العروش، وبدأت أوروبا مسيرتها نحو الحداثة.
وفي العراق، حيث التاريخ يكرر نفسه في أزياء جديدة، يقف الكهنوت اليوم في ذات الموضع الذي وقف فيه كهنوت الكنيسة قبل قرون، متوهماً أنه قادر على إيقاف عجلة الزمن، وأنه ما زال يمتلك القوة ليقرر متى تُلعب المباريات، وكيف يفرح الناس، ومتى يتنفسون. لكنه لم يدرك بعد أن سطوته تتآكل، وأن جيل اليوم ليس هو جيل الأمس، وأن الجماهير التي ملأت ملعب البصرة لم تكن تهتف للاعبين فقط، بل كانت تهتف للحياة في وجه الموت، وللحرية في وجه القيد.
لعل أشد ما يُربك الكهنوت هو اللحظة التي يدرك فيها أنه فقد سلطته، أن الجماهير التي كانت تصغي له بانقياد باتت اليوم تضحك من فتاواه، وأن الملوك الذين كانوا يخشون سطوته باتوا اليوم يعقدون حساباتهم وصفقاتهم السياسية بعيداً عنه.
ما حدث في العراق، وما يحدث في غيره من البلدان، ليس سوى تمهيدٍ لسقوط أكبر. فحين يتجرأ الكهنوت على التدخل في أبسط تفاصيل الحياة، وحين يُصرّ على أن يكون حَكماً في مباراة لا شأن له بها، فإنه يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع وعي الجماهير، وحين تسقط هيبته في نظر "القطيع"، يصبح بقاؤه مسألة وقت ليس إلا.
لأول مرة، لم يكن على اللاعب أن ينتصر على خصمه فقط، بل كان عليه أن ينتصر على خطباء المنابر أيضاً، على ثقافة التحريم والتضييق، على سطوة الخرافة. لقد كانت المباراة، في جوهرها، أبعد من مجرد تسعين دقيقة من اللعب؛ لقد كانت معركة رمزية بين الماضي والمستقبل، بين الكهنوت والحرية، بين الوصاية والتحرر.
لا تنهض الأمم إلا حين يُعاد للدين مكانه الطبيعي في القلوب، لا في القوانين، في الضمائر، لا في الملاعب. إن الفصل بين الدين والدولة، وبين الإيمان والإدارة، هو أولى خطوات النهوض. لا يمكن لمجتمعٍ أن يتقدم، وهو لا يزال يتلقى أوامره من منابر التحريم، ولا يمكن لشعبٍ أن يبني مستقبله، وهو لا يزال يُقاد بعقلية الفتاوى التي تخشى حتى الأفراح البسيطة.
لقد أظهرت الجماهير العراقية في هذه المباراة أنها لم تعد بحاجة إلى وصاية، وأنها تستطيع أن تفرح وتحتفل دون أن تسأل رجل الدين إن كان ذلك مباحاً أم لا. لقد كانت تلك المباراة درساً لكل من يظن أنه لا يزال يمتلك مفاتيح العقول، أو أنه قادرٌ على إيقاف الزمن بعمامةٍ وخطبةٍ وموقفٍ متشنج.
لقد سقط الكهنوت القروسطي بضربة رأس.. وهذه ليست سوى البداية!
***
د. علي الطائي

 

لا تكاد تخطو خطوة في أرض الكنانة حتى تكتشف أن القرآن هنا ليس كتاباً يُتلى، بل هواءٌ يُستنشق. في حاراتها الضيقة، حيث تتعانق روائح الياسمين مع أصوات المؤذنين، تجد التلاوة حاضرة كرفيق دربٍ يومي. حتى الباعة في الأسواق يترنمون بآيات السجدة وهم ينسقون الفاكهة، وكأنهم يؤمنون بأن جمال الرزق يكمل بجمال الصوت. هنا لا تحتاج إلى مسجدٍ كبير لتسمع القرآن، فالمدينة كلها محرابٌ مفتوح، والشارع نفسه ينشد: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة".
