أقلام حرة

أقلام حرة

اقدم محامي معروف في تاريخ البشرية هو المحامي السومري (شو) وقد ورد اسمه مسجلاً في إحدى الوثائق السومرية التي تعود إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد.

فعند السومريون القدماء (2850 ـــ2400 ق . م)، كما يؤكد صموئيل كريمر في كتابه (هنا بدأ التاريخ)، وردت أول سابقة قضائية في تاريخ البشر مسجلة في إحدى الوثائق السومرية تعود إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد مدون فيها وقائع محاكمة كاملة لثلاثة أشخاص قتلوا موظفاً من موظفي المعابد حوالي سنة 1850 قبل الميلاد. 

وتعود بداية اكتشاف الواقعة التاريخية إلى عام (1950ميلادية)، حين عثرت بعثة مشتركة من المؤسسة الشرقية في جامعة شيكاغو والمتحف التابع لجامعة بنسلفانيا، على لوحَيْن من الطين في مدينة نفر السومرية جنوب العراق سُجل فيهما محضر لمحاكمة خاصة بجريمة قتل.

والحادث كما روته ألواح الطين يقول إن ثلاثة رجال هم حلاق وبستاني، وشخص ثالث لم تُذكر صنعته، قتلوا لسبب ما، أحد موظفي المعابد واسمه (لو أنانا). ولأسباب غير معروفة أخبر هؤلاء زوجة القتيل المسماة (نن دادا) بمقتل زوجها، لكن المرأة سكتت واحتفظت بسر القتلة ولم تبلغ السلطات الرسمية بالأمر.

إلا أن خبر الجريمة وصل إلى أسماع الحاكم (أور نينورتا) في العاصمة، فأحال القضية للنظر فيها إلى مجلس المواطنين في المدينة الذي كان أشبه بهيئة محلفين.

وعندئذ نهض تسعة رجال من هذا المجلس لمقاضاة المتهمين كممثلين للحق العام أمام المحكمة، وقدموا للمحكمة شرحاً للقضية في مجمل تفاصيلها، وتوصلوا إلى أن الجريمة لا تقتصر على القتلة الثلاثة المباشرين للجريمة، بل يلزم مقاضاة الزوجة بسبب بقائها ساكتة، كاتمة الأمر بعد علمها، الأمر الذي يجعلها شريكة في الجريمة.

وعندئذ تطوع محاميان للدفاع عن الزوجة وكان احدهم يدعى (شو) وهو أحد موظفي معبد الإله (نتورا)، معلناً لهيئة المحكمة أن المرأة لم تشترك في قتل زوجها، لذلك ينبغي تبرئتها، مبرراً ذلك بان المرأة كان لها من الأسباب ما حملها على السكوت لأن زوجها لم يكن قائماً بإعالتها.

وعندئذ نهض ممثل هيئة المحلفين من جديد معلناً أن الذين قتلوا الرجل لا يستحقون الحياة، وإن أولئك الرجال الثلاثة وتلك المرأة يستحقون القصاص.

ولكن محامي المرأة نهض من جديد وأكد مرة أخرى، قائلاً مع الاعتراف بأن الزوج قد قتل وقد علمت المرأة بذلك وسكتت، فما هو ذنبها حتى تستحق القصاص؟

وهنا تدخل القاضي معلناً أن زوجة لم يقم زوجها بإعالتها، مع الافتراض بأنها كانت تعرف أعداء زوجها، وأنها بعد مقتل زوجها علمت بالأمر، ولم تشترك في الجريمة، فلماذا نعاقبها على سكوتها، ينبغي قصر العقوبة على أولئك الذين ارتكبوا القتل فعلاً.

وبعد مرافعات مشوّقة بين الجانبين قضت المحكمة بإدانة القتلة الثلاثة وبرأت الزوجة، وسببت المحكمة حكمها بأن الاشتراك غير متوفر في حقّها لأنها لم تقترف الجريمة معهم ومجرد علمها وسكوتها عن التبليغ لا يُعدُّ اشتراكاً.

***

فارس حامد عبد الكريم - استاذ جامعي

 

كان سقراط قد أوصى قائلاً: "اعرف نفسك"، ولو بعث اليوم ورأى أحوالنا، لهرع إلى أول مقهى إنترنت ولأبتلع السم بنفسه دون محاكمة. حياتنا لم تعد حياةً، بل صارت حزمة من الإشعاعات المتصلة بالشبكة العنكبوتية، يرفرف فوقها شعار: "أنت موجود طالما أنك متصل".

ها أنا أجلس، أكتب على حاسوبي الذي يرمقني بنظرة ازدراء خفية، بينما يرن هاتفي الذكي كل خمس ثوانٍ كطفل مدلل يريد أن يُسمع صراخه للعالم. الطابعة بجانبي تعاني أزمة هوية — لا تعرف إن كانت طابعة أم متحفًا أثريًا — بينما ثلاجتي، كأم حنون متطفلة، تهمس لي أن علب الحليب على وشك الانتحار من شدة انتهاء الصلاحية. على معصمي، ساعتي الذكية تهدهدني برسائل طمأنة سخيفة: "كل شيء على ما يرام. نبضك منتظم. اشرب ماء." أحقًا؟ شكراً لك أيتها الساعة، لم أكن أعلم أنني بحاجة إلى مربية إلكترونية.

لقد أصبحنا، كما وصفنا لوتشيانو فلوريدي، سكان "المجال المعلوماتي" لا أكثر. ذات مرة كنا أسيادًا للقرارات، اليوم نحن رهائن لإشعارات التطبيقات. وكما قال نيتشه، "الأدوات الصغيرة تخلق آلهة صغيرة"، ونحن الآن نعبد آلهة مصنوعة من البلاستيك والسليكون.

يحدثنا فلوريدي في "الثورة الرابعة" عن الانقلاب الهادئ على وجودنا: من مركز الكون إلى هامشه، من سادة الطبيعة إلى أبناء عمومة الشمبانزي، من حكام قراراتنا إلى عرائس ماريونيت يحركها اللاوعي. والانقلاب الأخير؟ لقد سلبتنا الآلات قدرتنا على التفكير الحسابي ذاته. وكأن ديكارت، حين قال "أنا أفكر إذن أنا موجود"، لم يتخيل أن الحواسيب ستسرق منه هذا الامتياز لاحقًا.

نحن الآن أشجار مانغروف تائهة، كما يحب فلوريدي أن يتخيلنا: لا نعيش في بحر ولا في نهر، بل نغرق في مستنقع التكنولوجيا. في هذا الفضاء الرمادي، لم نعد نميز الحقيقة من الزيف، واليقين من الوهم. وهكذا أصبحنا، كما قال بودلير، "مسافرين عائدين من اللاشيء".

لكن، هل نستسلم؟ لا! فكما قال سقراط: "حياة غير مدروسة لا تستحق أن تُعاش." الفلسفة تظل حبلنا السري إلى الإنسانية. هي البوصلة التي تنقذنا من الضياع في صحراء المعلومات. وحدها تستطيع أن تفصل الغث عن السمين، أن تذكرنا بأن ما يلمع ليس دائماً ذهباً، وما هو شائع ليس دائماً حقيقياً.

ومع ذلك، كما يحذرنا بيونغ تشول هان في "الأشياء اللاشيئية"، فإن وفرة المعلومات لا تزيدنا إلا جهلاً. العالم يُصبح ضبابياً، ونحن نغوص أكثر فأكثر في بحرٍ بلا قرار. لقد تحوّلت وسائل الاتصال إلى وسائل قطيعة، وكأننا جميعًا نصيح في غرفة مغلقة، ولا يسمعنا أحد، بما في ذلك أنفسنا.

ما العمل؟ ربما الحل، كما كان يوصي هايدغر، أن نعود إلى العالم، أن نلمسه، نشمه، نخطئ في طرقه، نضيع فيه. لم نعد نعرف كيف نضيع: بفضل خرائط غوغل نعرف أين نحن دومًا، لكننا فقدنا أين نحن حقًا.

يقول هيجل إن وعينا لا يُولد إلا عبر اصطدامه بوعي الآخر. ولكننا اليوم نصطدم بالشاشات، لا بالآخرين. فقدنا الجروح التي تجعلنا بشراً. بلا جراح، نحن مجرد معلومات جافة عائمة بلا جذور.

فلنتعلم من جديد أن نغلق هواتفنا، أن نخطئ الطريق، أن نتسكع بلا هدف. لعلنا — كما قال ريلكه — "نعود إلى الحنين العميق للأرض"، ونكتشف أن أجمل ما في الحياة ليس أن تجد الطريق، بل أن تضيعه.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

قارئ عزيز كتب لي معترضا على هجماتي التي سماها يميناً وشمالاً، وخشيتي من الاقتراب من قاعة المحكمة الاتحادية التي وضعت البلاد في "حيص بيص" حسب تعبيره. وأضاف: ماذا كان يضير المحكمة الاتحادية لو أنها لم تدس أنفها في السياسة؟

يعرف القارئ العزيز جيدا ان المحكمة الاتحادية تلعب معنا لعبتها التناقضات منذ عام 2010 عندما وضعت تفسيراً للكتلة الأكبر، كان الغرض منه سد الأبواب أمام أياد علاوي في تشكيل الحكومة، في ذلك الوقت حصل علاوي على 91 مقعداً بينما حصل المالكي على 89 مقعداً، فوجدنا المحكمة تصدر قراراً غريباً، ساهم في ازمات للبلاد.. وفتح الباب أمام القضاء ليتحول من مؤسسة مهمتها الحفاظ على القانون وتطبيقه إلى مؤسسة سياسية.

على مدى سنوات استهلك العراقيون طاقتهم ومعها ثرواتهم في جدال عقيم حول الكتلة الأكبر، هل هي التي تتشكل في البرلمان أم التي تفوز في الانتخابات، لتخرج علينا المحكمة الاتحادية وبعد 15 عاماً على قرارها الأول بقرار جديد يقول إن الكتلة الأكبر هي التي فازت بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات النيابية. وكأن مصائر البلاد والعباد مجرد لعبة تشبه لعبة "الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة".

ما حدث في قضية محمد الحلبوسي عندما اصدرت المحكمة قرارا بفصله من مجلس النواب واتهمته بالتزوير وانه يخطط لمشروع امبريالي، لتعود المحكمة وتخبرنا امس بان محمد الحلبوسي بريء وان الادلة التي قدمت ضده لم تكن دقيقة، ويحق له ان يعود الى مكانه في مجلس النواب.

أدرك جيداً أن التجاوز على سلطة القضاء مرفوض ومدان ونقف جميعاً ضده، لكن للأسف القضاء ومنذ سنوات أحب لعبة الاشتباك مع السياسة، ولهذا فالناس كانت وما زالت تريد من المحكمة الاتحادية أن تساهم في مساعدة البلاد على دخول المستقبل، وبناء دولة تقوم على أساس حق المواطنة لا حق الساسة، وعلى العدالة والمساواة لا على توزيع الغنائم بين الأصحاب والأحباب، ومع التسليم الكامل بأن وجود مجلس نواب ضرورة سياسية، فإن المنطق يقول إننا بحاجة إلى مجلس نواب حقيقي خال من نواب الصفقات، مجلس نواب مهمته خدمة الناس لا خدمة الكتل السياسية، مجلس نواب غير مصاب بفايروس الانتهازية.

والآن ليسمح لي القارئ العزيز لأقول له نحن في زمن كثر فيه "الحيص بيص"، مثلما تناسلت به مجالس المحافظات، وليس امامنا سوى ان نرفع ايدينا الى السماء للدعاء بان تتخلص هذه البلاد من "حيص بيص" البرلمان والمحكمة الاتحادية، والمدعي العام الذي لم يستيقظ من نومته منذ 20 عاما، ومن الاحزاب السياسية التي تجاوز عددها الاربعمائة جميعها طامحة بقطعة من كعكة العراق.

***

علي حسين

 

النوبليون هم الحاصلون على جائزة نوبل، وذات يوم إلتقيت مع أحدهم وكنت أحاوره، وعندما طرحت عليه سؤالا عن طبائع الأفكار، حدق بوجهي متعجبا وقال: هل تتصورني أعرف كل شيئ؟

أدهشني جوابه، ووجدت من الغفلة والسذاجة أن نعتقد بأن أي شخص بمفرده يحيط بالعلوم كافة، أو يمكن تسميته بالعلاّمة.

تذكرت ذلك وظاهرة أنا أعرف، أنا أعلم، من السلوكيات الفاعلة في مجتمعاتنا، والتي منعت تفاعلاتنا الإيجابية وأصابتنا بإنهيارات متنوعة .

فكل منا يحسب نفسه مدينة علم ومعرفة، وهو فحل توت في بستان وجيعنا.

وعندما تتساءل أين "والله أعلم" في خطب المتأدينين، يأتيك الجواب بأنها تحت التراب، فالرحمة على الذين كلما إزدادوا علما عرفوا كم أنهم يجهلون، فالبحر مداد أعرف العارفين، ومنبع الكون المتسع الرحيب.

العاهة المروعة الفاعلة في دنيانا والمعوقة لمسيرتنا وتطلعاتنا، أننا نعلم، ولا نتعلم، والدنيا في مارثونات معرفية وتعليمية تسابق اللحظات، فالمجتمعات التي تعلمت تطورت وتألقت، والصين مثال ساطع أمامنا إذ إنطلقت من قيعان الفقر والأمية إلى ذرى العلوم التكنولوجية المعاصرة، ففعّلت عقول المواطنين، وأطلقت الطاقات الإبداعية ووفرت لها الرعاية والحماية والتحفيز.

فلن نتفدم إذا لم نتعلم، فالعلم مفتاح الفرج!!

بعلومٍ نرتقي نحو الأعالي

فتعلّم لا تعش فيها حزينا

أ ببهتٍ قد سجنا وانتهينا

تبّعا نسعى، عليهم إعتمدنا

كلما جئنا لخيرٍ إندحرنا

ولشرٍ من هوانٍ إرتضينا

***

د. صادق السامرائي

 

يحاول البعض أن يوهم الناس البسطاء، بأن معركتهم الحقيقية ليست مع سراق المال العام، ومروجي الخطب الطائفية، وأن الأزمة العراقية ليست السعي إلى تقسيم البلاد لدويلات طائفية.. وإنما أزمتنا الحقيقية هي مع فعاليات غنائية او رياضية، تجرأ فيها البعض وقرر اقامتها في واحدة من المدن العراقية، فالمطلوب أن تقيم مهرجاناً لخطب سياسيينا التي يريد لها، البعض، أن تصبح جزءاً من طقوسنا اليومية..

في جزء من خطبته، يوم الجمعة، وصف السيد صدر الدين القبانجي ماراثون رياضي دولي اقيم في محافظة البصرة بانه: "مخطط لإفساد ومسخ هوية الشعب ضمن حرب ثقافية ناعمة الهدف منها تغيير هوية البصرة الدينية". وقدم القبانجي الشكر لشيوخ العشائر الذين رفضوا هذا المهرجان الرياضي، تخيل جنابك حدث رياضي تشارك به 44 دولة وأكثر من 140 عداء دولي يتحول حسب رأي السيد القبانجي الى مؤامرة ضد مدينة البصرة "المقدسة"، ولا اعرف ما حكاية المدن العراقية التي تحولت جميعها الى مدن مقدسة لا يجوز فيها الغناء ولا الفعاليات الرياضية. السيد القبانجي وهو ينفعل ضد فعالية رياضية، متوهماً أن العراق يعيش في عصور الجاهلية!!، لم اشاهده يوما ينفعل ضد سرقة اموال الشعب، ولا غضب ضد سوء الخدمات وانتشار المخدرات وارتفاع معدلات البطالة، ولم يحتج عندما اطلق الرصاص على المتظاهرين الشباب، لم اسمع له يوما خطابا يدعو الى الوحدة الوطنية والتفاني في حب العراق، ربما سمعت له اكثر من مرة اشادة بالجمهورية الاسلامية في ايران.. لكن الحديث عن تطور العراق ومكانته حرام شرعاً في، نظر السيد القبانجي .

في كل مرة يخرج علينا السيد القبانجي ليذكرنا بأننا دولة إسلامية، وأتذكر في تظاهرات تشرين وبعد مقتل 700 متظاهر، ثار القبانجي وأرعد وأزبد، ليس دفاعاً عن دماء الذين قتلوا، وإنما مطالباً الشعب العراقي بأن لا يشارك في هذه الاحتجاجات، لأنها ترفع شعارات "نريد وطن"، فمثل هذه الشعارات حسب رأيه ليست مطالب خدمية أو إصلاحية، وإنما شعارات تريد العودة بنا إلى الحكم "اللاديني".

إن حديث السيد القبانجي عن استهداف الدين يعني بشكل واضح أن الذين شاركوا في هذا الماراثون الرياضي يعادون الدين، وهو حديث للأسف يفضح كل ما كان مخفياً من شعارات عن الديمقراطية وحق المواطن العراقي بالحرية الشخصية.

والغريب أن خطيب جمعة النجف، يريد أن يختطف القضية بعيداً عن جوهرها الحقيقي، ويعيد تسويقها للناس على أنها معركة إسلام ضد علمانية، أو، وفقاً لحالة الغضب التى ظهر عليها، أنها معركة بين مؤمنين وكفار، كما أن الرجل لم يتمالك نفسه فاعتبر أن العراق أصبح بلده لوحده، وعلى الآخرين أن يبحثوا عن تأشيرة هجرة إلى بلاد الكفار، إذا لم تعجبهم فرمانات القبانجي.

***

علي حسين

التطورات التكنولوجية والتواصلية، وثورات الذكاء الإصطناعي وإنطلاق مسيرة الروبوتات الآلية، هيمنت على المصانع والمعامل والشركات، وكافة ميادين العمل، وهذا يعني أن الحاجة للأيادي العاملة تناقصت بنسب كبيرة، أي أن البشر أصبح فائضا عن الحاجة.

على سبيل المثال المزارع التي كان يعمل فيها آلاف العمال إكتفت اليوم ببضعة مكائن وآلات، وكذلك مصانع السيارات التي معظمها تعمل بالروبوتات، وما عادت تستوعب الأعداد الغفيرة من العمال.

ويترتب على ذلك وجود المصانع في أي مكان لا يمثل فارقا مهما، لأن الآلة تتحكم بخطوط الإنتاج.

والتأريخ يحدثنا عن أعمار القوى والإمبراطوريات المتوافقة مع مسيرة حياة أي مخلوق يفترسه الزمن.

فلا تدوم قوة ولا ضعف، وإنما تتأرجح مسيرات الأحياء بينهما.

عندما يصل البشر إلى مرتبة تفاعلية تساهم في تأمين راحته وتنمية كسله، فمن الصعب عليه مغادرتها والإنتقال إلى حالة أخرى تتطلب جهدا ومثابرة.

وما تقدم يعني أن البطالة ستتنامى مع تنامي أعداد البشر، وإنكماش فرص العمل، مما سيؤدي إلى نشوب الحروب الماحقة للملايين، والمدمرة للعمران، فالخراب ربما سيوفر فرصا لإستيعاب العمالة الحائرة المجردة من أبسط متطلبات البقاء.