انظر إلى جيل الشباب الذي ورث هذه الموهبة كسرٍّ سماوي. الشاب الذي يقرأ في مأتَمٍ ريفي بصوتٍ يزلزل الجدران، ثم تراه في اليوم التالي يجلس مع أقرانه في مقهى شعبي، يضحك ويحكي، وكأن ذلك الصوت العجيب جاء من عالم آخر ليمس روحه لحظة ثم يغيب. هكذا هم قراء مصر: يحملون النور بين ضلوعهم، لكنهم يخفونه تحت رداء البساطة، فلا يتعالون بالقرآن، بل ينزلون به إلى الأرض ليكون قريباً كحرارة الشمس.
الأمر أشبه بسر متوارث في دمائهم. الطفل الذي يسمع أباه يقرأ أثناء إعداد الإفطار، يتعلم دون أن يعي أن الترتيل ليس مجرد قواعد، بل إيقاع الحياة نفسها. حتى النساء هنا يُجِدنَ إدارة حنجرتهن بين التلاوة والهمس، ففي أحياء القاهرة القديمة، قد تسمع جارةً تهدي جارتها آية "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً" عبر النافذة، فتتحول الكلمات إلى تحيةٍ يومية أرق من الندى.
وإذا كانت المدن الأخرى تفخر بأساطين القراء، فإن مصر تفخر بذلك المريد المجهول الذي يقرأ في ضريح السيدة زينب، صوته يمتزج مع دوي الطبول في الموالد، فيصنع مزيجاً من القداسة والشعبية لا يعرفه إلا من عاش تفاصيلها. هنا، حتى الحزن يتحول إلى تلاوة، ففي تشييع الجنازات لا تسمع نواحاً، بل تسمع "كل من عليها فان"، تُقرأ بتؤدةٍ كأن الموتى أنفسهم يطلبون تلك الهدهدة الروحية.
قد تسأل: كيف يحافظون على هذه الروح عبر الزمن؟ الإجابة تكمن في أن مصر لا تتوقف عن العطاء. فكلما ظننت أن زمن العمالقة قد ولى، يطل عليك قارئٌ شاب من محافظة بعيدة، يقلب موازين الأصوات المعتادة، كأن الأرض هناك لا تلد إلا العظماء. إنهم لا يكتفون بتقليد من سبقوهم، بل يزرعون اللحن القديم في تربة جديدة، فينبت صوتاً مختلفاً، لكنه يحمل نفس الجذور التي امتدت من زمن الرعيل الأول.
في الليالي الرمضانية، حيث تتزين الشوارع بالمصابيح والأناشيد، يصبح التنافس بين القراء عيداً للروح. كأن المصريين يقولون للعالم: "هذا قرآننا نهديه لكم، مشفوعاً بقهوتنا وضحكتنا وحكايات أجدادنا". حتى الغريب الذي لا يفهم العربية، سيقف مبهوتاً أمام ذلك التواشيح بين الصوت والصمت، كأن التلاوة هنا لغة عالمية، لا تحتاج إلى ترجمان.
لو أغمضت عينيك وأنت تستمع إلى الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ستكاد ترى "الملكين" ينزلان يتفقدان ذلك الصوت الذي يشبه النور، أو تظن أن جبال سيناء تردد خلفه صدى "والتين والزيتون". أما الشيخ مصطفى إسماعيل، فكأنه ينسج من الحروف سجادةً من حرير، كل حرف فيها مطرَّز بإحساسٍ يذوب في الأذن كالعسل. وما إن تسمع الشيخ محمد رفعت حتى تعرف أن القرآن لم ينزل على القلب فقط، بل على الجوارح كلها، فصوته يأخذك إلى زمنٍ آخر، حيث البساطة عمق، والخشوع اتصالٌ مباشر بالسماء.
لم يأت هذا التميز من فراغ، فمصر التي احتضنت الأزهر الشريف عبر قرون، صارت منارةً لعلوم القرآن تتوارثها الأجيال كإرث مقدس. هنا يتعلم القارئ أن التلاوة ليست إتقاناً للنغمات فحسب، بل هي إحياءٌ للمعنى. حين يقرأ الشيخ الطبلاوي قوله تعالى: "وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور" ، تشعر أن الآية تُنزل أمامك كحدثٍ تراه بعين القلب، وكأن الصوت يخرج من صدر النبي نفسه.