وفي ذات الوقت يزداد عدد المليونرية والبليونرية الذين يجمعون أموال البشرية ويقبضون عليها، فميزانيات بعض الأفراد تفوق ميزانيات العديد من الدول، وهذا خلل مروع سيتسبب بتداعيات إنهيارية خطيرة في العالم.

وهكذا فالحرب الواسعة لا مفر منها، وستنشب في أي وقت، ولن تجد البشرية مخرجا منها، مهما حاولت، فأنها ربما ستؤجلها، لكن وقوعها حتمي ومن ضرورات البقاء فوق التراب.

دارت بنا وتأهبتْ...وبها عروشٌ قد خوتْ، بصاعدٍ ونازلٍ...أيامها تبدلت، بعسرها ويسرها...أحوالها تجدّدتْ!!

***

د. صادق السامرائي

 

الطوائف: جمع طائفة: فرقة أو جماعة من الناس

الطائفية: التعصب لطائفة معينة

المجتمعات البشرية مؤلفة من طوائف أي مجاميع من الناس تشترك في مفردات ما، إبتداءً من العائلة، فالعشيرة فالقبيلة والمدينة وغيرها من الإنتماءات الجامعة، وكذلك في الأديان هناك طوائف كما في المسيحية توجد الكاثوليكية والبروتستانية والأرثودوكسية، وفي اليهودية والإسلام وباقي الديانات المنتشرة بين الناس.

والفرق بين التأخر والتقدم هو الطائفية، أي أن تتأجج نيران التعصب لطائفة دون غيرها، ففي الدول المتقدمة المعاصرة، هناك إعتراف بالطوائف وكل يحترم الطائفة الأخرى، وفي المجتمعات المتأخرة، يتواجد نكران للطوائف وتدمير للوجود الذاتي والموضوعي وفقا لمعطيات الطائفية النكراء.

فلا يوجد في مسيرة البشرية مجتمع من طائفة واحدة، فالمجتمعات نشأت من التآلف بين الطوائف، وإندثرت بالتناحر فيما بينها، ونرى المجتمعات المتقدمة تسعى لإحتواء ما تستطيعه من الطوائف، لأنها تمثل قوة إقتصادية وإبداعية ذات قدرات تنافسية وتألقية.

فهل وجدتم إبداعا منحصرا في طائفة واحدة؟

إن التقدم الحاصل في مجتمعات الدنيا ناجم عن التفاعل بين الطوائف المتنوعة، ولهذا تجدها تستوعب المهاجرين إليها من أنحاء الأرض.

عندما تسير في شوارع أي دولة غربية، ستجد نماذج بشرية من كافة الأجناس بكل ما فيها وعليها، ولن تجد ما هو خالص لطائفة معينة.

زمن الطائفة الواحدة المتسيدة إنتهى، فالبشرية تذوب في بودقة التواصل والتفاعل المحتدم فوق التراب، وما عادت العوائق القديمة ذات قيمة.

طوائفٌ ببعضها تمازجت، وانصهرت سبيكةً تماسكت، فألهمت أجيالها مناهجا، بهديها جموعها تفاعلت،

لا تدّعي بأنها لا غيرها، قد أدركت أحلامها تعانقت!!

***

د. صادق السامرائي

القدوة: الشخص الذي يُحتذى به، ويُتّبع في السلوك والأخلاق.

الماضي المتصوَّر برموزه وشواهده قدوتنا منذ بداية القرن العشرين، فنحسب الأموات ملائكة منزهين، ونخرجهم من بشريتهم، فنعجز أن نترجم سلوك الملائكة فوق التراب، أي أن قدوتنا في حقيقتها أوهام وسرابات باهتة.

"لا تقتدي إلا بمن قد مات ...."

فهل يصح الإقتداء بالأموات ونكران الأحياء؟!!

هل للمستشرقين دور في ذلك؟

هل للتأريخ المستورد والمعاد تصنيعه برؤى الغير دوره؟

المجتمعات تعتبر من ماضيها ولا تتبعه أو تقدسه، ولا تحسبه ذروة إقتدارها، بينما العديد من المجتمعات، تتهاوى في مستنقعات الغابرات وتتحدث بلسانها، وتتجاهل حاضرها ولا تدرك مستقبلها، فهي بلا رؤية إستشرافية بل تعيش في إندحارية قاسية.

فليس من العملية والواقعية أن نتمسك بالأموات ونتجاهل الأحياء، ونرفض إسهاماتهم ونحارب تطلعاتهم وننسف أفكارهم.

ويبدو أن تأريخ الأمة قد تم تزييفه وتحويله إلى مادة لقتل وجودها، وإذكاء مؤججات التلاحي والصراعات البينية في مجتمعاتها، فتحول النور في ربوعها إلى نار، وتحزبت قيمها وأخلاقها، وتناسفت وأبادت ذاتها وموضوعها.

يمكن دراسة الموضوع بإقتراب أشمل وأعمق، فالواقع المرير يتطلب إعادة النظر، وترتيب آليات التفكير والتفاعل بين أبناء كل شيئ واحد.

فلماذا التعدد والتشظي والتنافر والإقتتال؟

أمواتنا قدواتنا وإننا

نمشي على رؤوسنا كأننا

دارت بنا أيامنا وتعثرت

بفكرنا ونهجنا وجهلنا

هل نرتقي وظلمة تحوطنا

ونورنا نارٌ أتت صراطنا

***

د. صادق السامرائي

تشير المدونات التاريخية والسياسية والأدبية الى ان الخيانة التي أخذت تتفاقم وتظهر الى العلن في بعض المجتمعات ويستمرئ البعض النوم في أحضانها بكل وقاحة وصلف هي ليست حالة حديثة العهد ووليدة متغيرات جديدة في الميادين السياسية والاجتماعية، بل هي ظاهرة موغلة في القدم وبعضها خيانات عظيمة غيرت مجرى التاريخ، فالتاريخ العربي مثلا حفل بالعديد من الأبطال الى جانب عدد من الخونة الذين كانت خيانتهم السبب في سقوط وانهيار دول عديدة، ولنا مثال في خيانة  "أبو رغال" الذي ساعد أبرهة الحبشي في محاولته الفاشلة لهدم الكعبة، وتشير مسيرة التاريخ الى ان الخيانة وان نجحت مؤقتا في تحقيق المنافع لصاحبها ولم يجرؤ أحد على تسميتها بذلك في ايام نجاحها لكن حقيقتها ستظهر وحينها ستكون ضريبتها كبيرة متمثلة بالذل والهوان والعار الذي سيظل يلاحق الخائن وعائلته طوال تاريخه ذلك انها لا تقل بشاعة عن البراءة التي وصفها الشاعر مظفر النواب (تظل مدى الأيام عفنه) كما ان الخيانة سلوك لا ينبذه مجتمع معين بذاته انما هو مذموم ومرفوض في كل المجتمعات وبمختلف ثقافاتها واديانها، فالضابط النرويجي (كويز لنج) الذي خان بلاده وباعها للألمان فجعلوه رئيسا لها لم ينعم ببركات الرئاسة طويلا اذ بعد هزيمة المانيا حاكمه شعبه واعدمه سنة 1945 .  وقد حفل أدبنا العربي قديما وحديثا بالعديد من القصص والاشعار والاساطير والملاحم التي تحدثت عن الخيانة والدوافع المحفزة لها، فالخيانة كظاهرة نفسية هي أحدى الموضوعات التي عالجها الأدب العراقي القديم ولعل اسطورة (ايتانا والنسر) هي واحدة  من  اقدم نصوص العصر البابلي القديم (2000 ــ 1600 ق . م) التي اشارت الى الخيانة والتي وصفها المؤرخ البريطاني (ار . ماكروبرت) بانها رسالة سياسية .

 وموضوعٌ الخيانة متأصلٌ في الكثير من الأعمال الأدبية، فقد خطّ الشعراء العديد من القصائد التي أدانت الخيانة والخائنين، فالشاعر أبو العلاء المعري يقارن بين فعل الخائن والسارق فيقول عنهما:

ما رَكِبَ الخَائِنُ في فِعلِهِ .. أَقبَحَ مِمّا رَكِبَ السارِقُ

شَتّانَ مَأمونٌ وَذو خُلسَةٍ ..  كَأَنَّهُ مِن عَجَلٍ بّارِقُ 

كما ان الشاعر المتنبي ينصح بتوخي الدقة في اختيار الصاحب وعدم الانخداع بالمظاهر في قوله:

لا تبك من خان المحبة والوفا .. اهل الخيانة مالهم مصداق

لا يخدعنك في المعادن حسنها .. كم في المعادن زائف براق 

ويأتي بعدهما  الشاعر بدر شاكر السياب غير مصدق  فعل الخائن ودوافع خيانته ليعلن:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟

وحتى نكران الجميل يندرج ضمن افعال الخيانة، فحينما ينكر الفرد لمن أحسن إليه جميله وفضله عليه هي خيانة جسدها قول الشاعر معن بن اوس المزني في قوله الشهير:

أعلِّمهُ الرِّماَيَةَ كُلَّ يوَمٍ .. فَلَمَّا اشْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني

للأسف كل هذه الأدبيات والشواهد التي تتحدث عن الخيانة وبشاعتها الا انها مازالت تجارة رابحة عند البعض وان الخونة والمنافقين والعملاء لا يتعظون ولا يتعلمون ولا يتوقفون، رغم النهايات المأساوية التي يصلون اليها والاضرار المعنوية التي تصيب اجيالهم بعد حين فالخيانة نجاسة لا تطهر بالتقادم.

***

ثامر الحاج امين

تربّت الأجيال على سلوك المطالبة من الحكومة وإلقاء مسؤولية كل شيء عليها، مما تسبب بتعطيل وفقدان المبادرة والجد والإجتهاد والمثابرة والشعور بالمسؤولية، فالمهم أن تطالب وقد تكبلت يداك وتعطل عقلك، وجلست على تلٍ بعيد، فأنت قلت وناديت بصوت عالٍ والحكومة لا تستجيب.

هذا سلوك الخيبة والضعف والهوان، فالمدن بأهلها، ولا توجد مدينة عامرة في الدنيا دون مبادرات من مواطنيها، وإسهاماتهم المتنوعة في إنجاز المشاريع اللازمة لجمالها وعزتها وكرامتها، وتألقها في حواضر الدنيا.

فلا تطالب وبادر وإنطلق بتجسيد الفكرة الصالحة لمدينتك.

أبناء المدينة الفلانية يطالبون بكذا وكذا ويتظلمون، وعندما تسألهم عن مبادراتهم وهل أسهموا بخطوات عملية لتحقيقها، يلوذون بصمت وغضب، فهذه مسؤولية الحكومة، وعليهم أن يطالبوا وحسب.

المبادرة فعل يقوم به شخص أو مجموعة أشخاض لتحقيق هدف معين  يدل على المبادءة والريادة، والمقصود هنا المبادرة المجتمعية.

الحياة أساسها المبادرات، وما تصنعه أكبر مما تأتي به المطالبات، فلا بد لأبناء المكان أن يفتخروا بما أسهموا به وعبَروا عنه في مكانهم الذي ترعرعوا فيه، وليس من الفخر أن تكون المطالبات على رأس قائمة التفاعلات بين الحكومة والشعب.

وردني "يعود الفضل لفلان الفلاني لأنه طالب الحكومة ببناء منشأة ما في مدينته، فتحقق ما أراده"، قد تبدو مطالبة برداء مبادرة، أسهمت بإقناع الجهات المسؤولة بضرورة تلك المنشأة، لكن أي مكان يعكس شخصية آهليه، وعليهم أن يتركوا بصمات وجودهم عليه، وهذا يتأتى بالمبادرات المتواصلة والعمل الجماعي والجد والإجتهاد، والتفاعل المتكاتف بينهم.

هل المطالبة عندما تتحقق تتحول إلى قدوة للآخرين فتزداد مطالباتهم وتعز مبادراتهم؟

المطالبة فيها حث على الإتكالية والتحرر من المسؤولية، بينما المبادرة توثب وإبتكار وإعمال للعقل وإستثمار للطاقات وتأكيد للقوة والإقتدار.

آماكن الدنيا المتنوعة ولدت من رحم المبادرات، ولم تأتِ بها المطالبات.

فعلينا أن نبادر لنعاصر!!

مبادرة تُسامق مرتقانا

بلاسمها تفاعل منطوانا

وتمنحنا شعورا مستحبا

يباركنا ويستدعي رؤانا

فبادر ثم طالب أنت حرٌّ

ومسؤولٌ إذا برزت خطانا

***

د. صادق السامرائي

 

قراءة في موقف الفقهاء من النص المؤسس

القرآن هو النص المؤسس للإسلام، والمرجع الأعلى في العقيدة والتشريع والسلوك، إلا أن تاريخ المسلمين يكشف لنا عن مفارقة مؤلمة؛ فقد تحول القرآن في واقع كثير من المذاهب إلى شعارٍ أكثر من كونه مصدراً حياً للفكر والحياة، وصار يُقرأ للتبرك والتعبد أكثر مما يُقرأ للفهم والتدبر والتوجيه. وهذه الإشكالية ليست عرضاً طارئاً، بل لها جذور فكرية ومذهبية، تمتد عميقاً في بنية الفقه التقليدي، وخاصة في بعض التيارات الشيعية التي أغلقت باب فهم القرآن إلا على الأئمة (المعصومين)، مدعية أن تفسيره لا يبلغه إلا من خُصوا بعلم إلهي مخصوص.

القرآن في منظور الفقهاء: مركزية مغيّبة

في بداية التنزيل، كان الصحابة يرجعون مباشرة إلى القرآن، يتأملونه آيةً آية، ويأخذون منه العقيدة والعبادة والمعاملة، تماماً كما أراد منهم الله والنبي. غير أن هذا النهج تبدد مع الزمن، وحلّ محلهُ اعتمادٌ مطلق على الروايات والآراء الفقهية، وكأن القرآن صار كتاباً غامضاً لا يُفهم إلا عبر وسيط ناطق أو عقل وصيّ.

في الفكر الشيعي الإمامي، تُطرح عقيدة "العصمة" للأئمة الاثني عشر كشرط ضروري لفهم النص القرآني. وبموجب هذه العقيدة، فإن تفسير القرآن لا يجوز إلا لمن كان معصوماً، لأن الآيات (حسب زعمهم) تحوي باطناً لا يبلغه الناس، وظاهراً قد يُضل من ظنه كلَّ الحقيقة. وقد أدى هذا المنهج إلى تجميد النص القرآني عن التداول الفقهي والفكري، فقلّ أن تجد آية تُستنبط منها الأحكام إلا وتُمرر عبر رواية أو تفسير مأثور عن أحد الأئمة، وكأن القرآن عاجز عن البيان بذاته.

بل إن بعض الروايات نسبت إلى الأئمة أنفسهم قولهم: "إن القرآن لا يُفسّر إلا بنا، ومن فسّره برأيه فقد كفر"، وهذا القول (إن صحّ) يحمل خطورة معرفية وأخلاقية كبيرة، لأنه يُقصي الأمة عن مصدر هدايتها، ويجعل فهم القرآن نخبويًا مخصوصًا بأشخاص غير موجودين اليوم.

هل يحتاج القرآن إلى تفسير؟

هنا نصل إلى جوهر السؤال: هل فهم القرآن مستحيل إلا عبر معصوم؟ وهل المقصود من القرآن أن يكون كتاب ألغاز لا يُفهم إلا بإذن خاص؟ أم أنه كتاب هدى، أنزله الله للناس كافة، بلغة واضحة، وبيّن فيه أنه "هدى للناس"، و"تبيانًا لكل شيء"، و"بلسانٍ عربي مبين"؟. الحق أن الأصل في القرآن أنه بيّن، وأن آياته محكمة يسيرة على من أراد الهداية. نعم، توجد آيات متشابهة، لكن الله تعالى قال: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..."، وهذا يدل أن العبرة ليست بغموض النص، بل بمرض القلب. والقرآن نفسه دعا إلى التدبر: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، وهذه الآية لا تترك عذراً لمذهب يحتج بأن التدبر لا يجوز إلا للمعصوم.

العودة إلى القرآن ضرورة لا ترف

الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى عودة صادقة إلى القرآن، لا للتبرك ولا للتجويد وحده، بل للفهم والعمل والبناء. إن الاقتصار على التفسير التراثي، أو إغلاق باب التفسير إلا على من ماتوا، هو من أشد أنواع الصد عن سبيل الله. ولو أن المسلمين قرأوا القرآن بروح حرة، وعقل صادق، وسؤال حيّ، لانفتحت أمامهم آفاق التجديد الديني والفكري.

القرآن ليس ملكاً لفئة، ولا حكراً على مذهب، وليس صندوق أسرار لا يُفتح إلا بمفتاح العصمة. هو كتاب الحياة، ومنهج الهداية، ورسالة إلى كل إنسان. وأي موقف فكري أو مذهبي يضع بين الناس وبينه حجاباً، فهو موقف مضاد للقرآن نفسه، وإن تزيّا بأثواب الورع والعلم.

فليعد المسلمون إلى القرآن، لا وسيلةً، بل غاية. لا مرجعية شكلية، بل مرجعية حقيقية في التفكير، وفي التشريع، وفي الوجدان. عندها فقط، تنهض هذه الأمة من سباتها، وتعود إلى دورها كأمة وسط.

***

د. علي الطائي

 

إحدى مُتع الأدب وعطاياه الحسية هي تهذيب النفس، وتدريبها على تشرب الجمال وتغذية حواسها الفنية. لذا قوبلت جل روائعه وكلاسيكياته بإجلال وتقدير، لأنها أسهمت بشكل أو بآخر في تحول النفسية القلقة والمضطربة للإنسان، وانتزاع الوحش الذي بداخله كي يستطيب العيش داخل جماعته، أو على الأقل يجد مخارج لائقة لتذمره واحتجاجه، وسعيه للأفضل.

منحتنا الأجناس الأدبية وأشكال التعبير المختلفة حضورا مفعما بالجمال الحسي والمعنوي. وجرى تقييدنا لفترة طويلة بخيوط التعبير المتجاوب مع المكان والزمان. لفضاء المدرسة لغته وقاموسه الذي يؤشر على انفتاح الطفل على عالم الراشد، وللمقهى تعبيراته المؤنسة والمتعالية عما يدور في خلوات الصعاليك ومدمني المخدرات. أما المسجد فكان الإمام والخطيب مقيدان بشرف العلم وآدابه حتى في مجالس الترويح عن القلوب.

تلك كانت عطية الأدب وهو يبدع كلماته، مراعيا التأرجح الأخاذ بين تمتيعك بالجمال وحراسة القيم؛ واضحا دون تشويش أو تلفيق في الجمع بين طبيعته الفنية والهم الاجتماعي المباشر. حين يسجل اللقطة البشرية التي اختارها لتعبيره الفني، فإنه يُثني على فترات البطولة والسمو، ويسمي لحظات الهبوط ضعفا وخطيئة. لكن سرعان ما هبت رياح الحداثة الغربية لتقتلع حضوره الآسر، وتلقي بالكاتب والقارئ معا في دوامة من التجريب والتغريب، وتعزيز مرارة العيش بدل التخفف من أحماله بجرعة أمل!