والعجيب أن هذا السحر لا يقتصر على الأعلام الكبار، بل يمتد إلى ذلك الشيخ المجهول في قرية نائية، الذي يخطف ألباب المصلين في صلاة الفجر بتلاوةٍ كأنها ندى الصباح. حتى الأطفال هنا يتعلمون القرآن قبل إتقان المشي، فترى الصغير يقلد انفعالات الشيخ المنشاوي ببراءة، وكأنه يلعب بلغة السماء.
ربما السر يكمن في أن المصريين يعيشون القرآن كـ "حكاية" تروى، لا كنصٍّ يُتلى. حين يقرأون "ألم نشرح لك صدرك"، تسمع في صوتهم حنو الأم التي تمسح على جبين طفلها، وحين يتلون "فاصبر لحكم ربك"، تشعر بصلابة الجبال في نبراتهم. هم لا يَجودون القرآن، بل يَخلقونه من جديد كل مرة، وكأنهم يترجمون لغة السماء بلهجة الأرض.
ستظل مصر تنثر سحراً خاصاً يلامس الأعماق، كأن النيل نفسه يترنم بآيات القرآن، أو كأن أرواح الأجداد الفراعنة أورثتهم سر الجمال في النطق. هنا، حيث يتشابك التاريخ مع الروحانيات، يتربع قراء مصر على عرش التلاوة بجدارة، ليس لأنهم الأكثر عدداً، بل لأنهم الأقدر على تحويل الكلمات إلى نبض حي، يجعل السامع يعيش في فضاء الآية قبل أن يسمعها.
فيا ليت القلب يسع كل تلك الأصوات، ويا ليت الزمن يتسع لأسرارهم. لكن يكفي أن نعرف أن مصر، كلما أرادت أن تذكر العالم بجذرها الروحي، أرسلت له صوت قارئٍ جديد، ليذكره بأن القرآن لم ينزل على الأوراق فقط، بل نزل ليكون دماءً في العروق، ونغماً لا ينقطع.
كم تمنيت لو أن العمر يمتد بي لأجلس في زاوية من زوايا الأزهر، أتلقى الإجازة من أحد هؤلاء الحكماء الذين جعلوا من الحروف أجنحةً، ومن الآيات عوالم. لكني أدرك أن الإجازة الحقيقية ليست في الشهادة، بل في تلك الرحلة التي يصنعها الصوت المصري بين الأذن والقلب، رحلةٌ تبدأ بالسمع وتنتهي بالإحساس بأنك سمعت القرآن للمرة الأولى.
***
د. عبد السلام فاروق

منذ وقت مبكر قرأت كتاب (الأخلاق) لأرسطو، والظروف من حولي صعبة، لكنه كان ممتعا رغم تعقيدات أفكاره، فأسهم في إنتصاري على الواقع الذي يحاوطني.
أتذكره وأتساءل عن وجود فلسفة عربية، فعندما أتصفح أي كتاب فلسفي أو أقرأ مقالة لها علاقة بالفلسفة، أجدها مكررة ولا تخرج من قبضة الأسماء المعروفة في الفلسفة اليونانية، ولا تجد ذكرا لفلاسفتنا منذ الكندي (185 - 256) هجرية، وما بعده.
وكأننا لم ننجب فلاسفة ولا نمتلك مفاهيم فلسفية، فالحقيقة المغفولة أن معظم شعراء المعلقات فلاسفة، وخطباؤنا وحكماؤنا قبل الإسلام فلاسفة ومفكرون أجلاء.
وقبل عصر المأمون كانت في الأمة حركات فلسفية متنوعة، وأكثر الحركات والمدارس التي إنطلقت مبنية على قواعد فلسفية، بل يمكن القول حتى حركة الخوارج كانت ذات طابع فلسفي وفكري، فهي لم تندلع بإنفعالية بل على أسس فكرية ونظرة تأويلية فلسفية الأبعاد، والمعتزلة قبل ترجمات المأمون كانت منطلقاتهم فلسفية.
فلاسفتنا والمعاصرون منهم، نتجاهلهم ونتفاخر بأرسطو وأمثاله، وننكر ما عندنا من فلاسفة ومفكرين، فأين تكمن العلة؟
هل هي المشاعر الدونية المرسخة المعززة بتكرارية مقصودة؟
هل أنها التبعية المفروضة علينا؟
هل نكراننا لذاتنا وموضوعنا وهويتنا وتأريخنا يدفعنا لذلك؟
ماذا يجري في واقعنا؟
العرب عندهم فلسفة، لكنهم يطمرونها ويتبارون في النيل منها، ويبجلون ما عند الأجنبي من رؤى وتصورات وكأنهم بلا رؤوس.
منذ إقرأ وما قبلها، والأفكار الفلسفية تتوافد على مجتمعاتنا، ووضعت بخطب بليغة، وقصائد خالدة.
أ لم يكن شعراؤنا فلاسفة؟
فالشعر فيه فلسفة، وهو ديواننا!!
و"قل لمن يدعي في العلم فلسفة...حفظت شيئا وغابت عنك أشياء"
***
د. صادق السامرائي

حافظت أسعد دولة في العالم على صدارتها لمدة ثماني سنوات متتالية، بينما الوضع في الولايات المتحدة ليس مثاليًا. فقد تصدرت – فنلندا - مجددًا تصنيفات تقرير السعادة العالمي، بينما سجلت الولايات المتحدة أدنى تصنيف لها حتى الآن في المركز الرابع والعشرين في تقرير عام 2025.
يتزامن هذا الإصدار الثالث عشر من التقرير مع اليوم العالمي للسعادة الذي أقرته الأمم المتحدة في 20 مارس. وأشار التقرير إلى أن تراجع مستويات السعادة والثقة الاجتماعية في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا ساهم بشكل كبير في زيادة الاستقطاب السياسي والتصويت ضد "النظام".
ولكن الأخبار الأكثر إشراقا، أظهرت الأبحاث العالمية أن الناس أكثر لطفاً مما نتوقع., وقال (جون هيليويل)، أحد المحررين المؤسسين لتقرير السعادة العالمي: "إن مواطني الناس أفضل مما يعتقدون، وإدراك ذلك سيجعلك أكثر سعادة بالطبع، ولكنه سيغير أيضًا الطريقة التي تفكر بها في جيرانك".
"وبالتالي، فإنك تميل أكثر إلى التفكير في الغريب في الشارع باعتباره مجرد صديق لم تقابله وليس شخصًا يشكل تهديدًا لك"، كما قال هيليويل، وهو أستاذ فخري للاقتصاد في جامعة كولومبيا البريطانية.
قال هيليويل إن هناك "مجالًا للتحسين"، إيمانًا منا بأننا جميعًا جزء من مجموعة أكبر تهتم ببعضنا البعض. وأضاف أن هذا مصدر مهم للسعادة لم نستغله كما ينبغي.
يستند التقرير إلى بيانات استطلاع –غالوب - العالمي لآراء الناس في أكثر من 140 دولة. وتُصنّف الدول بناءً على مستوى سعادتها بناءً على تقييمات متوسط العمر المتوقع خلال السنوات الثلاث السابقة، أي من عام 2022 إلى عام 2024. ويُعدّ التقرير ثمرة شراكة بين غالوب، ومركز أكسفورد لأبحاث الرفاهية، وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، وهيئة تحرير.
يطلب الاستبيان من كل مشارك تقييم حياته ككل، ويعتمد التصنيف على هذه التقييمات. ثم يتناول التقرير ستة متغيرات رئيسية لتفسير تقييمات الحياة : الناتج المحلي الإجمالي للفرد، والدعم الاجتماعي، ومتوسط العمر المتوقع الصحي، والحرية، والكرم، وإدراك الفساد.
* أسعد البلدان
فيما يتعلق بالسعادة، من الواضح أن دول الشمال الأوروبي تُحرز تقدمًا ملحوظًا في العديد من المجالات. وللسنة الثامنة على التوالي، تُعدّ فنلندا أسعد دولة في العالم، تليها الدول المجاورة لها مباشرةً.
لا تزال دول الشمال الأوروبي، مثل فنلندا، تستفيد من أنظمة رعاية صحية وتعليم ودعم اجتماعي عالية الجودة ومتاحة للجميع. كما أن مستوى التفاوت في مستوى المعيشة منخفض، وفقًا لإيلانا رون ليفي، المديرة الإدارية لمؤسسة غالوب.