انحرف الأدب عن مضمونه، وعن جماليته بدون شك، منذ عقد السبعينات في بلادنا تحديدا، وذلك بسبب ما يعتبره الأديب المغربي أحمد المديني قوة ضاغطة من لدن إيديولوجيا الطبقة الوسطى على وجدان الأدباء. صار الانتماء إلى الأدب رهينا بمفهوم معين من الواقعية، يُملي على أشكال التعبير الفني مُسبقاته الإيديولوجية، ويُحتم على الكتابة أن تخرج من رحم الطبقة الاجتماعية، لكن على نحو رث وسوقي يتبرأ منه منظّروها غربا وشرقا. سمّها واقعية أو قبحا يتجمل باسم الأدب؛ لأن شغف القارئ بالجمال وهزة الروح في حضرة الكلمات لم يعد ممكنا!

تواترت أعمال فنية يُحمّلك كُتابها شيئا من وزر عذاباتهم ومراراتهم وانسحاقهم، وتشردهم في شوارع البيضاء أو طنجة. أعمال تثور على كل شيء، وتهدم كل شيء في الممر المؤدي إلى عالمها الأفضل. تتردد فيها القيم والأفعال النبيلة على استحياء، كأنها في معرض اتهام يوجب عليها التبرؤ، والانحياز لما يشد الإنسان إلى قاع المجتمع وحضيضه.

لكن ما ذنب قارئ ينشُد الجمال والخير والحب، ويبحث عن مبررات لائقة لوجوده وحركته واختياراته؟

في الحديث عن أزمة القراءة ببلادنا، والذي يتردد في الندوات والموائد المستديرة على هامش المعارض، قلما يُكشف النقاب عن الوجه الآخر للأزمة؛ أعني خلل العوامل الذاتية المرتبطة باستعلاء الكاتب، ومنطق اشتغاله الذي يستبعد التواصل مع محيطه القارئ، واكتفائه بترويج قناعاته واتجاهاته، في غياب إنصات مرهف لحاجيات القارئ وتطلعاته.

وضع كهذا من البديهي أن يُلحق الركود بالمشهد الإبداعي، زيادة على حيثيات النشر والتسويق ومشاكلهما، وأن يثير هوامش تنظيمية ومؤسساتية ليعلو غبارها فوق جمالية الأدب والإبداع عموما، لعل آخرها ضجة سحب جائزة المغرب للكتاب من الفائزين، بسبب الشطط في تأويل مادة قانونية.

توهم النظرة السطحية برواج كبير في سوق الأدب، حيث تدفع دور النشر سنويا بآلاف العناوين إلى الأسواق، ويرتحل الناشرون من معرض دولي إلى آخر لتعزيز الحضور والإشعاع، وتزدان قوائم المسابقات بأسماء جديدة، تُنافس في سماء الإبداع وتحصد الجوائز. بالمقابل يرتفع منسوب التذمر والشكوى من عزوف القارئ عن الطلب الذي يتناسب مع العرض.

كيف نقنع قارئ الأدب عموما، والمغربي على وجه التحديد، بأن اللغط الذي يثار كل سنة حول دعم الكتاب من لدن الجهات الوصية، غايته وصل ما انقطع بين الأدب والجمال، وبين مكابدة العيش ومتعة التحليق في عوالم الخيال الفني؟

هل يصدّق أن ديوان الشعر أو المجموعة القصصية التي بين يديه هي منتج لا مادي وجمالي، ينحاز إلى مقولة هدسون:" الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة"، أم سيجاري الوقائع التي يكشفها الإعلام عن هاجس اقتصادي يحكم العملية برمتها؟

يقول الروائي السوري حنا مينة: " لا أكتب لأسلّي الناس أو أجعلهم يقتلون الوقت، إنما لأجعلهم يحصلون على التجربة بسهولة، على المعرفة، وأيضا على المتعة كي يخرجوا من كل رواية وفي أذهانهم أسئلة، وأفكار، ومشاعر."

لذا نؤمن بأن أجمل ما فينا لم يكتب بعد، وبأن الأدب لن يتنازل عن إنسانيته رغم كل الإغراءات والإكراهات. صحيح أن قابلية الأديب للانضغاط واردة في شتى الأحوال، لكن لمسة الجمال لن تفارق أشكال التعبير الإنساني.

ونؤمن بأن المدرسة ستبادر، إن عاجلا أو آجلا إلى استعادة وضعها الطبيعي، باعتبارها رافدا من روافد التنشئة على الجمال والفن، وتحرير الإنسان من نوازع الوحش الذي بداخله.

ونؤمن بأن الأدب الجميل مهما انكمش تحت وطأة صناعة عالمية للتسلية والترفيه، لابد أن يستعيد منبره في المشهد الإعلامي، ويمنح الشعر الرائق، والقصة المؤثرة، واللوحة الكاشفة المعبرة صدارة الترتيب.

ونؤمن بأن البذاءة والإيحاءات الجنسية، والعنف الرمزي الذي يكتنف حدائقنا وشوارعنا، وفضاءات تجوالنا اليومي، وحتى مقراتنا الحزبية والنقابية التي كانت أشبه بسوق عكاظ في الزمن القريب، سيخف تحت وطأة جمال يخطه قلم أديب، أو ترسمه ريشة فنان.

نؤمن لأننا ضقنا ذرعا بحاضر مفعم بقلة الأدب!  

***

حميد بن خيبش

إن الله تعالى خلق الإنسان لغاية محددة في علمه وهي أعمار الأرض والتمتع بخيارتها وبناء علاقات ورابطة بين بني البشر بروابط متينة لبناء مجتمع إنساني راقي في كل مفاصل الحياة (وخلقنا الإنسان من علق) وهداه السبيل المعرفي لهذا المجتمع المتكامل في الصلاح والإصلاح كما قال تعالى (أنا هديناه السبيل أما شاكرا أو كفورا) وقد أكد تعالى في شرائعه وتعاليمه عن طريق رسالاته معرفة النوافذ التي توصل الإنسان إلى مقامات الإنسانية الراقية المنشودة لخدمة البشر بعضهم لبعض لتوفير بنية وقاعدة قوية لبناء مجتمعات حضارية تكاملية وحضارات خلاقة لصنع إنسان راقي في أخلاقه وتعاملاته وعقيدته وأسلوب حياة مثمرة فقد حدد الله تعالى حياة الإنسان بطريقتين أحدهما شخصي بحت وهو التعامل مع الله تعالى لينال الجزاء الأوفى وتزكية النفس الأمارة بالسوء وتنقيتها من درن ومفاتن ومغانم الحياة الدنيا وهي العبادات والإيمان بالله الواحد الأحد وحده لا شريك له والصلاة والصوم والزكاة والحج فهذه العلاقة والطاعة خاصة بين العبد وربه تعالى أما الثاني وهو العمل المهم جدا يكاد يكون متفرد عن باقي العبادات وهو العمل الصالح الرابط العملي بين الإنسان ومجتمعه وبني جنسه الذي أكدت عليه التعاليم والشرائع السابقة والأنبياء والنبيين والرسل والقرآن الكريم حيث الكل تأكد على العمل الصالح كونه المعيار الرئيس لشخصية الإنسان وبشريته ومكانته في مجتمعه وعند الله تعالى الذي يصل بالإنسان السليم خلقا ودينا إلى عالم الخلود في الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين العاملين في خدمة البشرية وأعمار الأرض من خلال زرع الأخلاق والمبادئ والقيم والمُثل الرفيعة والحميدة وإشاعة المحبة والسلام والتسامح والتكامل والتكافل بين شرائح المجتمع الواحد والمساهمة في تطور أنظمته المعيشية وهذا ما أكدت عيه الأديان جميعا عبر العصور لكن الآن قد زادت الحاجة إلى إعادة النظر في كيفية إعادة الإنسان إلى إنسانيته التي فقدها في ظل المتغيرات الجديدة للنظام العالمي المتسارع نحو الهاوية وفقدان ما بدأت به الرسالات والشرائع وإعادته إلى المربع الأول في الدعوة للإصلاح والتوعية الأخلاقية وانتشاله من مركب الرجوع إلى عصر الهمجية والفوضوية والتخلف الفكري والمعرفي والحضاري والأخلاقي بعدما استكان ورضخ صاغرا بنفسيته إلى منغصات ومفاتن الحياة الدنيا وأبتعد عن مراد الله تعالى إلى الفساد والإفساد في الأرض وفساد في العقيدة والدين والفوضى لهذا استدعت الحاجة لإعادة التقييم النفسي والأخلاقي لأنفسنا ومجتمعنا وبناء علاقات جديدة مع بعضنا البعض والرجوع إلى نبع النفس الصافي والعقل السليم والمعرفة الفكرية الجادة والتفكير الحر الصحيح المثمر لمعرفة ما يجري من حولنا في هذا العالم الفوضوي في الأحداث الجديدة.

***

ضياء محسن الاسدي

 

(الطغاة يجلبون الغزاة)

عرف الفيلسوفان أرسطو وأفلاطون الطاغية بأنه: (شخصٌ يحكم دون اللجوء إلى القانون، مستخدمًا أساليب متطرفة ومتوحشة ضد كلٍ من شعبه والآخرين). بينما يقول مؤسس علم الاحتماع ابن خلدون: ان (الطغاة لا يجلبون الخراب والاستبداد والفقر والتخلف فقط، بل يجلبون الغزاة أيضا، وربما يكون الغزاة أرحم منهم، وربما لفرط طغيانهم تضطر شعوبهم لطلب النجدة من الغزاة ليخلصوهم من طغاتهم).

ومنها قوله

حُكْمُ الطُّغَاةِ إلى الأعداء مَجْلَبَةٌ ** والظٌّلْمُ مِنْ قِدَمٍ للظُّلْمِ جَلَّابُ.

كيف يتحول الحاكم الى طاغية؟

افضل من وصف تحول الثوريين الى طغاة هو غابريل غارسيا ماركيز في رواياته المتعددة، مستعرضاً حياتهم وأفكارهم وكيف تغيروا تدريجياً تحت تأثير السلطة، وفي النهاية أصبحوا مثل أعدائهم القدامى، طغاة بزي ثوري.

في الواقع هذه هي تراجيديا السلطة. ويبدو ان هذا الامر يتكرر عبر التاريخ في كل مكان وزمان. قبل إعدام دانتون* بأمر من روبسبيير، صاح قائلا : «ها أنت يا روبسبيير تحولت إلى ديكتاتور!».

اكثر ما يزعج الطغاة هو وصفهم بالطغاة!!اذ انهم يعلنون انفسهم كمصلحين قال تعالى "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" (البقرة: 11)

الطاغية والحرب

الطاغية لا يعيش بدون عدو محتمل يبرر وجوده ولذلك فإن كل الطغاة في كل العصور اشعلوا الحروب المتعاقبة

كان وجود هذا العدو الغازي، الفعلي أو المحتمل المُختلق، ذريعة مناسبة لاستمرار الطغيان، على النحو الذي تنبه إليه شاعر الإسكندرية في العهد الإغريقي.

** قسطنطين كانافيس حين قال في إحدى قصائده: “لأن الليل قد أقبل ولم يحضر

البرابرة / ووصل البعض من الحدود / وقالوا إنه ما عاد للبرابرة وجود /ماذا

سنفعل الآن بلا برابرة؟/ لقد كان هؤلاء الناس حلاً من الحلول”.

***

فارس حامد عبد الكريم

...........................

* جورج دانتون: (1759 - 1794 ميلادية)، زعيم ثوري فرنسي ومحامي وخطيب بارع من زعماء الثورة الفرنسية وكان من ألمع محامي باريس. من أقواله: "الشيء الوحيد الذي أندم عليه أنني سوف أعدم بالمقصلة قبل الحيوان الذي يُدعى روبسبييرو".

** استوحى الشاعر النص من حكاية فحواها أنه قد شاعت في المدينة أخبار أن البرابرة قادمون لغزو المدينة، ومنذ الصباح الباكر لبس الحاكم أفضل ثيابه ووضع نياشينه وانطلق على رأس وجهاء المدينة نحو الحدود بانتظار قدوم البرابرة لمقابلتهم وصدهم، لكن حل المساء من دون أن يأتي البرابرة، حينها قال الحاكم بأسى: “واأسفاه . . لم يأتِ البرابرة، فلقد كان في مجيئهم نوع من الحل” .

الواقع السائد في ديارنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى لا يمثل حقيقتنا وجوهر ما فينا، وإنما هو مُشكّل وفقا لمصالح الدول التي غنمتنا بعد هزيمة الدولة العثمانية، في حرب لا نافة لها فيها ولا جمل، وكأنها سلوك إنتحاري مقصود للقضاء عليها، مما يثير شكوكا حول الشباب العسكريين الذين أخذوها إلى حتفها.

ويبدو أن مجتمعاتنا لم تستطع إستعادة ذاتها وقدرتها على التواصل الحضاري، وظهرت فيها نظريات عقائدية وحزبية تريد ذلك، لكنها لا تمتلك مهارات تحويل الفكرة إلى حالة عملية قابلة للتطبيق المؤثر، والمتفاعل مع الواقع لتطويره وحث المواطنين للمساهمة في تثمير الفكرة .

المسافة شاسعة بين نحن المستوردة، أو المصنعة في بلاد الطامعين بنا، ونحن الحقيقية، مما تسبب بتداعيات متراكمة، لأن نحن المستوردة ذات قدرات إعلامية وسياسية وعسكرية، بينما نحن الحقيقية تلوذ في ضعفها وعدم قدرتها على التعبير عن نفسها.

ووفقا لذلك فالأمة تحت ضغوط سلخها من ذاتها وهويتها، ودفعها لإرتداء أسمال الذل والهوان والتبعية والخنوع والإبتذال، وعندها تتحرر من جوهرها، وتبتعد عن مسيرتها وتذبل إرادتها، وتتحول إلى عصف مأكول.

والموجع في الأمر، أن العديد من أبنائها يتهافتون على مسخها والتغني بالمستوردات، والتفاعل معها على أنها تمت بصلة لجوهرها وحقيقتها، فتجد ميادين الإبداع تحفل بما ينال من الأمة ويفتت وجودها، ويتباهى بالتواصل مع المستحضرات المسوقة لتشويهها وسحق ذاتها وموضوعها.

وبرغم أن طريق البحث الجاد عن ذات الأمة موحش وعسير، فلا بد لأجيالها أن تستردها وتسعى في رحاب قدراتها الحضارية، ورسالاتها الإنسانية القائدة الرائدة.

فواقعنا لا يمثلنا بل يمتهننا، ويشوّه حقيقتنا، وعلينا أن نتمسك بجذورنا، ونعلي دوحة وجودنا الوارفة الظلال.

إنها نحن أغاضت إننا

حشروها كوجيعٍ بيننا

جلبوها من ديارٍ بعدت

وطنوها لتعادي كلنا

ذاتنا أصلٌ وصدقٌ نهجنا

وعلى الآفاق دامت أمنا

***

د. صادق السامرائي

 

غاب البابا فرنسيس حاملاً معه أعلى مراتب الانسانية. ورث عن بلاده الارجنتين حب كرة القدم، والسعي لاشاعة السلام والمحبة بين الناس.. كلمة "الأمل" كانت آخر ما كتب البابا ونشرها قبل وفاته وقد وضعها عنوانا لمذكراته .

خورخي ماريو بيرغوليو الذي اطلق على نفسه اسم فرنسيس، المولود في العاصمة الأرجنتينية قبل 89 عاما، كان شغوفاً برقص التانغو، ومشجعاً متحمسا لكرة القدم. ما ان تولى كرسي البابوية حتى رسم درباً أخلاقياً قائلاً: " كم أودّ أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء".

يرحل البابا فرنسيس، الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه وعاش معه العالم كل يوم صورة من صور المحبة. الرجل الذي اقترب من التسعين، كان يحمل سنينهُ المتعبة ويحط الرحال في مخيم للمهاجرين في جزيرة ليسبوس اليونانية من أجل الدعوة إلى دمج أفضل للاجئين في أوروبا.. شاهدنا البابا وهو يتألم على معاناة الهاربين من بلدانهم. قال إن على العالم أن يعامل اللاجئين بإنسانية أكبر. ربما سيخرج علينا البعض، ممن يضربون كفاً بكف وهم يقرأون أن الرجل العجوز قطع مئات الكيلومترات لأنه يريد أن يواسي المساكين، في الوقت الذي يريد ساستنا أن يثبتوا للعالم أنهم أقوى من مشاهد العطف وأن لا مكان للضعف في هذه البلاد، فالبقاء للأقوى والذي يملك النفوذ والسلاح ومعه الأموال التي نهبت في وضح النهار.

رفع البابا صوته وصلواته للفقراء، وقال انهم "لا يبحثون عن الرفاه، بل عن الحياة". وكان يطالب الحكومات ان تتعامل مع شعوبها لا بلغة الارقام، وانما بلغة المحبة والانسانية، لم يكن البابا الراحل فرنسيس يوماً زائراً غريباً عن المنطقة، وعن الشرق الأوسط، بل كان يحمل في قلبه الحب لجميع شعوب العالم، ويحمل بلسانه لغة الحوار والعدالة التي يفهمها الجميع بمعزل عن اختلاف لغاتهم.

في بلاد الرافدين التي اصر قادتها الميامين على مصادرة بيوت المسيحيين ومطاردتهم وتسليم شؤونهم وامورهم الى "المناضل" ريان الكلداني، في هذه البلاد اخذ البعض يسخر من البابا ويتهمه بتشجيع الفسق والفجور، صفحات تنتمي لاحزاب دينية فشلت في ادارة العراق وساهمت في سرقة اخلام مواطنيه وقبلها ثرواتهم، وجدت في رحيل البابا ضالتها فطالبت بان لا نترحم عليه، كما طالبنا السيد ريان الكلداني ان لا نفرح بالكاردينال ساكو وان لا نعيش معه في الاوهام، بل قرر السيد ريان ان الحديث عن الكاردينال ساكو امر مرفوض "مرفوض يا ولدي"!!.

كان السيد ريان الكلداني، قد قرر من قبل أن يخرج بتظاهرات تسخر من الكاردينال وتشتمه وتطالب بطرده، مثلما قرر رئيس جمهوريتنا ذات يوم ان يعتبر الكاردينال ساكو موظفا في قصرة، فأمره بتهجيره من بغداد .

***

علي حسين

الذي أصاب مجتمعاتنا من الويلات والنكبات تغلبت عليها وفقا لمفهوم الأمة، وطاقتها المتجددة المتماسكة المعتصمة بذاتها وموضوعها.

وما حصل بعد الحرب العالمية الأولى، إستدارة مرعبة، تقطعت بموجبها أوصالها، فتفتت كينونتها، وتسربت في بدنها المفاهيم التمزيقية، وهي ترفع رايات متنوعة لا تعرف سوى النزق الوهمي المتوج بالدعوات التحزبية والقومية، وغيرها من التوجهات التفريقية الداعية للتصارع البيني.

وكان للنفور من التأريخ دوره، بإيهام الأجيال أنه بشع ومشين ودموي يعصف به العنف والظلم القبيح.

فتأهلت مجتمعاتنا لإستيرادات متنوعة، وأعطتها إسم الحداثة والمعاصرة، فصرنا ننكر تراثنا ونعاديه ونمسخه، وأصبحنا نتحرك بلا جذور كالشجرة التي تسعى للجفاف والخواء، وتأكدت التبعية والشعور بالدونية، وأذعنا للإستلاب الغاشم من قبل الطامعين بنا، مما تسبب بظهور حالات زادت في تعزيز السلوك السلبي، ومنح المعادي مبررات النيل منا.

وانشغلت النخب بالتراث والمعاصرة والنظرية والتطبيق، والقومية والوطنية، وتشطى وجود الأمة، وداهمتها إندفاعات الشباب المتوهم، المشحون بالتصورات الطوباوية الإقتحامية ذات المجازفات المرعبة.

وما مرت به مجتمعاتنا منذ بداية القرن العشرين، يؤكد أن علة الأمة بقادتها، فالدولة العثمانية أسقطها شباب حركة تركيا الفتاة  وعلى رأسهم أنور باشا (1881 - 1922)، ولا تزال مجتمعاتنا تعاني من قادتها  الذين يجردونها من جوهرها الحضاري، ولا يحفزون القدرات ولا يلمّون شمل الوجود المتماسك العزيز لأبنائها، لأنهم ينكرون الأمة ويتواصلون في مسيرة الحفاط على مصالح الطامعين بها.

وبفقدان مفهوم الأمة ضاع الإنسان في مجتمعاتنا، وخوت مسيرتنا على عروشها، وأصبحت حالتنا كالعصف المأكول، تذروه رياح التدخلات الخارجية الساعية للإستحواذ على البلاد والعباد في بقاع دولنا كافة.

فأين الأمة؟

 و " كنتم خير أمة ...."

أمةٌ غابت وشعبٌ حائرُ

ووجيعٌ بحماها دائرُ

وسراةٌ في رباها قامرتْ

وشبابٌ من هوانٍ ثائرُ

وكذا الأيام عنها إنزوتْ

وتولاها طموعٌ جائرُ

***

د. صادق السامرائي

ألف قارون وقارون في زمننا المعاصر، فكيف يفكرون، وماذا يفعلون بأموال لا تملكها دول؟

الفرد يملك أكثر من ميزانيات عدة دول!!

ماذا يجري في الدنيا؟

هل من العدل والإنصاف أن يستحوذ فرد على البلايين، والملايين من الناس تتدثر بالحرمان من حقوق الإنسان، وفي كل ساعة يموت المئات من الأطفال جوعا ومن الأمراص السارية والمعدية، والبلايين في قبضة بضعة أفراد.

"...فما جاع فقير إلا بما تمتع به غني"

فهل أن الأغنياء سرقوا أموال الفقراء؟

كيف يجوز ذلك؟

هل لعلة عند الفقراء، وميزة عند الأغنياء؟

ظاهرة البليونرية برزت في القرن الحادي والعشرين، ولم تكن واضحة في القرن العشرين، فالمتعارف عليه الحديث عن المليونرية، وليس البليونرية، وبعضهم يحلم أن يحطم الرقم القياسي ويصبح ترليونيرا.

ويبدو أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الترليونات الفردية، وميزانيات العديد من الدول بضعة بليونات.

فمَن سيحكم العالم؟

و"الفاقة هي أم الجرائم"

كـأن البشرية تؤهل نفسها للقلاقل، وتريد إستحضار القارعة!!

"ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض...."

و"السلطة والمال يكشفان طبع البشر"!!

***

د. صادق السامرائي

 

لا أحب مجالسة الأشخاص الذين يضعونني في حالة دفاع دائم. أولئك الذين يجعلونني مضطرًا إلى تبرير أفكاري ومقاصدي، والوقوف حارسًا على أبواب نفسي، كأنني في محكمة دائمة. أهرب منهم كلما تحولت الأحاديث إلى محاكمة للذوق أو النوايا أو حتى الأحلام.

لكنني، كلما مرت بي لحظة راهنة، تذكرت الماضي بكل تفاصيله. تذكرت قرية تلبانة حين كانت الحكايات تُروى في العصاري، لا على وسائل التواصل. كانت طفولتنا تتفتح في حضرة الكبار، في تلك الجلسات العتيقة التي سبقت صعود "النواطير" المتصدرين للمشهد في أيامنا هذه. جلسات كانت تُدار في جرن العمدة، الحاج أحمد عبد المنعم خفاجي، الذي كان يُشعل سيجارته ويضبط الإيقاع بابتسامة عريضة، وكأننا في مشهد من روايات نجيب محفوظ، ننتقل بين القاع والحرافيش و"صرصرة على النيل"، لكن على طُرُح الكنب وقش الأرز وسلالم البيت، حيث يتجاور وجهاء القرية وأبناؤها من مختلف الأطياف.

كان مجلس العمدة بمثابة برلمان شعبي، تُعرض فيه الخلافات وتُحل النزاعات، تُوزّع فيه الصحف، وتُناقش فيه مقالات الرأي كما لو كنا في ندوة فكرية. كنت حينها طالبًا في الجامعة، أتناول جريدة "الأهرام" وأتبادلها مع المرحوم  الحاج /محمد السعيد علي، أحد الرعيل الأول لجماعة الإخوان، وأحد الذين صدرت ضدهم أحكام في قضايا عام 1965. يطلب مني بصوت خافت قراءة مقال فهمي هويدي، فيبتسم العمدة ويوصي بقراءة أحمد عبد المعطي حجازي، وسيد أحمد، وأمين العالم... دون أي دراسة أكاديمية، عرفوا طريق الفكر بالفطرة، بالموهبة، وبالقراءة.

تلك كانت جلسات العصر، أما بعد صلاة العشاء، فكان المكان ينتقل إلى منزل الشيخ صالح قورة، صاحب الكاريزما والوجاهة، الفلاح الفصيح. هناك، في المندرة والبرندة، كانت تُصاغ التحولات الكبرى في القرية؛ من بناء مجمع المعاهد الأزهرية، إلى الإعداد لاستحقاقات المجالس المحلية والشعب والشورى.

كان ذلك زمنًا يشبه زمن الرُشد، حيث يحضر العزم مع وضوح الرؤية، لا عبث المرشحين العشوائيين في أيامنا. ولعل أكثر الجلسات التي سكنت الذاكرة، تلك التي جمعت المرحومين: الأستاذ محمد عقل، أحد رموز التيار الناصري وعضو مجلس الشعب السابق، واللواء حسن خالد حماد، صاحب التاريخ العسكري والصداقة المتينة مع عقل، رغم اختلاف المواقع والانتماءات.

في تلك الجلسة، التي تزامنت مع انتخابات الثمانينيات بنظام القائمة النسبية، والمرشح في قائمة تحالف حزب العمل مع جماعة الأخوان/المهندس المرحوم خالد حماد ...  دار النقاش حول موقع المهندس خالد حماد في القائمة. اعترض البعض على أن رقمه في القائمة (الرابع) ضعيف، بينما وقف الأستاذ/ محمد عقل ليشرح المعادلة ببساطة العالم: بأن النظام يتطلب تمثيل 50% عمال وفلاحين، وأن الرقمين الثاني والرابع في القائمة أكثر حظًا من الأول والثالث، نظرًا للتركيبة الداخلية لقائمة الحزب الوطني، حيث تُمنح الأفضلية أحيانًا للعناصر المحسوبة على الفئات على حساب تمثيل العمال والفلاحين.

خرجنا من تلك الليلة – نحن الصغار والكبار – نُعجب بذلك الحضور العقلي والسياسي، وبمشهد يحتشد فيه الناس في شارع الشيخ صالح من أنصار الجبهتين، دون أن يتحول الخلاف إلى عداوة.

بل إن المحبة بقيت حتى آخر الأيام، حين زار اللواء حسن خالد صديقه محمد عقل في مرضه الأخير، برفقة المرحوم عادل فتوح. كانت زيارة مليئة بالعِتاب النبيل، لأنه لم يكن يعلم أن عقل قد عاد إلى البلد، بعد أن ظل يتصل على هاتف الشقة في القاهرة. كان عتابًا يحمل نُبل الأيام الماضية، وتأكيدًا على أن الخلافات لم تكن يومًا خصومات.

تلك الوقائع نحتاجها اليوم، في زمن اختلطت فيه السياسة بالهزل، وتحوّل كل شارع إلى مسرح للمرشحين، إلا شارعنا، الذي ينتظر الهبوط الاضطراري لمرشح قادم بـ"باراشوت" فوق سطح مسجد الخفاجية وحارة الطبالة، لتصدح الفرقة الموسيقية بنشيد "يا أهلاً بالمعارك".

أي زمن هذا الذي نعيشه...؟

وأي زمن ذاك الذي كان...؟

فرقٌ شاسع بين جلسة تصنع الوعي، وجلسة تصطنع الوجاهة؛ بين رجال كانت لهم مواقف، وآخرين لا يملكون سوى اللهاث وراء موقع، دون فهم للموضع. وهذه هي خلاصة النظرية التي وضعها أستاذي الشهيد/ جمال حمدان في موسوعته العبقرية عن "الشخصية المصرية"، حين ميّز بين من يعرف "موضعه" في التاريخ والجغرافيا، ومن يسعى فقط إلى "موقع" في الصورة....!!

***

محمد سعد عبد اللطيف – كاتب وباحث مصري

 

منذ سنوات وأنا أقرأ كلّ ما يقع بين يدي من كتب عن البلاد العجيبة اليابان، وأدهشني الأدب الياباني من كواباتا مروراً بكنزابورو أوي وميشيما، وانتهاءً بأشيغورا وموراكامي . شعب يكتب بحروف عجيبة، لكنه يقدّم لنا كلّ ما يسهّل علينا الحياة.

بعد أن خسرت اليابان الحرب عام 1945 قرّر الشعب المهزوم والجائع أن يعيد بناء المصانع والبيوت والشوارع، وكان شعاره "العمل حتى الموت"، اليوم الحكومة اليابانية تواجه مشكلة باقناع المواطنين بأن يتوقفوا عن العمل ولكن المواطن الياباني يصر على العمل لساعات متأخرة. ولا تسأل ياسيدي القارئ لماذا نحن أفضل من اليابان عندما قررنا أن يتمتع العامل والموظف بمكرمة عبارة عن "عطلة بين عطلة وعطلة".

وعلى ذكر اليابان وعجائبها كنت أعيد قراءة كتاب ممتع بعنوان "العرب من وجهة نظر يابانية" كتبه البروفيسور "نوبواكي نوتوهارا" وهو باحث وأستاذ جامعي قام بجولات كثيرة في بلدان العرب، اطلع على حالهم وأحوالهم.. السيد "نوتوهارا" يخبرنا أنهم في اليابان يعجزون عن فهم، كيف لا يحترم المسؤول القانون ويذكر السيد نوتوهارا مثلاً من بلاده فيكتب: "أذكر مثلا في تاريخنا القريب السيد تاناكا من أقوى الشخصيات التي شغلت منصب رئيس الوزراء عندنا. لكن الشرطة اعتقلته من بيته وذهب إلى السجن بالقبقاب الياباني، عندما اكتشفت الصحافة فضيحة لوكهيد، حيث حوكم وسجن كأي مواطن عادي".

ما هذه الإساءة أيها البروفيسور الياباني؟ هل تعتقد أن المسؤول مواطن عادي يمشي على الأرض؟، إنه ملاك، لا يأتيه الباطل، وإذا أخطأ، فإن الشعب هو السبب لأنه يريد منه مستشفيات وسكن وطرقات وعمل ومدارس حديثة، والمسؤول العراقي مشغول بإرشاد الشعب إلى الطريق المستقيم ومحاربة الانحلال ونشر الفضيلة.

في خبر مثير وطريف عن بلاد العجائب والغرائب اليابان، نقرأ ان سائق حافلة ياباني عمل 29 عاماً خسر تعويضه التقاعدي البالغة قيمته 83 ألف دولار، بعد سرقة ما يعادل 6.82 دولارا من سعر تذكرة الركاب. وقد اعتبرت المحكمة أنّ سلوكه قد يقوض الثقة العامة في النظام والإدارة السليمة لخدمة الحافلات.. ما هذا ياسادة، لماذا تسخرون منا، في هذه البلاد تمكن شاطر اسمه نور زهير من سرقة مليارين ونصف من الدولارات دون ان يحاسبه احد. نحن ياسيدي لا نزال نشاهد المسؤول العراقي يظهر بكل ترفه وهو يوصينا بالحذر.. بعد 22 عاماً من الديمقراطية تبين أن هناك أكثر من عشرة ملايين عراقي تحت خط الفقر ومجموعة مليارديرية تكونت ثرواتهم من سرقة اموال هؤلاء الفقراء .

6 دولارات انهت مستقبل مواطن، فيما نحن في هذه البلاد يريد لنا أن نعيش عصر المال السائب، لأن البعض يعتقد أنّ التغيير الذي حصل عام 2003، قام من أجل ان يتمتع نور زهير وجماعته بمليارات العراق .

***

علي حسين

"إذا وعظت فأوجز، فإن كثير الكلام يُنسي بعضه يعضا"!!

عندما يكون الفعل خاويا سيصبح الكلام مسهبا، وقد ركز أجدادنا أيام الجد والإجتهاد على ما قل ودل، وإهتموا بالمختصرات، وإبتعدوا عن الإسهاب.

وتجدنا اليوم نطيل الكلام قولا وكتابة ونحسبه عملنا الأكمل.

وهذا يعني أننا أمة عاطلة وتتحرك على هامش عصرها.

لماذا نمعن في الإطالة عندما نخطب ونكتب؟

هل لقتل الفراغ، لوفرة الوقت وفقدان قدرات إستثماره بما ينفع، ونتوهم بأن الكلمات هي خلاصة ما نستطيعه للمساهمة في شيئ ما.

من الصعب تفسير الحالة الرائجة في منابر المثقفين والإعلاميين، والذين يتصورون بأنهم من النخب والعارفين.

المهيمن على تفاعلاتنا الكلامية والكتابية، ما كثر وضل، فتجدنا نتيه في إستحضار المفردات المبهمة والمصطلحات المستوردة، ونتباهى بأننا نفعل شيئا متميزا بإستعمال ما لا تطيق هضمه الأفهام.

الفكرة يجب ان توضع في أقل كلمات تعرفنا بها، وتقدمها لعامة الناس بأسلوب واضح بسيط يبني الذخيرة المعرفية، ويؤسس لصناعة تيار ثقافي يطمح للتغيير والتأثير.

أما الكتابات الغامضة فتدفع للنفور وإهمالها، والترفع عنها لأنها تتسبب بوجع الرأس والغثيان والإنزعاج من الإقتراب منها.

العالم يعيش زمن الوضوح والدقة والجد في العمل، فما عاد محلقا بالتصورات والتهيؤات والتحليلات الطوباوية الإفتراضية، إنه عملي ومبدع وقادر على تحويل الأفكار إلى موجودات متحركة فوق التراب، لا كلمات تغيب في الهواء أو تمتطي ظهر السراب.

بإسهابٍ كتبنا ما اختصرنا

بدائعنا بأوهامٍ رسمنا

فحدنا عن مطالبنا كثيرا

كلاما دون معنى قد أتينا

فلا تعتب على شعبٍ تردى

فكل أثيمةٍ فينا علتننا

بإطنابٍ يعقدهُ غموض

نفورا في مواطننا بعثنا

***

د. صادق السامرائي

 

مناهج إبتكار المصطلحات ونشرها في أرجاء مجتمعاتنا آلية مغرضة تهدف للدمار والتصارع المبيد، وقد بدأ المشروع منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبلغ ذروته بعد الحرب العالمية الأولى وتواصل حتى اليوم.

وقد وفر تبريرات سهلة للمفكرين والكتاب الذين ساهموا بترسيخها وتعزيز النظر بواسطتها، فصار لكل سؤال جواب جاهز وتعليل بارز، ولهذا ما إختلفت أجوبة المفكرين والنخب المعرفية، وتمترست في أوعية لماذا، وأجوبتها التي تمليها المصطلحات المتداولة.

وبموجبها، تخندقت مجتمعاتنا في حفر زمنية لا تستطيع مغادرتها، فلو تفحصت ما يُنشر بيوم واحد في أي موقع أو واجهة إعلامية، فستجد النسبة العظمى تتحدث عن الماضيات المأسورات في فترات زمنية سلبية الأبعاد.

بينما لو قرأت ما تنشره مجتمعات الدنيا في عام واحد فلن تجد إلا ما ندر عن الماضيات، ونحن في وعينا الجمعي نلغي عشرات القرون ونفسر ما يحصل في ديارنا اليوم، وفقا لما جرى منذ أكثر من أربعة عشر قرنا.

بينما الواقع المعاصر يفند الإدعاءات، فالأمور بخواتمها، وما نراه يبرهن على صوابية الأحداث رغم مآسيها وقسوتها.

السطوع الحضاري بدأ بعدها، والدين إنتشر وتنامى بعدها، والأمة حية وحاضرة في عصرها، وما يُراد من نشر المصطلحات هو التثبيط، وتنمية مشاعر الضعف وتأمين التبعية والخنوع للآخرين الطامعين بوجودنا.

عصرنا ملكٌ لنا يا أمتي

فاستعيدي مجد روح العزة

واستفيقي من سباتٍ جاثمٍ

قد نهانا عن مدار القدرة

وابشري إنا استعدنا ذاتنا

وبدأنا ببناء الفكرة

***

د. صادق السامرائي

 

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60).. سورة الرحمن

"اتق شر من أحسنت اليه"  الجحود المعروف ونكران الجميل سلوك بشري عكس الوفاء . الجاحد لا يؤتمن ولا يمكن الثقة به فهو منافق. لا توجد اي تفسير مقنع لماذا ينكر الأنسان من احسن اليه يوما من الأيام، ولكننا نلتقي يوميا ونحن نتحدث الى أصدقائنا كيف جحد بهم الأقربون قبل الأبعدين.

لا بد ان نكون عادلين في تقيمنا ونذكر بان هناك أناس أوفياء لا ينسون منً احسن اليهم طول العمر. هؤلاء طيبون النفس اما الآخرون فيعبهم حاجتهم يوما ما فيتحول المحسن اليهم إلى عدوهم. ولكل منا تجربته الشخصية في هذا الأمر ويعاتبني ابني الصغير حين نتحاور قائلا لم تكن مجيرا ان تساعد احد. فارد عليك عن وجود مسؤولية أخلاقية في مساعدة الآخرين عند الحاجة وكما قال الأجداد:

"إذا أكرمت الكريم ملكته".....

الجميل في جميع الديانات السماوية ان الإحسان جزء من العبادة وفرض على الغني في مساعدة المحتاج وقد شرع لذلك العديد من الحالات يتمكن فيه المؤمن دفع حاجة الناس والفقراء منهم والتضامن معهم. لكن البشر ينسون "الفضل " متحولين إلى أعداء بقدرة قادر.