وتظل فنلندا والدنمارك وأيسلندا والسويد - الدول الأربع الأولى - في نفس الترتيب كما كانت في عام 2024. كما احتلت النرويج مرة أخرى المركز السابع.
وفي حين أن أنظمة الدعم الاجتماعي التي تراقب رفاهية السكان مهمة بالنسبة لتصنيف فنلندا رقم 1، فإن الناس يلعبون دورًا أيضًا، وفقًا لهيليويل.
قال هيليويل، الباحث المخضرم في مجال المحافظ المفقودة، في إشارة إلى بيانات تُظهر أن دول الشمال الأوروبي تُصنّف من بين أفضل الدول من حيث الاسترداد المتوقع والفعلي للمحافظ المفقودة : "إن وجود دولة رفاهية لا يعني العثور على المحافظ المفقودة وإعادتها إلى أصحابها. هؤلاء أفراد يهتمون بمن يعيشون معهم".
من المرجح أن تُسهم عوامل أخرى في الأداء القوي لفنلندا. أشار هيليويل إلى أن بعض الخبراء الفنلنديين يُشيرون إلى الوحدة والثقة التي نتجت عن حرب الشتاء عامي 1939- 1940، المعروفة أيضًا بالحرب الروسية - الفنلندية.
"لم يفوزوا بتلك الحرب، ولكن ما فعلوه هو أنهم اجتمعوا وأدركوا أنه حتى في مواجهة قوة ساحقة، يمكنهم أن يفعلوا شيئًا رائعًا... في بعض الأحيان، يمكن للتحدي الذي يفرضه الخارج أن يجمعكم معًا."
وقال هيليويل إن العقلية الأقل مادية قد تكون أيضاً في صالح فنلندا.
"وفي هذه الأيام، أصبح التركيز على الأمور الشخصية بدلاً من الأمور المادية أمراً ذا أهمية متزايدة."
تدخل دولتان من أميركا اللاتينية - كوستاريكا في المرتبة السادسة والمكسيك في المرتبة العاشرة - إلى قائمة العشرة الأوائل لأول مرة في تقرير عام 2025.
وقال (رون ليفي) إن سكان البلدين لديهم "شبكات اجتماعية قوية وتصورات قوية حول اتجاه اقتصادهم وثقة في القادة والمؤسسات"... وتضم قائمة العشرة الأوائل هولندا (رقم 5)، وإسرائيل (رقم 8)، ولوكسمبورج (رقم 9).
* أدنى تصنيف للولايات المتحدة
بعد خروجها من قائمة العشرين دولة الأولى للمرة الأولى في العام الماضي 2024، احتلت الولايات المتحدة المرتبة 24 في أحدث تقرير عالمي عن السعادة.
قال رون ليفي: "يُعزى الانخفاض في الولايات المتحدة بحلول عام 2024، جزئيًا على الأقل، إلى شعور الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا بسوء حالتهم. يُفيد شباب اليوم بأنهم يشعرون بانخفاض دعم الأصدقاء والعائلة، وبأنهم أقل حرية في اتخاذ قراراتهم الحياتية، وبأنهم أقل تفاؤلًا بشأن مستويات معيشتهم".
أولى تقرير العام الماضي 2024 اهتماما خاصا بالسعادة بين مختلف الفئات العمرية، مسلطا الضوء على الانخفاضات بين الشباب في العديد من البلدان.
الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة الناطقة بالإنجليزية التي تواجه تحديات في مجال السعادة. ففي المرتبة 23، سجلت المملكة المتحدة أدنى تقييم لمتوسط العمر منذ عام 2017. أما كندا، التي شهدت انخفاضًا في السعادة خلال العقد الماضي، فقد ظلت ضمن أفضل 20 دولة في المرتبة 18.
ورغم أن المتغيرات التي تساعد في تفسير تقييمات الحياة معقدة، إلا أن هناك "بلسماً" واحداً في متناول الجميع، كما يقول هيليويل.
قال هيليويل: "انظروا بجدية إلى مَن تعملون معهم، وتعيشون معهم، وفي شوارعكم، وانظروا إلى مَن تتعاملون معهم بتفاؤل. هذا سيُغيّر سلوككم في المرور، وسيُغيّر سلوككم في النقاشات السياسية، وسيُغيّر كل شيء".