وجدت ما يشابه ذلك في اللغة الرومانية مفادها؛

"أن من لا تدعه يموت هو أول شخص يؤذيك ويحطمك."

العديد من السياسيين الذين جاهدوا في خدمة الناس نراهم ومن قبل هؤلاء الرعاع يقتلون ويمثل فيهم وفي جسدهم والتاريخ مليء بتلك الحوادث. مساعدة الآخرين مرتبط ربما بالشعور بالذنب ذلك هؤلاء المتسولين "المجادي" المنتشرون في كل مكان نراهم يدعون للناس بالصحة والعافية وليبارك الرحمن في مالهم وحالهم. هؤلاء ممن يطلبون العطايا مُسترحمًين ومُتوسِّلين والمنتشرين في بوابات المساجد والكنائس ودور العبادة والمراقد وفي العصر الحديث في مراكز التسوق الكبيرة وفي الشوارع المزدحمة وكانوا قبل ذلك ينتقلون بين الأحياء ويدقون الأبواب طلبا للمال والعطايا، غير هؤلاء ممن "ضاقت بهم الحال وهم في حاجة إلى المساعدة.

لكن شعور الناس بانهم لا يستطيعون تقديم الشكر الكافي لمن احسن عليهم يكون لديهم شعورا سلبيا يدفع بهم مقت "المحسن" اليهم من الناس.

ولله في خلقه شؤون.

***

د. توفيق رفيق التونچي - السويد

في البدء كان الملح، ثم صار العيش، ثم صار بينهما ذلك الوهم الدافئ الذي نسميه "العلاقة". نعتقد أن سنوات العيش المشترك، وموائد الملح التي تشاركناها، تكفي لصنع أصالة حقيقية بيننا وبين الآخر. ننسى أن الملح قد يذوب في الماء دون أن يترك أثرًا، وأن العيش قد ييبس في الهواء دون أن يحتفظ بطعمه. 

العلاقات لا تقاس بكم السنوات، ولا بعدد اللقاءات، بل بنوعية ما يزرع في الفراغات بين قلبين. كم من شخص عرفناه منذ الطفولة، وها هو يخوننا ببرودة تفوق غدر الغرباء! وكم من غريب مر بنا كنسيم عابر، فترك فينا بصمة إنسانية لا تمحوها السنين. الأصالة ليست نتاجًا تلقائيًا للزمن، بل هي هبة نادرة تمنح لأرواح تعرف كيف تتحدث بلغة الصمت، وتقرأ ما بين السطور. 

العيش والملح مجرد استعارة جميلة، لكنها ليست قانونًا. بعض العلاقات تخبز في فرن الأيام فتصير كالحجر، وبعضها يقدم طازجًا كخبز الصباح، ثم يظل طريًا حتى في عز الشتاء. ليست المشكلة في الوصفة، بل في الأيدي التي تعجنها. هناك قلوب تختمر فيها النذالة كالخميرة، مهما طال وقت العجن، وأخرى تفيض شهامة كالعسل، حتى لو لم تذق منها إلا قطرة واحدة. 

ربما حان الوقت لأن نحرر علاقاتنا من سطوة "المطبخ" التقليدي، حيث كل شيء يقاس بالكم والقدم والمظهر. لنبحث عن تلك اللحظات التي تشبه ضوء الفجر الخافت: لا تحتاج إلى دليل لإثبات جمالها، ولا إلى شهادة زمنية لتأكيد قيمتها. الأصالة لا تورث، ولا تكتسب بالمصادفة، بل تمنح كهدية ثمينة من أولئك الذين يحملون في داخلهم بوصلة إنسانية لا تضل أبدًا. 

في النهاية، العلاقات الحقيقية تشبه النجوم: بعضها ينير سماءك رغم أنه قد يكون قد انطفأ منذ ملايين السنين، وبعضها يسطع أمامك كل يوم، لكنك لا تراه إلا عندما تغمض عينيك وتتذكر أن الجمال الحقيقي لا يرى دائمًا بالعين المجردة. 

لكن ماذا بعد أن ندرك زيف هذه المعادلة؟ ماذا نفعل حين نكتشف أن "العيش والملح" لم يعد ضمانة للوفاء، ولا حتى مؤشرًا على العمق؟ 

الحياة تعلمنا أن بعض الأشخاص يأتون كالمطر – يعبرون سريعًا، لكنهم يروون أرض القلب العطشى. بينما آخرون يشبهون الجدران القديمة: تلمسهم كل يوم، لكنك لا تشعر بهم أبدًا. الفرق ليس في القرب أو البعد، بل في ذلك السر الغامض الذي يجعل روحًا ما تلامس روحًا أخرى دون استئذان. 

نخطئ حين نربط القيمة بالزمن، كأن الوجود الطويل كفيل بصنع معنى. لكن الحقيقة أن بعض اللحظات الخاطفة تضيء أكثر من عقود كاملة. كلمسة يد في لحظة يأس، أو صمت يفهمك دون حروف، أو ابتسامة تأتيك من إنسان لم تنتظره، فتمسح عنك تعب السنين. هذه هي الكيمياء الحقيقية – لا تلك التي تصنعها الموائد المشتركة، بل التي تصنعها اللحظات الصادقة. 

النبلاء والغرباء

أغرب ما في الأمر أنك قد تجد أرق الناس حيث لا تتوقع. قد يمنحك سائح عابر إحساسًا بالأمان لم تجده في أقرب الناس إليك. وقد يقدم لك غريب كلمة صدق تعيد إليك ثقتك بنفسك بعد أن هدمها من كانوا يدعون المعرفة بك. 

لماذا؟ لأن الشهامة لا تقاس بمدى معرفة الآخرين بنا، بل بمدى معرفتهم بأنفسهم. النبيل هو من يرى فيك إنسانًا، حتى لو لم يعرف اسمك. أما الجاهل فينظر إليك كظل عابر، حتى لو شاركك حياته كلها. 

الحرية من وهم "الضرورة"

الأخطر من كل ذلك هو اعتقادنا أن بعض العلاقات "ضرورية" لمجرد أنها قديمة. نبقى فيها كالسجين الذي أُعجِب بزنزانته. ننسى أن الوجود المشترك لا يجب أن يكون سجنًا، ولا أن التقاليد الاجتماعية ينبغي أن تكون قيدًا. 

لكن الحرية الحقيقية ليست في الهروب من العلاقات، بل في اختيارها بعينين مفتوحتين. في أن تعرف متى تمسك بيدٍ، ومتى تترك أخرى. في أن تفهم أن بعض الأشخاص كانوا محطة، وآخرين سيكونون الطريق نفسه.

 العلاقات قصائد لا قوانين

في النهاية، لا توجد وصفة جاهزة للقلوب. كل علاقة قصيدة تكتبها الأيام بأحرف من نور وظلام. بعضها يقرؤها العالم كله، وبعضها لا يفهمها إلا شخصان فقط. لكن الجميل فيها أنها لا تشبه بعضها أبدًا. 

لذلك، توقف عن البحث عن "العيش والملح" في كل مكان. ربما تكون أجمل اللقاءات تلك التي تأتي بلا توقعات، كزهرة تنبت بين الصخور، أو كنجم يظهر فجأة في ليلة مظلمة. فقط افتح قلبك، ودع الحياة تقدم لك دروسها بلغتها الخاصة. فالحب الحقيقي لا يعرف القوانين، والأصيلة لا تحتاج إلى شهادات.

***

د. عبد السلام فاروق

الأمة فيها مفكرون وفلاسفة مبدعون متنوعون غارقون بنشاطات ضعيفة الجدوى.

مشاريع ورؤى وإبداعات خالية من روح التواصل مع الحياة، ومحلقة في فضاءات التهيؤات، وكل يحسب ما قدمه للحق وارث.

وبعبارة أخرى يعبّرون عن التطرف والغلو، ويرون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة على مقاساتهم التي تنسف ما عداها.

أنظروا إلى مفكرينا، فلن تجدوا مَن يحيد عن التمسك بأن طريقي هو الطريق وغيري لا طريق، مشروعي هو المشروع وغيره لا مشروع، وكل يبني منطلقاته على ما يعرف ولا يستطيع التفاعل مع غيره لكي يتوسع ويرى أوضح.

أحد المفكرين والمثقفين المعروفين، يرى أن إبن رشد هو حلاّل مشاكل الأمة، بعد عدة قرون على وفاته (1126 - 1198)، وهو الذي عجز عن التفاعل الإيجابي مع عصره، وتحول إلى حالة منبوذة من قبل الفقهاء الذين كان سيّدهم، وآخرون يرون أن العلة في طبقات العقل العربي ويسمونها كما يحلو لهم، وطروحات عديدة أخرى نجم عنها عشرات ومئات الكتب، وما بعثت الأمة ولا أخرجتها من محنها المصفودة بها، وهي التي إمتلكت أدوات الصيرورة الحضارية المعاصرة.

فبها ثروات عقلية ومادية صالحة للإنطلاق الأصيل، وهذا يشير إلى أن العيب في نخب الأمة الذين تورطوا في زاوية حادة مكونة من ضلعي الدين والتراث، وقدموا ذات الطروحات المكررة المتداولة عبر الأجيال المخمّدة الموؤدة في ذاتها وموضوعها.

إن الخروج من هذا المأزق المصنّع في مختبرات الآخرين والذين يفعّلونه بمخالبهم وأنيابهم، يتطلب التحرر من قبضة المناهج التي رسختها النخب في الوعي الجمعي.

فالأمة متوثبة ومنطلقة لمستقبل أفضل، وهي ليست منحطة أو منكسرة، إنها أمة حية، وعلى قياداتها أن تؤمن بقوتها وقدرتها على المواكبة والمسابقة، والتعبير عن جوهرها الذي لابد له أن يسطع وينتصر على المعوقات والمصدات، ويفند الحروب النفسية الشرسة الغاشمة ويهزمها!!

أمة تحيا وشعب خالدُ

وشبابٌ لذراها صاعدُ

أيها المكبوت فيها إنطلقْ

وتحدّى أنت فيها القائدُ

يا ربوع العُرب يا روح الورى

ثورةٌ تُذكى وعزمٌ واعدُ

***

د. صادق السامرائي

في الحكم والامثلة والاقوال والشعر غالباً ما يتم طمس تمييز حاسم بشكل مأساوي: الفرق بين الجهل والغباء. لذا، لأولئك الذين يعانون من هذه المعضلة الفلسفية المعقدة، اسمحوا لي ان انير الطريق الى التنوير (أو على الأقل لفهم معتدل).

الجهل ببساطة هو نقص في المعرفة. انت لا تعرف شيئاً ما. ربما لم تتح لك الفرصة لتعلمه ابداً. ربما كانت المعلومات مخفية في مجلد مغبر في مكتبة منسية (او غير متاحة بسهولة على الويكيبيديا). الأمر يشبه عدم معرفة كيفية التحدث باللغة السنسكريتية. هذا لا يجعلك سيئاً، فقط… لديك تحدي في اللغة السنسكريتية. الجهل قابل للشفاء. يمكن علاجه بالكتب او الأفلام الوثائقية او بحث جيد على غوغل، او حتى محادثة مع شخص يعرف بالفعل عما يتحدث.

العلاقة بين الجهل والذكاء ضعيفة عموما.  فالذكاء يرتبط بالقدرة على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والتعلم من التجارب. بينما ينجم الجهل عن نقص المعلومات الكافية، مما يجعل الشخص غير قادر على فهم العالم المحيط به او التفاعل معه بفاعلية. فالشخص الجاهل يفتقر الى الأدوات المعرفية التي تمكنه من تحليل المعلومات وتقييمها واتخاذ قرارات مستنيرة.

أما الغباء فلا يتعلق بنقص المعلومات، وإنما يتعلق بالحصول على المعلومات، حتى بعد أن تُدفع مباشرة إلى مقلتي عينيك، ثم الشروع في "اتخاذ قرارات غير صحيحة". الأمر يشبه أن تكون متحدثًا بطلاقة للغة السنسكريتية، ثم تستخدمها للخطابة كما يفعل بعض قادة العراق الميامين. بالتأكيد، يمكنك فعل ذلك، ولكن… لماذا؟ الغباء وحش عنيد. انه مقاوم للحقائق والمنطق وحتى الحس السليم. انه يزدهر بالمعلومات المضللة ونظريات المؤامرة والايمان الراسخ بأن رأي المرء المعيب بشدة يعادل بطريقة ما الحقيقة القابلة للتحقق.

هل الغباء عكس الذكاء؟ يمكن القول ان الذكاء هو العكس الأكثر شمولاً للغباء، حيث يشمل مجموعة واسعة من القدرات المعرفية والعقلية التي تمكن الشخص من فهم العالم والتفاعل معه بفعالية. ولكن، من المهم ايضا ان نأخذ في الاعتبار المفاهيم الأخرى مثل الفطنة والحكمة والوعي والتعقل، حيث انها تمثل جوانب مختلفة من القدرات العقلية التي تتناقض مع جوانب مختلفة من الغباء.

بأختصار، الذكاء هو القدرة على الفهم السريع والتفكير المنطقي وحل المشكلات والتكيف مع المواقف الجديدة. اما الجهل فهو نقص المعرفة او عدم الالمام بالحقائق. بينما الغباء هو نقص في الفهم والإدراك مع احتمال وجود معرفة ولكن عدم القدرة على تطبيقها بشكل صحيح او اتخاذ قرارات منطقية.

هذه بعض الأمثلة البسيطة للفرق بين الجهل والغباء، وأرحب بمشاركتكم بأمثلة أخرى:

الجهل:

عدم معرفة عدد الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات (لأن العدد كبير جدا لدرجة النسيان).

الاعتقاد بأن "القضاء على الفساد" هي خطة حكومية.

عدم التمييز بين تصريح مسؤول حكومي وبين نكتة سمجة.

السؤال عن مكان الاختناقات المرورية في يوم العطلة الرسمية (وكأنها اختفت تماما).

عدم فهم أسباب انقطاع الكهرباء وارتفاع اسعار المواد الغذائية بشكل مستمر.

الاعتقاد بأن المسؤولين الحكوميين جادون في "مكافحة الفساد".

الظن بأن بناء مجّسر آخر سيحل مشكلة الازدحام.

عدم فهم ان الشعب ينتظر حلولا جذرية وليس مجرد "مسكنات مؤقتة" للأزمات.

عدم فهم ان الأمن الحقيقي لا يتحقق بالمليشيات وقوات الامن، بل ببناء دولة قانون عادلة.

عدم معرفة ان ثروات البلاد يجب ان تستغل لخدمة الشعب وليس لتمويل النخب الفاسدة.

الغباء:

انتظار تحسن خدمات الكهرباء دون وجود أي مؤشرات حقيقية لذلك منذ عقود.

التصويت لنفس الوجوه السياسية التي وعدت بالاصلاح في الانتخابات السابقة وفشلت.

تصديق الوعود الانتخابية.

الاحتفال بوضع حجر الأساس لمشروع ستنهب الاموال المخصصة له.

القاء اللوم على "الأصابع الخارجية" في كل مشكلة داخلية، وكأن القوى السياسية الداخلية لا دور لها فيه.

تجاهل التقارير الدولية التي تشير الى مستويات الفساد القياسية، والادعاء بأن "الأوضاع تتحسن".

الاستمرار في اطلاق نفس الوعود والتصريحات في كل مناسبة وكأن الذاكرة العراقية قصيرة جدا.

محاولة تبرير القرارات الخاطئة بمنطق أعوج لا يقنع حتى الأطفال.

تبني سياسات طائفية وعرقية تزيد من الانقسام والكراهية بين مكونات الشعب.

لذا، في المرة القادمة التي تصادف فيها شخصاً يبدو… أقل من مستنير، توقف لحظة للتفكير في التمييز. هل هو ببساطة يفتقر الى المعلومات؟ ام انه يرفضها بنشاط لصالح وهمه المصمم بدقة؟ لأنه في حين يمكن اصلاح الجهل بالتعليم، فأن للغباء قصة مختلفة تماماً. غالباً ما يتطلب بدلة واقية وجرعة كبيرة جداً من الصبر. أو، كما تعلم، مجرد الابتعاد. هذا ينفع ايضاً. ربما أفضل، في الواقع.

***

محمد الربيعي

الانتماء حاجة فطرية، تميل إليها كل نفس، تمامًا كما تميل إلى الحفاظ على مسافتها الخاصة واستقلاليتها. كلاهما فطرة، ولا تناقض بينهما.

لكن ما لا أقبله، أن يُختزل الانتماء في التماهي الأعمى، كما في القول:

“وما أنا إلا من غزية إن غزت غزوت، وإن ترشد غزية أرشد”.

فالانتماء إن تحوّل إلى ذوبان، يصبح كفرًا بالذات، وتجاوزًا على العقل، وإساءة لتفرّد الروح وتوهّجها الخاص.

مررت بتجارب عديدة، وضعت نفسي فيها، وحاولت أن ألبسها ما يناسب روحي من صور وقيم ورغبات دفينة. لكنني كثيرًا ما شعرت أنني لا أشبه نفسي، ولا أنتمي لذاتي، فأبتعد بهدوء، وينقطع خيط الانتماء من تلقاء نفسه.

لم أنتمِ بعمق لأي عمل، رغم أن تجاربي فيه كانت طيبة، وأثري بقي حسنًا.

ولم أنتمِ لعائلة سوى عائلتي السابقة، حيث جمعتنا السجون، والألم، والقدر المشترك، والمصير الواحد آنذاك.

أما الأشخاص، فكان انتمائي لبعضهم بنسبة بسيطة، حين وجدت بينهم وبين روحي شيئًا من التقاطع، من الفكر، أو الوجدان.

وانتميت بصدق لفعل التدريب، وانتميت لأرواح الشباب الحرة التوّاقة للمعرفة والاكتشاف.

من هنا، اخترت التدريس عملًا أمضي به ما تبقى من عمري معهم، لعلّي أكون قيمة مضافة في بعض أيامهم، ولأني أتعلم منهم بقدر ما أعلّم.

في هذه المساحة، شعرت أن الانتماء يحمل طيفًا من المعنى، وملمسًا من الروح.

ومؤخرًا، أصبحت أحنّ إلى الانتماء للمطلق… إلى الخالق.

بل إنني، وبكل صدق، انتميت للطبيعة: للورد، وللأشجار، وللسماء الصافية…

أصبحت الطبيعة تجلّيات ترافق أيامي، كوسيلة تهديني وتوصلني إلى الله.

أمنيتي الكبرى اليوم أن أنتمي إلى الله.

أدعوه كثيرًا أن يهديني، وأن يلهمني كيف أسلك طريقه بوعي أصفى، وبصيرة متقدة، ونفس أكثر خفة ونقاء.

حتى مع أبنائي وبناتي…

فانتمائي لهم ليس امتلاكًا، بل امتدادٌ لرحمة الله في قلبي.

هم أفراد جاءوا من خلالي، لا إليّ. لكل منهم مساره، وقصته، وأقداره.

لا أتماهى بانتمائي إليهم، بل أحترم خصوصيتهم، وأقدّر المسافة التي تمنحهم حقهم كأرواح حرة.