* أسعد 20 دولة في العالم في عام 2025
1. فنلندا
2. الدنمارك
3. أيسلندا
4. السويد
5. هولندا
6. كوستاريكا
7. النرويج
8. إسرائيل
9. لوكسمبورغ
10. المكسيك
11. أستراليا
12. نيوزيلندا
13. سويسرا
14. بلجيكا
15. أيرلندا
16. ليتوانيا
17. النمسا
18. كندا
19. سلوفينيا
20. جمهورية التشيك
* في أسفل القائمة
أفغانستان (رقم ١٤٧) مرة أخرى في ذيل القائمة. وتحتل سيراليون (رقم ١٤٦)، ولبنان (رقم ١٤٥)، وملاوي (رقم ١٤٤)، وزيمبابوي (رقم ١٤٣) بقية المراكز الخمسة الأخيرة .. والسؤال الذي يطرحة البعض هو: متى تصل بلدانا الى السعادة وتصنف مع بلدان أوربية في أعلى القوائم المنشورة ؟.
***
شاكر عبد موسى/ باحث وكاتب/ العراق

ترتبط هذه الرياضة بفئة السياح من هواة الصيد الذين يمارسون هوايتهم المحببة هذه داخل أو خارج حدود بلادهم. وتنتشر في الدول التي تزخر بأنواع وأعداد هائلة من الحيوانات والأسماك والطيور المنتشرة في الغابات والأدغال العميقة والبراري البعيدة والسافانا والجبال والسواحل والبحيرات والأنهر والجزر وغيرعا. وقد شرعت معظم هذه البلدان القوانين واللوائح، وأصدرت الضوابط والتعليمات التي تنظم الصيد السياحي البري والنهري والبحري داخل حدودها، للحيلولة دون استنزاف واهلاك هذه الموارد الطبيعية المهمة لضمان استمرارها وديمومتها على نحو طبيعي ووفقا لقواعد الأستدامة المعروفة، لما تمثله من مغريات سياحية (مجذبات سياحية) طبيعية مهمة وفعالة في (منظومة الجذب السياحي)، وللدفع باتجاه تنمية وتطوير (منتجات سياحية مبتكرة)، تحتل مكانة هامة في (صناعة السياحة والسفر) الوطنية. وقد روعي في هذه التشريعات والضوابط عدة جوانب تخص البيئة الطبيعية والأستدامة، مثل نوعية وأعداد هذه الحيوانات، ومدى ندرتها، والتهديدات والتحديات التي تواجهها، ومناطق انتشارها، وفيما إذا كانت مقيمة أو مهاجرة، ومواسم وظروف تكاثرها، واستخداماتها بعد عمليات الصيد، والأسلحة والأدوات المستخدمة في صيدها، وفيما إذا كانت محلية أو مجلوبة من خارج الحدود من قبل السواح الأجانب، والمناطق والفترات الزمنية التي يسمح بصيدها فيها وغيرها من التفاصيل. مثل القانون رقم (2) لسنة 2006 بشأن تنظيم واستغلال الأحياء المائية وحمايتها في اليمن، والقرار رقم (6) لسنة 1997 بشأن ممارسة الصيد في ليبيا، وقانون حماية الحيوانات البرية رقم (17) لسنة 2010 في العراق، والقانون رقم (9) لسنة 1983 في شأن تنظيم صيد الطيور والحيولنات في الأمارات العربية المتحدة. وهناك شركات سياحية عالمية ووطنية تنظم سياحة الصيد والأنشطة الرياضية المرتبطة بها على ضوء الأرشادات والضوابط السائدة، وبالتنسيق مع السلطات المعنية، مثل شركات (بلان تورز تورزم وفي تور وي في تورزم وناتور تورزم وأنتونيانا تورزم ونوفوم تورزم) في تركيا التي تعمل تحت غطاء (المديرية العامة للحدائق والصيد والحياة البرية) في وزارة الغابات، ووفقا للقانون رقم (6136). أما في إيطاليا فان سياحة صيد الأسماك هي الأكثر انتشارا بين السياح، وتمارس عادة في المناطق الساحلية بطول (7.600) كلم، بالأضافة إلى البحيرات الكبرى والأنهار والبحيرات الضحلة في الداخل، مثل (تراسيمينو وجاردا وكومو وبركسيانو بولينا وايسيو ولاجو ماجينوري). وتتيح بأضافة إلى الخروج برحلات الصيد فرص الأقامة في مساكن الصيادين المتواضعة كما هي في الواقع، واعداد الوجبات الشهية من الأسماك التي يتم صيدها من قبلهم، وبالوسائل التقليدية. وتتم هذه النشاطات تحت مظلة (مؤسسة سياحة الصيد) التي تضم (300) جمعية وبرعاية (رابطة صيد الأسماك). وفي تونس تنتشر سياحة الخنزير والثعلب وابن آوى والزيردة والنمس والزرزور والترد في (توزر وقفصة وقبلي وقابس)، وفي غابة رواد وجبل برج شاكير وبحيرة رادس والغابة والكثبان الرملية برواد والحديقة الوطنية بجزيرة (زمبردة) وجزيرة (زمبرتة)، والمحمية الطبيعية بمخثردار فاطمة على وجه الخصوص، وعلى يد سياح أجانب من بريطانيا وألمانيا وفرنسا والسويد وبلجيكا وإيطاليا وسويسرا وإسبانيا ولكسسمبورغ، وسياح عرب، وبالذات من دول الخليج العربي، وباشراف وكالات سفر متخصصة ومؤسسات النزل المنظمة للصيد السياحي وتحت مظلة (المندوبية الجهورية للسياحة وإدارة الغابات)، ووفقا لقرار وزير السياحة في 28 آذار 2001. وتشير البيانات والاحصائيات الخاصة بوزارة الفلاحة والموارد المائية التونسية إلى اصطياد (2000 – 2700) خنزير بري سنويا كمعدل ضمن حملات صيد منظمة بلغت في موسم 2008 – 2009 نحو (1917) حملة، أسفرت عن اصطياد (4840) خنزيرا، بعد منح (952) رخصة صيد في عام 2008 من أصل (1884) قابلتها (1153) رخصة صيد خنازير في عام 2009 من أصل (1347) رخصة. الأمر الذي انعكس إيجابا على الوضع الاقتصادي للأفراد والأسر من الجماعات المحلية القريبة من مناطق الصيد جراء استقبال ومصاحبة هؤلاء السياح في رحلات الصيد كأدلاء. كما أسهم في رفد خزينة الدولة بايرادات متأتية من منح رخص الصيد واجازات ادخال الأسلحة والمعدات الضرورية إلى البلاد لغرض ممارسة هواية الصيد وغيرها من العائدات المالية. أما في بلغاريا فقد بلغت عائدات سياحة الصيد في عام 2010 نحو (2.1) مليون يورو و(3) ملايين يورو في عام 2011، وهي مرشحة للزيادة في العام الحالي 2012. وقد خصص يوم (6) آب من كل عام ليكون يوما وطنيا لرياضة الصيد، حيث تنطلق في الجولات السياحية من أجل صيد الحجل والسمان والحمام البري والغزال الأحمر والخنازير البرية وبعض أنواع الدببة التي يسمح القانون البلغاري بصيدها وفق شروط وضوابط معينة. وفي رومانيا شكلت سياحة الصيد المرتبطة بالسياح الأجانب (80) في المائة من اجمالي أنشطة الصيد في البلاد في عام 2009، واصبت على اصطياد الأرانب والديك البري والغزلان والثعالب والأسماك وغيرها. ومن الدول الي أصدرت تشريعات تنظم عمليات الصيد في المنطقة: الجمهورية العربية اليمنية التي صدر فيها القانون رقم (42) لسنة 1991 بشأن تنظيم صيد واستغلال الأحياء المائية وحمايتها المعدل بالقانون رقم (43) لسنة ذ997. وقانون تنظيم الصيد والطيور والزواحف البرية (4 / 2002) في دولة قطر. وقانون تنظيم الصيد واستغلال الأحياء المائية وحمايتها رقم (48) لسنة 1976 في العراق. والقانون رقم (22) لسنة 2005 بشأن تنظيم الصيد البري في أبو ظبي. وقانون الزراعة المؤقت رقم (44) لسنة 2002 في الأردن والتعليمات رقم (ز / 34) لسنة 2003 الصادرة بموجبه الخاصة بحماية الطيور والحيوانات البرية وتنظيم صيدها والاتجار بها. وقانون حماية الصيد والحظائر الأتحادية لسنة 1986 في السودان. وقانون تنظيم صيد الحيوانات والطيور والزواحف البرية (4 / 2002) في الكويت. وقانون تنظيم الصيد البري في لبنان رقم (580) لسمة 2004.