أتوق إلى علاقة صداقة صادقة وعميقة معهم.

هم جيل أحدث مني، أتعلم منهم، ولا أبخل عليهم بخبرتي المتواضعة من عمرٍ سبقهم في الوجود.

حبي لهم أصبح غير مشروط.

ودعائي لهم دائم: بالبركة، والعافية، وسلام القلب.

أسأل الله أن يرضى عنهم، ويرضيهم، ولا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به.

***

د. حميدة القحطاني

 

ان الله تعالى خلق الإنسان وجعل فيه العقل للتدبر والتدبر والتفكر والتميز به في حياته اليومية عليه أن يجعله الوسيلة أو الأداة المدركة للوصول إلى معرفة الله الخالق والسبيل إلى طاعته ومعرفة شرائعه وسننه الكونية والحياتية بالبحث والتقصي والدراسة عن طريق التدبر لمنهاج شريعته ومعتقداته بعيدا عن الإملاءات الخارجية إلا إذا عجز عن ذلك في الأخذ من المنهل الصحيح الصافي المطابق للعقل والوجود البشري في زماننا هذا من رجال دين ومفكرين ومتدبرين الذين لهم البصمة الواضحة في شرح الآيات القرآنية بالتدبر بها بأفكارهم الواقعية التي تأخذ بعقولنا المتفتحة ضمن الاختصاصات العلمية والدينية لنصل بفكرهم وجهدهم الرائع وتعبهم المضني مع استخدام عقولنا وتدبرنا لمعرفة مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف المحمدي من الماضين رحمهم الله والموجودين على الساحة الآن الذين يكافحون في إعادة التدبر القرآني الصحيح والتصدي للفكر المنحرف الذي أساء للدين والعقيدة لطرحة للأجيال الجديدة (كذلك بين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) البقرة 219وكذلك (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر 18في زمن احتدم النقاش والصراع على أثبات الوجود في الساحة الفكرية والدينية والعقائدية بين التيار الديني الأصولي السلفي المتزمت والتيار الديني الفكري المجدد البعيد عن ما قاله السابقون بحصر تفسير الآيات القرآنية وشرحها وأخذ أصول العقيدة وفق معاييرهم لتنطبق عليهم الآية الكريمة (وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أولوا كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) البقرة 170على العكس من الرعيل الجديد من المتدبرين في زمن الحداثة الفكرية واستخدام العقل السليم المساهم في دعم الآيات الكونية للقرآن وبيان وجودها بعد ما كانت مجرد أنباء مذكورة بين دفتي القرآن الكريم علما أن الله تعالى وآياته البينات تحث المؤمن والمسلم الواعي المفكر الذي يسعى في تطوير كيفية فهم الآيات ومرادها من خلال استخدام عقله وفكره الذي سوف يحاسبه الله يوم القيامة ويكون الناطق والشاهد عليه في تلبية مراد السماء لكي لا يكون من أصحاب السعير (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير) الملك 10 و(أن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) الأنفال 22.كما أن الله تعالى أرسل رسله ورسالاته إلى أشخاصا وأقواما على مر الزمن وليس إلى نخبة معينة ليكونوا بدلاء عن الإنسان ذاته كونها واضحة وبينة الفهم والإدراك للعقل متدرجة في قوانينها بدون وسيط من راهب أو حبر أو كاهن أو أي رجل دين خصه الله لبني البشر في شرح آياته وشريعته ولم يجعلهم قوامين أو أربابا على الناس من دون الله لتوضيح وفهم التعاليم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) التوبة 31 أن الله تعالى كفل للناس حصرا فهم الرسالات والعقيدة وتعاليمها (أنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) الزخرف 3 وكذلك (ليدبروا آياته وليتذكر أولوا  الألباب) ص29 لأن القرآن سيكون عليهم حجة يوم القيامة بعدما يختم على أفواههم وقلوبهم وسمعهم (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها) محمد 24 لذا على كل مؤمن بالله تعالى أن يتدبر ويتفكر بالمنهاج الرباني (القرآن) وشرائعه وسننه التي نزلت له خصيصا كإنسان بعيدا عن إتباع الغير والسير ورائهم كالأعمى وعديم البصيرة مجرد الإتباع بدائرة من القدسية الخاصة والأخذ كل ما يقولوه بدون تفكر وتمعن وتعب وبحث ودراسة متبعين  رجال دين امتهنوا الفقه والفتوى السلفية التي مضى عليها قرون بدون تجديد للعقلية القديمة النمطية.

***

ضياء محسن الاسدي

 

اتخاذ القرار ليس خطوة عشوائية، بل هو مسار مدروس يمر بعدّة مراحل تبدأ بالدراسة والتحليل، ثم الموازنة بين البدائل، فاختيار الوسائل المناسبة لتحقيق الهدف المنشود. كثيرون يتعاملون مع القرار وكأنه لحظة واحدة، فيسقطون في فخ العجلة، ويفقدون دقة الحكم وصواب الاختيار.

القرار السليم لا يُولد من لحظة انفعال، ولا من ضغوط الآخرين الذين قد لا يعون تبعاته كما تعيها أنت. بل يحتاج إلى صفاء ذهني، وهدوء في المزاج، ونظرة شمولية تأخذ في الاعتبار جميع الظروف والعوامل المحيطة. فليس من الحكمة أن يُتخذ قرار مهم وأنت في حالة غضب أو توتر، فالعقل حينها قد لا يرى الصورة كاملة.

الناجح هو من يتحكم في حياته، يرسم مساره بوعي، ويختار قراراته بعناية. لا بأس أن نتعلّم من الآخرين، أن نستلهم من سلوكياتهم وتجاربهم، ولكن دون أن نفقد هويتنا، أو نتحول إلى نسخة عنهم. فالشخصية المتزنة تُبنى على الوعي الذاتي، والتفرّد في التفكير، والثقة في الاختيار.

إن القدرة على اتخاذ القرار تُعد من أبرز سمات الإنسان الناضج. فالحياة لا تخلو من مواقف تتطلب حسمًا، وغالبًا ما يكون القرار هو الفاصل بين النجاح والتعثّر. ومتى ما كان القرار مبنيًا على هدف واضح، ازدادت الحاجة للتأني في اتخاذه، فكلما عظم الهدف، وجب التروي في اختيار الوسيلة الأنسب لتحقيقه.

وقد يجد الإنسان نفسه أمام هدفين قريبين إلى قلبه، وهنا تبرز مهارة المفاضلة والقدرة على قياس المنفعة، سواء في الوقت الحاضر أو المستقبل. وعندها فقط، سيتوصل إلى القرار الصائب الذي يجنبّه العناء لاحقًا.

في النهاية، لا يُختبر نجاح القادة والمسؤولين إلا في مواقف الأزمات، ولا تُقاس كفاءتهم إلا بقراراتهم في لحظات التحدي. إذ إن القيادة الحقيقية، ليست فقط في إدارة الأمور اليومية، بل في صنع القرار الصائب وقت الأزمات، وفي القدرة على التحرك الفعّال بدلاً من انتظار الحلول من الآخرين.

التأني في اتخاذ القرار ليس ضعفًا، بل هو قوة ناعمة تُظهر عمق الرؤية، ورجاحة العقل، وبعد النظر.

***

بقلم: خليل إبراهيم الحلي / سدني

 

القوة في العلم وليست في الشعر، والذين يريدون إيهام الأمة بأن قوتها في الشعر، يسعون لإجهاض وجودها الحي.

العلم قوة والشعر مرآة لواقع الحياة!!

هذا ليس عدوانا على الشعر، بل توضيحا لحقيقة القوة ومعناها، فالأمم تتقوى بالعلم، وما وجدنا أمة تتقوى بالشعر، لأن الشعر تفريغ لطاقات الإبداع.

الشعر كان له دور في تجميع القدرات وشد العزائم لصناعة القوة اللازمة لمواجهة التحديات.

أما في عصرنا العلمي الدفاق فما عاد له دور مهم في هذا المضمار.

وأصبح معبرا عن المشاعر والترفيه عن النفوس، وربما كالموسيقى والرسم والمسرح وغيرها من الفنون.

وهذه النشاطات تكون من نضح قوة الأمم والشعوب وليس العكس، فكلما تقوّت المجتمعات وتألقت قدراتها، فأنها تنعكس على نشاطاتها الفنية بأنواعها.

فالأمم الضعيفة مهما حاولت فلن تقدم إبداعا يضاهي ما تقدمه المجتمعات القوية البارعة بالعلوم.

إن التقدم العلمي من ضرورات التطور الإبداعي، وبدون مجتمعات يقودها العلم، لا يمكن الإتيان بإبداع أصيل معاصر وجدير بالحياة.

هذه حالة نغفلها ونتوهم بأننا نأتي بأدب رفيع، وما نقدمه محاولات نستنسخ فيها عطاءات المجتمعات القوية، لنخدع أنفسنا بأننا نساهم في الإبداع وأقوياء.

 وكل مَن كتب قال أنا وغيري هباء!!

فهل لنا من علم يقوينا وأدب يشافينا بدلا من الخواء؟!!

عقولٌ في متاهاتٍ تداعت

ونفسٌ في مواطنها تعالت

وأفكارٌ بلا أثرٍ ومعنى

نغلفها بأقوالٍ تشاكت

كأن الشعر برهان انطلاقٍ

وحاديةٌ لأجيالٍ أشادت

فأين العلم يا زمن اتباعٍ

وأين الفعل والدنيا تبارت

***

د. صادق السامرائي

 

الجمال كسلاح لا يُقهر 

عالم اليوم تتصارع فيه الأفكار مع القوة الغاشمة، وتتشابك فيه السياسة مع الفن، يبرز الجمال فيه كسلاح لا يُضاهى، أكثر رعبًا للسلطة من أي رصاصة أو تهديد عسكري. هذا ما أثبته الفنان الصيني المعارض ي ويه وي، الذي لم يكتفِ بتحدي النظام برسومات أو منحوتات تقليدية، بل حوّل التابوت - رمز الموت والنهاية المطلقة - إلى عمل فني يسخر من احتكار السلطة لكل شيء، حتى مصيرنا الأخير. في عمله المثير للجدل "إزالة التبعية"، كسر تابوتًا ضخمًا من الرخام بجرأة، معلنًا عبارته الشهيرة: "السلطة تخاف من الجمال أكثر من الرصاص". هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل إعلان عن حقيقة تاريخية تتكرر عبر العصور، من الفلاسفة في أثينا القديمة إلى الثوار في شوارع المدن المعاصرة. الجمال، بقدرته على اختراق القلوب، يصبح تهديدًا وجوديًا لأي نظام يعتمد على الخوف والسيطرة.

الوعي: بداية التحول 

الوعي هو المفتاح الذي يفتح أبواب الحرية الحقيقية. عندما يستيقظ الفرد من سباته الطويل، وينغمس في أعماق ذاته بعيدًا عن ضوضاء العالم الخارجي، تبدأ لحظات التحول. هذه اللحظات ليست مجرد ومضات عابرة أو تأملات مؤقتة، بل هي ثورة صامتة تُفكك الأوهام التي صنعتها النخب الحاكمة بعناية فائقة على مر العقود. تلك الأوهام التي جعلتنا نصدّق أن الحرية تُمنح كهدية من السلطة، وليست حقًا ننتزعه بأيدينا. لكن هذا الوعي لا يأتي بسهولة؛ إنه يتطلب شجاعة نادرة لمواجهة الحقائق المرة، والتخلي عن الراحة المزيفة التي تقدمها الأنظمة مقابل صمتنا. في كل لحظة تحول، يولد إنسان جديد، قادر على رؤية العالم بعيون لا تعرف الخضوع.

ي ويه وي: فنان السخرية المقدسة 

ي ويه وي ليس مجرد فنان، بل رمز للمقاومة الإبداعية. يُطلق عليه "فنان السخرية المقدسة" لأنه يحول الألم إلى جمال، والقمع إلى تحدٍ. في عمله "إزالة التبعية"، لم يكسر التابوت الرخامي فقط، بل حطم فكرة أن السلطة تملك السيطرة المطلقة على حياتنا ومماتنا. السخرية هنا ليست مجرد وسيلة للتهكم أو التسلية، بل سلاح حاد يفضح هشاشة الأنظمة المستبدة وخوفها العميق من أي تعبير حقيقي عن الذات. عندما يقف الفنان أمام النظام، مسلحًا بفرشاة أو مطرقة، فإنه يزرع بذور الشك في عقول الملايين. هذا ما يجعل السلطة ترتعد: ليس خوفًا من العنف، بل من تلك القوة الخفية التي يحملها الفن في إيقاظ الضمائر وتحريرها من قبضة الخوف.

ثمن الحرية الحقيقية 

الحرية ليست مجانية، وأسعارها باهظة تتجاوز مجرد التضحية المادية. إنها تتطلب مواجهة الذات قبل مواجهة الآخرين، واستعدادًا للتخلي عن الأمان الوهمي الذي توفره السلطة كجائزة ترضية لمن يختارون الطاعة العمياء. ي ويه وي يذكرنا أن الفن ليس ترفًا أو هواية للنخبة، بل ضرورة وجودية. إنه الجسر الذي ينقلنا من الاستسلام إلى المقاومة، من التبعية إلى الاستقلال الفكري. لكن هذا الطريق ليس مفروشًا بالورود؛ إنه مليء بالتحديات، من مراقبة النظام المستمرة إلى التهديدات التي تواجه كل من يجرؤ على تحطيم الأصنام. الفنان الصيني، الذي يعيش تحت عين الرقابة، يجسد هذا الثمن بكل وضوح، لكنه يثبت أن الجمال يستحق المخاطرة.

لماذا تخاف السلطة من الفن؟ 

التاريخ مليء بالأمثلة التي تُظهر محاولات السلطات قمع الفن الذي يحمل بذور الوعي. في الصين، يعيش ي ويه وي تحت المراقبة الدائمة، وأعماله تُثير ردود فعل عصبية من النظام. لماذا تخاف السلطة من فنان يحمل مطرقة بدلاً من بندقية؟ لأن الجمال يمتلك قوة تفوق السلاح التقليدي. الرصاص قد يقتل الجسد، لكنه لا يستطيع إسكات الفكرة. أما الفن فيحرر العقل، ويزرع الأمل، ويُلهم الجماهير لتتخيل عالمًا مختلفًا. في لحظة التحول هذه، عندما يدرك الناس أن بإمكانهم رفض الروايات الرسمية وصياغة قصصهم الخاصة، تنهار جدران السجن الذهني الذي شيدته النخب بعناية.

التحرر من الأوهام 

في النهاية، السلطة لا تخشى الرصاص لأنها تملك ترسانة كافية لمواجهته. لكنها ترتعد أمام الجمال لأنه يحمل قوة لا يمكن السيطرة عليها بالقوة الغاشمة. ي ويه وي، بتابوته المحطم، يقدم درسًا لنا جميعًا: لا تخافوا من كسر القيود، سواء كانت مادية أو فكرية. الحرية تبدأ حين نرفض أن نكون مجرد أرقام في لعبة النخب، وحين ندرك أن الوعي هو السلاح الأقوى. الجمال هو أداتنا، والتحول هو طريقنا، وكل عمل فني يتحدى السلطة هو خطوة نحو تفكيك الأوهام التي كبّلتنا لعقود. عندما تنمو بذور الشك والأمل، لن يبقى أمام الأنظمة سوى الانهيار، لأن الجمال، في النهاية، لا يُقهر..

***

ذ. يونس الديدي كاتب مغربي متخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية

 

مقترح لإعادة توزيع الكوادر الوطنية وخلق مساحة للكرامة

الملخص التنفيذي:

يهدف هذا المقترح إلى معالجة الأزمة المعيشية التي تعاني منها شريحة المعلمين والمدرسين في العراق، دون الإضرار بسير العملية التربوية. يرتكز المشروع على مبدأ إعادة توزيع الموارد البشرية داخل الدولة، بحسب التخصص العلمي والحاجة الفعلية، من خلال توفير إطار قانوني وتنفيذي لانتقال الموظفين من وزارات أخرى إلى وزارة التربية، بشرط توفر المؤهلات التربوية أو العلمية المناسبة، وإعادة تأهيلهم للمساهمة في العملية التعليمية. وبموازاة ذلك، يتم تقليص عدد ساعات الدوام اليومي لجميع المعلمين (الحاليين والمنتقلين إلى الوزارة حديثاً) عبر نظام التناوب أو الدوام الجزئي، مما يخفف العبء عن الجميع، ويتيح لهم فرصة العمل الإضافي خارج الدوام لتحسين دخلهم، دون المساس بحق الطالب في تلقي التعليم الكامل. يسعى المشروع إلى تحقيق التوازن بين استدامة التعليم وكرامة المعلم، وهو قابل للتنفيذ ضمن إمكانات الدولة الحالية.

مدخل: عندما يتحول التعليم إلى عبء

يواجه المعلم العراقي اليوم تحديات جسيمة، ليس فقط داخل الصفوف وبين المناهج، بل في حياته اليومية التي تزداد قسوة وسط أزمات معيشية وضغوط نفسية متراكمة. التعليم الذي كان يُنظر إليه كرسالة بات في نظر كثيرين "عبئاً لا يُحتمل"، ينهك الجسد ويستنزف الوقت، دون مقابل مادي يحفظ كرامة من يحمل على عاتقه مسؤولية بناء الأجيال.

ومع تكرار الإضرابات والاحتجاجات، بات من الواضح أن الحلول الترقيعية لم تعد مجدية، وأن الدولة مطالبة بتفكير خارج الصندوق يوازن بين استدامة التعليم وصون كرامة المعلم.

بين عجز الدولة وحقوق المعلم

في ظل العجز المالي المزمن الذي تعاني منه الدولة العراقية، أصبح من الواضح أن الاستجابة لمطالب الكوادر التعليمية عبر امتيازات مالية أو عينية مباشرة (كالزيادة الكبيرة في الرواتب، أو توزيع قطع الأراضي السكنية) بات أمراً صعب التحقيق على المدى القريب.

ومع ذلك، لا ينبغي أن يُترك المعلم يواجه مصيره وحده وسط هذه الضغوط. فإذا لم تستطع الدولة أن تُنصفه من خلال الراتب، فعليها أن تنصفه من خلال ظروف العمل.

إن تخفيف العبء الوظيفي وتقليل ساعات الدوام، بما يراعي الضغوط المعيشية للمعلم ويمنحه فرصة لتحسين دخله بطرق أخرى، ويحفظ حقوق الطلبة في تعليم جيّد ومستدام، يُعد امتيازاً وظيفياً معقولاً وممكن التحقيق، ينسجم مع الواقع المالي للدولة ويعزز من صمود المعلم داخل المؤسسة التعليمية.

بهذا الشكل، يتحقق نوع من العدالة النسبية: المعلم يؤدي ما يتناسب مع ما يتقاضاه، دون أن يُسحق تحت نظام دوام مجهد مقابل راتب لا يكفي، ودون أن يشعر بأن الدولة أدارت ظهرها له.

جوهر الفكرة: مشروع وطني لإعادة توزيع الكوادر

يقترح هذا المقال رؤية عملية تقوم على انتقال موظفين من وزارات أخرى إلى وزارة التربية لتوسيع الكادر التعليمي، مما يُتيح للكادر المدرسي (المعلمين الحاليين والمنقولين الجدد) العمل بنظام دوام جزئي مرِن (ساعات محددة يومياً وأسبوعياً)، فيتحسن وضعهم المعيشي من خلال تخصيص وقت كافٍ للعمل الحر أو المشاريع الخاصة، دون التأثير على انتظام الدوام للطلبة أو سير العملية التربوية.

يرتكز المشروع على مبدأ الاستثمار في رأس المال البشري، ومناقلة المِلاكات بين الوزارات، بما يحقق المصلحة العامة.

أولاً: لماذا نحن بحاجة إلى هذا الحل؟

1- أزمة معيشية خانقة تضغط على الكوادر التربوية وتؤثر على دافعيتهم المهنية وأدائهم في الصف وجودة التعليم.

2- فائض وظيفي في عدد من الوزارات، يضم آلاف الموظفين المؤهلين (خريجي كليات التربية والعلوم). إن الترهل الوظيفي في عدد من الوزارات هو مشكلة بيروقراطية ومؤسسية تعاني منها الدولة، وسيسهم هذا المقترح في معالجتها. كما أن هنالك خلل في توزيع الموظفين على الوزارات من حيث التخصص الدراسي، ولذلك فإن نقل خريجي كليات التربية والكليات الساندة إلى وزارة التربية سيعالج هذه المشكلة جزئياً أيضاً.

3- انغلاق فرص تحسين الدخل أمام المعلم بسبب طبيعة الدوام الكامل، مع رغبة قطاع واسع من الكوادر التدريسية في تقليل العبء اليومي مقابل فتح باب العمل الحر لهم.

4- التعليم الخصوصي المُنهك صار الملاذ الوحيد للمعلم لتحسين وضعه، لكنه حل غير عادل للطلاب ولا منصف للمعلمين.

5- ضعف جودة التعليم العام بسبب الإرهاق المزمن الذي يعانيه المعلمون.

6- الدوام الكامل الحالي للمعلمين، في ظل الظروف المعيشية الصعبة، لا يتناسب مع الراتب الذي يحصل عليه المعلم، كما لا يسمح لهم بتحسين دخلهم إلا عبر اللجوء إلى أعمال إضافية مجهدة تؤثر على عطائهم في الصف. الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى معالجة واقعية تضمن تحسين ظروف العمل للمعلمين دون المساس بحق الطالب في تلقي التعليم الجيّد والمتكامل والمستدام.

7- امتصاص نقمة وسخط الكوادر التربوية، لا سيّما في ظل إمكانية تفعيل شراكة حقيقية مع نقابة المعلمين من خلال إدماجها في قيادة الحل بدل معارضته.

8- نقص الكوادر التعليمية في بعض المدارس وتكدّسها في مدارس أخرى، حيث سيُسهم دخول موارد بشرية جديدة إلى العملية التعليمية، وتفعيل الدوام الجزئي واستثمار الطاقات بشكل متوازن، في حل هذه المشكلة.

ثانياً: ملامح المشروع المقترح

1- نقل موظفين إلى التربية:

يُفتح باب النقل الطوعي لموظفي الوزارات الأخرى من خريجي الكليات التربوية والعلمية إلى مِلاك وزارة التربية، ويتم تدريبهم من خلال دورات مكثفة في طرائق التدريس، بإشراف وزارة التعليم العالي.

2- توزيع الشُعب الدراسية على أكثر من معلم:

يتم تقسيم شُعب كل مرحلة دراسية داخل المدرسة الواحدة بين عدد من معلمي المادة الدراسية، فمثلاً: إذا كان هنالك ثلاث شُعب للصف الرابع الابتدائي فتُقسَّم على ثلاثة معلمين مختلفين لمادة الرياضيات. بما يؤدي إلى تقليص دوام كل معلم إلى ساعات محددة يومياً وأسبوعياً، أي بما يعادل التفرّغ لتدريس شعبة واحدة فقط، مع بقاء الدوام كاملاً للطلاب. هذا التقسيم يضمن الاستمرارية التعليمية، ويحدد لكل معلم مسؤولية محددة ومركّزة، كما يمنحه مساحة زمنية حرة.

3- بقاء الدوام كاملاً للطلبة:

يضمن هذا المقترح انتظام العملية التعليمية بالكامل من خلال التغطية الجماعية للعملية التعليمية عبر عمل المعلمين كفريق متناغم داخل المدرسة، دون الإخلال بساعات التدريس أو تفريغ الصفوف أو التسبّب في هدر تعليمي أو تسرّب مدرسي.

4- إعادة هيكلة الجداول المدرسية:

يتم توزيع الحصص بشكل متوازن بين المعلمين الحاليين والمعلمين المنقولين الجدد، مع إعداد دليل إرشادي مرِن لإدارة التناوب أو الدوام الجزئي.

5- إشراك النقابة:

تدخل نقابة المعلمين كشريك للحكومة في هذا المشروع، في بناء الرؤية والتخطيط والتنفيذ والمراقبة، بما في ذلك تقييم نتائج المشروع بعد عام من تطبيقه.

ثالثاً: الآثار المتوقعة

1- تحسين جودة حياة المعلمين نفسياً ومادياً، وتحسين دخلهم دون الحاجة لمغادرة المهنة أو اللجوء للطرق غير الرسمية.

2- تحقيق توازن في الجدول المدرسي وسدّ النقص دون اللجوء إلى التعيينات الكثيفة التي تثقل الموازنة.

3- معالجة ظاهرة البطالة المقنّعة في الدولة، واستثمار الموظفين غير المستغلين في الوزارات ضمن قطاع حيوي ومؤثر هو التعليم.

4- تراجع الحاجة للدروس الخصوصية التي ترهق الطالب والمعلم.

5- خلق ديناميكية جديدة في بنية التعليم الحكومي، وتجديد البنية الوظيفية للمدرسة بما يعزز الكفاءة والتفرغ النوعي.

رابعاً: شراكة لا صِدام مع النقابة

لكي ينجح هذا المشروع، ينبغي أن يُطرح على نقابة المعلمين كشريك تنفيذي لا كخصم. فالنقابة، بصفتها الممثل الشرعي للمعلم، يمكن أن تضطلع بدور رقابي وتنظيمي، وتشارك في تقييم المشروع وتعديله بما يضمن المصلحة العامة. المقترح ليس انتقاصاً من دور المعلم، بل محاولة واقعية لدعمه عبر "تحريره" من عناء الدوام القاسي مقابل دخل لا يكفيه.

خامساً: توصيات للتطبيق المرحلي

1- إطلاق تجربة تطبيقية في محافظة واحدة على الأقل لتقييم الفاعلية والآثار قبل التوسع.

2- تشكيل لجنة مشتركة من وزارة التربية، ووزارة التخطيط، ومجلس الخدمة الاتحادي، ونقابة المعلمين لدراسة الجدوى ووضع خطة تنفيذ.

3- ربط المشروع ببرنامج وطني شامل لتحسين وضع التعليم العام، وبناء القدرات التعليمية، ورفع جودة الخدمة التربوية في العراق، خلال فترة أمدها 5 سنوات.

خلاصة: كرامة المعلم شرط لنجاح التعليم

ليس المعلم آلة تعليمية، بل إنسان له طموحات وحاجات ومطالب مشروعة. وإن كنا نطمح إلى تعليم نافع وشامل، فعلينا أن نبدأ من تحقيق الإنصاف للمعلم، لا بالخطابات، بل بالمشاريع الواقعية.

إن مشروع إعادة توزيع الكوادر الوظيفية وتمكين المعلم وتحسين ظروفه ليس فقط حلاً لأزمة الحاضر، بل خطوة نحو تعليم مستدام وعدالة تربوية وتنمية مؤسسية.

***

همام طه

......................

شكر وامتنان: تم إعداد وتطوير هذه الورقة بدعم من المساعد الذكي "ChatGPT"، الذي ساعدني في بلورة الفكرة، وتنظيم هيكلها، وصياغة وإثراء المقال بشكل يُسهّل تقديمه كحل واقعي للمؤسسات المعنية.

وجودنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى مفصّل على مقاسات المصالح والمطامع، وآليات التبعية والخنوع للمنتصرين الذين أصبحنا في عرفهم غنائم.

وعينا الجمعي وما ترسخ فيه من ثوابت، مستورَد من بلاد الآخرين، ولهذا تعفنا في مواضعنا وأجدنا المراوحة والتقهقر والإندحار، وإستلطفنا دور الأداة المسخرة لتأمين مصالح الطامعين فينا.

فهل يوجد أصيل في ديارنا؟

نحن ربما غرباء عن كل شيئ يمت بصلة حقيقية إلينا!!

لا نعرف هويتنا وتأريخنا وديننا ورسالتنا ودورنا في صناعة الحياة، وبموجب ذلك إخترنا دور العالة، بالإعتماد على غيرنا للبقاء في مدن الخراب والهوان والإمتهان.

أين الحرية؟

أين قيمة الإنسان؟

نتحرك على هامش الأيام، ونخشى التفاعل مع الواقع، ونميل إلى التلعثم والإندساس في غياهب الإنهزام، ونبرر ما نبديه بأنه من وحي التفاعل مع الأقلام، وهي ترتعش من سطوة الكراسي وجور الحكام.

مَن يكتب بمداد الحق سيكون من المغضوب عليهم، ومن المستهدفين المطلوبين لعدالة الباطل وحكم الأهواء.

الناطق بالحق زنديق، ولا بد له من الهلاك بأمر مسعور يرائي بدين.

نحن كما أريد لنا أن نبدو عليه، وما يدور في واقعنا يتقاطع مع جوهرنا، ويتنافى مع قيمنا وأخلاقنا، وبديهيات ألبابنا، ومعايير بصائرنا.

فهل سننكر المستورَد ونوطن الأصيل المؤكد؟!!

فاسدٌ هذا الزمان الآثم

وطغى فيه الخشيل اللازم

أفسدوه بدعاوى إنطلت

برداءٍ إرتداه الظالم

ضدنا عشنا ودمنا عالة

فأتانا بوعيدٍ غاشمُ

***

د. صادق السامرائي

 

لأنك ببساطة، لست كأحد

ينبت في قلب الإنسان وهم المقارنة كأشواك في حديقة كان يفترض أن تنمو فيها الزهور.

ننظر حولنا، نحدّق في حيوات الآخرين كما لو أنها شرفات مطلة على الجنة، وننسى أن نلتفت إلى حقلنا الداخلي، إلى التربة التي نحرثها بأيدينا كل يوم، وإلى البذور التي سقيناها من وجعنا، من صبرنا، ومن أحلامنا التي لا تشبه أحلام أحد.

المقارنة، ذلك الفخ الهادئ الذي يُنصب في صمت ، داخل الذهن ، تبدأ من حيث لا نشعر، حين نُدهش من نجاح صديق، أو جمال عابر، أو ثراء شخص التقيناه في صدفة عابرة. نتساءل: لماذا هم وليس نحن؟ كيف تسير حياتهم كما يشتهون، بينما نحن نتعثر بأحلامنا كمن يمشي في ضباب كثيف لا يرى فيه موضع قدميه؟.

لكنّ الحقيقة الأعمق، تلك التي لا تراها العين، أن لكل روح حكايتها، وأن ما يبدو "أفضل" قد يكون مجرد قشرة لجرح دفين، أو ستاراً يحجب عنا معارك لم نشهدها، وأحزاناً لم نسمع أنينها. أنت لا تعرف كم مرة انكسر ذاك الذي تحسده على صلابته، ولا كم مرة بكى ذاك الذي تراه يضحك دوماً. لا تعرف كم تاه، كم خسر، كم تألم…

أنت لم تعش طفولته، لم تكن في بيتهم، لم تحمل أفكاره، لم تُربَّ على ما تربى عليه. حتى إن تشابهت الملامح، فالقلوب لا تتشابه. أنت نسيجٌ فريد من التجارب، من المواقف، من اللحظات التي شكلتك كالماء ينحت الصخر. أحلامك ليست أحلامهم، وآلامك ليست آلامهم، ونقطة بدايتك ليست نقطتهم.

لذا فإن المقارنة ظلم. ظلم لنفسك أولاً. أنت تقيس شيئاً غير قابل للقياس، كمن يحاول وزن الريح بأثرها على خصلات شعره أو قياس دفء الشمس بميزان حرارة منزلي . كل واحد منّا يمشي على خط زمني مختلف، في خريطة لا يمكن أن تتطابق مع خريطة غيره. فكيف تُقارن من بدأ السباق قبلك، بمن سار في طريق مبلط بالورود، بينما قد  تشق انت طريقك في صخور الحيرة، تقف ثم تنهض، تنزف ثم تبتسم؟

إنك حين تقارن نفسك بأحد، كأنك تقول لزهرة بنفسج: لماذا لست كالشمس؟ وتنسى أن البنفسج يولد ليكون ظلاً جميلاً، عطراً خفيفاً في قلب الربيع، لا ناراً تحرق السماء.

الحياة ليست سباقاً، بل رحلة. والرحلة ليست عن الوصول قبل الآخرين، بل عن التفتح التدريجي لذاتك، كزهرة تنمو في صمت، لا تستعجل، ولا تستعرض، بل تتفتح حين يحين موعدها، في اللحظة التي كتبها لها القدر.

كن كما أنت، كما خُلقت، بشغفك، بأخطائك، بنجاحاتك الصغيرة التي قد لا يراها أحد سواك. توقف عن النظر في مرآة الآخرين، وابدأ النظر في عينيك… فهناك، فقط هناك، تبدأ رحلتك الحقيقية.

لا تقارن. بل تأمل. لا تحسد. بل تعلم. لا تنسَى أن لكل منا مساره، ولكل روح جراحها، ولكل حلم وقته المناسب ليولد.

واذكر دائماً… أنك لست نسخَة من أحد، بل قصيدة فريدة، تكتبها الحياة حرفاً حرفاً، وجملة جملة، لتكون في النهاية… أنت.

***

 مجيدة محمدي 

رداً على ما كتبه صديقي دكتور قاسم حسين صالح في أصبوحته لهذا اليوم من أن: " ٩ نيسان 2003بوابة الفواجع والأحزان":

تقول الأسطورة الإغريقية أن سيزيف تمكن من خداع إله الموت وكبله بالأصفاد والأقفال فمنعه من ممارسة مهنته في سلب الناس أرواحها وبذلك منع الناس من أن تموت. لكن فعل سيزيف قد اغضب الآلهة فأصدروا عليه حكماً بأن يعيش حياة أبدية بلا موت على أن يقضي حياته الأزلية في عمل غير مجدٍ، بأن يقوم بدحرجة صخرة عظيمة صعوداً الى الجبل لكن الصخرة ما إن تصل الى ثلثي المسافة حتى تعود لتتدحرج الى عمق الوادي السحيق فيعود سيزيف ليكرر المحاولة من جديد فتكرر الصخرة دحرجتها الى عمق الوادي السحيق ويعود سيزيف الى القيام بتنفيذ ما حكمت عليه الآلهة به ومن دون نهاية...

الشعب العراقي وبعد إن أحاله صدام الى مجرد ركام لا يحتكم على قوة سيزيف ولا يملك وعي سيزيف، تمنى مجرد تمني الخلاص من إله الموت لتتوقف عبثية إماتة الناس وبالصدفة المحض تحققت أمنيته بعد إن شارف على الانقراض، فهبطت قوى لا صلة له بها ولا سابق معرفه فكبلت إله الموت ومن ثم سحقته في حفرة اختارها هو نفسه لنفسه.

لكن ذلك أغضب الآلهة فحكمت على الشعب العراقي بما حكمت به على سيزيف بأن يمضي حياته يدحرج الصخرة صعوداً الى الجبل وعندما يبلغ بها مسافة لا بأس بها تعود تتدحرج الى الوادي السحيق في عملية متكررة لا نهاية لها وبلا أفق...

من ذاكرتي السحيقة إن أمي حكت لي عن قريبتها التي تزوجت من صاحب أغنام وكان مربو الأغنام وقتها يسيحون في بادية السماوة الممتدة حتى الحدود السعودية يتنقلون بأغنامهم سعياً وراء العشب والماء لرعي أغنامهم وكانوا ينقلون أمتعتهم على ظهور الحمير فيلتحقون برعاة أغنامهم ، وحصل ان أحد الحمير سقط مغشياً عليه في الطريق من جراء ضعفه وثقل حمله فقام الرجل زوج قريبة أمي بتوزيع حمل ذلك الحمار على بقية الحمير وأمر زوجته قريبة أمي بالمكوث عند الحمار لتلحق بهم والحمار عند افاقته من غيبوبته، انتظرت المسكينة إفاقة الحمار لكن الحمار مات...وفي هذه الحالة فإن زوجها المتخلف والجبار والقاسي لن يقبل منها قولها إن الحمار قد مات إن هي عادت بدونه وسيقسو عليها كثيراً، فقامت بربط قوائم الحمار الميت ورجليه بفوطتها وعلقته برأسها ونهضت والحمار الميت على ظهرها وتبعت أثر الركب الذي أناخ بعد مسافة ليست بالقصيرة وكانت المسكية حاملاً وعندما بلغتهم سقطت والحمار الميت على ظهرها فأسقطت جنينها ، وعندما أفاقت في وقت متأخر عاتبها زوجها المتجبر المتخلف: لماذا فعلت ذلك ...؟! فأجابته منتحبة: لأنك لن تصدقني لو قلت لك ان الحمار مات ...

فأشفق عليها وأطرق برأسه لكنها عاجلته بوهن وانكسار وبعيون مخضله بالدموع: ناشدتك الله أن تعتقني !..

رق لها قلب المتخلف المتجبر وقال: لك ذلك...فطلقها لتعود في نهاية الموسم الى أهلها وتعيش حياتها من جديد...

سيزيف العراقي جريرته إنه لم يتزوج مجرد متخلف متجبر مثل زوج قريبة أمي الذي رغم تخلفه وجبروته رق قلبه في النهاية بعد إن تمثلت أمامه مأساتها فأعتقها، بل كانت جريرة الشعب العراقي وما زالت انه ائتمن الخائن الفاسد فلو كان قد اختار الأمين ما أضطر لأن يمضي حياته مثل أبو الجعل يطمس أرجله بالوحل فينوء بحمله في مسعاه لصعود الجبل فكان كلما قطع شوطاً تدحرج بحمله الثقيل الى الوادي السحيق فيكرر وبالطريقة ذاتها دون أن يتجنب الوحل ...

هذا هو لب القصه وليس بما يختزله صديقي الأثير دكتور قاسم حسين صالح في أن " 9 نيسان 2003 بوابة الفواجع والأحزان."، فالفواجع والأحزان في حياة الشعب العراقي سبقت ذلك اليوم بمدة طويلة وستستمر معه طالما إنه يتمسك بذهنية أبو الجعل فيغمس قوائمه بالوحل ويسعى دونما طائل ليصعد الجبل.

المثل الصيني يقول:"هناك طرق عديدة للنجاة لكن الجبان يختار أقصرها...الهرب." وعندنا فإن طرق الصعود عديدة لكن أبو الجعل يختار الوحل ...فكيف له أن يصعد ...؟!

وعلي يقول:" ما خانك الأمين، ولكنّك ائتمنت الخائن.".

***

د. موسى فرج

 

عندما تكتب الأقلام على هامش نهر الحياة فأنها لا تساهم في التأثير والتغيير، وتكون كتاباتها بلا منفعة ومضيعة للوقت وهرولة وراء سراب.

الكتابات الحقيقية الجادة الصادقة عليها أن تبحر وسط تيار الحياة الجاري، وتشارك في صناعة أمواجه وعنفوانه الوثاب.

الإنسانية تقدمت وشيدت أمجادها بإرادة الأقلام الحرة الكاشفة عن الأفكار الصالحة، بلغة يفهمها القارئ من عامة الناس، فتجعل منه قوة مثمرة وطاقة متفاعلة مع مسيرة الصعود إلى ذرى الرقاء والسموق الحضاري.

الكتابات بأنواعها إن لم تكن ذات مشروع هادف ورسالة لا قيمة لها ولا جدوى منها.

ومن الظواهر المتكررة في تأريخ البشرية، أن لكل عصر أقلام دعائية تكتب بمداد الكراسي وأخرى تريد النطق بلسان الحقيقة وتخشى العواقب، وبعضها القليل يحاول التحرر والكتابة بلا خوف أو تردد.

وفي معظم الأحيان تنتصر الأقلام القريبة من الكراسي، وتتسيد المشهد الثقافي لما تملكه من قدرات تسويقية ودعاية إعلامية صاخبة، تجعل الأسود أبيضا والأبيض أسودا، ولهذا بختلط حابلها بنابلها.

وفي زمن إنفتاح أبواب التواصل على مصراعيها، أصبحت الكتابة على الشاشات، كالكتابة على وجه الماء أو فوق كثبان الرمال.

فما عاد للقلم دور، ولا للكلمة قيمة، وتحول المكتوب، إلا مجرد كلام، وقول تذروه رياح " أنا أعرف"، وتلطخت دواة الأقلام بالرذائل، وديست الفضيلة بالأقدام، وتدثرت القيم والأخلاق بالركام، الذي خلفه حطام الأفهام.

فالعقل موجوع، والخلق مفجوع، والغاب مشروع، ولسان الوحوش مدلوع، والجارحات تجوع، وتهاجم الضعيف الحائر المفزوع.

الأقلام حزينة، والأوراق رهينة، والسطور عنينة، والسيئات مبينة، فهل من كلمة صادقة أمينة؟!!

بكت أقلامنا والحرف يشقى...فهل فيها كلام العقل يبقى؟!!

و"عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم"!!

***

د. صادق السامرائي

ربما يبدو العنوان غريبا، غير أن العديد من الدول لديها بنوك للمياه مثلما لديها بنوك للطعام، ودول الأمة تخلو منها عدا مصر التي فيها بحيرة ناصر وربما تعد بنكا للماء.

المقصود ببنوك المياه، إنشاء البحيرات الإصطناعية لتخزين المياه فيها، ويمكن ربطها بالأنهار، أو نقل الماء إليها بالمضخات، إضافة لمياه الأمطار والسيول.

وهذه البحيرات الإصطناعية ستحيل الأراضي الجرداء إلى واحات خضراء، ويمكن إستغلالها لتربية الأسماك، والنشاطات الترفيهية، كما أنها تحد من هدر مياه الأنهار إلى البحار.

فهل توجد بحيرات إصطناعية في بلداننا؟

إن هذا السلوك إقتصادي وبقائي ويساهم في الإنتعاش الوطني على عدة مستويات.

الإنشغال بإنشاء البحيرات الإصطناعية، يوفر فرصا للقضاء على البطالة، ويدفع لتطوير مشاريع متنوعة منبثقة عنها، كبناء المدن السياحية، والمخيمات وغيرها من النشاطات الإنسانية.

باشروا بالبحيرات الإصطناعية، كما في باقي الدول، وإعتمدوا على خبراتها في صناعتها، وإدامتها، وتوفير المياه لها، ولابد من مهندسين زراعيين ومختصين بهذه الميادين، لرسم الخرائط وتحديد المواقع المناسبة للبحيرات.

لماذا نتشكى ونتظلم ولا نُعمل عقولنا ونحث شبابنا على مواجهة محنة قلة المياه، والتصحر والجفاف، وتحول الأراضي الصالحة للزراعة إلى صبخاء.

فلماذا نهدر مياهنا، ولا نتعلم الحفاظ  عليها وإستثمارها؟

الثروة المائية ستكون أهم من النفطية في المستقبل، وعلينا الإستعداد بمشاريع وقائية لحماية الأجيال من شح المياه.

فانطلقوا في إنشاء البحيرات الإصطناعية ما دام النهران بعافية وجريان، قبل فوات الأوان!!

***

د. صادق السامرائي

 

الواقعية الثقافية تعني إتخاذ موقف عملي مبني على الحقائق ومتفاعل مع عناصر الحياة بعيدا عن الخيال والأوهام.

الكتابة بواقعية دون المثالية والإستعلائية والإندساس بالنخبوية، من ضرورات التفاعل الحيوي مع المجتمع وتأمين قدرات التأثير والتغيير.

الكتّاب في الدول المتقدمة يكتبون بلغة جماهيرية، ويتناولون قضايا تهم المواطنين، فيمعنون بتحليلها وتوضيح أسبابها وطرح المعالجات التي يرونها ناجعة.

فالقارئ يفهم المكتوب ويستفيد منه ويتعلم مهارات، ويستحضر أفكارا ذات قيمة إيجابية، تساهم في صناعة حاضره ومستقبله.

أما الكتّاب في المجتمعات المتأخرة والدول المسلوبة الإرادة، فيتخبطون في معتركات الرمزية والغموضية، ويجيدون النقل الأعمى والإستنساخ المبهم، ويكتبون بلغة معقدة ينفر منها القارئ ويتوهمون بأنهم من النخبة وهم يخاطبون بضعة أفراد في علياء خيال.

وهذه معضلة تعطل التواصل بين أبناء المجتمع، وتساهم في تنمية أعداد ضحايا الدجل والضلال والبهتان، وصناعة القطيع المرهون بالسمع والطاعة، للذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ولأصحاب الكراسي وإمعاتهم، والمبوقين بمدحهم وتنزيههم من المفاسد والموبقات، وهم أشر مَن جلس على كراسي تقرير مصير الشعوب.

الكتابات الإيهامية تنشر الوهم وتعزز الغفلة، وتصيب الناس بالنوام، فهي كالدواء المخدر الذي يتسبب بإنقطاع الشخص عن محيطه، وتدع الطبيب يفعل ببدنه كما يشاء.

الكتابة فن التخدير والتضليل بالكلمات، فأما أن تكون بلسما أو سما مدسوسا بعسل العبارات.

فهل من قدرة على الكتابة بمداد الواقع، لإستنهاضه وتحرير الشعوب من المستعبدين بأنواعهم؟

إذا كتب اليراع لنا مقالا

أزال الصدق أو أحيا ضلالا

فهل سطر الزمان بها أصيلا

وهل عشنا وأنبتنا الجميلا

بلاد العرب تأكلها الخطايا

وصوت مرادها أضحى محالا

فلا تكتب بلا أملٍ وعزمٍ

وجرأة عقلنا صارت وبالا

***

د. صادق السامرائي

 

لا توجد مدينة مثالية فاصلة ولا قائد مثالي في مسيرة البشرية منذ الأزل، الموجود تفاعلات آدمية، لبشر مخلوق من التراب ويمتلك خصال الطين.

منذ أن إنطلق مفهوم المدينة الفاضلة وإلى يومنا المعاصر، بقيت خيالا ووهما وأملا لا يمكن تحقيقه مهما حاولنا وإجتهدنا، فالطبع البشري لا يتوافق مع المثالية، ففيه من العدوانية والغابية ما لا يمكن تصوره، والتنبؤ بمعطياته.

ومَن يدّعي بوجود حالة مثالية فهو في بهتان عظيم.

البشر أيا كان توصيفه، ولا يمكن تقديسه وإعتباره من الملائكة والمنزهين من الخبائث، ويمثل الفضيلة المطلقة.

لا يوجد بشر من جوهر الفضيلة، بل فيه منها ومن الخبيث خليط متنوع التجانس والإنسجام، ويعبر عن الحالتين وفقا للظروف التي يكون فيها.

لا يمكن إخراج الأشخاص من بشريتهم وتحويلهم إلى مخلوقات لا آدمية، وكأنهم لم يخلقوا من طين.

آدم ونسله هذه مادة خلقهم، وإبليس مخلوق من نار حسب ما ورد في القرآن ولهذا أبى السجود لآدم، فهل أن الذي يتحرر من قبضة الطين يكون مخلوقا من نار؟!!

الواقعية الأرضية تخبرنا بأن الأسلاف كافة قد أكلهم التراب وتحولوا إلى رميم، وما منهم مَن لم يمت وينام في رمسه.

لا يوجد ما هو فاضل ومثالي في جميع قادة البشرية، بأنواعهم وتوصيفاتهم ودرجاتهم، ومعظمهم عبروا عن نوازع النفس الأمارة بالسوء الكامنة فيهم، وبعضهم القليل جدا إستطاع أن يهذبها ويبدو مختلفا عن غيره.

فالتصورات المثالية خيالية، والمدينة الفاضلة بعيدة المنال، فالعدوان وسفك الدماء من طبع البشر الساعي فوق التراب.

فهل لنا أن نستفيق من عواصف الأوهام.

***

د. صادق السامرائي

 

حين تُعيدنا كرة القدم إلى أسئلة الوطن الكبرى

الهزيمة ليست مجرد نتيجة

لم تكن خسارة المنتخب الوطني العراقي أمام نظيره الفلسطيني مجرد تعثر رياضي، بل لحظة تستدعي مراجعة شاملة لفكرة الوطنية نفسها، وللمفاهيم التي نعرّف بها النصر والهزيمة، الفخر والانكسار، النجاح والفشل، الربح والخسارة. إقالة المدرب الإسباني كاساس قد تبدو إجراءً فنياً بحتاً، لكن المسألة تتجاوز الرياضة إلى الثقافة السياسية لدى النخبة والجمهور، والمنطق الذي تُدار به مختلف الملفات، حيث تتحكم العقلية ذاتها في السياسة والاقتصاد والرياضة، فتجعل من أي أزمة فرصة للتخلص من شخص بدلاً من مواجهة المشكلة الحقيقية. ليس المنتخب الوطني سوى تعبير رمزي عن حال مجتمع بأكمله، حيث الانتصارات اللحظية كثيراً ما تُستخدم للهروب من مواجهة الواقع، والأزمات غالباً ما تُقابل بمعالجات سطحية سريعة بدلاً من مراجعات بنيوية عميقة.

ما وراء الإقالة: عقليات لا تُقيل نفسها

ربما تكون الوطنية الحقيقية، لا في الاحتفاء بالنتائج المؤقتة، بل في القدرة على تحويل الخسائر إلى لحظات وعي، حيث لا يصبح الألم مناسبة للندب، بل حافزاً لاكتشاف الذات بعيداً عن أوهام التفوق المريح. في بعض اللحظات، لا تكون خسارة مباراة كرة قدم مجرد نتيجة عابرة على لوح الترتيب، بل تصبح مرآة مكبّرة تعكس هشاشتنا الوطنية وأسئلتنا المؤجلة. الهزيمة، حين تمس مشاعر الجمهور، تكشف ما وراء اللعبة: طريقة تفكيرنا، علاقتنا بالنجاح، وهم الفخر الجماعي، نشوة الانتصارات المؤقتة، اختلال الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غياب الفكر التنموي والفلسفة النهضوية والرؤية الإصلاحية، البحث عن حلول ترقيعية لأزمات متجذرة، الإخفاق في إدراك الأزمات نفسها وتعريفها بصورة سليمة، وعجزنا عن التأمل في واقعنا والتخطيط لمستقبلنا.

في مواجهة المرايا: حين تكشفنا كرة القدم

الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية نحيا فوقها، بل هو وعي متجدّد يتشكل عبر التجارب والاختبارات الجماعية. في كل صدمة أو إحباط فرصة لاكتشاف الذات الوطنية بعيداً عن المبالغات العاطفية والانتصارات اللحظية. كيف يمكن للهزائم، حتى في ميدان الرياضة، أن تكون لحظة وعي، لا انكسار؟ وكيف يمكننا إعادة تعريف علاقتنا بالوطن من خلال مواجهة الحقيقة بدلاً من الهروب منها؟

جرح وطني نحتاجه

لأننا نحب أوطاننا، فمن الضروري أن نشكّ بين حين وآخر بالسرديات التقليدية التي ننسجها حولها. أن نعيد اختبار مسلّماتنا الوطنية، وأن نتعرّض لما يكسر غرورنا الجمعي ويهزّ قناعاتنا المريحة. الخسارات ليست مجرد إخفاقات، بل لحظات تُجبرنا على رؤية ما لا نريد رؤيته. كيف يمكن أن تتحول الهزيمة إلى نافذة نطل منها على حقيقتنا دون زيف؟ وكيف يمكن للجرح في كبريائنا الجماعية أن يكون فرصة للنجاة من الغرق في الوهم؟

لأني أحب العراق، فأنا أشعر بسعادة كلما خسر المنتخب الوطني إحدى مبارياته في منافسات كرة القدم. من الجيّد أن يتعرّض المجتمع لصدمة كي يعيد اكتشاف نفسه. بين الحين والآخر نحتاج إلى جرح نرجسي في الكبرياء الوطنية، هزّة وجدانية تستفز الوعي وتوقظ المجتمع من وهم التفوّق الزائف. الوطنية التي لا تحتمل الهزائم ليست إلا قناعاً هشاً، والمنتخب ليس أكثر من مرآة تكشف لنا واقعنا. كلما انخدعنا بأمجاد كروية مؤقتة، ازدادنا غرقاً في الكسل الجماعي، في الهروب من مواجهة أنفسنا. ومن وقت لآخر، لا بأس بجرح في الغرور الجمعي، علّه يجعلنا نتوقف عن العيش على فتات الانتصارات السطحية، ونفكر في بناء شيء يستحق الفخر فعلاً. وعندما نحقق شيئاً عظيماً حقاً، لن نكون بحاجة للفخر أو التفاخر أصلاً، لأن الإنجاز الحقيقي يمنح أصحابه الامتلاء النفسي والرضا الداخلي والثقة العميقة، ويغنيهم عن مشاعر التفوّق وادعاء الأفضلية.

من الهوس إلى الهواية: كيف نُعيد للرياضة معناها؟

هنا تبرز إشكالية عميقة: النهضة الوطنية الحقيقية لا يمكن اختزالها في قطاع الرياضة، ولا تختصر في منتخب قوي يحقق نتائج مرضية. فالتنمية الرياضية لا تعني فقط رفع كؤوس الفوز، بل تعني أيضاً كيف نوظف الرياضة في إعداد وتأهيل الشباب بدنياً وذهنياً وسلوكياً، كيف نحميهم من السقوط في مستنقعات الإدمان والفراغ واللامعنى. التحدي الحقيقي هو كيف نحول الرياضة من انفعال جماهيري إلى فعل فردي ومجتمعي لتطوير الذات وتحسين الصحة العامة، وكيف نحول كرة القدم من هوس شعبي إلى هواية صحية وثقافة عامة ونشاط يومي. والسؤال الأعمق: كيف نجعل الرياضة وسيلة لإثراء المجتمع لا لإلهائه، رافعة للتنمية لا مسكّناً للوهم؟

النجاح يبدأ من العقل

الهوية الوطنية الناضجة لا تُبنى على أوهام المجد اللحظي، بل على وعيٍ حقيقي يتجاوز نشوة الانتصارات الشكلية نحو إنجازات عميقة وأكثر استدامة. حين ندرك أن الفخر الحقيقي لا يكون بالميداليات والكؤوس بل ببناء وطنٍ قادر على هزيمة الفقر والأمية والتصدي لانعدام العدالة وغياب المساواة؛ في تلك اللحظة نكون قد تجاوزنا الحاجة إلى إثبات تفوقنا للآخرين، ووجدنا بدلاً من ذلك الرضا العميق بمعنى الانتماء ذاته.

النجاح لا يُستورد، ولا يُمنح، ولا يأتي صدفة. إنه فكرة تولد أولاً في العقل، وتُربى في المخيلة، وتُنحت في الوعي الجمعي. قبل أن نحقّق الانتصارات في الميدان، علينا أن ننتصر في أذهاننا، أن نحرّر العقل العراقي من عقدة النقص أو من وهم التفوّق الفارغ، من الكسل المزمن أو الفخر الزائف. لن يكون لدينا وطن منتج ما لم نؤمن أولاً أننا قادرون على الإنتاج. ولا يمكننا بناء قطاع رياضي ناضج ما لم نؤمن أن النجاح فيه ليس صدفة أو حظاً أو قراراً سياسياً، بل نتيجة منطقية لعقل يؤمن بالتخطيط والانضباط والاحترام الحقيقي للوقت والقوانين والكفاءة.

بين وهم الفوز ومواجهة الذات

حين يصبح النجاح عقيدة عقلية جماعية، سينعكس تلقائياً في كل القطاعات: من المدرسة إلى الملعب، من المصنع إلى المختبر، من البرلمان إلى الشارع. أما حين نظل نحتفل بالنجاحات المعلّبة، أو ننهار أمام أول خسارة، فإننا لا نعيش فعلاً في وطن، بل في حالة إنكار جماعية، نؤجل فيها كل أسئلتنا الحقيقية خلف ستار النتائج.

لا بأس بالخسارة… بشرط أن نفيق

في النهاية، ليس السؤال: لماذا نخسر؟ بل لماذا نحتاج إلى انتصار حتى نشعر بوجودنا؟ لماذا نبني هويتنا على لحظات مؤقتة بدل أن نخلق لها أساساً متيناً؟ ربما علينا أن نتعلم كيف نتحرر من حاجتنا الدائمة للتفاخر، لأن الامتلاء الحقيقي لا يحتاج إلى استعراض، ولأن الوطن لا يصبح وطناً إلا حين يكون أكثر من مجرد مرآة لغرورنا.

الوطن الذي لا يعرف إلا نشوة الفوز وطن هشّ، والوطن الذي يخشى النظر في مرآة الخسارة وطن خائف من مواجهة نفسه. لا بأس أن نخسر، لكن الأسوأ أن تمرّ الخسارة دون أن تترك أثراً، دون أن تصبح لحظة تأملٍ فيما نحن عليه. ربما تكون أعظم الانتصارات هي تلك التي تأتي بعد أن نتعلم كيف نخسر بوعي، وكيف نحوّل كل سقوط إلى خطوة في طريق طويل لا يفضي إلى مجد زائف، بل إلى وطن لا يحتاج إلى مرايا ولا إلى أوهام كي يرى نفسه.

***

همام طه

في المثقف اليوم