***
بنيامين يوخنا دانيال
.....................
* عن (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.
** للمزيد من الاطلاع على التشريعات التي تخص الصيد ينظر (التشريعات السياحية في البلاد العربية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2010.

 

في هذا الشهر الكريم، حيث تُضاء المساجد بنور الإيمان، وتعلو أصوات الدعاء، ينتظر كثيرون لحظة الفرج، التي قد تأتيهم في هيئة زكاة أو صدقة. ليس لأنهم تعودوا على الأخذ، بل لأن الله قدّر أرزاق العباد ووزعها بينهم، فجعل بعضهم في موضع العطاء، وآخرين في موضع الحاجة، ليختبر الجميع في الأخذ والعطاء.
الرزق ليس مالًا فقط..
الرزق لا يقتصر على المال، فقد يكون صحةً في البدن، أو راحةً في القلب، أو محبةً بين الناس. هناك من يملك المال، لكنه محروم من السعادة، وهناك من يعيش بالكفاف، لكنه هانئ البال مطمئن النفس.
كم من رجل ينام وبيته خالٍ من الطعام، لكنه يؤمن أن الله لن يتركه! وكم من أم تسهر والدموع في عينيها، تنتظر يدًا تمتد إليها بالخير، فتدعو لمن أعانها دون أن تراه...! هؤلاء لا يستعجلون رزقهم، بل يؤمنون أن ما كُتب لهم سيصلهم، سواء في صورة زكاة، أو عمل شريف، أو حتى باب خير يُفتح فجأة في اللحظة الأخيرة.
(لا تأكل رزق غيرك)
قد يغريك المال السهل، وقد تبرر لنفسك أخذ ما ليس لك بحجة أنك أحق به، لكن تذكر دائمًا:
"ما كان لك سيأتيك ولو كنت في قعر البحر، وما لم يكن لك، لن تناله ولو كنت بين يدي السلطان."
في الأسواق، في الوظائف، في التجارة، وحتى في الميراث، هناك من يظن أن الرزق "شطارة"، لكن الأيام تُثبت أن المال الذي جاء بغير حق، سيذهب كما جاء، وربما يجرّ خلفه ندمًا لا ينتهي. المال الحرام قد يغني صاحبه فترة، لكنه يحرم البركة، فلا يدوم ولا ينفع.
(الرزق لا يُستعجل)
الحياة مليئة بالدروس، وكل تجربة تثبت لنا أن الرزق لا يرتبط بالسعي وحده، بل يرتبط بالبركة. فكثيرون يكدّون ليل نهار، لكن لا يجدون راحة، بينما هناك من يعيش بالقليل، لكنه يشعر بسعادة تفوق الأغنياء.
الفرج قد يأتي في اللحظة الأخيرة، تمامًا كما حدث مع رجل من قريتنا، كان يعمل بجهد لكنه لم يكن يملك ما يكفيه، وفي ليلة العيد، وهو لا يعلم كيف سيواجه أطفاله بجيوب فارغة، جاءه الرزق من حيث لم يحتسب، فأعطاه رجل ثري أجرًا قديمًا نسيه، ولم يكن يدري أن هذه الأموال ستنقذ أسرة كاملة من الضيق.
فتذكر دائمًا…
الرزق مكتوب، فلا تأخذ حق غيرك ما كان لك سيأتيك في وقته
المال الحلال هو الذي تدوم بركته
الرزق ليس مالًا فقط، بل هو سعادة وراحة بال
"الرزق مكتوب لك حيث كنت، فلا تستعجله، ولا تأكل حق غيرك، ولا تيأس من رحمة الله، فإن الفرج يأتي في اللحظة التي لا تتوقعها."
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم