أقلام حرة

أقلام حرة

إذا أردنا أن ننشأ جيل جديد من المثقفين والمفكرين يبدعون في الرأي والفكر وتقديم ما لديهم من أفكار وحلول وتغيرات في سلوكيات الفرد ليكون مؤثرا في بناء المجتمع وتطوره في خضم الصراعات التي تأثر تياراتها في عقول الأفراد سلبا وإيجابا علينا أن نشجع على استحداث جيل قابل على تقبل الأفكار الجديدة وفهمها بالطرق والوسائل المنطقية التي تستوعب تفكيره وبأسلوب أقناعي منهجي بعيدا عن الإملاءات الخارجية والعادات والمعتقدات السابقة الخارجية المرافقة للأفكار السطحية التي لا تواكب العصر وطرح الأسلوب الجديد في الحوارات الهادئة التي تحاول استبعاد القديم من التراث الاجتماعي والعقائدي والديني وننطلق إلى الحداثة في الرأي ونمط التفكير المنطقي المعاصر الذي يحاكي عقول الأجيال الجديدة التي تعيش التغيرات الفكرية والعلمية والتكنولوجية لذا لزاما علينا أن نقف بثبات فكري حر ونثقف المواطن ونستفز عقله على البحث والتحري والتفكير بحرية واستعمال لغة الحوار البناء والهادف وتقبل الرأي الآخر بغض النظر عن المعتقدات المتشددة والآراء البعيدة عن الواقع وعدم التشدد بالأخذ أو الرفض .فأن الحرية في التفاعل والتعامل مع الآخرين في كسب المعرفة بطرق سلمية حديثة ثقافية هو السبيل إلى المعرفة الجادة التي تخدم المجتمعات وتساهم في تطويرها  من خلال إيجاد المساحة الحرة والواسعة في التفكير والبحث والنقاش والحوار بعيدا عن المعتقدات والآراء الدينية التي تجيرها بعض العقول المهيمنة عل القرار السياسي والديني التي تجعل من التيار الفكري الحر طرفا حائرا فاقد الثبات في التغير والتأثير في المجتمع ومحاصرا من قبل المؤسسات الفكرية النمطية المسيطرة على تصرفات المجتمع والمساس بها ومعارضتها يعتبرها جريمة بحق قدسيتها حيث وجود الكثير ممن لا يروق لهم الخوض أو الاستماع أو تقبل ما هو جديد وحديث في المفاهيم المعاصرة التي تتحدث عن التجديد للفكر السلفي المتعالي على الحوارات والنقاشات ومنع كل ما يعارض ما جُبلوا عليه سلفا .

فأن الحوار العلمي المنطقي الخاضع للنقاش والبحث والدراسة الواقعية المعروضة على العقل ومواكب للمجتمعات الجديدة بعيدا عن النقل هي الطريقة الصحيحة المراد منها الارتقاء العقلاني بالفكر والعقيدة والدين لخلق مجتمع خالي من الصراعات الفكرية والاجتماعية بوجود شخوص مفكرة ناضجة فكريا وعمليا وعلميا تأخذ بيد المجتمع نحو الثقافة الحرة المنهجية الواعية.

***

ضياء محسن الاسدي

يبدو هذا العنوان وكأنه عنوان رواية بوليسية للكاتبة البريطانية (اجاثا كريستي) وهي في الواقع رواية بوليسية حقيقية جرت على ارض العراق .

كان لانقلاب 8  شباط عام 1963م تداعيات كثيرة على جميع الاصعدة السياسية منها والاقتصادية والفكرية ذلك لان الانقلاب مؤامرة اشتركت فيها اطراف متعددة منها الداخلية التي تمثلت بالعناصر الرجعية والقومية وبقايا الاقطاع الذين تضرر"

مصالحهم بعد نجاح ثورة 14 تمور 1958م ومنها الخارجية العربية والأجنبية. وكان من تداعيات الانقلاب البيان رقم (13) الذي اذاعه الانقلابيون في البوم الاول من انقلابهم وقد دعوا فيه الى ابادة كل من يقاوم الإنقلاب ابادة جماعية فكانت موجة  الاعدامات وزج العناصر الوطنية في السجون مما زاد من حدة التذمر الشعبي وتدمر العناصر الوطنية داخل الجيش وقيام انتفاضة معسكر الرشيد بقيادة العريف حسن سريع  في 3/تموز عام 1963م التي كان فشلها سبباً في تبلور احداث جديدة اعطت قادة الانقلاب مميزات جديدة من اجل القيام بأعمال انتقامية بعد فشل الانتفاضة مباشرة ودفعتهم الى ارتكاب ابشع جريمة  في تاريخ العراق الحديث .

بعد فشل حركة حسن سريع زج الآلاف من الضباط الجنود والمدنيين المشاركين بالحركة في سجن رقم (1)  في معسكر الرشيد وكانت خطة حكومة شباط ارسالهم الى معتقل (نقرة  السلمان) الصحراوي في السماوة فقد اعدوا (15) عربة من قطار حموله قديم يستخدم لنقل الاغنام والحديد والاخشاب ووضعوا هؤلاء المعتقلين داخل هذا القطار واحكموا غلق ابوابه الحديدية وفي ساعة متأخرة من ليلة 3/4 تموز من عام 1963م استدعوا اقدم سائق قطار في العراق وهو عبد عباس المفرجي وابلغوه ان القطار يحمل مواد كيمياوية .

وقد اختلفت الروايات في عدد المعتقلين داخل قطار فقد روي ان عددهم كان 250 شخصاً، بينما ذكرت روايات اخرى ان العدد كان 520 بين جندي وضابط .

وكان ابرز المعتقلين العقيد غضبان السعد وقتيبة الشيخ نوري والرائد يحيى نادر الذي توفي داخل القطار ومن المدنيين مكرم الطالباني وسلطان ملا علي واعضاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني وكان جميع المعتقلين بظنون انهم ذاهبون الى ميدان الرمي لتنفيذ حكم الاعدام بهم .

تحرك القطار فجر يوم 1963/7/4م وكان هدفه السماوة لان المدة التي تستغرق وصوله الى السماوة طويلة نا ساعات وهي كافية بقتل المعتقلين بسبب ارتفاع درجة الحرارة بحيث ان قادة البعث كانوا يراهنون على ان حرارة الشمس يمكن ان تقتلهم بعد ساعتين او ثلاث من شروقها على عربات القطار التي تحولها الشمس الى افران حديدية ملتهبة، اما الطبيب المعتقل رافد صبحي فقد نصح المحتفلين بعدم خلع ملابسهم كي يحافظوا على طاقاتهم .

قبل وصول القطار الى السماوة صعد شخص من اهالي المنطقة وابلغ سائق القطار ان حمولته ليست مواد كيمياوية او حديد بل بشر , فذهل السائق لهذا الخبر فأنطلق بأقصى سرعة وعند وصول القطار الى الديوانية هرع عدد كبير من المواطنين الى رش الماء على عربات القطار وعند السماوة زود الاهالي ركاب القطار بالماء والمواد الغذائية التي انقذتهم حتى وصولهم الى معتقل (نقرة السلمان) سالمين .

هذه هي قصة هذا القطار المشؤوم باختصار نكتبها للاجيال الجديدة التي لم تعاصر تلك الاحداث المؤلمة .

***

غريب دوحي

"يا بُني والله إني لأظن أن الله عزّ وجل خلقكَ شقيا"!!

هذه مقولة والد الحجاج بإبنه في حادثة معروفة ومدونة في كتب التأريخ، بعد أن عبّر له عن موقفه ووجهة نظره عمّا يدور في الواقع السياسي والإجتماعي آنذاك.

ويمكن قراءة شخصيته وفقا للآتي:

أولا: العصبية:

وهي الميل إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والإمعان بتأكيد الإرادة الذاتية والجمعية، وقد عبّر عن ذلك بقوة وإدمان في سلوكه، الذي تفتق بعد أن تسنم مواقع قيادية في الدولة الأموية، التي كادت أن تنهار لولا إقدامه وإصراره على تثبيت أركانها وإعلاء لوائها، وفقا لمفاهيمه القيادية الحازمة التي لا تقبل القسمة إلا على نفسها.

وقد ترجم بسلوكه صدق ولائه وإنتمائه للنهج الذي تبناه الخليفة عبد الملك بن مروان، والذي بموجبه تم تأسيس الدولة الأموية القوية القادرة على التمدد والهيمنة على أصقاع الدنيا، وذلك بالقوة والإقدام الشديد الذي لا رجعة فيه أو إلتفاتة إلى الوراء، فالحجاج إنطلق كالصاروخ نحو أهدافه المتنوعة المتنامية بإرادة فولاذية حازمة.

ويبدو أنه قد سئم من حكم عبدالله بن الزبير الذي يُقال أنه كان قاسيا، فترك الطائف وإلتحق بالشرطة الأموية في دمشق.

ثانيا: النرجسية:

من الواضح أن الحجاج يتمتع ببعض الصفات النرجسية،  لكنه لم يصل إلى درجة تعظيم الذات والخروج عن كونه إنسان من عباد الله الذين يجاهدون في سبيل إعلاء كلمته وإقرار الحق والقضاء على مناوئيه، فقد أبدى الكثير من المواقف التي تشير إلى أنه متواضع أمام خليفته، ويذعن لأوامره وينفذها مهما كانت صعبة ومذلة لشخصه، لكنه يمتلك حب الذات والقدرة على الإفتخار بكونه قد أنجز وحقق ما لم يحققه غيره، ويرى أنه أهم أعمدة الدولة الأموية، وعنده عزة وكبرياء وإعتداد بأصله وفصله.

ثالثا: الغاية تبرر الوسيلة:

الحجاج مارس هذا السلوك بقوة وشراسة، فغايته القضاء على معارضيه وإخماد الفتن والإضطرابات، وقد إتخذ لذلك الهدف جميع الوسائل المتاحة التي توصله إلى ما يريد، ولا يعنيه في الأمر إلا الوصول إلى الغاية المنشودة.

وتتضح هذه القاعدة السلوكية في مواقفه المتنوعة، وقراراته القاسية التي ينفذها بآليات فورية قاصمة ومرعبة، وكأنه السلطان المطلق الصلاحيات، والذي ينفذ أوامر ربه بدأب وإصرار وعزيمة متوقدة.

فهو يشرعن قتله للآخرين ويستحضر لهم حجة ودليل، ولا يقتل حبا في القتل وحسب.

رابعا: السايكوباثية:

لا توجد أدلة ومواقف تؤكد هذه الشخصية، فطفولته وصباه مشحونتان بالعلوم القرآنية والعربية، وكان معلما ومؤدبا، وقد أدبه وعلمه أبوه الذي كان معروفا بالتفقه بالقرآن، ويبدو أنه كان صاحب منزلة عند بني أمية، وعلى علاقة بالخليفة.

والحجاج صاحب بينة وحجة ويقتل وفقا لحجة وسبب واضح، فأول مَن قتل في الكوفة شخص كلمه فسألوه هل يعرفه فنفى، وعندما أخبروه بأنه هو الذي ركل جثة عثمان بن عفان وكسّر أضلاعه، أمر بقتله فورا.

وقتله سعيد بن جبير كان لأنه معارضا وخارجا عن طاعة الخليفة وقد حاججه ونفذ أمر قتله.

فهو يقتل مَن يعارض ولا يعنيه شأنه أو مقامه، فحالما تثبت عليه تهمة المعارضة والخروج عن الخليفة ينفذ حكم الإعدام فيه. ولهذا كثر قتله لأسباب سياسية بحتة. وشأنه كأي قائد يريد تثبيت أركان دولة، فلا تأخذه لومة لائم بما يفعل.

وفي الختام فأن الحجاج كان قائدا يبرر سلوك السيف ويبحث له عن حجة وبينة، لكي يكون فاعلا ومنفذا لأمر رؤيته التي ملخصها، أما أن تكون معي أو أنت عدوي، ووفقا لذلك مضى أكثر من عقدين على ذات المنهج التفاعلي مع الرعية، فصار مرهوب الجانب، مرعوب الذكر، تتنافر من أمامه الرجال حفاظا على أرواحها ومبررات حياتها، ومات كأي مستبد بذل ضغطا شديدا على الناس، فتنفسوا الصعداء من بعده، وتشظى وجودهم وتدهورت أحوالهم، وهكذا دبّ الضعف في الدولة الأموية، كما دبّ فيها بعد وفاة مؤسسها، لكن هذه المرة تواصل وتعاظم حتى إنتهت قبل أن تتم عشرة عقود في الحكم.

***

د. صادق السامرائي

في أرضٍ كانت تُغنّي، باتت تبكي. في البلاد التي خطّت أولَ حرف، وغنّت أولَ نشيدٍ للخلود، يعلو اليومَ نشيدٌ آخر... نشيدٌ من نحيبٍ طويلٍ يُشبه الموال، لا يَعرفُ لحنًا غير الحزن، ولا مقامًا سوى الناي الجريح. هنا، في العراق، كلُّ شيءٍ يبدو كأنه يتذكّر، يتذكّرُ مجدًا لا يعود، وجرحًا لا يندمل. تمشي على التراب، فينحني لك كأنّه شيخٌ تعب من الوقوف، وتُصغي للريح، فتسمعها تقرأ لك مراثي أور وسومر وبابل، ثم تبكي معك في صمت.

أرضُ الأنبياءِ والملوكِ والشعراءِ، صارت ساحةً لمآتمٍ لا تنتهي، وصراخٍ لا يعلو إلا ليُدفن، وأرواحٍ تتجوّلُ في الأزقة كأنها تنتظرُ خلاصًا لم يُكتب.

أيُّ موالٍ هذا الذي لا يسكت؟ وأيُّ فمٍ هذا الذي وُلد ليبكي فقط؟

في العراق، حتى الولادات تُستقبل بالنواح، وحتى الأعراس تُقام في ظلّ حدادٍ مؤجَّل.

الشمسُ تطلعُ هناك من عيونِ الثكالى، لا من خلفِ الجبال، والقمحُ لا ينبتُ إلا من دماءِ العابرين. ومَنْ قال إنّ دجلةَ يضحك؟ لقد صارَ النهرُ شاهدًا على المجازر، ناطقًا باسمِ الخراب، يروي لنا – كلما عبرناه – حكايةَ شهيدٍ لم يُدفن، وأمٍّ ما زالت تُعدُّ الغداءَ لابنٍ غاب منذ سنين.

العراقُ... ليس وطنًا فقط، بل قصيدةٌ مكسورة، قصيدةٌ حاولَ الشعراءُ ترميمها فلم يفلحوا، لأنّ الحرفَ في بلادِ النكبةِ لا يُكتب بالحبر، بل بالنحيب.

كيف نكتبُ عن العراق؟ بأيِّ لسانٍ نترجمُ وجعه؟

هو الذي صارَ كلُّ جزءٍ فيه مأساةً قائمة، من الجنوبِ المبتلِّ بالوجعِ، إلى الشمالِ المُحمَّلِ بالأسى، ومن بغدادَ التي أرهقها العرشُ والخيانةُ معًا، إلى الموصلِ التي لا تزالُ تفتّشُ عن ظلِّها في الركام.

هل تذكرون حينَ كانت بغدادُ تُعلّمُ الدنيا الفصاحة؟

الآن، تعلّمُنا كيف نصمتُ أمامَ الفجيعة.

هل تذكرون بابلَ حين كانت ترفعُ بوّاباتها نحو السماء؟

الآن، تسألُ السماء عن عدالةٍ لم تنزل.

ويا لهذا "الموال"... كم خُيِّلَ لنا أنّه سيُغنّى للهوى، فإذا به يُغنّى للقبور.

وكم ظننّا أنّ العودَ سيعزفُ للفرح، فإذا به وترٌ مبتورٌ بين أصابعِ اليتامى.

وكم حسبنا أنّ الناي سيُهدهدُ الساهرين، فإذا به ينوحُ مع من بقيَ من العقلاءِ، على ما تبقّى من وطن.

في عراقِ المأساة، لا أحدَ يسألُ: "هل سننجو؟"

بل الجميعُ يتساءل: "هل نحنُ أحياءٌ حقًّا؟ أم نحنُ شخوصٌ في مَشهَدٍ كابوسيٍّ طويل؟"

لكن... ورغم كلّ هذا، ما زال في العراقِ موالٌ آخر، لا يُشبه الحزن. موالٌ صغير، يهمسُ به طفلٌ في مدرسةٍ طينية، أو راعٍ في سهلٍ منسيّ، أو عجوزٌ تحيكُ وشاحًا لابنٍ أسير.

موالٌ اسمه "الصبر"، وآخرُ اسمه "الرجاء"، وثالثٌ اسمه "الوطن"، وإنْ خَفَتَ صوتُه وسط العويل، فهو باقٍ، يشتعلُ في الصدور كجمرةٍ لم تُطفأ.

العراقُ... هذا الموالُ العظيم، الممزوجُ بالبكاءِ والمقاومة، سيظلّ يُغنّى... حتى يعودَ الحرفُ إلى لوحِ الطين، والصوتُ إلى نايِ سومر، والبهجةُ إلى سماءِ النخيل.

***

د. علي الطائي

30-7-2025

المجتمعات التي تكون فيها النشاطات فردية بحتة، وذات نظرة أنانية قاصرة تفصلها عن المسيرة المجتمعية، تتسبب بإنهيارات مروعة، وتوفر الفرص للطامعين بالإختراق والتمكن من إدارة البلاد وإمتهان العباد.

ونخب أي مجتمع إن لم تنظر بشمولية وقدرة على إدراك المآلات التفاعلية، فأنها تساهم في وضع المجتمع على خشبة الجزر الفتاك لحاضره ومستقبله.

إن ما يصيب بعض المجتمعات المنكوبة بأبنائها، هو الإنغماس بالذاتية والأنانية الشديدة الإنكار لوجود الآخر وضرورة تفاعله البناء مع غيره، فالأقوام المتعاونة لا يصيبها الذل والهوان، بعكس المتناحرة التي تتآكل ويدثرها الخسران.

فمن أهم أسباب التبعية والخنوع، الإمعان بالوهم الفردي والقدرة الذاتية المعزولة، التي تستمد قوتها من أعداء وطنها وأصحاب المصالح، التي يجندون لحمايتها أبناء البلاد المتوهمون بالقدرة على النفوذ المطلق والثراء السريع، وهم على أنفسهم وبلدانهم يتحاملون، ومَن يخون وطنه وينكل بمجتمعه يهين نفسه ويجني على حياته ويكون من المندحرين.

فالإمعان بالفردية يمنع تكون أي تيار قادر على التغيير والإنتقال بالواقع المعاش إلى أفضل مما هو عليه، وهكذا تجد المجتمعات الخالية من التواشج العملي والتفاعل التضامني غير قادرة على الإتيان بما ينفعها، وتستهلك طاقاتها في مواجهات بينية تخدم أعداءها، وهي في غفلة مما يخططون.

وهكذا، فعندما يغيب التيار المتوثب والدافق بالحيوية والعطاء المتسابك، تبدو المجتمعات عاجزة ومقعدة على قارعة طريق الثورات الإبداعية المتلاحقة في عالم تديره تكنولوجيا المعلومات والتواصلات الإليكترونية، ومستقبله يزدحم بمستجدات تفوق أي خيال معاصر.

تفرّدتِ المواجعُ في خطاها

وحاربتِ النوازعُ مَن عَلاها

لماذا فردُها ضدٌ لفردٍ

يجابهها ويسلبها مناها

إذا عصفتْ صراعاتٌ بقومٍ

فقد أكلتْ مصائبُها حَجاها

***

د. صادق السامرائي

 

لاتزال مشكلة الغيبيات وماوراء الطبيعة وخلق الإنسان- خلق آدم- أبو البشر، من طين. على قاعدة (وَ بَدَأَ خَلْقَ ٱلْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ) التي حددت أصل الإنسان ومصدر نسله.. وذرية آدم التي تتناسل من ماء واهن، هو النطفة... من أعقد اشكاليات الفلسفة.. رغم كل التطور العلمي والفلسفي الذي حققه الإنسان في بحثه عن اجابات لكل تلك الاشكاليات..

ولان العلم يبحث في السبب والنتيجة للظواهر.. والتساؤلات التي تشغل بال الإنسان.. فقد كل العلم في طروحات اقرب إلى اليقين بالنتائج من الفلسفة.. التي ظلت تعيش متاهات الشك في النتائج.. إلى الحد الذي يقترب بالكثير من الفلاسفة إلى الحيرة، ومن ثم الإلحاد..

على أن الدين الاسلامي قد حسم كل الحقائق -الغيبية منها والحسية - على قاعدة (هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم).. وترك الباب للإنسان مفتوحا للبحث في ملكوت السماوات والارض والكائنات.. على قاعدة (افلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الارض كيف سطحت) للوصول الى حقائق الأمور والظواهر التي تشغل باله.. لترسيخ يقينه.. وإنقاذه من دوامة التساؤلات والشكوك التي تواجهه في بحثه عن ما يحيط به من حقائق.. والتي تعجز رؤاه الفلسفية، بل والعلمية احيانا..عن الإحاطة التامة بها..

***

نايف عبوش

بين ثمرات الشبكات الاجتماعية ورحابة الإنترنت

في عالم يزداد ترابطًا كل يوم، تحولت الشبكات الاجتماعية والإنترنت من مجرد أدوات تكنولوجية إلى عصب الحياة اليومية. لم يعد الأمر يقتصر على الترفيه أو التواصل، بل باتت هذه الوسائل تُشكل ملامح مجتمعاتنا، وتؤثر في وعينا، وعلاقاتنا، وحتى فرصنا المهنية والتعليمية. لكن، وسط هذا الزخم، يبرز سؤال جوهري: هل نعيش ثورة تواصلية مفيدة، أم أننا نغرق في عالم رقمي يفوق قدرتنا على السيطرة؟

ثمار لا تُنكر: بين تعزيز العلاقات ونشر المعرفة

من أبرز إيجابيات الشبكات الاجتماعية أنها جعلت التواصل فوريًا وسهلًا، مهما بعدت المسافات. أصبح بإمكان أي شخص أن يتحدث إلى أحبائه في اللحظة ذاتها، وأن يشاركهم لحظاتهم وأفكاره بكبسة زر.

إضافة إلى ذلك، ساهمت هذه المنصات في نشر الوعي والمعرفة، حيث تحولت إلى منابر حرة للتعبير وتبادل المعلومات، بل وأصبحت أداة قوية في الحملات المجتمعية وقضايا التغيير.

ولم تتوقف الفائدة هنا، بل امتدت إلى المجال المهني. فالعديد من المستخدمين وجدوا في هذه الشبكات فرصًا للعمل، والتسويق، وبناء شبكة علاقات مهنية لا تقدر بثمن.

الإنترنت... عالم بلا جدران

أما الإنترنت، فهو مكتبة مفتوحة بلا أبواب ولا حدود. ملايين الصفحات والمصادر متاحة لكل من يبحث عن المعرفة، في مختلف المجالات واللغات. التعليم عبر الإنترنت، على سبيل المثال، لم يعد ترفًا، بل أصبح وسيلة ضرورية للكثيرين، خاصة في المناطق النائية والظروف الاستثنائية.

كما بات الإنترنت مساحة للتفاعل والمشاركة في مجتمعات افتراضية، تشكّل أحيانًا مصدر دعم نفسي أو اجتماعي، وتعزز الإحساس بالانتماء، حتى لمن يشعر بالعزلة في محيطه الواقعي.

الوجه الآخر: تحديات العصر الرقمي

رغم كل تلك الإيجابيات، لا يخلو الأفق الرقمي من الغيوم. فالإدمان الرقمي بات ظاهرة مقلقة، تؤثر في الصحة النفسية والجسدية، خاصة بين الشباب والمراهقين.

يُضاف إلى ذلك خطر فقدان الخصوصية، حيث يمكن أن تُستغل المعلومات الشخصية بطرق غير مشروعة، ناهيك عن سرعة انتشار المعلومات المضللة التي قد تُحدث فوضى فكرية ومجتمعية.

مقارنة بين الشبكات الاجتماعية والإنترنت

التواصل فوري واجتماعي رسمي أو غير فوري عبر البريد وغيره

المحتوى تفاعلي وآني ثابت وغني بالمراجع والمصادر

الخصوصية تتفاوت حسب المنصة قابلة للتحكم بشكل موسع

المخاطر إدمان، شائعات، تنمر فيروسات، تهديدات أمنية

آراء من الواقع: بين الطب والتعليم

في حوار مع مختص في علم النفس، أشار إلى أن "الاستخدام المفرط للإنترنت قد يؤدي إلى اضطرابات مثل القلق والاكتئاب، لا سيما عند غياب التوازن بين العالم الواقعي والافتراضي."

أما أحد المعلمين، فأوضح أن "التعليم الرقمي أتاح فرصًا واسعة، لكنه بحاجة إلى دعم تقني قوي وتدريب للطلاب والمعلمين على حد سواء."

دراسات وشواهد داعمة

بحسب دراسة نشرتها مجلة بحوث كلية الآداب – جامعة المنوفية، فإن الشبكات الاجتماعية "تلعب دورًا كبيرًا في التوعية بقضايا التنمية المجتمعية". كما أشار تقرير صادر عن مكتبات المستقبل إلى أن "المكتبات الذكية" باتت جزءًا أساسيًا من منظومة التحول الرقمي في مجال التعليم والمعلومات.

لعل التحدي الحقيقي لا يكمن في هذه الوسائل نفسها، بل في كيفية استخدامها. ومن هنا تبرز التوصيات:

تحقيق التوازن بين الحياة الرقمية والواقعية.

رفع الوعي الرقمي لحماية الخصوصية والتمييز بين الحقيقة والمحتوى المضلل.

استثمار الإنترنت في التعلم المستمر والتطوير المهني.

في الختام...

يمثل "أفق التواصل الرقمي" مسارًا مزدوجًا: فهو عالم من الفرص اللامحدودة، لكنه يحمل في طياته تحديات معقدة. بين ثمار الشبكات الاجتماعية ورحابة الإنترنت، يبقى الاستخدام الواعي هو مفتاح الاستفادة، والخط الفاصل بين التقدم والانزلاق في دوامة رقمية لا قرار لها.

***

بقلم: رُبى رباعي – الأردن

رفد: دعم أعان بعطاء أو صلة.

تندر الروافد المعرفية في دولنا، فالسائد إستحضارات إستنساخية لما أنتجه غيرنا، فنحن نتبع ونقلد بقصور ونحسب أننا ندري، ونتباهى بتذييل ما نكتبه بمصادر أجنبية .

وما أكثر ترجماتنا لعطاء الآخرين، ولا نمتلك عطاءات أصيلة سائدة، ونشيح الطرف عن لغتنا وهويتنا وتراثنا المعرفي، ونتبجح بأننا ننهل من معين أجنبي.

المجتمعات تنضح مما فيها، ولا تنضح ماء غيرها، ونحن نتفاخر بأننا نجيد لسان غيرنا ونحط من قيمة لساننا، ونستهين بعقولنا، ونحسب كل ما هو آتٍ من بلادٍ بعيدة، جيد ويبهرنا وعلينا أن نتعاطاه كبلسم لمحنتنا المعاصرة.

وما أكثر السم المدسوس في عسل المستوردات من الأفكار والرؤى والنظريات، وكم خدعنا بأن العلة في تأريخنا وديننا وشعرنا، وعلينا أن نجدد وننكر ما عندنا ونتمثل ما عند الآخرين، فتحقق إستعمارنا فكريا وثقافيا وتميعت معارفنا، وتوهمنا بأن الأجداد ليسوا بشرا ولا يمكننا أن نكون مثلهم، لأنهم حالة ملائكية ذات قدرات خارقة.

فأضحى واقعنا الثقافي بلا روافد تنبع من جوهر أعماق الأمة، فجفت عروق وعينا، وتهدمت ركائز سلوكنا، وتهاوت خيام مصيرنا، وأمسينا ندين بالتبعية والخنوع للذين يغفلوننا ويحقنوننا بما ينومنا ويخدرنا، وهم بشراهتهم الإستحواذية ينهبون ما عندنا من كل شيئ، حتى بتنا بلا طعم ولا رائحة، وأخذوا يكيلون علينا الأوصاف السلبية ويحسبوننا أرقاما لا قيمة لها، وموجودات معادية للحياة، وتسعى لصناعة الموت في كل مكان.

إنها لعبة الفناء الذاتي التي تُسَخَر فيها عناصر الهدف لنخره وإسقاطه كأعجاز النخيل المتتشوقة للتحول إلى رماد، بدلا من إلتهامها بديدان التراب الغاشمة.

فاقتلوا بعضكم، يا أمة سئمت منها الأمم!!

روافدنا تقطّعها الأعادي

بأجيالٍ مكبّلة الأيادي

حكوماتٌ بها الأهدافُ فازتْ

لتقهرنا بزنزان البلادِ

أعاجيبٌ تفرّقنا لنبقى

بدائرةٍ من الفعل المُصاديِ

***

د. صادق السامرائي

 

تميل عقولنا بطبيعتها إلى البحث عن الراحة والتناغم. عندما نتبنى فكرة ما، فإننا نحيط أنفسنا بأشخاص وأدلة تدعمها. نبني حول قناعاتنا أسوارًا عالية، ونتجنب أي شيء قد يهددها. نعتقد أن النمو يحدث في بيئة هادئة ومستقرة.

لكن منطق الحياة والفكر والتاريخ يقول العكس تمامًا. التقدم الحقيقي، والنمو الخصب، لا يولد من السكون، بل يولد من الصراع. إنه يولد من التوتر الخلاق بين الأضداد. الفكرة لا تنمو وتتطور إلا عندما تصطدم بنقيضها القوي، وهذا التصادم يجبر العقل على البحث عن حل إبداعي أعلى، عن "تركيب" جديد يتجاوز الموقفين الأصليين ويحتفظ بأفضل ما فيهما. هذا هو محرك التطور، وهذا هو منطق الإبداع.

أن تكون مفكرًا سطحيًا هو أن تهرب من هذا الصراع. أما أن تكون مفكرًا عميقًا، فهذا يتطلب منك أن تبحث بنشاط عن "النقيض الخصب". أن ترحب بالتحدي، وأن تحترم خصمك الفكري، وأن ترى في حجته فرصة للنمو، لا تهديدًا لوجودك.

تخيل بذرة (أطروحة). لكي تنمو، لا يكفي أن تضعها في ضوء الشمس. بل يجب أن تدفنها في ظلام التربة، حيث ستصارع وتقاوم لتشق طريقها نحو الأعلى. هذا الصراع مع مقاومة التربة هو الذي يمنحها القوة. وبمجرد أن تخرج، ستواجه الرياح (نقيض الأطروحة). الرياح قد تبدو عدوًا، لكنها في الحقيقة هي التي تقوي جذع الشجرة وتجعلها أكثر مرونة وصلابة. الشجرة التي تنمو في قبة زجاجية محمية ستكون هشة ومصيرها الكسر عند أول نسمة هواء.

عندما تتمسك بفكرة أو موقف، لا تكتفِ بتدعيمه. مارس التفكير الجدلي بوعي. حدد فكرتك بوضوح. ثم، لا تبحث فقط عن نقد ضعيف لها، بل ابحث عن أقوى وأذكى حجة مضادة يمكنك أن تجدها. عش في هذا التوتر. لا تحاول فقط أن تهزم الحجة المضادة، بل حاول أن تفهمها بعمق، وأن ترى الحقيقة الجزئية التي تحتويها. ثم اسأل: هل هناك أرضية أعلى، موقف أكثر تعقيدًا وحكمة، يمكن أن يجمع بين حقيقة فكرتي وحقيقة نقيضها؟ هذه الممارسة ستحول عقلك من حصن يدافع عن نفسه، إلى رحم يلد أفكارًا جديدة وأكثر قوة.

"ابحث عن 'النقيض' الخصب. النمو يولد من الصراع. عندما تتمسك بفكرة ما، لا تكتفِ بالبحث عن أدلة تدعمها. مارس 'التفكير الجدلي': حدد فكرتك بوضوح (الأطروحة). ابحث بجدية عن أقوى حجة مضادة لها (نقيض الأطروحة). لا تحاول فقط أن تدحضها، بل عش في هذا التوتر بين الفكرتين. اسأل نفسك: هل هناك موقف أعلى وأكثر تعقيدًا يمكنه أن يجمع حقيقة الموقفين معًا (التركيب)؟ هذه هي محاكاة محرك التطور الفكري نفسه."

***

مرتضى السلامي

 

ان الذي ترك لنا تراثًا ضخمًا من التاريخ والدين والأدب والثقافة وله دور كبير في تنوير العقول والأفكار هو القلم الصادق الذي يمثل الشراع الابدي وله دورًا أساسيًا في عملية البناء، سواء كان ذلك في البناء المادي أو المعنوي، في البناء المادي، لتسجيل الأفكار والتخطيط للمستقبل، مما يسهل عملية التنفيذ ويضمن الدقة. أما في البناء المعنوي، للتعبير عن الأفكار والرؤى، وكتابة النصوص التي تشكل أساسًا للمعرفة والثقافة، وتساهم هذه المعرفيات في تطور المجتمعات، وهو الوسيلة الفكرية للتنفس، يخرجها من ظلمات الخواطر الصامتة إلى نور الكلمات المضيئة، وهنا تبدأ مرحلة أخرى من الترويض وبها كتبت على مر القرون و تكتب العشرات بل الألوف والملايين من الدواوين الشعرية والروايات ومجلدات ضخمة عن تاريخ الحضارة البشرية والملاحم الأسطورية والتفاسير. إن إنجازات القلم الكبيرة والرائعة تدفعنا لمعرفة ما قيل عنه في التراث العربي وفي الكتابات المعاصرة.

روت كتب التفسير عدداً كبيراً من الأحاديث التي تبين أن القلم هو أول مخلوقات الله، والمنقول عن النبي' ص' «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب ما يكون، أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أثر أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة'.

 فنجد علمًا خاصًا بتواريخ البلدان للدفاع عنها وإبراز قيمتها، بذكر رجالها ومفاخرها ورموزها، وما قدمته من العلوم للإنسانية، ولكل بلد مؤلفاته التاريخية التي تمثل ماضيه وليرتبط بحاضرة، مما يعبر عن ضرورة أداء القلم دوره في خدمة الوطن في كل زمان ومكان، نجد أن للقلم سحره وبيانه وألقه في تسطير أروع الأبيات وأجمل الروايات وأبدع المسرحيات وسجله سجل خالد عبر العصور والدهور.

ان الذي لا يمكن فصلهما هو السيف والقلم السلاحان المتلازمان لكل ذي سلطان، بهما تقام الدول، وتمهد سبل الحكم والرياسة، وتفرض النظم والقوانين، وتبنى الدول والمجتمعات. فالسيف رمز القوة والعزة والإباء، والقلم رمز العلم والثقافة والحضارة. قد يتقدم أحدهما على الآخر في فترة من الفترات، نتيجة لطبيعة المرحلة التي تمر بها الدولة، ولكنهما في النهاية سلاحان وأدان لا غنى عن أحدهما للسلطان في كل زمان ومكان.

أجل إنه القلم تلك الوسيلة العظيمة، التي أقسم الله تعالى بها في كتابه الكريم، ' ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴿۱﴾'سورة القلم  ولا يقسم ربنا إلا على عظيم، وهل هناك من  أحد ان يشك في عظمة القلم ومدى تأثيره ومنفعته ومقاصده ودوره؟! ناهيك بذلك القلم الذي يتحرك في سبيل الوطن، للذود والدفاع عنه عنه و ليست مهمة مقتصرة على البندقية والدبابة والأرواح والأجساد و والطائرة واسلحة الموت الجديدة التي دخلت الميادين فقط، فلطالما كانت الأقلام والكلمات رماحًا وأسنة يتقي بها الوطن شر الأعداء،

في هذا المجال ' يرى ابن خلدون أنّ السيف والقلم سلاحانِ يُكمّلُ كلٌّ منهما الآخرَ ولا يستغني عنه، لكنّ الاهمية تختلفُ باختلافِ الأزمنة، فيرى أنّ السّيفَ هو الاهم في مرحلتينِ من مراحل تاريخِ الدّول، ففي مرحلةِ النشوءِ والتّكوين وكذلكَ في مرحلةِ الشّيخوخةِ لا بدّ من القوّةِ لإثباتِ هيبتِها وتثبيتِ أركانِها، خشيةَ التّصدُّعِ والانهيارِ، يقولُ ابنُ خلدون: 'إلّا أنّ الحاجةَ في أوّلِ الدّولة إلى السّيفِ ما دام أهلُها في تمهيدِ أمرِهم أشدَّ من الحاجةِ إلى القلم.. وكذلك في آخرِ الدّولة حيثُ تضعفُ عصبيّتُها كما ذكرْناه.. فيكونُ للسّيفِ مزيّةٌ على القلمِ في الحالتينِ ويكونُ أربابُ السّيف حينئذٍ أوسعَ جاهاً و أكثرَ نعمةً.' أقوَى دليلٍ جاء به المتنبّي، ولم يتركْ للخصمِ شاهداً يستدلُّ به في تقدُّمِ القلمِ على السّيفِ:

حَتّى رَجَعتُ وَأَقلامي قَوائِلُ لي

المَجدُ لِلسَيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ

اِكتُب بِنا أَبَـــداً بَعــدَ الكِتابِ بِهِ

فَإِنَّما نَحـــنُ لِلأَسيافِ كَالخَدَمِ

 ويتعاظمُ دورُ القلمِ في تعزيزِ وتجميلِ هيبةِ الدّول وبيانِ خصالِها والمباهاةِ بها أمام العالمِ، مع بقاءِ السّيفِ في حالةِ الأهبة والاستعدادِ للنّوائبِ والمخاطرِ المفاجئة: 'وأمّا في وسطِ الدّول> فيستَغني صاحبُها بعضَ الشّيء عن السّيفِ

وبها تكتب العشرات بل الآلاف والملايين من الدواوين الشعرية والروايات ومجلدات ضخمة عن تاريخ الحضارة البشرية والملاحم الأسطورية. إن إنجازات القلم الكبيرة والرائعة تدفعنا لمعرفة ما قيل عنه في التراث العربي وفي الكتابات المعاصرة.

روت كتب الحديث والتفسير عدداً كبيراً من الأحاديث التي تبين أن القلم هو أول مخلوقات الله، والمنقول عن النبي' ص' «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب ما يكون، أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أثر أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة».

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

"ما زلزلت مصر من كيد ألمّ بها

لكنها رقصت من عدلكم طربا"

هذا بيت شعر يختصر تفاعل الحافين من حول الكراسي مع سيدها، ويمثل آليات التكسب والمديح الكاذب، والتصوير الباذخ بالكلمات لحالات متخيلة لا وجود لها في سلوك الشخص المعني.

معظم المدونات لا تصف بشرا واقعيا وإنما متصوَّرا، ومركونا في فضاءات الخيال، وممتطيا صهوة المستحيل الأرضي، لكنها بالتكرار تتحول إلى حقائق راسخة وكينونات ذات تأثير رومانتيكي في وعي الأجيال.

ولهذا أصبح التأريخ في أكوان أبعد من نجمة الزهرة، ونحن نمشي فوق جرم سماوي مرتعب، يخشى التوقف لثوان عن الدوران، فما أقل القدوات الحقيقية في مسيرة الأمة، وما أكثر المتخيلة منها.

فهل حقا كان السلاطين كما وصفتهم كتب التأريخ؟

"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد........"

فكيف نخرج السلاطين من بشريتهم؟

يبدو أنها نزعة تدفع إلى الإذعان لما هو غير بشري وفقا للتصور والإعتقاد، وما أكثر الأنبياء الذين قتلوا أو قست عليهم أقوامهم، لأنهم بشر يسعى بينهم، فكيف يجوز إضفاء توصيفات مقدسة عليهم، وهم يأكلون ويشربون ويقضون حاجاتهم كأي البشر.

ومن الواضح أن التأريخ لا يكتب في حينه، بل بعد فترة قد تطول أو تقصر، وبهذا يكون للتصور والتخيل والمواقف الشخصية والرؤى الأخرى تأثيراتها الأكيدة على المدوَّن.

فكيف تتم قراءة التاريخ، وهل يجوز تصديق غثه وسمينه؟

***

دوّنوا فيها كثيراً إنهمْ

وضعوا رأيا تنامى عندهمْ

فقرأنا ما أتانا جاهزاً

وأرانا قد قرأنا فكرهمْ

دارتِ الدنيا ودامتْ علةٌ

فاحترقنا وذُكانا قولهمْ

***

د. صادق السامرائي

 

في دهاليز الروح، حيث تتشابك أنفاس الوجود بلغة لا تُنطق، وتتشكل الأحلام والقرارات على هيئة ومضات، تتجلّى الحقيقة الإنسانية كلوحة مرسومة بألوان متباينة: نزوة، عزيمة، وبصيرة. فلنتأملها، لا كمتفرجين، بل كرحالة يخوضون غمارها، ويغوصون في بحارها بأشرعة الوعي وقلوبٍ على أهبة الدهشة.

الرغبة.. غيوم تتشكل وتنجلي

هي الرغبة... ذلك الوميض الذي يمرّ في سماء النفس كغمامةٍ ناعسة، أحيانًا تُبشّر، وأحيانًا تُنذر. تسري كأنفاسٍ دافئة في ليالٍ باردة، تُغري وتعد، لكن لا تعِد بالبقاء. تتكاثف في الأفق، تحمل معها أمطار الشوق، ورعود اللهفة، وتلمع ببروق الطمع أو الحنين. تُخيل إلينا، لحظات، أنها كل السماء، أنها المصير ذاته. لكن الحقيقة الأبدية تُعيدنا إلى رشدٍ عميق: الرغبات زوّار، لا ملاك، تمرّ ولا تُقيم، تهمس ولا تأمر، تظهر وتضمحل كما السراب.

وفي معرفة عابريتها، تنكشف الحرية. من ينظر إليها بعين العارف، لا يُفتن، بل يُبصر. من يدرك أنها دخانٌ في مهبّ الوعي، لا يُستعبد، بل يتحرر. تلك هي الرغبة: نارٌ لا توقد إلا إذا نفخنا فيها من هوى، وظلٌّ لا يثبت إلا إذا أدرنا له الظهر.

الإرادة.. النجم الذي لا يخفت

في قلب العاصفة، حين يضجّ الكون بصراخ المغريات، تصعد الإرادة كأنها نبض الأرض. لا تتقلب كالرغبة، بل تثبت. إنها البوصلة التي لا تعرف الشمال المغشوش، والمرساة التي لا يقتلعها تيار، مهما اغتلم.

الإرادة ليست مجرد قرار، بل قوة تُصاغ من وعي ومن نار. إنها التوق إلى السيطرة، إلى الانضباط، إلى توجيه السفينة حين تتحطم أشرعتها. فيها يسكن صمت الأبطال، الذين يمشون نحو الضوء رغم انكساراتهم، ويزرعون خطواتهم على دروب من شوك دون أن يحنوا رؤوسهم. هي الإرادة التي تجعل الإنسان سيدًا، لا مستجدِياً، وصاحب مصير، لا صدىً في وادٍ مهجور.

وحين تهب العواصف، وتتعالى نداءات التخلّي، تمسكنا الإرادة من تلابيب الضياع، وتهمس: اثبت.. فأنت من يختار الطريق، لا الطريق من يختارك.

العقل.. عرش التوازن وسيف الحكمة

وأخيرًا، هناك العقل، سيّد المسرح، العرش الذي لا يُنتزع. إنه الملك الذي لا تحكمه شهوة، ولا يُضلله اندفاع. هو القاضي الذي لا ينام، والمهندس الذي يبني خرائط الخلاص. بميزانه تُوزن الرغبات، وبمنطقه تُهذَّب الإرادة، وبحكمته تُسَيَّر القافلة في صحراء الحياة.

العقل ليس سجنًا للرغبة، ولا عدوًا لها، بل عينٌ تقيس المسافة بين اللهفة والغاية، بين الدافع والمصير. وإذا كانت الرغبة نارًا، والإرادة طاقة، فالعقل هو قالب الذهب الذي يصهرها فيهما لتخرج قراراتنا صافية، واعية، متزنة.

إنه السيادة في زمن الفوضى، والقبطان الذي يرسم خط السير، لا يرضى بتيه، ولا يقبل بأن نكون أسرى لدواخلنا. هو ذروة الوعي، وتجلي الإنسان حين يختار أن يحكم نفسه، لا أن يُحكم بها.

هكذا تنسج الروح خيوطها: رغبةٌ تمر كنسيم، إرادةٌ تشتعل كجمرة، وعقلٌ يتلألأ كنجمٍ لا يغيب. وفي توازن هذه الثلاثة، يتشكّل الإنسان الحق، لا كمجرد كائن حي، بل ككائن واعٍ، حر، سيّد على ذاته، رحّال نحو أسمى مراتب السكينة والتنوير.

***

حميد علي القحطاني

مذهبة: تعلم مذهب أو مبادئ أو عقائد، وتستعمل الكلمة بمعنى سلبي  للدلالة على إستيعاب أأفكار دون أي نقد أو نقاش.

المذاهب برمتها تبدو وكأنها ألاعيب سياسية لخدمة الكراسي السلطانية القاضية بإمتهان الشعوب وإستعبادها، وتمرير رغباتها وإعطائها التخويل الرباني او الشرعي للقيام بتأمين حاجاتها وما يلزمها من قوة للقبض المطلق على الحكم، وأصحاب المذاهب أشخاص لديهم قدر ما من العلم بالدين وطرحوا آراءهم، وإتبعهم الجاهلون بالدين، وحسبوهم من أعلم العلماء وأفقه الفقهاء، ومع مرور العصور تراكمت عليهم هالات القدسية وأمانة الإتباع، وكأنهم يعبرون عن الدين القويم وغيره لا دين.

ولو أخذنا زمنهم وثقافتهم لتبين أنهم يتمتعون بمحدودية معرفية بالقياس إلى ما توصلت إليه البشرية من معارف وعلوم، لكنهم في زمنهم الذي عاشوا فيه، كانوا من المبرزين والمتفقهين.

وكانت في الأمة العديد من المذاهب والرؤى والمدارس، فكل عارف بشيئ إختط لنفسه سبيلا يؤكد فيه ما يراه، فمنهم من أبيد عن بكرة أبيه، ومنهم من أهمل، وبقيت مذاهب ذات قيمة سلطوية، وبموجبها مضى الحكم في أرجاء الأمة، فكل فترة يبرز مذهب ليكون القائد لنظام الحكم، وكلها فعلت ما فعلت في مسيرة الحاكم والمحكوم.

ولا تزال الأمة بين العديد منها، القديم والجديد، فهي أشبه بالأحزاب السياسية، وبعضها يدفع المنتمون إليه إشتراكا، ويعتبر حقا لقادة المذهب، فالواقع المتعضل يشير إلى أن المذاهب لعبة للمتاجرة بالدين، ولكل بضاعته وأسواقه وأرباحه التي يجنيها.

وفي حقيقة الدين أن لا يشفع أحد لأحد، فكل يكون لوحده أمام مصيره، ولن يساعده مذهب أو إمام أو غير ذلك، وإنما من أتى ربه بقلب سليم.

ولن يكون مسؤولا عنه غير نفسه وعقله، فلماذا لا يكون لكل إنسان مذهبه، أي وسيلته لعبادة ربه الذي يؤمن به، ويدع المذاهب جانبا، لأنها مغشوشة وذات تطلعات ثانوية غير التي تدّعيها، وجميعها وبلا إستثناء تعزف ذات المعزوفة، التي تنتهي بإستعباد الناس والقبض على مصيرهم بإسم الدين.

فكم صنعت المذاهب من تجار الدين المرائين، الذين يتراقصون على أنغام معزوفات أمارة السوء الفاعلة فيهم، وهم يتمنطقون بالدين وقلوبهم تنبض بقول شيطان رجيم!!

فهل لنا أن نصنع مذهبنا الإنساني الشخصي القويم، ونتبرأ من مذاهب لا تنفع ولا تعين؟!!

مذاهبها إلى الأديان ذخر

كأن لشهدها لذعٌ ومرُّ

بها دينٌ على ذاتٍ تعالى

بدائبة بها كرٌ وفرُ

معسجدةٌ رؤانا دون غيرٍ

فلا دينٌ سوى ديني يمرُ

بسفك دمائنا عشنا صراعا

ونعلم أن كلّ الخلق حرُ

***

د. صادق السامرائي

هو الذي وجه أو أمر محمد بن إسحاق لكتابة السيرة النبوية، لتكون معينا ثقافيا لولي العهد من بعده (المهدي) زوج الخيزران التي أنجبت الهادي وهارون، ويقال إنها قتلت إبنها الهادي لأنه أذلها أو حد من صلاحياتها.

السيرة النبوية كتبت سنة 150 هجرية، وإختصرها إبن هشام، ويُقال أن أبو جعفر المنصور طلب من إبن إسحاق أن يخقفها، لأن المهدي لا قبل له بقراءة مئات الصفحات، ويذكر أن السيرة النبوية مكتوبة بواقعية في زمن عثمان بن عفان، وأحرقها الأمويون لأنها تشيد بالأنصار، الذين أبادوا معظمهم في موقعة الحرة (63) هجرية، التي قادها مسلم بن عقبة.

السيرة فيها الكثير من اللاوافعية، والإبتعاد عن ومضات السيرة في القرآن :"قل إنما أنا بشر مثلكم ...."، "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...."

في عصر أبي جعفر المنصور(136 - 158) هجرية، إنطلقت حركة التدوين، ونقل الروايات الشفاهية إلى القراطيس، وهو الذي بدأ بالحث على تدوين الأحاديث وكتابة الصورة التي نعرفها اليوم عن الإسلام وتأريخه وسيرة نبيه.

التفاعلات الواقعية لم تدون بل تحقق إضفاء المثالية والملائكية على منطلقات الدين من بدايته لتبرير ما وصلت إليه أو أرادت أن تصل إليه الدولة العباسية، بعد أن إنقلبت على حلفائها، وتفردت بالسلطة والحكم.

أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وواضع البنى التحتية لقيامها وإنطلاقها وتواصلها وفقا لرؤيته الثاقبة وتصوراته كباني إمبراطورية وصانع تأريخ.

ولوفاة إبنه البكر جعفر الأكبر (125 - 151) هجرية، عهد من بعده لإبنه الثاني محمد المهدي، وبهذا تغيرت مسيرة الدولة العباسية من بعده، ووصلت إلى ذروتها ثم إنحدرت بسبب الصراعات بين أولياء العهد الذين تماحقوا.

تدونت الحوادث بعد قرنِ

فمن قول إلى رسم وفنِ

ووثقت الكلام يراع كسبٍ

ومنقولٍ لمنقولٍ بظنِ

فلا تعتب على صورٍ تجلت

بها الأجيال من كتبٍ تكني

***

د. صادق السامرائي

قال لي ابن ابنتي "نسيم" الرائع ـ الشغوف شغفا مذهلا وهو في السادسة من عمره ـ بالفضاء والمجموعة الشمسية بادق تفصيلاتها، وبالمجرات، قال فجاة: "جدو هل رايت كيف زالت حضارة الديناصورات؟" فكأنه جاء بالالهام الغائب الذي كنت ابحث عنه طويلا، ضمن محاولتي ايجاد مسرب للكائن البشري من وطاة الجسدية/ الديناصورية/ بما هي حالة فناء مقرر كونيا، بغض النظر عن الفارق بين الكائن البشري الناطق، حامل العقل بصيغته الاولية الابتدائية، واجمالي تكوينه الجسدي الارضوي الغالب، ومترتباته من زاوية فرضية الفنائية او عدمها، واذا كانت حتمية وشرطا شاملا للكائنات الحية، بغض النظر عن تدرجات انواعها.

وماقد اثار دهشتي ان "نسيم" وضع لي فلما على تلفونه، عنوانه "ماالذي سيحدث في المستقبل؟" وهو تعداد لمراحل التطور المنتظر بالتفاصيل، من نوع غلبة المعدات الافتراضية الايهاميه مع عام 2050، وقت يصير الكائن البشري قادرا باستعماله وسائل مبتكرة لان يرى مايتخيله، الى ان يصل الامر لحد امكانية وضع عدسه مساعده على العين مباشرة، تخلصها من الالة، وتساعد على جعلها هي بذاتها اداة خلق عوالم مفترضة، في عام 2061 سوف يمر بنا مذنب هالي، وهذا ليس من قبيل الخطوات التي يمكن عدها ضمن التطورات المتوقعه، الى 2100 حين يسيطر الذكاء الاصطناعي وتنقلب الحياة تماما، سواء من ناحية العمل ومن يضطلع به، او بما يخص الادارة والوظيفة، مايولد اشكالا خطيرا وجوهريا بخصوص الشغل ودور الكائن البشري فيه، وصولا الى مامن الطبيعي وقوعه من تازم ناجم عن البطالة المعممة، الاهم من ذلك ان الفيلم يتعرض لهذه الناحية متوقعا حصول انتفاضات بشرية ضد مزاحمة الروبوتات، تواجه، وهذا الاهم في المعروض، بقوات آليه من الروبوتات القمعية، مالابد ان يثير الخيال البشري، تصورا لنوع وطبيعة الحياة البشرية في حينه، مع مترتبات انقلاب في الوظائف الكائن البشري مقذوف خارجها، ومتصاغر قياسا لها ولحكمها القاهر، مع تحول الذكاء الطاريْ الى وسيلة لتكريس السلطه، مع ان الفيلم لايتطرق لهذه الناحية، ولا يقول لنا من الذي سيكون سائدا ومتغلبا وقتهان وبناء على اية سياقات مستجده، مع ان الاصل والمحرك فيها هو الكائن البشري نفسه، مع اجمالي ماضيه التسلطي التمايزي المتجدد.

لست اعرف كيف ومن اين جاء من قرروا وضع الفيلم المذكور، بمثل هذة التوقيتات، بالاخص منها تلك غير الطبيعية، مثل تاريخ 2200 حين يحل التطور الهائل في المجالات كافة كما تدل الصور امامنا، ونحن نرى السيارات الطائرة، لا يلبث ان تتبعها عام 2300 موجه من الزلازل المدمرة، مع انفجارات وفيضانات وبراكين هائلة، بما يضفي على المشهد نوعا من التناقضية، كانما الاصطراعية، فالفعل البشري ومسعاه الى التطور، يبدو مؤطرا كانما بردود فعل طبيعية معاكسة، ان لم تكن مضادة ساحقه، تنتهي عام 2744 بانتهاء المجال المغناطيسي الارضي،  يتبعه عام 2880 اصدام مذنب جديد بالارض، من شاكله ذلك الذي اصطدم بها، وادى الى انتهاء وجود الديناصورات.

المهم في الفيلم انه يقول بان الحياة تعود من جديد ومرة اخرى عام 3، 000، بمعنى عودة ظهور كائن اخر غير الكائن البشري الحالي، وكاننا امام حالة تعاقب مخلوقات كتب عليها ان توجد لتفنى، ابتداء من الديناصورات، الى الكائن البشري الحالي، الى مالانعرف حتى الان من سيكون وماهي مواصفاته، وكاننا امام لوحة عدميه من تعاقب المخلوقات الحية، تنتهي مع انتهاء اصلها وموطنها وسبب وجودها، الارض نفسها، والمجموعه الشمسية التي تنتمي لها، وكل هذا مع مايتولد عنه من الحيرة التي تجلل محيا نسيم العميق الاحاسيس المضطرب،  والحائر امام مسالة كبرى، المفترض ان مثله ومن في عمره بعيد عن عوالمها، وماتتطلبة من ربط منطقي وسببي معلل بالاختبار والتجربة.

وجدت نفسي دون قصد مني، ولانني مولع بهذا الكائن غير العادي، ماخوذا بالبحث عن تبرير قد يساعد في اخراج الحالة من المازق التدميري المكتوب لها، فقفزت منطلقة مني بلا ارادة، كلمات من نوع "اظن انه يجب ان يتحرر"، انتبه نسيم لما قلت واقترب مني متسائلا بعينيه المعبرتين كانه يقول " فسّر"،  فتوقفت مترددا وخائفا من ان افشل في شرح ماقد خطر لي بخصوص المراحليه الخلقية التي استقيتها من المسار المتغير للمخلوقات، والتعاقب المفضي الى الكائن البشري، محل الديناصورات، وكأنما الكائن الاول غير مؤهل ولاضرورة لوجوده، قياسا لنوع الكائن المقرر ان ياتي بعده، بالذات على مستوى الازدواج " الجسدو/ عقلي" للثاني، مقابل "الجسدي " الصرف للاول، مايعني دخول عنصر ثالث للمشهد، مع ممكناته، وان تكن غير معاينه ابتداء،  مع انهاغير خاضعه، اوبالامكان اخضاعها كليا لمزاج الطبيعة وكوارثيتها الافنائية.

يختلف الكائن البشري عن الديناصور بكونه محكوم لديناميات تشكلية ترقوية، وهو يبدا حيوانا مثل الديناصور، العقل ضمنه ابتداء غير ظاهر، واقع تحت وطاة الغلبة الجسدية الكاسحه، لكنه ينتقل لاحقا الى الانتصاب على قائمتين والنطق، وظهور العقل وان بصيغته الاولى وهو مالا يعرفه الديناصور، باعتباره تجربة اختبارية اولى ناقصة فاشله، علما بان الكائن البشري يوجد ويظل حتى بعد ظهور العقل، اقرب الى الاحادية الحيوانيه، يعاني من وطاتها الغامرة بسبب القصور الادراكي العقلي من جهه، ووطاة نوع الانتاجية المهيمنه على حياته الحاجاتيه الجسدية يدويا، مايظل يعزز الوعي والمنظور الارضوي الجسدي على مدى قرون طويله.

امتدحني نسيم وهو يقول "جدو انت تقول اشياء جميله "، كنت اعرف انه ربما يحسها، لكنه من الصعب ان يدركها مع انه كان يبتسم وعينيه تلتمعان ذكاء، فقلت له "جدو ليس ماقلته هو الاهم"، ولحظتها عدت الى محاولة التبسيط الاقصى التي اعرف انها غير مفيده تماما، مع انها مع نسيم بالذات ستكون بمعنى ما مفرحة، وبناء عليه جازفت بالقول" الكائن البشري يصير موجودا حين يتحرر من وطاة الطبيعه"، وكنت موقنا بان هذا هو المخرج الذي لم يكن الديناصور يملكه، فالكائنات الحية هي موضوعات مرهونه وخاضعه للارض وتطورها وتقلباتها بما هي موضوعات من دون ذاتيه ولا فعالية ارادية للطرف الحي، من طبيعة اخرى مختلفه،  الامر الذي لابد لاجل تحققه من ان تاتي لحظة من الحياة، يمتلك فيها الكائن الحي البشري القدرة على ادراك اللاارضوية كظاهرة مواكبه لبدايات تبلور الظاهرة المجتمعية، ومايتصل بها من ضرورة الانتقال العقلي نحو عالم اخر مستقل عن الجسدية، الامر الذي لابد من تركيز فعل العقل عليه، بدل الحال القصوري الراهن المستمر، الواقع تحت وطاة الارضوية وفعل نوعها الافرادي،  الغالب بقوة مفعول الانتاجية اليدوية، بالاخص بعد ان بدات تتوفر الاسباب المادية للانقلاب العقلي، مع التكنولوجيا العليا، الضرورية لنقل الكائن البشري من الانتاجية اليدوية وشروطها،  الى العقلية، حين نتعرف ساعتها على ذاتية الكائن المستقلة المتحررة من هيمنه الارضوية واشتراطاتها الاحادية الافنائية لمايماثل نوعها الجسدي المادي البحت كما حصل للديناصور.

وقتها ضحك نسيم ضحكة بلا تتوقف، وظل يتلوى على الارض، بينما اصبت بحالة لااستطيع وصفها، دخل جسدي معها حالة من الارتعاش الملهم، والدموع الغامرة، وانا احتضن الكائن الرائع، وقد غدونا خارج المرئي والملموس.

***

عبد الأمير الركابي

 

لم أتحسس في حياتي الدراسية مثلما تحسست في درس الضمائر في قواعد اللغة العربية!! ولا زلت اتذكر المرة الاولى التي تناهى الى سمعي تفاصيل الموضوع من خلال الشرح الذي قدمه استاذ شهاب (رحمه الله) مُدّرس اللغة العربية في ثانوية الرميلة للبنين حيث كنا طلابا في الثانوية آنذاك ولكنني لم أفهم السر في انزعاجي وانقباض صدري الذي شعرت به مع استعراض استاذنا تصريفات الضمائر واحكامها عندها رحت اتساءل مع نفسي : لم كل هذه المشاعر السلبية التي اعترتني في هذا الدرس دون غيره؟ ولكي أجد جوابا لهذا السؤال المُلِح رِحتُ أتمعن في كل كلمة وردت في تعريفه الذي يقول: بأنه ضمير مستتر لا نستطيع لفظه، ولكننا نستطيع تقديره وفهمه من خلال سياق الكلام، وأن هناك من الضمائر ما هو واجب الاستتار ولكنني لم اجد تفسيرا مقنعا لسؤالي بل زادت حيرتي وفي النهاية تجاهلت الأمر خصوصا مع مغادرتي مقاعد الدراسة ودخولي عالم الحياة العملية.

مضت الايام مسرعة ولم يدر بخلدي ان درس الضمائر سيرافقني في مسير حياتي كالكابوس المستمر، وما لم أفهمه في أيام المدرسة فهمته في لعبة الحياة فاكتشفت اسرارا صادمة كان يخفيها درس الضمائر فعرفت من أي طين حقير مخلوق (هو) وأي نفس وضيعة (هي) وقد بدت لي كل سوآتهما وصار معلوما طبيعة العلاقة التي تربط(هما) وتساقطت الاقنعة عن وجوه (هم) القبيحة وانكشف كيد(هنّ) وبانت الاعيبهنّ القذرة.

وكما فعلتم في اللغة يا ضمائرنا الغائبة فقد فعلتم كل ما هو سيء وقبيح في هذا الزمن الردئ فقد رفعتم الواطين الاخساء وجعلتموهم في محل رفع، وأجرمتم بحقنا حينما خدعتمونا ووضعتمونا في موضع نصب!! بل انكم ذبحتمونا حينما وضعتم قبلنا من التافهين الصغار لنكون في محل جر!!.

 فإلى متى تصرون على دس رؤوسكم في التراب يا ضمائرنا؟ والى متى سيدوم ظلمك يا (انت)؟ وكم مرة ستخذلوننا يا (أنتما)؟، وهل ستطعنوننا بظهورنا مجددا يا (أنتم)؟. والى متى ستكسرنا يا (هاء الغائب)؟

 يا ضمائرنا الغائبة، يا من ضيعتم الامانة، وطمستم الحقائق، يا من حللتم سفك دماءنا، يامن كنتم السبب في اختلال الموازين وضياع الحقوق، هل من امل في ظهوركم على الملأ وكسر قيود الغياب والصدح بالحقيقة ؟.

رحمك الله يا استاذ شهاب اليوم ادركنا ما كنت تقصده في درس الضمائر، وفهمنا معنى كلامك عندما قلت: انكم ستجدون ان نصف الجُمّل في اللغة العربية تحتوي على ضمائر غائبة بينما في حياتكم العملية قد لا تجدون ضميرا حيا واحدا فأغلبها غائب ومفقود!!.

يا اصحاب الضمائر الغائبة: الا تعلمون ان هناك شعرة الهية هي من تضيئ القلوب والارواح اسمها الضمير الحي؟ ويا اصحاب الضمائر النائمة: الى متى ستبقون بلا محل من الاعراب؟.

***

د. محمد علي شاحوذ

 

يقول المنطق العقلي (ان الحق الذي لا يستند الى قوة تحميه باطل في شرع السياسة)، وهنا يتم ربط الحق بالقوة، وكأن القوة هي التي تعطي معنى للحق والحق بدون القوة لا شيء له في الاعتبار.. بيد ان الحق حتى لو كان بدون القوة يبقى حقا و(العدالة) إذا توفرت هي التي تحمي الحق دون حاجة لحماية القوة.. عندئذ، فأن إرادة القوة ستنحني أمام العدالة.. هذا المفهوم يتعارض مع المنطق العقلي.. ولكن، هل تنتهي ارادة القوة؟

دعونا نحلل معنى الحق، وهو مرتبط بالإمكانات وبالظروف الموضوعية.. وكما نرى أن فلسطين، حق للشعب الفلسطيني وحق للعرب وهذا الحق مغتصب ولا يزول، لأنه يرتبط بالعدالة فلو كان اليهود يؤمنون بالعدالة لتعايشو كأقلية مع الشعب الفلسطيني كأكثرية، ولكنهم لا يؤمنون بالعدالة بل يؤمنون بالقوة.. والقوة لا تمحي الحق، والحق لا يسقط بالتقادم.. والقوة ترتبط بالامكانات والظروف الموضوعية.

ولكن من يخلق الظروف الموضوعية ويحشد عناصر القوة من اجل التحرير؟ هي (إرادة القوة) وهذه الإرادة لا تقتصر على شعب فلسطين إنما تنسحب على العمق العربي.. فهل الفلسطينيون وحدهم، وهل معهم العمق العربي الموحد سياسيا وعسكريا؟، وهل هناك إرادة قوة عربية ؟ وهل يسقط الحق حين تضعف القوة أو تتراجع أو تعيش في حالة سبات؟

إذن، من يمتلك القوة ؟

الحكومات هي التي تمتلك (القوة) بجيوشها واسلحتها وحشودها.. ولكنها لا تمتلك (إرادة القوة).. ويبقى الحق معلقاً بين القوة وإرادة القوة ومن الصعب حسم هذه الاشكالية إلا بتحرير (ارادة القوة) لكي تنجز وظيفتها بدعم الحق الذي لا يسقط بالتقادم.

***

د. جودت صالح

25/7/2025

الخليفة: مَن يخلف غيره ويقوم مقامه، مَن ولي الإمامة العامة للمسلمين، الرئيس الأعلى لدولة الإسلام.

فكرة حكم تطورت مع الزمن لتصبح تعني نائب الله أو ممثل الله في الأرض، وهذا هو السبب الذي دفع بالخلفاء منذ الدولة الأموية إلى إنتهاج الحكم المطلق، وتسويغ سفك الدماء وقتل الأبرياء، لأنهم صاروا يتوهمون بأنهم ينفذون إرادة الله.

في فترة الخلفاء الراشدين كانت تعني القائد الذي جاء بعد الرسول ليقود دولة الإسلام فالدين دولة، وإمتزج فيها القائد السياسي والديني، وما تطورت إلى حد أن يكون الخليفة متماهيا مع الله كما حصل بعدها.

وقد وردت في آيات عديدة توصيفات النبي الكريم ومعناه، ومنها:

"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...." آل عمران: 144

" ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيئ عليما" الأحزاب: 44

"...فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد" آل عمران: 20

"...إنما على الرسول البلاغ المبين" المائدة: 92

"مأ على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون" المائدة: 99

"فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين" النحل: 82

"لستَ عليهم يمصيطر" الغاشية: 22

"....وما أنا إلا نذير مبين" الأحقاف: 9

"قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي...."الكهف: 110

وفي جميع الآيات هناك فصل واضح بين النبي والرسول والرب، ولكل حدوده ودائرته التي يتحرك داخلها، فالرب مطلق وما دونه محدود ونسبي، وإرادة ما دونه نسبية، وإرادته متعالية ينفذها كما يشاء، لا كما يشاء عباده، أيا كانوا.

فكرة الخليفة تطورت، وإكتسبت قدسية وخصائص إلهية وهمية، فالخليفة يتوهم بأنه يمثل الله وينوب عنه في تنفيذ أمره بالعباد، فالظلم يبرَر بسخط الله على الضحية، والقتل إرادة الله التي ينفذها نائبه في الأرض، ولهذا إكتسب الخليفة معنى أكثر من نبي أو رسول، فهو سلطة إلهية مسلطة على الناس.

وسُخِّر الدين بأساليب متنوعة للفتك بالبشر، فالمعارض يقتل بتهمة دينية، وقميص (الزندقة) معروف، وقتِلَ الآلاف من الأبرياء بتلك التهمة.

وعندما نتصفح تأريخ الخلفاء، نكتشف بأنهم كانوا مستبدين ظالمين يسفكون الدماء، ويتخذون من الدين مطية لتنفيذ رغباتهم وتصوراتهم، ويحيط بهم جمهرة من الفقهاء المنافقين الدجالين المتاجرين بالدين.

وحياة الخلفاء قاسية دامية لكثرة مظالمهم، وسيادة إنفعالاتهم، وما يقترفونه بحق الرعية وأنفسهم، وهم المقدسون المهابون المطاعون الذين لا يخطئون، فالجميع لا يراهم بل يتخيلهم ويضفي عليهم ما ليس فيهم من الصفات، لأنهم قد خرجوا من كونهم بشرا، وتحولوا في الوعي الجمعي إلى آلهة.

والحقيقة أن الخلفاء بشر كأي البشر وفيهم من العاهات والإضطرابات السلوكية والنفسية ما لدى البشر، خصوصا عندما أصبحت الخلاقة وراثية، مما يعني أن الذي يأتي للخلافة قد يكون مصابا بأمراض، ولا يمتلك المهارات القيادية لإدارة دولة شاسعة الأطراف، وأنه في عمر مبكر، وبلا خبرات إجتماعية وثقافية وسياسية وغيرها، فيتحول إلى دمية بيد الحاشية التي تمرر تطلعاتها ورغباتها من خلاله، وترسم له صورة في أذهان الناس مغايرة لواقع حاله.

وقد لعب الشعراء دورهم السلبي في إظهار الخلفاء على غير ما هم عليه، لأنهم كانوا يتصورونهم ولا يرونهم على حقيقتهم، و يسقطون عليهم صورا متخيلة من نسج خيالهم المستجدي، الذي يبحث عن العطايا بأساليب تسولية مشينة.

فالشعراء في وصفهم أو مدحهم للخلفاء كانوا من أفظع الكذابين، لأنهم يتكسبون بشعرهم.

والحالة المحيّرة التي لا يتوقف عندها المؤرخون والفقهاء، أن القرآن واضح في وصفه للنبي الكريم، وما رفعه إلى درجات تخرجه من بشريته، ولم يمنحه صفات ذات معاني إلهية، فكيف تمكن الخلفاء من بعده الوصول إلى درجة النيابة عن الله في الأرض؟!!

مَن الذي أوصل الحالة إلى هذا المستوى من الوهم؟

وكيف تحقق توارثها وتطويرها حتى صارت وهما لذيذا، نتمتع به في أنظمة حكمنا العتيدة المعاصرة، التي تحول فيها الكرسي إلى ممثل للرب؟!!

***

د. صادق السامرائي

براءة الأطفال في السلوك قد تدفع إلى ما لا تحمد عقباه في زمن تتعقد فيه الأمور وتسوء الأحوال، وقد سمع شاب بما يسمى " مسابقة القادسية للرواية"، وكانت في دائرة الشؤون الثقافية في شارع الجمهورية، وزمانها ثمانينيات القرن العشرين، أثناء الحرب العراقية الإيرانية.

فكتب صاحبنا رواية، وذهب إلى باب المعظم لعمل أربعة نسخ منها، وقدمها للمسابقة، لكنها لم تفز، وكرر المشاركة في المسابقة الثانية، والثالثة، والرابعة، ولم تفز أي من رواياته الأربعة!!

فذهب غاضبا متحمسا إلى تلك الدائرة، وإلتقاه سكرتيرها، فباغته غاضبا: كيف لا تفز ولا رواية من رواياتي، وأنتم تعلنون فوز روايات باهتة لا قيمة لها ولا معنى، وهي عبارة عن أكاذيب مسطورة بلغة ركيكة!!

حدق السكرتير بوجهه مندهشا، وتردد في الجواب، ثم ترك كرسيه، واقترب منه وهمس بأذنيه.

- لو لم يكن قريبك فلان الفلاني صديقي، لإنتهيت إلى الأمن!!

- أنت تكتب عن حالات إنسانية، والمطلوب أدب معركة!!

- أ تعرف ما معنى أدب المعركة؟!!

وقف متسمرا ومذهولا ومرعوبا، لكنه إستعاد رباطة جأشه وقال:

- كيف تقوز رواية تتحدث عن جندي يرقص فرحا للموت، أ هذا يتطابق مع السلوك البشري؟!

إشتاط السكرتير غضبا، وكأنه هم بطرده من المكتب، لكنه عاد وقال:

- أرجو أن تفهم معنى أدب المعركة!!

إحتار صاحبنا في الأمر، وقال:

- لن أشترك بعد اليوم في هذه المسابقة فلا جدوى من ورائها!!

وأضاف:

بودي أن أطلع على رأي لجنة التحكيم بما قدمته لهم

فذهب السكرتير إلى داخل الدائرة وجلب إحدى الروايات وكان مكتوبا عليها " الكاتب يمتلك طاقة إبداعية تفيده مستقبلا"، والتوقيع جبرا إبراهيم جبرا

أخذ الرواية، وغنم بهذا الرأي الذي مضى يتأمله طويلا.

وغادر الدائرة وهو يتلفت يمنة ويسرى ولا يدري كيف سار في شارع الجمهورية، وفي رأسه تتردد عبارة أدب المعركة!!

لعن الرواية وكتابتها، وقرر أن لا يعود إليها بعد اليوم، فكل شيئ بحاجة إلى سوق، ومعظم الأدب للنفاق والدجل والمتاجرة، ومن الصعب أن يكون الكاتب حرا، ولهذا قرر صاحبنا الصمت!!

وأدرك أن الأحرار منبوذون، والرقص على إيقاع الجموع الهادرة بما لا تعنيه، هو الطريق نحو الحياة في مستنقعات التضليل والنفاق.

ومضى يتساءل عن أسرار دفن الحقائق في جثامين الأبرياء المغفلين!!

أضاليل بها الأجيال فازتْ

تغفلها وفي وهمٍ تداعتْ

قواها من بديع الخوفِ تُسقى

وإن نطقتْ بحقٍ إسْتراعتْ

فلن تحيا شعوبٌ في قطيعٍ

إذا غُنِمتْ بعدوانٍ تثاغتْ

تَشابهتِ الحواضرُ والغوادي

كأنّ سُراتها فيها تواصتْ

***

د. صادق السامرائي

 

الاغلبية المطلقة من دول العالم تحتاج الى ان تمتلك ارصدة بالعملات الصعبة (القابلة للتحويل) لكي تستطيع الانخراط في عمليات التبادل التجاري الدولية.

السبب هو ان المصدّرين لتلك الدول يحتاجون الى الاطمئنان لضمان استلام مبالغ صادراتهم الى تلك الدولة. لذلك ترسل الدولة المستوردة رسالة اعتماد الى المصدّر لضمان تسديد مبالغه. ويقوم المصدّر بارسال تلك الرسالة الى البنك الذي توجد فيه ارصدة الدولة المستوردة والذي يقوم بدوره بابلاغ المصدّر بتوفر المبلغ وانه قام بحجزه لصالحهم وتحويله عند اتمام عملية التصدير.

لكن لو ارادت دولة مثل الولايات المتحدة (صاحبة الدولار) او بريطانيا (صاحبة الباوند) او احدى الدول الاوربية (صاحبة اليورو) او اليابان (صاحبة الين) ان تستورد، فهل سوف يطالبها المصدّر ببيان ارصدتها بالعملات الصعبة؟؟

الجواب هو لا، بالطبع، لان عملاتها الوطنية هي عملات صعبة وقابلة للتحويل في كل العالم ومقبولة ومأمونة !!

الدول الأخرى تحتفظ بعملات تلك الدول المختارة كارصدة، فلماذا تحتفظ هي بعملات اجنبية كأرصدة؟؟

هذه ميزة عظيمة تمتلكها تلك الدول وتقاتل بشراسة للحفاظ عليها... هذه الميزة تم منحها للولايات المتحدة (الدولار) في اتفاقيات برتن وودز في الاربعينيات بعد انتها الحرب العالمية الثانية ودمار معظم اقتصاديات العالم ماعدا الاقتصاد الامريكي الذي ازدهر بسبب ازدهار الانتاج بكل اشكاله لتغذية آلة الحرب. لكن كانت هنالك مخاوف من استغلال تلك الميزة والتوسع في طبع الدولار. لكن الولايات المتحدة تعهدت باحترام قواعد الرصانة النقدية اضافة الى كونها كانت الدولة الاقوى المهيمنة على العالم الغربي الذي كان ينتظر العون الامريكي لاعادة البناء.

في سنوات لاحقة خشي الاقتصادي الامريكي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ميلتون فريدمان، من استغلال هذه الفرصة والذهاب الى الطباعة تحت ضغوط العجز ودعا الى تعديل الدستور الامريكي واضافة مادة تحرّم طبع العملة لكنه لم ينجح بالطبع.

في وقتنا الحالي بدأ التذمر يتصاعد بين دول العالم من هذا الوضع الذي يجعل تلك الدول المختارة قادرة على شراء موارد حقيقية مقابل اوراق تطبعا بسهولة (والآن لايحتاجون الى الطباعة بل الى الاصدار النقدي الكترونياً وتداول ارصدة وتحويلات على الهواء دون وساطة عملات نقدية خاصة مع انخفاض حصة العملة في التداول من عرض النقد الكلي الى نسب متدنية جداً والاعتماد على التداول الالكتروني).

دول صاعدة بقوة مثل الصين وروسيا والهند ترفض استمرار هذا الوضع وبدأت بخطوات بهذا الاتجاه منها التبادل التجاري فيما بينها بعملاتها المحلية (يوان وروبل وروبية) واستبعاد عملات الدول الغربية من ذلك التبادل . ومنها اصرار روسيا على تسديد قيمة مبيعاتها من النفط والغاز الى بعض الدول بالروبل وذلك لاجبارها على طلب الروبل  واضافته الى احتياطياتها لكي تستخدمه في التسديد الى روسيا...

بعض الصراعات والتوترات بين الدول الكبرى قد يكون لها وجه سياسي او عسكري او ايديولوجي، لكن جوهرها هو الصراع الاقتصادي..

الغرب المهيمن صاحب العملات القابلة للتحويل يرفض الاعتراف ببروز حقائق جديدة وقوى جديدة. ذلك السلوك وهذه النزعة من الدول الغربية ومن الدول الناشئة تهدد السلم العالمي.

***

د. صلاح حزام

هل الأرض لوحدها مأهولة؟

تساؤل داعب أذهان البشر منذ الأول، وأحاطته أعاصير الغيوب، وتمخضت عن عقائد وتصورات ما إنقطع تيارها.

الكون فيه ما لا يُحصى من المجموعات الشمسية، ولا يُعقل أن تكون الأرض لوحدها مأهولة، بل ربما توجد آلاف أو ملايين الأجرام الكونية المأهولة.

ترى ما هي المخلوقات التي تتوطنها؟

وهل هي صاحبة ذكاء فائق؟

وهل لديها القدرة على التواصل مع بعض البشر؟

هلاوس وأوهام وتفاعلات ذهنية عجيبة، تقصر عقولنا عن فهمها، ونخوّل لأنفسنا توصيفها كما نرى ونستطيع، فهل ما نقوم به صحيح؟

الأدلة التأريخية وما كشفته الحفريات ورسائل الأقدمين، تخبرنا عن وجود تواصل بين مخلوقات كونية في أجرام بعيدة ، وربما بلغت درجات فائقة من الرقي وتفاعلت معنا، أو جاءت ببعضنا من مواطنها، فكما يفكر بعضنا بإستعمار المريخ، ربما تلك الأقوام قررت إستعمار الأرض بعد أن وجدتها صالحة للحياة.

ويُقال أن هناك أدلة لا يجوز الكشف عنها لأنها ستقلب الحياة رأسا على عقب، وستفند الكثير من الأوهام، وستضع البشر أمام مصير مرعب وخطير، فلكي يتحقق الشعور بالسكينة والتوهم بالمعرفة والإدراك، على الدنيا أن تسير على سكتها التي إعتادت عليها.

والمشكلة أن التطورات العلمية ستفرض نفسها، وستنطلق حقائقها وإكتشافاتها عندما تفيض وتنتصر على المعوقين لظهورها وإنتشارها.

فهل نحن مقبلون على حياة أرضية مرعبة، خالية مما كنا نراه؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

يأتي الفكر أحيانًا كعاصفة. خليط من المشاعر والأفكار والذكريات التي تتلاطم في أذهاننا، فتتركنا في حالة من الفوضى والارتباك. في هذه اللحظات، نميل إلى الثقة بـ"عفويتنا" أو "حدسنا"، ونأمل أن يقودنا هذا التيار العشوائي إلى بر الأمان. نعتقد أن الحرية تكمن في ترك أفكارنا تجري بلا قيود، كحصان بري في سهل واسع.

لكن هذه العفوية غالبًا ما تكون وهمًا. فالحصان البري لا يجري بحرية مطلقة، بل يتبع مسارات حفرتها العادة والخوف والغريزة. وعقولنا التلقائية ليست صفحة بيضاء نقية، بل هي ورشة قديمة مليئة بغبار التحيزات الموروثة، وصدأ الأفكار المسبقة، وفوضى العادات الذهنية الكسولة. أن نثق بها ثقة عمياء هو أن نسمح لهذه الفوضى بأن تبني لنا حياتنا.

الثورة الحقيقية في الفكر تبدأ عندما نقرر أن نكون مهندسي عقولنا، لا مجرد سكان عشوائيين فيها. أن ندرك أن المنهج ليس قيدًا على الحرية، بل هو الأداة التي تصنع الحرية الحقيقية. إنه يشبه تنظيف الورشة وترتيبها قبل البدء في أي عمل فني عظيم. المنهج هو الذي يحررنا من طغيان أنفسنا الخفية.

تخيل بنّاءين كُلفا ببناء منزل. الأول، معتمدًا على عفويته، بدأ يضع الحجارة فوق بعضها بحماس، مسترشدًا بشعوره اللحظي. أما الثاني، فتوقف أولاً، ورسم مخططًا دقيقًا، وحدد الأساسات، وفكك المهمة إلى خطوات واضحة. في النهاية، كان منزل الأول جميلاً في بعض زواياه، لكنه كان مائلاً وغير آمن. أما منزل الثاني، فقد كان صلبًا ومتناغمًا وقادرًا على الصمود في وجه العواصف.

أن تفكر تفكيرًا حقيقيًا يعني أن تمتلك الشجاعة لتطبيق هذا الانضباط الهندسي على عالمك الداخلي. أن تحدد مشاكلك بدقة، وتفككها إلى عناصرها البسيطة، ثم تعيد بناء الحل خطوة بخطوة، دون القفز إلى النتائج. هذا ليس قتلًا للإبداع، بل هو خلق للظروف التي تسمح للإبداع الحقيقي بالظهور.

"لا تثق بعفويتك ثقة عمياء، بل كن مهندس منهجك. عقلك التلقائي ليس صفحة بيضاء، بل هو أرض مليئة بالتحيزات الخفية. لكي تفكر بحرية حقيقية، عليك أن تبني ورشة منهجية داخله. قبل أن تبدأ أي مشروع فكري، مارس 'هندسة التفكير': حدد المشكلة بدقة، فككها إلى أبسط أجزائها، أعد بناء الحل خطوة بخطوة. هذا الانضباط ليس قيدًا، بل هو الأداة التي تحررك من سجن أوهامك."

***

مرتضى السلامي

 

اللغة العربية إستفادت من وسائل التواصل الإجتماعي المعاصرة بأنواعها، فأصبحت الكتابة عادة يومية للتواصل بين الناس، أي أن الكتابة بالعربية صارت من ضرورات الحياة، وبدونها يصعب التفاعل والتعبير عن الأفكار والتطلعات.

فالتواصل ما بين العرب اليوم تسيدت عليه الكتابة بالعربية، وهذا يعني إزدياد عدد الذين يكتبون ويقرأون بها، وكلما تنامى التفاعل بالكتابة، إزدادت المعرفة باللغة وتعلم الكتابة الصحيحة الخالية من الأخطاء.

وهذا يدحض القول بأن اللغة العربية في دور الإضمحلال والخمول، وهي في ذروة نشاطها الفاعل في صناعة الحياة.

فالذين يتهمونها بما ليس فيها، يتخاطبون بها مع الذين ما كانوا يتفاعلون بها مثلما يفعلون اليوم، وكأنهم يغفلون أن العربية تتألق وتواكب، وعندها برامجها الفاعلة في أجهزة الكومبيوتر وتطبيقاتها التي لا تختلف عن اللغات الأخرى، ولديها من أبنائها نوابغ تمكنوا من إيجاد مواضع واضحة لها في مسيرة التواصلات الإليكترونية.

وهكذا تجدنا نفعل محرك البحث في الإنترنيت باللغة العربية فيستحضر لنا ما نريده.

فلماذا يتم تجاهل دورخا؟

وهل أن الكتابات العدوانية عليها مقصودة؟ 

لماذا تتباهى أقلام أبنائها بالنيل منها؟

إن الإقتراب الموضوعي لا يكشف عن أي خلل في اللغة العربية، بل فيها من الإيجابيات أكثر من غيرها، ويمكن القول بأنها المتفوقة عليها بما تمتاز به من ثراء مفرداتي وإشتقاقي ونحوي.

إن العلة في أبناء الأمة المتحاملين على ذاتهم وموضوعهم، والذين تحولوا إلى طاقات سلبية لإعداد وجودهم ليكون هدفا سهلا للطامعين بالأمة، وهم الذين يقددونهم بأساليبهم السلوكية المعقدة، أو بموجب نظريات نفسية متطورة ويسقطونهم في شراكهم ليسهل صيدهم وإفتراسهم وهم لا يشعرون!!

فهل من غيرة على لغة الضاد؟!!

"إن الذي ملآ اللغات محاسنا...جعل الجمال وسره في الضاد"

***

د. صادق السامرائي

لنتخيّل معاً أن العقل البشري حديقةٌ غنّاء، وأن كل طفل يولد هو بذرةٌ تحمل في داخلها وعداً بشجرةٍ فريدة، وزهرةٍ لا تشبهُ سواها. لهذه الحديقة نوعان من البستانيين: بستانيٌ يخافُ من تنوع الحياة، وآخرٌ يعشق اختلافها.

البستاني الأول هو "المُلقِّن"، الذي يؤمنُ بأن جمال الحديقة يكمنُ في أن تكون كل زهورها بلونٍ واحد، وكل أشجارها مصطفةً في صفوفٍ متراصة، لا تخرجُ إحداها عن الخط المرسوم. هذا البستاني لا يسقي بذوره بماء الحوار، بل بحقن "التلقين"؛ تلك العملية المنهجية التي تغرسُ الأفكار في العقول غرسًا، وتُعلّمها أن تقبل ما يُعطى لها دون تساؤلٍ أو نقد. إنه يبني حول حديقته أسوارًا عالية من الخوف، ويهمسُ في أذن كل نبتة: "إياكِ أن تفكري، إياكِ أن تكوني مختلفة، إياكِ أن تخطئي". وهكذا، ينشأ جيلٌ منقاد، يعيش في حالةٍ من "العبودية الطوعية"، ويظنُ أن هذا السجن المنظم هو جنة الأمان.

أما البستاني الثاني، فهو "المُربي النقدي"، الذي يؤمن بأن جمال الحديقة الحقيقي يكمنُ في تنوعها الثري، وفي قوة كل نبتة على أن تجد طريقها الخاص نحو الشمس. هذا البستاني لا يفرضُ شكلًا واحدًا، بل يُهيئ التربة الخصبة، ويُعلّم الجذور كيف تبحث عن الماء بنفسها. إنه لا يغرسُ الخوف، بل يزرعُ الشجاعة. حديقته ليست صامتة، بل هي فضاءٌ للحوار، حيثُ تتعلم كل زهرة من الأخرى، وتنمو الأشجار قويةً لأنها تجرأت على مد أغصانها نحو آفاقٍ جديدة.

إن الصراع بين هذين النموذجين هو جوهر حكايتنا الإنسانية. فالأنظمة التسلطية لا يمكنها أن تعيش وتترعرع إلا في حديقة الخوف التي يرويها التلقين. فالتسلط، الذي يُعرَّف بأنه نظامٌ يركز السلطة ويقمع المعارضة ويطالب بالطاعة غير المشروطة، يحتاجُ بالضرورة إلى عقولٍ تم "وأد قدرتها على التفكير". ولهذا، يصبح التلقين أداته الاستراتيجية التي يستخدمها عبر شبكة معقدة من الآليات:

 آليات نفسية: حيث يتم التلاعب بمشاعرنا، فيُغرس فينا الخوف من العقاب، أو الخوف من الخروج عن إجماع الجماعة وما يترتب عليه من نبذ. كما يتم تعزيز الطاعة العمياء للسلطة، وتنمية "التفكير الجمعي" الذي يفضل فيه الفرد الانسجام مع المجموعة على قول الحقيقة.

آليات معرفية: حيث يتم التحكم بتدفق المعلومات، فتُحجب عنا الحقائق التي لا تروق للسلطة، وتُضخّم الإنجازات، وتُخفى الإخفاقات. ويتم تثبيط الشك المنهجي والتساؤل، وتشجيع القبول السلبي للمعلومات، حتى يصبح العقل سجين "التفسيرات الجاهزة".

 آليات مؤسسية: حيث يتحول النظام التعليمي إلى أداة لغرس الولاء، وتتحول وسائل الإعلام إلى أبواق للدعاية، وتُستخدم المنظمات السياسية والدينية لتعبئة الجماهير وتلقينها أيديولوجية واحدة مهيمنة.

ولكن، حتى في أكثر الحدائق قمعًا، هناك دائمًا بذرةٌ تتمرد، بذرةٌ ترفض أن تكون نسخةً مكررة، وتشقُّ طريقها نحو النور. هذه البذرة هي روح "التربية النقدية"، تلك الفلسفة التحررية التي تأتي لتكون الترياق الشافي لسموم التلقين.

إن التربية النقدية، كما علمنا روادها الكبار ليست مجرد تعليم، بل هي "ممارسة للحرية". إنها ترفض "التعليم البنكي" الذي يعامل الطالب كوعاء فارغ نصبُّ فيه المعلومات، وتستبدله بـ "التعليم القائم على طرح المشكلات"، حيث يتحول المعلم والطالب إلى شريكين في رحلة استكشافية، يبحثان معًا عن حلول لمشكلات حياتهما الحقيقية. إنها التربية التي تسلحنا بأدوات التحرر:

 الحوار النقدي: الذي يعلّمنا أن نستمع ونفهم ونحترم وجهات النظر المختلفة، وأن نبني قناعاتنا على أساس الحجة لا الفرض.

 الوعي النقدي: الذي يمنحنا القدرة على رؤية الخيوط الخفية للسلطة، وفهم كيف تعمل هياكل الظلم وعدم المساواة في مجتمعنا.

 الاستقلالية الفكرية: التي تمنحنا الشجاعة لنفكر بأنفسنا، ولأنفسنا، ونكوّن أحكامنا الخاصة بناءً على قناعاتنا التي توصلنا إليها بوعي.

إن المقاومة الحقيقية للتسلط لا تبدأ في الشوارع، بل تبدأ هنا، في هذه الحديقة الداخلية، في عقولنا وقلوب أطفالنا. تبدأ حين نقرر أن نكون ذلك البستاني الحكيم الذي يزرع بذور الشجاعة والتساؤل والمحبة. حينها فقط، يمكننا أن نأمل في بناء مجتمعاتٍ حرة، لا تُقدّر الطاعة العمياء، بل تحتفي بجمال كل زهرةٍ فريدة، وبقوة كل عقلٍ مستقل. ففي أي حديقةٍ سنختار أن نعيش، وأن نُربي أجيالنا القادمة؟ إن هذا السؤال هو مسؤوليتنا جميعًا.

***

مرتضى السلامي

 

أنا في حيرة من أمري!.. أتساءل.. كيف أصف ما أصابني وقلمي يشكو من ضياع السطور؟!.. كل ما أستطيع قوله أنني بحاجة إلى البوح بما ينتفض في خاطري.. بأقل مفردات وأبسط طريقة.. أكتب اليوم عن واحدة من أشرس معاركي مع الدنيا، لن أُبالغ إن وصفتها بــ "سرطان النفس" الذي يتطلب علاجًا دقيقًا ومعاملة خاصة من الجميع.

معركة تدفعني إلى الانسحاب التام من عالمي، من كل الملذات والتفاصيل، لكي أقتلني أنا بمنتهى القسوة!

فهل هُناك خيانة أشد من إراقة دمي بيدي؟!

وهل من المنطق أن أشهد على موتي وأنا هُنا بينكم على قيد الحياة؟!

بالكلمة، النظرة، الأسلوب.. أو حتى بالصمت!

كلها أسلحة نفسية تفتح على عقلي أبواب الجحيم وتشعل حرائق في الروح لا تخمدها قصائد الصبر، أنا يا أصدقائي مجرد ضحية من ضحايا الإفراط في الفكر والشعور، وأحمد الله أنكم تعرفون هذياني جيدًا.

أقف أمام تلك اللحظات وأنا مقيدة بالكامل، يذبحني "تأنيب الضمير" بسكين بارد، أو بتعبير أدق "جلد الذات" اللعين، فهو معي أشد فتكًا من هذه الكلمات البسيطة جدًا جدًا جدًا، فـ أنا أتفنن في هلاكي بكل وسائل التعذيب المشروعة وغير المشروعة بلا ذرة رحمة واحدة، والمضحك أنني مصدر هذا العذاب أصلًا، نعم، أنا من يعذبني!

أضربني ضربة الثأر في جروحي الساخنة، ومن ثم أعود بنصف إتزاني لأفعلها مرارًا، والمؤسف أنني لا أنجح في مقاومتي أبدًا!

أصرخ الصرخة فتنشق إلى صرختين، الأولى غضب وعقاب صارم من "نورا" إليها، وفي الثانية استغاثة، أغدو طفلة في عُمر الخامسة تحاول كسب شفقة الأب بدموع براءتها ليتركها وشأنها بلا عقاب.. باختصار، أنا الأب والطفلة في قصتي على الأرض، مهزلة، أليس كذلك؟!

لقد عشت المأساة مرة أخرى، ولكنها كانت الضربة الأقوى منذ زمن.. نوبة نفسية حادة لم أتحرر منها حتى الآن!

كانت مكالمة تليفونية وعتاب من باب الإنسانية بيننا، وكان يحق لي أن أخلع عباءة النعومة وأنسلخ من ملامحي الهادئة وابتسامتي الرقيقة للمرة الأولى أمام أطراف لم تعهدني بتلك الغلظة من قبل..

غضبت، ربما، لا يهم، فلم أكن أنا وقتها!

أتفهم أنه لا مفر من التعبير عن أوجاعي بحكم ضعفي وقلة حيلتي، وإلا فهي تراكمات بمثابة قنبلة موقوتة وحتمًا ستنفجر على أتفه الأسباب فيما بعد إن أهملتها اليوم، ولكن الجُمل حينها لم تتشكل على النحو الصحيح، وأنا لم أضبط انفعالي في وقت حاسم للغاية حتى وإن كانت كلماتي صادقة مئة بالمئة، ولكن الأزمة كلها أنني وبعد أن أنهيت جولة العتاب واللوم، ضاع سلامي وراحة بالي في غمضة عين!

بدأت سهام التساؤلات في استهدافي..

هل قالت "نورا" تلك الكلمات؟!

كيف استطاعت أن تطعن أحدهم بخنجر الأذية تحت أي ظرف؟!

لمَ ذلك التحول المفاجئ الذي أفزع كل شعوب الأرض؟!

استفهامات ومشاعر مختلطة.. وأنا الجاني والمجني عليه في ساعة الحساب!

بعد أن كنت صاحبة حق وأتحكم في زمام الأمور، صرت في خفة الريشة، ضعيفة أمامي، لا حق لي ولا أجرؤ على النظر في وجهي المشوه بالأفكار المبعثرة.

طار النوم من عيني!

في البداية كنت حزينة على واقعي الاسود وصفعة الخذلان، ثم تبخر أثر الانفعال رويدًا رويدًا، فأصبحت حزينة من نفسي وعليها..

كرهتها وبشدة، حتى داهمني الاستفهام الأشد ضراوة مما سبق: هل أنا بتلك البشاعة أم أنها طبيعة الإنسان حين يتألم؟

كنت أُخفف عني الألم الذي سيطر على روحي بمرور الوقت.. أُشاهد فيلمي المفضل، أشتري حلويات لذيذة تداعب معدتي الملتهبة، أهرب من غرفتي التي شهدت على محاكمتي لذاتي في الليل والنهار، أهرب وأهرب من الصدمة، ليست صدمتي في شيء أو مخلوق، وإنما صدمتي في نفسي!

كان الهروب طريقتي المعتادة لأتجنب انعزالي بي، ولكنها فشلت في النهاية وانعزلت مع نفسي مرة أخرى.

لم أستطع تقبل الوضع واحتماله أكثر، كنت أحارب كل ما أوقعني في فخ الندم، أحبالي الصوتية ويدي وهاتفي وحتى الكرسي الذي انغمست به أثناء مكالمة الموت تلك، كنت ألومه على ثباته وهو يُراقبني بنسختي الغليظة ثقيلة الدم، لقد وصل بي الأمر أني عاتبته أنه جماد ولم يتدخل لحل الأزمة أو حتى لمنعي من التهور والاتصال بالرقم، كنت أجلده كذلك!

كيف تراني بتلك القسوة دون أن تصفعني أو تبتلعني حتى؟!

لمَ تركتني أظهر بوجه أبغضه؟!

أين دورك يا خشب بلا فائدة؟!

أخبرني عن حقيقتي.. أنا شريرة؟!

ضحكتم الآن، أعرف، حتى الكرسي لم يسلم من هذياني!

استمر الوضع لأسابيع، حتى وقعت أمام تحديات أخرى لا تقل قسوة أبدًا، وهي مُجاراة تيار الحياة، بينما أنا خارج نطاق الخدمة!

هاتفي يرن، رسائل على كل وسائل التواصل الاجتماعي، كل البشر تطلب سماع صوتي وقراءة كلماتي الطازجة وأنا فاقدة للنطق وعاجزة عن الحركة.. أتحلل بالحسرة فحسب.

ومن هُنا عُدت من جديد لأرض المعركة متسائلة:

يا أنا..

ما ذنبهم في أوجاعك؟

وكيف تسمحين لنفسك أن تُغرقهم في اكتئابك وشرودك؟

يا الله .. انقذني من نفسي وانقذ نفسي من جنوني..

أنا مدركة تمامًا بأنه من طبيعة الإنسان التعبير عما يشتعل في صدره دون الخوف من لومة لائم، ولكن التعبير في حالتي يُحولني إلى فريسة بين أنياب الذئاب، أقصد أنياب أفكاري.

رعب!

إن خوفي على مشاعر الآخرين هو الرعب الذي يُطاردني يوميًا وربما أكثر من خوفي على مشاعري، لقد خُلقت بهشاشة نفسية أو كما يقولون "قلب أبيض" تجعلني أعلنها وبكل صراحة.. أنا مريضة بالإحساس!

ولن تفرق المسميات كثيرًا.. المهم أن العلة حاضرة في روحي.

آمل ألا يأخذني إنسان على محمل الجد.. فـ أنا لسان يغضب، وقد ينطق بما لا يتفق مع أبجديته، وفي المقابل قلبي يتمزق ندمًا ويدفع الثمن من استقرار نبضه وحده، وإن كنت مظلومة وأحاول الدفاع عن حقي فقط!

هدأت العاصفة أخيرًا بما يسمح لي بالتعايش مع أقل مظاهر الحياة، كانت كل أهدافي أن أتراجع عن قرار الامتناع عن الطعام والشراب والكلام، لقد كانت أزمة فقدان للشهية لا يُستهان بها، و.... مهلًا، لنضع حدًا لهذا المقال الآن، لا أحب أن يحزن أحدكم بالحديث عن أوجاعي الشخصية، سامحوني..

يبدو أنني أطلب السماح في هذه الأثناء دون مبرر أيضًا، كالعادة..

نوبة "جلد ذات" جديدة!

أرأيتم حجم معاناتي؟!

***

بقلم: نورا حنفي

في قلب كلٍ منا صراعٌ متواصل بين طموح ما، وبين الرضا بما نحن عليه، هذا التدافع طبيعي، ودليل حياة نابضة ومتقدة، لنفس تنمو وتتطور، فكيف نوازن بين هاتين الرغبتين اللتين تبدوان في الظاهر متناقضتين، لكنهما في الحقيقة جناح طائر واحد؟ الرضا هو طمأنينة القلب بعد السعي، وهو إدراك أن ما لدينا اليوم هو نعمة تستحق الشكر، وقبول ما قُسم لنا، بينما الطموح هو الرغبة التي تدفعنا نحو الأفضل، نحو تجاوز المكتسبات وتحقيق الأحلام، وهي رغبة حميدة ضمن إطارها الطبيعي وحدود توقعاتنا، لكن حين يغيبُ التوازن بين الرغبتين، قد نغرق في بحرين متلاطمين: إما نفقد الشغف بسبب زيف "الرضا"، فيتحول شعور الرضا إلى كسَل مُقنع، أو جموحٌ غير محسوب تحت راية "الطموح"، يُنسينا السكون ونعمة الاكتفاء

غير أن السر يكمن في إدراك أن الرضا لا يعني التوقف عن الطموح والأمل، بل أن تستمر في سعيك وأنت ممتن، أن تستمر في آمال طموحك وأنت مدرك لقيمة ما لديك اليوم، أن ترضى عن يومك، ولا تكفّ عن جهود بناء غدٍك، وهذا الرضا المتوازن لا يُعطل الطموح، بل يمنحه أساساً ثابتاً يعتمد عليه, لأن السعادة في الحقيقة ليست فقط لذة تحقيق الإنجازات المتواصلة، بل بحصول طمأنينة وسكينة الرضا الناتج عن تحقيق أحلامك، ورضاك عن نفسك، وهو ما لا يتم إلا بتحديد أهداف واقعية،؛ فهناك من يبحث عن السلطة والنفوذ والمال، وهناك من يبحث عن المُثل والأخلاق والقيم، وهناك من يبحث عن سلام نفسي؛ هربا من واقعه الأليم بسفر أو انقطاع عن الحياة القديمة أيا كان شكل هذا الانقطاع،يحلم الكثيرون بمستقبل مختلف جدا عن الحاضر,,

من الحكمة أن نُدرك أن الحياة مراحل، ولكل مرحلة خصائصها وظروفها، ففي في مرحلة ما يكون السعي هو الأولوية، وفي أخرى يكون الحفاظ على ما أنجز هو الأولى، وبالطبع ليس عيباً أن تتغير بوصلة الطموح، ولا بأس أن نستريح حيناً لنستعيد توازننا ,, ليس علينا أن نختار بين الرضا والطموح على حساب أحدهما، بل الأفضل أن نصوغ من كليهما ما يناسب شخصيتنا وظروفنا، لتكون معادلة حياة متزنة، مليئة بالسعي النبيل والامتنان الهادئ، لنصبح أكثر صلابة خارجياً، وأعمق سلاماً داخلياً

يمكن أن تكون ميسور الحال دون أن تكون في حال جيدة. يمكن أن تكون في حال جيدة دون أن تتمكن من عيش الحياة التي تريدها. يمكن أن تنال الحياة التي تريدها دون أن تتحقق سعادتك. ويمكن أن تكون سعيداً دون أن تكون حريتك كبيرة. يمكن أن يكون نصيبك من الحرية كبيراً دون أن تحقق الكثير غير ذلك -- فالحياة عبارة عن مناورات ومساومات وجدل ,, من طبيعتنا أن نفكر كثيرا واحيانا نملك رؤية مشوشة عن المستقبل أو حتى إن كنا مركزين على المستقبل ونعاني من نفس الصفات كالخوف، والكسل، والمماطلة، خلق عادات جديدة هو الحصن الهام بعض الناس يقولون "أريد أن أتزوج، لكنني سأنتظر وأرى ما سيحدث" وهذه طريقة غير مركزة إلى حد ما للقيام بذلك، وفقا لماير، ويضيف "إذا كنت تقول بدلا من ذلك أود أن ألتقي بشخص جديد كل بضعة أسابيع، فهذه هي الخطة التي تزيد من احتمالية الحصول على شريك -- يقول بيتر غولويتزر، أستاذ علم النفس في جامعة نيويورك,,, وأنت تخطط لإعادة ابتكار ذاتك، كن واقعيا قدر الإمكان.

***

نهاد الحديثي

كثيرًا ما نتعامل مع كتب الفلسفة كأنها كنوز في متحف. نقترب منها بخشوع، نقرأها بحذر، ونحاول أن نحفظ ما قاله المفكرون العظام. نتعامل معها كنصوص مقدسة أو مقررات دراسية يجب استيعابها. هذا الموقف يحول الفلسفة إلى شيء ميت، مجموعة من الآراء المحنطة التي لا علاقة لها بحياتنا.

لكن الفلسفة، في جوهرها، ليست شيئًا نتعلمه، بل هي شيء نفعله. إنها ليست معرفة تتلقاها، بل هي حوار تخوضه. الكتاب الفلسفي ليس نصبًا تذكاريًا، بل هو دعوة للمحادثة. المؤلف، حتى لو مات منذ قرون، يجلس أمامك عبر صفحات كتابه، ويطرح عليك أفكاره، وينتظر منك أن ترد.

لكي تحيي الفلسفة، عليك أن تغير طريقة قراءتك. توقف عن كونك تلميذًا سلبيًا، وكن محاورًا نشطًا. عندما تقرأ جملة، لا تكتفِ بفهمها. اسألها: "ماذا تقصد حقًا؟ لماذا هذا مهم؟ هل أنا أتفق معك؟". تجرأ على أن تختلف مع أعظم العقول. قل: "هذه النقطة تبدو ضعيفة، لأن تجربتي تقول شيئًا مختلفًا".

الأهم من ذلك كله، اربط ما تقرأه بحياتك أنت. اسأل دائمًا: "كيف تساعدني هذه الفكرة على فهم ما أمر به الآن؟ كيف يمكنني استخدام هذا المفهوم كأداة للنظر إلى مشاكلي وعلاقاتي وعالمي؟". عندما تفعل ذلك، يتوقف الكتاب عن كونه مجرد نص، ويصبح مرآة، أو مطرقة، أو نافذة.

تخيل أنك دخلت ورشة نحات عظيم. يمكنك أن تتجول بين التماثيل النهائية، وتعجب بجمالها، وتقرأ البطاقات التي تشرحها. هذه هي القراءة السلبية. أو يمكنك أن تمسك قطعة من الطين بنفسك، وتجلس بجانب النحات، وتحاول أن تصنع شيئًا، وتسأله عن تقنياته، وتجرب أدواته، وتتعلم من أخطائك. هذه هي القراءة الحوارية. في الحالة الثانية فقط، ستفهم حقًا ما يعنيه أن تكون نحاتًا.

الفلسفة ليست في التماثيل النهائية، بل في عملية النحت. والانخراط في هذا الحوار النشط مع النصوص هو ما يحولك من مجرد سائح في متحف الفلسفة إلى فيلسوف يمارس فنه.

"لا تقرأ الفلسفة، بل تحاور معها. عندما تمسك كتابًا فلسفيًا، لا تتعامل معه كنص مقدس أو مقرر دراسي. تعامل معه كشخص يجلس أمامك. مارس 'الحوار': اسأله: 'ما الذي تريد أن تقوله حقًا؟'. اختلف معه: 'أنا لا أتفق مع هذه النقطة، لأن...'. اربطه بحياتك: 'كيف تساعدني هذه الفكرة على فهم تجربتي أنا؟'. إن تحويل القراءة من تلقي سلبي إلى حوار نشط، هو ما يحول النص الميت إلى تجربة حية."

***

مرتضى السلامي

 

مَنْ منَّا يوما أحسَّ أن أجزاء من متاريس حياته العتية قد انفض عقدها بالتراخي والتشتيت. من منّا يحس أن زمنه في الماضي والحاضر والمستقبل قد سرقت منه عنوة، وبلا امتيازات أخرى آتية من لوح المجهول. من منّا يوما ما أحس بالفراغ وعناد التجويف الداخلي، وبات ضغط النيران الخاملة بلا لهب تشتعل قوة وتحتل منه أقساطا وفيرة من الذاكرة المتفحمة بالسواد والتفتيت.

حين نُفكر بالتأني مليا، قد يصيبنا التأسي حين نُمْسي نسترق أداة سمع اصطناعية عن أحداث يومنا الذي مرَّ ولم يعد، ونؤمن بلازمة: (لا يمكن أن تسبح في النهر مرتين !!!)، فنتحسس استرجاعا لذواتنا الغافلة، وقد تاهت في لُجِّ بحر بلا مجاديف ولا ألواح توجيه.

 الكل منَّا لا يضع للحياة سيناريو سهل ومطواع الفهم والتمثيل والإخراج، وحين نلامس الحياة بالتجريب والمناولة والمقايسة، نتعلم منها الكثير وقد نفقد السيطرة من الاختناقات اللامنتهية التي تصيبنا بالنوبات، ونطالب بسرعة الإنعاش الأكسوجيني النظيف. عندها تُعلمنا الحياة أن من الانتكاسة التعديل والقيام، ومنها قد نبني أحلامنا المرهفة بالدقة والتخطيط، ولما لا القدرة على مواجهة متاعب أخرى آتية بالتوافد، وقد لا تنتهي إلا بالموت وقتل الألم عينه.

جل المهام التي خضعنا فيها للتجريب مثل رؤوس اليتامى، قد تنتهي بالفشل وعذاب ضمير متحرك لن ينتهي اليوم ولا غدا. ورغم ذاك فقد تكون الحياة وفيرة بالتجارب الايجابية والمريحة، والتي تسهل لنا العبور نحو مهام بديلة حتى هي قد لا تنتهي إلا بنوعية متاعب مستحدثة... وفي حقيقة يوم مجهول لا تنتهي ساعاته إلا بمأتم تشييع الحياة. قد أستعير قول: كِليني لِهمّ أيتها الحياة المضنية في صُلب المتاعب والتعذيب...كِليني ودعيني متعبا... يا أيتها الحياة الآتية من عواصف نار جهنم، واتركي لي ليلا بالعطف حتى وأنا أقاسي فيه ألما من غياب نجومه الوضاءة.

مرات عديدة يصبح الماضي يحتضر ولا يأتيه الموت أبدا !!! وبعدها طواعية حين نلامس قبس نور فجر جديد نجد أن حاضرنا لن يولد في ذاك اليوم الذي لا يحصيه لا الزمان ولا المكان، غير تسميات التوليفة التي ألفنا في تعداد الزمن والمكان (الاثنين...) لتدقيق أين نحن؟ وما هي الساعات التي نعيش دقاتها المتسارعة؟

من المؤسف المضني أن يموت الزمن الماضي من ذاكرتنا، ومن تأريخ بيانات حياتنا المسكوت عنها مثل تاريخ الفقراء والصعاليك القدامى والجدد... لكن، الخوف المفزع له مبرراته العقلانية لا الحسية، خوفنا أن ينتفض الماضي من قبوره بحرب النهاية على الحاضر، ويعمل على قتل الحاضر حتى تحكمنا جميعا صورة الماضي، وبلا مناوشات آتية من المستقبل...

مرات عديدة، نبتعد عن الناس كرها، وعن ذواتنا اليائسة كرها، وقد يعيينا البكاء والتأسي عن تلك الذكريات مهما صغرت، ومهما استطال تاريخها بالتدقيق المريح. ذكريات تأتينا فجأة فتأبى الإقامة في مساحات شقة ذاكرتنا الضيقة والمغلقة بأقفال صندوق (دفنا الماضي)... حينها يضيع التعبير الكاشف عن الحقيقة،  ولن نقدر على ممارسة الكلام الفصيح ولا البليغ منه، ونبقى نحمل نذوب الآهات المتكاسلة، وقد نجد أن كل تاريخ الحياة يحتضر بالأعراض المرضية العضوية، والإسهال النفسي، والمستقبل يُبني عند شرفات عالية لا ندري منها ما يخفيه هذا المستقبل المستقيل...

هي الحياة التي توازي حفرة سحيقة الأبعاد وبلا عودة لدنيا مظاليم الحاضر... فحين لا نقدر على ضمان ولادة سلسة للحاضر، وبلا انتكاسات مضنية... فليكن علمنا الأكيد أن الحياة لغو ولعب وزينة... فمن منَّا لا يشفق على حياته؟ !!! ويطالب بنتيجة التعادل، وسلامة الروح والجسد من علامات مواجهة ومحاصرة الحاضر والمستقبل.

***

محسن الأكرمين

علاقة الأرض بالبشر أزلية وذات إيقاع متكرر ومتشابه، وتستعين عليهم بالأوبئة بأنواعها كلما سئمت من كثرتهم، وعلى مدى قرون عديدة حافظت على نسبة بشرية تستطيع أن ترعاها وتكفل حاجاتها للبقاء، وما بلغت أعداد البشر أكثر من مئات الملايين في معظم العصور، وعند إطلالة القرن العشرين كان العدد دون البليونين، وفي الحرب العالمية الثانية كانوا أقل من  ثلاثة بلايين، وفي مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، تمكن العلم من توفير اللقاحات التي قللت نسبة وفيات الأطفال ومنعت إصابات الكبار، إضافة إلى الثورة الدوائية وفي مقدمتها المضادات الحيوية، فتسارع نمو البشر وإزدادت أعدادهم بإضطراد غير مسبوق، وتجاوزالعدد ثمانية بلايين.

فهل تتحمل الأرض هذه الأعداد المتزايدة؟

هل ستطعمهم وتسقيهم وتسعدهم وتغنيهم؟

إن للأرض إرادتها وقوانينها وأساليبها للحفاظ على وجودها، فهي لا تغامر بمصيرها، وعندما تتعلق المسألة بديمومتها، فلا تعرف الرأفة ولا الرحمة، وتتحول إلى وحش فتاك.

ويبدو أن إرادة الأرض فاعلة في لا وعي البشر، وهي التي دفعته إلى إبتكار ما يفنيه ويقضى على النسبة العظمى من نوعه.

فالأسلحة ذات التدمير الشامل بقدراتها المتنوعة من النووية وما بعدها، وكذلك القدرات البايولوجية، التي كانت تستخدمها الأرض صار البشر يستحضرها للنيل من البشر، كما أن العدوانية قد تنامت، وصار البشر يخشى البشر، مما يعني أن طاقات التماحق أخذت تنبثق وتتفاعل، بعد أن توفرت الأدوات اللازمة لتنفيذ تطلعات البغضاء والكراهية والعدوان الشرس على الإنسان والبنيان.

وربما ستعود الأرض إلى ما كانت عليه عند مطلع القرن العشرين، أي أن عدد البشر على ظهرها سيتناقص لكي تتحمل أعباء معيشتهم، وسعيهم الآمن فيها.

فكيف ستحقق الأرض هدفها؟

إنها ذات آليات متنوعة ومؤثرة، وستستهدف الهدف بعناصره ليتمكن من تنفيذ إرادتها، أي أنها ستسخر البشر للقضاء على البشر، وهذا ليس ببعيد، فالدنيا قاب قوسين أو أدنى من إطلاق ما يلغيها ويفنيها في لمحة بصر.

فهل ستنتصر علينا الأرض؟

***

د. صادق السامرائي

الحراك الاجتماعي social mobility يقصد به امكانية صعود افراد من الطبقات الادنى الى مستوى الطبقات الاعلى.

اي ان الطفل الذي يولد في عائلة فقيرة تكون فرصه ضئيلة او معدومة في الارتقاء الى مستوى ابناء الطبقات الغنية لأنه لايستطيع التقدم في التعليم الذي يجعله مؤهلاً لوظائف وادوار اعلى من تلك التي شغلها والده..

خاصة اذا كان التعليم مكلفاً ولايتاح بشكل مجاني لهؤلاء الاطفال.. لذلك تشهد هذه المجتمعات ركوداً في حراكها الاجتماعي ويكون الصعود نادراً واستثنائياً..

بعض الأحزاب والحركات الاشتراكية ، حتى في الدول الرأسمالية، تسعى لجعل التعليم مجانياً او ميسّراً لأتاحة الفرصة للموهوبين من ابناء الطبقات الفقيرة للصعود ولعب ادواراً اجتماعيةً اعلى.

وهذا يتطابق مع وجهة نظر افلاطون الذي صنّف الناس إلى ثلاث طبقات أو معادن في كتابه "الجمهورية": وهي: الحكام (الذهب)، الجنود (الفضة)، والعاملون (النحاس).

لكنه ذكر ان الذهب لايلد ذهباً بالضرورة ولا النحاس يلد نحاساً بالضرورة.. النحاس قد يلد ذهباً والذهب قد يلد نحاساً.. اي انه لم يغلق الباب امام الحراك الاجتماعي العمودي (صعود ونزول)..

وبذلك فأن الحركات التي تدعو لفتح الابواب امام الحراك الاجتماعي في عصرنا الحديث هي افلاطونية من حيث وجهة النظر التربوية...

بعض الانظمة التي عرفها العالم كانت تتصرف باعتبارها اشتراكية وتؤمن بالحراك الاجتماعي لكنها كانت تمارس سياسة مشروطة بالانتماء الايديولوجي والولاء للسلطات كشرط لمنح فرص التعليم (خاصة العالي والتخصصي)، وتحرم غير المرضي عنهم مناطقياً او قومياً او دينياً او من حيث الولاء السياسي..

***

د. صلاح حزام

لم أتخيل أنها كلماتي الآن أو أنني سأطرح تساؤلات من هذا القبيل يومًا ما، لكنها الدنيا، كل الاحتمالات فيها مُمكنة، وقد يخلع المستحيل ثوبه ويتعرى أمام الواقع من حين لآخر.. اللا شيء هُنا قد يصبح شيئًا!

أنا حائرة جدًا، فإننا كثيرًا ما سمعنا عن حوادث مأساوية كان البطل فيها ثأر لا ينقطع، ورث بملايين، خلافات عاطفية، أمراض نفسية، وما إلى ذلك من أخبار مقبولة في زمن الفتن هذا، ولكن، ما المبرر المنطقي وراء تحطيم رأس طفل معجونة بالبراءة؟!

هل كسر لُعبته؟

التهم "سندوتشات" زميله في الفصل؟

هرب من حصة العلوم؟

نام في ساعة متأخرة؟

ما المبرر بحق يا سادة؟!

المؤسف أن الإجابة بين السطور الأولى.. نعم، إنه "بسكوت بالشيكولاتة" كما قرأتم قبل لحظات!

إن قُلت كلمة "عيد" أو "إجازة" أو "فُسحة"، سنجد كل هذه المفردات ترتبط بشراء "الحلويات" بمختلف أشكالها وألوانها ولم نهتم حينها بكابوس تسوس الأسنان، وأما الآن، فقد أصبحت الترجمة الحرفية لكلمة "الهلاك" في عالمنا المجنون.. والسر: مذاق الشيكولاتة اللذيذ.. الدموي!

إنه المشهد الذي عشت أدق تفاصيله دون أن أفهم تمامًا.. هل هو حقيقة ملموسة، أم أن الفلسفة لحست عقلي؟!

في ليلة رمضانية بسيطة جدًا، كنت في سهرة عائلية بمنزل أحد أقاربنا، نضحك على كومة أجسادنا بعد سفرة الفطار وسط صخب إعلانات التلفاز وتزاحم الحكايات من كل لسان، وفجأة.. اهتز المكان وأهله بصرخات مفزعة أشبه بجنازة شعبية ضخمة، لن أنكر أني ارتبكت بشدة، لدرجة أن طبق الكنافة كاد أن يتسرب من بين يدي ومن ثم الحرمان من متعة أعشقها في شهر الخير.. يبدو أن هُناك مصيبة على الأبواب!

من تحليلي لصوت الصرخة، أحسست بأن ثمة سفاح هارب فقد السيطرة على نفسه وافترس أحدهم بضراوة، الكبد في مكان والطحال في مكان كما في أفلام "الزومبي"، لم يكن الصوت يوحي بمشاجرة وحسب، وإنما تأزم الوضع أكثر حتى سمعنا نغمة حادة وحاسمة أكدت لي إحساسي.

الإسعاف.. نحن الآن أمام الجريمة الكاملة!

وقبل أن أخطو إلى مصير أجهله، سبقني أبي بنظرة خاطفة على الشارع ثم قالها بصوت يرتجف: "ولد صغير غرقان في دمه!"

تجمدت حواسي مثلكم في هذه الأثناء، لأغرق أنا في تساؤلات لم ترحمني..

لمَ؟!

كيف؟!

أين؟!

متى؟!

ماذا عن شعوره وهو لا يعرف معنى الموت؟!

وهل أدرك أنه ينتهي قبل أن يبدأ؟!

مليون سؤال وسؤال دار في ذهني وقتها، وبعد محاولات لفك اللغز، وبما التقطناه بصعوبة من همسات الجيران، زال الغموض أخيرًا، فتألم الجميع كما لو أن الضربة وقعت على رؤوسنا نحن!

طفل يلهو مع "شلة" المدرسة، وبينما كان يعبث مع بائع "سوبر ماركت" يعرفه، تفاقم الهزار حتى افتعل الطفل سرقة "البسكوت" على غفلة وأخذ يجري بعيدًا إلى حد التبخر، كان يحسبها دُعابة منه لإنعاش الأجواء، وربما كان يحسب أن الكل أصدقاء قلبه وأن البائع في مكانة خاصة لا مجال فيها للخيانة، وحين يشتد الخصام بينهما سرعان ما يعود إليه بالنكات وكأن شيئًا لم يكن، لكن الغضب هو من قال كلمته تلك الليلة.

اشتعلت النيران في أعماق البائع، ترك الزبائن والحسابات والبضاعة كلها، وأصبح شغله الشاغل أن يقبض على الطفل ويُلقنه درس عُمره، وعُمري كذلك!

الخبر المُحزن أنه أمسك به بعد مطاردة طويلة من بيت لبيت ومن حارة لحارة، ولكن هُنا أكثر من سيناريو.. مثلًا..

يضرب يده التي تهورت وبادرت بالهزار السخيف صارخًا في وجهه: "عيب يا ولد"..

يُعنفه لفظيًا بشتائم اعتدنا عليها نحن أيضًا في طفولتنا الفوضوية..

يكتفي بلفت نظر الأب بأن ينتبه إلى تصرفات ابنه فلا ينقلب مستقبله إلى البلطجة وعصابات قُطاع الطرق..

أو على الأقل يتركه وشأنه فتمر الليلة على خير، لعب عيال والسلام..

المعذرة، كلها سيناريوهات خيالية، لقد كسر رأسه وسعادته في سور حديد!

فماذا لو أحرق بضاعته بصاروخ رمضاني طائش بغير قصد؟!

أعتقد أنه فقد الثقة في البشر مع أول نقطة دم سالت من جرحه المفتوح، غلبه الخوف من اللعب مع الكبار أو حتى مجرد الاقتراب منهم، لقد كانوا عالمه الآمن قبل أن يسقط في وحل الحقيقة، لطالما كانت تربطهم علاقة أُلفة وعطف قوية، والآن صار حضورهم أكثر رعبًا من أشباح الظلام وأيام الامتحانات المملة.

الاستثناء تغير، والسبب صوت "قرمشة" وقلب لم يُدرك شر النفوس بعد.

وعني أنا، فهي المرة الأولى التي أشعر فيها بنوع جديد من "الفوبيا" التي لا علاقة لها بالمرتفعات أو الأماكن المغلقة، وهي "فوبيا بسكوت الشيكولاتة"!!

أنا أخاف من طبقات هشة تذوب في كوب شاي بالنعناع؟!

أخاف من لذة مشروعة تُنقذ معدتي في أوقات الجوع؟!

"بسكوت" يا نورا؟!

لقد اختلفت نظرتي للدنيا بعد أن توجعت عليه، لم يخطر على بالي أن أشعر بالأمومة قبل الأوان، وذلك المشاغب فعلها!

أعترف بأن الضربة أعادتني إلى صوابي مرة أخرى، ربما رأيت عن قرب أكثر، تنازلت عن دهشتي وفهمت أننا بحاجة للمزيد من المرونة على هذه الأرض، وحين نسمع الصرخة لا يهتز طبق الكنافة في أيدينا أبدًا، وأن الثبات على مبدأ "عادي.. دنيا!" هو الحل أمام صدمات بحجمها، فإن الواقع هو الواقع مهما كتبنا عن المدينة الفاضلة وحلمنا بها وطنًا لنا، تلك المدينة بعيدة جدًا، لقد أجهض رحم الحياة سكانها من قبل الولادة، ولكننا في النهاية نأمل أن تمر الأيام بهدوء، ألا تصفعنا المشاهد أو يتأذى الطفل بداخلنا، وأن يظل "البسكوت" رمزًا للبهجة لا الفراق.

انفضت لمة الأسرة بعد سحور شبعنا فيه الكلام عن الولد ومغامراته الشوارعية، وحتى خيوط الفجر وأنا أفكر.. هل سيلتئم الجرح في رأسه قبل أن يكره صنف السكريات كله؟! سنرى..

الحمد لله.. جت سليمة والطفل بخير، إصابته سطحية وأرجو أن تكون كذلك بالنسبة إلى روحه، وهي مسألة أيام ويعود لشقاوته من جديد، وإن كنت أخشى عليه من لعنة "الآيس كريم" هذه المرة!

***

بقلم: نورا حنفي

في رحلةِ الإنسانِ الأبديةِ بحثاً عن معنىً يروي ظمأ روحه، وعن نورٍ يبددُ وحشة أيامه، يظلُّ الدينُ ذلك المحيطَ الشاسع الذي تتجهُ إليهِ القلوبُ، كالمسافرِ العطشانِ يتجهُ صوبَ واحةٍ خضراء. إنهُ ذلك الشعورُ العميقُ بالصلةِ مع السماء، وذلك الوعدُ بالسكينةِ والطمأنينة. لكن، كم من مرةٍ رأينا هذا المحيطَ الهادئ يتحولُ إلى بحرٍ هائج، وكم من مرةٍ تحولت تلك الواحةُ الظليلة إلى سرابٍ خادع أو أرضٍ يباب!

إنها الحقيقةُ المؤلمةُ التي تجعلُ القلبَ يتأملُ بحسرةٍ وحيرة، والتي يعبرُ عنها الدكتور عبد الجبار الرفاعي بوضوحٍ شافٍ وبصيرةٍ نافذة في مقدمة كتابه "مقدمة في علم الكلام الجديد"، حيث يقول: "الدين يمكن أن يكون عاملاً أساسياً في البناء، كما يمكن أن يكون عاملاً أساسياً في الهدم، ويعود الاختلاف في ذلك إلى الاختلاف في طريقة فهم الناس للدين، ونمط قراءتهم لنصوصه، وكيفية تمثلهم له في حياتهم. من يريد أن يُعلم الناس الحياة يمكنه استثمار الدين، كما يمكن استغلال الدين ممن يريد أن يُعلم الناس الموت... من يريد أن يُعلم الناس السلام يجد الدين منجماً يمكنه استثماره فيه، كذلك يمكن استغلال الدين في الحروب... من يريد أن يُعلم الناس المحبة يجد الدين منبعاً لا ينضب يمكن استثماره في تكريسها، كذلك يمكن استغلال الدين في إشاعة الكراهية، وهي من أسوأ أشكال توظيفه في الحياة." (الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص ١٨).

تلك الكلمات ليست مجرد تحليلٍ فكري بارد، بل هي انعكاسٌ أمينٌ لجرحٍ غائرٍ في وجدان الإنسانية. فالدينُ في جوهرهِ، كالغيثِ النقي الذي يهطلُ من السماء، لا يحملُ إلا الخيرَ والحياة. لكن حين يصلُ هذا الغيثُ إلى الأرض، فإن مصيرهُ يتحددُ بنوعِ التربة التي تستقبله. فإن سقطَ على أرضٍ طيبةٍ، أنبتَ زهراً وثمراً، وأروى عطشَ الكائنات. وإن سقطَ على أرضٍ مالحةٍ أو صخرية، تحوّلَ إلى وحلٍ أو سيلٍ جارفٍ لا يُبقي ولا يذر. الأرضُ هنا هي قلوبنا، وعقولنا، وطريقة فهمنا.

انظر يا صديقي حولك، وتأمل في أعماقك. حين تقرأ عن المحبة، وتجدُ في الدينِ ذلك المنبعَ الذي لا ينضب، كما قال الرفاعي، تشعرُ بأن روحكَ تتسعُ لتحتضن الكون بأسره. ترى في كل إنسانٍ أخاً لك، وفي كل كائنٍ أثراً من جمال الخالق. هذا هو "استثمار" الدين في تعليم الناس الحياة. إنه الدين الذي يبني الجسور، يداوي الجراح، يمسحُ دمعة اليتيم، ويُطعمُ جائعاً، ويغرسُ شجرةً تظللُ الأجيال. إنه الدين الذي يجعلُ منكَ إنساناً أفضل، أكثرَ رحمةً، وأوسعَ قلباً.

ولكن، على الضفةِ الأخرى من النهر، يقفُ أولئك الذين يحملون النصوصَ ذاتها، ولكن قلوبهم أغلقت نوافذها أمام النور. يقرأون عن المحبة، فيفسرونها على أنها حِكرٌ على جماعتهم ومن يتبعُ طريقتهم. ويقرأون عن السلام، فيجعلونهُ سلاماً لأتباعهم وحرباً على كل من يخالفهم. هؤلاء هم من "يستغلون" الدين، كما يُحذرنا الرفاعي، ليُعلموا الناسَ الموتَ والكراهية. إنهم يحولون النبعَ العذبَ إلى مستنقعٍ آسن، والمنجمَ الغني بالكنوزِ إلى كهفٍ مظلمٍ لا يسكنهُ إلا الخوفُ والتعصب.

وكيف يتحول الدواء إلى سُم؟ إنهُ يحدثُ حين ننسى أن جوهرَ الإيمانِ هو أن يُصلحَ ما بداخلنا أولاً، لا أن نُصلحَ بهِ الآخرين قسراً. يحدثُ حين تصبحُ النصوصُ سيفاً نُسلِطهُ على الرقاب، بدلاً من أن تكونَ بلسماً نضعهُ على الجراح. يحدثُ حين نعتقدُ أننا امتلكنا الحقيقةَ المطلقة، وأن كلَّ من عداها في ضلالٍ مبين. إنها مسؤوليتنا جميعاً، مسؤولية كل فردٍ منا. الدينُ أمانةٌ في أعناقنا، والنصوصُ بين أيدينا. فإما أن نقرأها بقلبٍ مُحبٍّ يسعى إلى البناء والرحمة والسلام، فنكون ممن يستثمرون هذا الكنزَ العظيم. وإما أن نتركَ لظلامِ نفوسنا وعصبياتنا أن تُفسرها لنا، فنكون، عن قصدٍ أو عن جهل، ممن يستغلونها في الهدمِ والخصام والكراهية.

في نهايةِ كل يوم، حين تخلو إلى نفسك، اسألها بصدق: هل جعلني إيماني اليوم أكثر حباً ورحمة؟ هل جعلني أرى الجمالَ فيمن حولي حتى لو اختلفوا عني؟ أم هل زادني قسوةً وتعصباً وانغلاقاً؟ في الإجابةِ على هذا السؤال، يكمنُ مصيرُ الدينِ في حياتنا، ومصيرُ أوطاننا التي أنهكها استغلالُ المُقدّس في خدمةِ أهواءِ البشر. فالطريقُ إلى الله لا يمرُّ عبر بثِّ الكراهيةِ بين خلقهِ أبداً، بل عبرَ المحبةِ التي تسعُ الجميع.

***

مرتضى السلامي

 

(اعطوني مكاناً اقف فيه ازحزح لكم الارض)... ارخميدس

يعد ارخميدس (287 – 212 ق. م ) من اعظم رياضي العصور القديمة، ولد في سرقوسة بصقلية، كان والده فلكياً، سافر ارخميدس من موطنه صقلية إلى الإسكندرية ليدرس في مدرستها التي كانت تسمى آنذاك (المتحف) وبعدها سافر إلى اليونان طلباً للعلم ورغم سفره ظلت المراسلات بينه وبين علماء الإسكندرية مستمرة حيـــث أسس هؤلاء العلماء جمعية علمية في الإسكندرية وكانوا يعيشون في متحف الإسكندرية ويقبضون رواتب شهرية وكــان هذا أول متحف علمي شيد في العالم القديم يحتوي على قاعات ومكتبة ومختبرات لذلك صار هؤلاء العلماء من أول

مؤسسي البحوث العلمية وغدت كتبهم موسوعات علمية دام تأثيرها لألف سنه حتى قيــــــام عصر النهضة الأوربية. وكان العالم (اقليدس) أحد رجال المتحف الإسكندري هذا ولا يزال أسمه معروفاً ومشـــــهوراً في علم الرياضيات حتى يومنا هذا.

اكتشافات وابتكارات

يقول عنه صاحب كتاب (تاريخ العالم القديم): " وكان أعظم رجال العلم ومن أشهر ما ابــتدعه من الأعمال الخطيرة نظام البكرات التي تعظم بواسطتها القوة التي تحركها إلى درجة تفوق التصديق حتــــى أن ملك سرقوســة بمجرد أدارته لساعد دولاب خفيف تمكن من ان يحرك سفينة كبيرة بثلاث صوار وكانت راسية في المرفأ ممــــلوءة خشباً ويدفعها إلى البحر. وبعد ان رأى الناس من ارخميدس أعمالاً عظيمة صدقوه حين قال مفاخراً: " أعطوني مكاناً أقف فيه أزحزح لكم الأرض ص 461 – 462، وبالإضافة هذا فأنه أخترع آلات حربيـة قوية جداً واستعملها سكان سرقوسة في الدفاع عن مدينتهم أثناء هجوم الرومان عليها.

ويمكن أجمال عبقرية هذا الرجل فيما ابتكره بالأمور التالية : انه اوجد طرقاً لحساب الأحجام والمساحات. أوجد حساب الجذر التربيعي. أوجد العلاقة بين محيط الدائرة ونصف قطرها. أخترع الروافع لرفع الأحجام الثقيلة وهي من أهم قوانين الفيزياء. أخترع جهازاً شبيهاً بحركة الشمس والقمر في السماء. كما انه أكتشف نظرية العتلة. واكتشف قانون طفو الأجسام داخل المياه والذي أصبح يعرف بقانون (ارخميدس). استخدم الأشعة الشمسية عند هجوم الرومان على مدينته.

وبذلك يمكن القول أن ارخميدس أنتقل بالرياضيات من المجال النظري إلى المجال العملي، وقد استمر يبـحث في الرياضيات حتى وصل إلى أعلى درجاتها وجعل منها علماً مهماً سُمي (الرياضيات العليا) ولم يسبقه أحد من قـبله.

كما عهد إليه ملك سرقوسة مهمة امتحان التاج الذهبي لأن الملك كان يشك هل هو من الذهب الخالص أو أن الصائغ أدخل فيه نحاساً بدلاً من الذهب والطريقة التي توصل بها إلى معرفة الغش ومقداره معروفة وهي أن ارخمـــــيدس أراد أن يستحم في احد الأيام فنزل في حوض مليء بالماء في أحد الحمامات العامة فلاحـــــــظ أن الماء قد طفـــــح وانسكب من جوانب الحوض فصرخ وجدتها وجدتها ! أي أنه حل مشكلة التاج التي طلب منه الملك أن يحلها دون أن يتلف التاج وان يعرف كمية الذهب الخالص في التاج الذي أشتراه الملك، ويقال أنه خرج عارياً من الحمام وهـــــو يجري ويصرخ (وجدتها وجدتها) وقد أكتشف بذلك قانوناً خلاصته: أن الجسم المغمور في سائل ما يفقد من وزنه بقدر وزن السائل المزاح. وكان من نتيجة ذلك أن صائغ التاج قد أعدم.

وقد بحث ارخميدس بعد ذلك في ميادين علمية كثيرة مثل الهندسة والميكانيك وتـــوازن الـــــسوائل وقد سـاعدت ابتكاراته هذه علماء عصر النهضة الأوربية مثل غاليلو ونيوتن وغيرهما من كبار علماء ذلك العصر.

وفــــــــــــــاة ارخميــــــدس

في عام 212 ق. م كان الرومان قد شنوا هجوماً عسكرياً على مدينة سرقوسة بهدف ضمها إلى الإمبراطورية الرومانية، حينها كان ارخميدس منهمكاً في حل المسائل الرياضية وبينما هو مشغولاً في هذه المسألة جاءه جندي من أبناء مدينته وطلب منه النهوض لاستخدام إحدى آلاته القتالية التي أخــــــترعها للــــــدفاع عن الـــمدينة إلا أن ارخميدس طلب منه التريث حتى اتمام حل المسألة الرياضية هذه غير أن الجندي رأى أن هذا التريــث ما هو إلا مضيعة للوقت وتقاعس من ارخميدس قد يؤدي إلى مساعدة الروم في احتلال المدينة فما كان منه إلا أن يطــــــعن ارخميدس بسيفه ويرديه قتيلاً مضرجاً بدمائه فوقع شهيداً من شهداء العلم والفلسفة.

مثلما سجل لنا التاريخ شهداء استشهدوا من أجل مبادئهم وعقائدهم، فسقراط يعد شهيد الفلسفة حينما تجرع كـأس السم مفضلاً الموت على الهرب أحتراماً لشرائع مدينته داخل سجنه، وغاليلو الذي حكمت عليه محكمة الكنيسة بالسجن وسجن حتى فقد بصره ومات في سجنه شهيد أفكاره ونظرياته التي قال فيــــها أن الأرض تــــدور وأعدم

بالمقصلة الكيميائي الفرنسي انطوان لافوازييه لاتهامه بأنه خان الثورة الفرنسية. وهكذا انتهت حياة ارخميدس هذا العالم الذي يعتبر من اعظم رياضيي العصور القديمة نهاية مأساوية مثلما انتهت حياة من سبقوه ومن لحقوه من العلماء والفلاسفة والشعراء والفنانين عبر التاريخ.

***

غريب دوحي الناصر

يمتدّ الزمن بين الماضي والحاضر كجسر من الذكريات والدروس، يعبره الإنسان محمّلًا بحكايات الأجداد وأحلام الأحفاد. في الماضي، كان كل شيء بسيطًا، طاهرًا، يتّسم بالعفوية والقيم الأصيلة. العلاقات كانت تقوم على الصدق، والأيادي ممدودة للتعاون، والجيران عائلة واحدة.

أما اليوم، في زمن الحاضر، تغيّر وجه العالم. تسارعت التكنولوجيا، وضاقت المسافات، وتفتحت أمام الإنسان أبواب لم يكن يحلم بها. أصبح العالم قرية صغيرة، لكن القلوب أحيانًا باتت متباعدة.

الماضي قدّم لنا الإرث الثقافي، والعادات الجميلة، والروابط العائلية المتينة. والحاضر جاء ليضيف المعرفة، والاختراعات، وانفتاح الفكر. نحن اليوم نقف بين زمنين: نحمل في القلب حنينًا للأمس، وفي اليد أدوات اليوم.

من يملك الحكمة، يجمع بين الاثنين: يأخذ من الماضي قيمه ومن الحاضر تطوّره. فالحياة لا تستقيم بلا جذور، ولا تزدهر بلا أفق مفتوح. والمستقبل ملك لأولئك الذين يعرفون كيف يسيرون على جسر يربط الماضي بالحاضر بثبات وعقل وقلب حيّ.

***

ياسمين عبد السلام هرموش

 

العور: الشين والقبح

تعوير أمر: تقبيحه

التنوير: الإنتقال من الجهل إلى المعرفة، ومن الظلام إلى النور عقليا أو روحيا أو ثقافيا.

والتنوير تفاعل مع الحاضر والمستقبل، وليس الغوص في الماضي وتقديمة بصورة أخرى، هذا السلوك تعويري وليس تنويري.

العديد من أدعياء التنوير هم تعويريون، يحاولون تقديم الماضي على أنه أكذوبة وتصورات لا أساس لها من الواقع، ويجيدون التركيز على مسيرة الأمة ودينها، ويحسبون المدونات المتوارثة أكاذيب مسطورة، ويصفونها كما يشاؤون، بلا إقتراب علمي منهجي رصين.

التنويري الحقيقي عليه أن يدرس الواقع المعاصر ويقدم الحلول المساهمة في بناء مستقبل أفضل، فنحن أبناء اليوم ولسنا أبناء البارحة، وعلينا أن نعمل على بناء عصرنا بتفاعل عقولنا وإستثمار طاقاتنا بإيجابية وتطلعات مستقبلية تخدم الأجيال.

أكثر ما يسمى بالتنوير بأنواعه فيه نزعات تدميرية وتشويهية ولا يقدم فائدة ذات قيمة عملية وتأثير صالح للحياة الحرة الكريمة.

التنوير يدعو إلى إستخدام العقل، والعلم وحرية التفكير، وإن لم تصدقوا فاسألوا فولتير وجان جاك روسو وكانط.

إن التنوير الحقيقي المطلوب هو علمي، وعلينا أن نركز الجهود على البنى التحتية للعلم، ورفع قيمة ودور العلم في صناعة الحاضر والمستقبل.

وبالتنوير يجب بلوغ الوعي الكامل ونشر المعرفة ومحو الأمية، وتعزيز التفكير النقدي ومحاربة الجهل، والخروج  من الظلم والقهر نحو نور العدالة والحرية والمعرفة المتنامية.

بنور عقولها نهضتْ شعوبُ

وكمْ بضلالها بدأتْ حروبُ

عقائدها بها الأوهامُ دامتْ

توظفها فتأكلها الكروبُ

فما بلغتْ معاليها بجهلٍ

كأنَّ شروقها يعني الغروبُ

***

د. صادق السامرائي

في أعماقنا، نحمل خريطة للعالم بنيناها قطعة قطعة منذ طفولتنا. خريطة من القناعات والأفكار والقيم التي ورثناها أو اكتسبناها. نستخدم هذه الخريطة لنتحرك في الحياة، ونشعر بالأمان طالما أن تضاريس الواقع تتطابق معها. لكن في بعض الأحيان، نصل إلى نقطة نكتشف فيها أن الخريطة لم تعد تتطابق مع الأرض، وأن ما كنا نظنه يقينًا صلبًا ليس إلا رمالًا متحركة.

هذه لحظة مرعبة، لكنها أيضًا لحظة مقدسة. إنها لحظة الشك الجذري التي تدعونا إلى القيام بأشجع فعل يمكن أن يقوم به الإنسان: أن يجرؤ على هدم بيته الفكري ليبحث عن أساس أكثر صلابة. معظم الناس يفضلون ترقيع الجدران المتصدعة وتجاهل الشقوق في الأساس، خوفًا من البرد والظلام الذي ينتظرهم في الخارج. لكن الفيلسوف هو الذي يمتلك الشجاعة ليقول: "هذا البناء لم يعد صالحًا للسكن"، ويأخذ معول الشك ويبدأ بالهدم.

هذا الهدم ليس فعل عدمية أو يأس، بل هو فعل حب عميق للحقيقة. إنه إيمان بأنه تحت كل هذه الأنقاض من الآراء المسبقة والعادات البالية، توجد صخرة صلبة من اليقين يمكننا أن نبني عليها حياتنا من جديد. هذه الصخرة هي الوعي الذاتي، هي حقيقة أنني "أفكر"، وبالتالي أنا "موجود". هذه هي نقطة البداية التي لا يمكن الشك فيها، الأساس الذي يمكن أن يقوم عليه بناء جديد وأكثر صدقًا.

تخيل نحاتًا أمضى سنوات يعمل على قطعة ضخمة من الرخام، متبعًا تصميمًا ورثه عن معلمه. في منتصف الطريق، أدرك أن هناك شرخًا عميقًا في قلب الحجر، وأن أي تمثال سيبنيه سيكون هشًا ومصيره التحطم. كان بإمكانه أن يخفي الشرخ ويبيع التمثال. لكنه اختار أن يحطم عمله كله، وأن يبدأ من جديد بقطعة رخام سليمة، حتى لو كان ذلك يعني البدء من الصفر. شجاعته لم تكن في مهارته، بل في تخليه عنها من أجل سلامة فنه.

أن تكون فيلسوفًا هو أن تكون ذلك النحات. أن تفحص باستمرار أساسات قناعاتك وعلاقاتك وخططك. وأن تمتلك الشجاعة للتخلص من كل ما هو بالٍ أو مبني على وهم، مهما كان عزيزًا عليك. فإعادة البناء على أساس متين هي التي تمنح حياتك القوة والجمال الحقيقيين، وتحولك من مجرد مقلد يعيش في بيت بناه الآخرون، إلى معماري يصمم حياته بنفسه.

"لكي تبني، يجب أن تهدم أولاً. في حياتك، قد تكتشف أن قناعاتك مبنية على أساسات واهية. لا تخف من الهدم. مارس 'الشك المنهجي': امتلك الشجاعة لمساءلة كل شيء. تخلص من الأنقاض. ابحث عن صخرة اليقين الخاصة بك: ما هي الحقيقة التي لا يمكنك الشك فيها؟ ثم ابدأ إعادة البناء على هذا الأساس الصلب. إن الشجاعة على البدء من جديد هي أحيانًا أصعب وأهم قرار يمكن أن تتخذه."

***

مرتضى رائد عباس

هل نعيش في عالم واحد، أم بين عالمين؟

بين صلابة الواقع ورحابة الخيال، يحيا الإنسان متأرجحًا، باحثًا عن المعنى، وعن لحظة توازن لا تأتي إلا نادرة.

في زحام الأيام، يبدو الواقع كجدارٍ من الإسمنت، لا يلين. نعيشه بكل ما فيه من أعباء ومواعيد وحقائق قد تكون قاسية، لكنه رغم صلابته، يبقى ضروريًا لتشكيل وعينا، ولرسم ملامح هويتنا. هو الأرض التي نقف عليها، والمرآة التي تعكس حقيقتنا كما هي، بلا رتوش.

أما الخيال، فهو سماؤنا المفتوحة، جناحانا اللذان نحلّق بهما بعيدًا عن قيود الوقت والمكان. نكتب به القصائد، نحلم بالمدن المستحيلة، ونخلق به عوالم لا يمكن أن توجد إلا فينا. هو مساحة الحرية المطلقة، حيث يمكن للضوء أن ينبت من العتمة، وللأمل أن ينهض من الرماد.

لكن السحر الحقيقي يكمن في النقطة التي يلتقي فيها الواقع بالخيال. تلك اللحظة التي يتحول فيها حلم إلى فكرة، والفكرة إلى مشروع، والمشروع إلى واقع ملموس. كثير من الإنجازات الكبرى بدأت بخطٍّ على ورقة، أو حلم في عقل شاب لا يعرف المستحيل. وحتى أكثر القصص خيالًا، تجد جذورها ممتدة في تربة الواقع: لحظة حزن، أو فقد، أو حب، أو انتظار.

نحن لسنا كائنات واقعية بالكامل، ولا خيالية بالكامل، بل مزيج مدهش من الاثنين. نحتاج أن نحلم كي نستمر، ونحتاج أن نفيق كي ننجو. وبين الإقلاع والهبوط، تكتب كل واحدةٍ منا حكايتها الخاصة.

فليكن خيالنا وقودًا، وواقعنا بوصلتنا.

***

بقلم: ياسمين هرموش

يعمل المجتمع كقوة جاذبية هائلة، تسحب كل شيء نحو مركزها. إنه يريدنا أن نكون متشابهين، أن نفكر في نفس الأشياء، ونسعى وراء نفس الأهداف: النجاح المادي، القبول الاجتماعي، الراحة والأمان. هذه الرغبات ليست سيئة في حد ذاتها، لكنها تخلق ضجيجًا مستمرًا يصم الآذان عن صوت أعمق، صوت الأسئلة الكبرى التي تكمن في قلب كل إنسان.

الفلسفة تبدأ بالابتعاد قليلاً عن هذه الجاذبية. إنها تتطلب منا أن نمتلك الشجاعة لنكون "غرباء" في عالمنا، ولو للحظات. أن نخطو خطوة إلى الوراء وننظر إلى السباق الذي يركضه الجميع، ونسأل: "لماذا نركض؟ وإلى أين؟". هذا التساؤل يجعلك تبدو غريبًا في نظر الآخرين. عندما يكون الجميع منشغلين بـ "كيف" نكسب المزيد من المال، وأنت تسأل "ما" هو المال، أو "لماذا" نسعى إليه، فإنك تكسر الإيقاع المألوف وتُحدث خللاً في النظام.

هذه الغربة ليست هروبًا من العالم، بل هي شرط لرؤيته بوضوح. لا يمكنك أن تفهم طبيعة النهر وأنت تنجرف مع تياره. يجب أن تقف على الضفة لترى مساره ومنبعه ومصبه. الوقوف على الضفة هو ما تفعله الفلسفة. إنها تخلق مسافة تأملية بيننا وبين حياتنا اليومية، مسافة تسمح لنا بفحصها وتقييمها بدلاً من مجرد عيشها بشكل أعمى.

تخيل حفلة صاخبة، الجميع يرقص على نفس الإيقاع، ويضحك بصوت عالٍ. في زاوية القاعة، يقف شخص بهدوء، لا يرقص، بل يراقب. قد يظنه الآخرون منعزلاً أو حزينًا. لكنه في الحقيقة يرى شيئًا لا يراه الراقصون: يرى الأنماط في حركتهم، يرى العلاقات التي تتشكل وتتفكك، يرى الفرح الحقيقي والضحك المصطنع. هو لا يحكم عليهم، بل يفهم الديناميكية الكاملة للمشهد. وقوفه في الخارج منحه بصيرة أعمق بالداخل.

أن تتفلسف هو أن تمنح نفسك الإذن لتكون ذلك الشخص في زاوية الحفلة من وقت لآخر. أن تخصص وقتًا للانسحاب من ضجيج العالم، ليس لأنك تكرهه، بل لأنك تريد أن تفهمه بشكل أفضل. أن تجرؤ على طرح الأسئلة "غير العملية" التي لا يهتم بها أحد، لأنك تعرف أنها الأسئلة الوحيدة التي تهم حقًا في النهاية.

"لكي تفكر، امتلك الشجاعة لتكون غريبًا. المجتمع يريدك أن تكون مثله. الفلسفة تطلب منك أن تجرؤ على أن تكون مختلفًا. مارس 'الغربة الفلسفية': خصص وقتًا لتبتعد عن ضجيج الحياة اليومية. اسأل الأسئلة الكبرى: ما معنى حياتي؟ ما هي العدالة؟ لا تخف من أن تبدو غريبًا. هذه القدرة على الانسحاب المؤقت من العالم هي ما يمنحك بصيرة أعمق."

***

مرتضى السلامي

عندما نقرأ كتابًا قديمًا أو نستمع إلى حكمة من الماضي، غالبًا ما نرتكب خطأ شائعًا: نحاكمها بمعايير حاضرنا. ننظر إلى أفكار الأقدمين من خلال عدساتنا الحديثة، فنراها غريبة، أو ساذجة، أو حتى خاطئة. نقيس عقولهم بمسطرة عقلنا، وننسى أن كل عقل هو ابن زمانه، ابن عالمه الخاص. هذا التعالي يمنعنا من فهم أعمق حقيقة: أن العقل نفسه ليس شيئًا ثابتًا، بل هو كائن تاريخي يتغير ويتطور.

الفهم الحقيقي لا يكمن في فرض أفكارنا على الماضي، بل في القيام برحلة متواضعة إلى هناك. أن تحاول خلع حذائك الفكري، وأن تمشي حافي القدمين في أرض عقل آخر. أن تسأل: كيف كان العالم يبدو من خلال عيني هذا الشخص؟ ما هي المسلّمات التي كان ينطلق منها دون أن يشعر؟ ما هي الأسئلة التي كانت ممكنة في عصره، وتلك التي لم تكن كذلك؟

هذا ليس مجرد تمرين تاريخي، بل هو أساس الحوار الإنساني الحقيقي. عندما تتحدث مع شخص يختلف معك اليوم، فإنه يعيش أيضًا في "عالم" مختلف قليلاً عن عالمك، له افتراضاته ومسلماته الخاصة. إذا حاولت فقط أن تثبت له "صحة" عالمك، فسينتهي الحوار إلى صراع. أما إذا حاولت أن تقوم برحلة قصيرة إلى عالمه، وأن ترى المشهد من منظوره، عندها فقط يمكن أن يبدأ التفاهم.

تخيل أنك وجدت خريطة قديمة لمدينتك. قد تبدو لك غير دقيقة، بأسماء شوارع مختلفة ورسوم غريبة للمباني. يمكنك أن ترميها وتصفها بأنها "خاطئة". أو، يمكنك أن تستخدمها كآلة زمن. أن تتخيل نفسك تمشي في تلك الشوارع كما كانت، أن تفهم لماذا رُسم هذا الطريق بهذا الشكل، وماذا كان يوجد مكان هذا المبنى الحديث. عندها، لن تكون الخريطة "خاطئة"، بل ستصبح نافذة تطل على تاريخ مدينتك، وستفهم حاضرها بشكل أعمق.

كل فكرة هي خريطة لعالم ما. ولكي تقرأها بشكل صحيح، لا يكفي أن تنظر إليها، بل يجب أن تتعلم كيف تسافر عبرها. هذه القدرة على إعادة بناء عقل الآخر، على السفر عبر الزمن والثقافات، هي جوهر التواضع الفكري. وهي ما يحول تراكم المعرفة إلى حكمة حقيقية.

"لكي تفهم فكرة، افهم عقل صاحبها. عندما تقرأ نصًا قديمًا، لا تسأل فقط 'ماذا يقول؟'، بل اسأل السؤال الأعمق: 'كيف كان يفكر؟'. حاول أن تتخيل عالمه وافتراضاته. لا تفرض عليه قوالب تفكيرك الحديثة، بل سافر أنت إلى عالمه. هذه القدرة على إعادة بناء عقل الآخر هي جوهر التأويل الصحيح، وهي ما يسمح بحوار حقيقي ومثمر عبر العصور."

***

مرتضى السلامي

 

رحلت الممثلة القديرة "اقبال نعيم"، وقد اعادني رحيلها الى استذكار ادائها المميز في مسرحية  (ترنيمة الكرسي الهزاز) الى جانب زميلتها الممثلة المتألقة " انعام البطاط "، وقبل عام 1987  ــ تاريخ عرض المسرحية المشار اليها ــ لم تكن الممثلة " اقبال نعيم " ممثلة كبيرة في عمرها ومنجزها، كما لم تكن معروفة للجمهور آنذاك، ولكن مسرحية (ترنيمة الكرسي الهزاز) كانت بداية انطلاقتها الناجحة والجادة مع المسرح، فمن خلال دورها في هذه المسرحية تعرف الجمهور على امكانياتها الكبيرة وطاقتها الشابة حيث قدمت برفقة زميلتها البطاط عملا مسرحيا ظل خالدا في ذاكرة المتابعين لمسيرة المسرح العراقي الجاد حيث جاء العمل وسط فوضى ما يسمى بالمسرح التجاري كما كان العرض بمثابة الصد لتدهور مسيرة المسرح وابعاد الرثاثة عن تاريخه المشرق ومحاولة لحماية ذائقة الجمهور من العروض الهابطة .

نالت مسرحية (ترنيمة الكرسي الهزاز) التي تم عرضها لأول مرة عام 1987 في منتدى المسرح التجريبي الكائن في شارع الرشيد اهمية وشهرة واسعتين من قبل الجمهور والمهتمين بشؤون المسرح  حيث اجتمع فيها رموز الابداع العراقي فالنص كان من تأليف الكاتب فاروق محمد واشعار المسرحية لعريان السيد خلف والاخراج للدكتور عوني كرومي ودام عرض المسرحية مجانا لعدة شهور ذلك ان الجمهور لم يكتف بمشاهدة واحدة لها انما البعض حرص على حضور العرض لعدة مرات وانا واحد من الذين حظي بمشاهدتها ثلاث مرات وفي واحدة من المشاهدات كانت بحضور الناقد الكبير " علي جواد الطاهر " الذي وقف في نهاية المسرحية محييا بحماس وفرح القائمين على العمل ومشيدا بالأداء والاخراج وفي اليوم التالي كتب عنها الطاهر صفحة كاملة في واحدة من الصحف الصادرة آنذاك، كما نالت المسرحية اهتمام النقاد الاخرين ونشرت عنها كتابات عديدة وحصلت على جوائز عديدة منها جائزة افضل عمل متكامل في مهرجان قرطاج المسرحي في عام 1987 وظلت المسرحية تعرض بشكل يومي لأكثر من ستة شهور متواصلة، والمسرحية تتحدث عن الحنين الى الماضي وتعرض قصة امرأتين تعيشان مرارة الفقد وتصارعان وحدة العيش، وعالجت المسرحية هذه الاشكالية بعمق النص وبسمات اخراجية متفردة لم يألفها جمهور المسرح قبل هذا العرض، وجاء العمل من شخصيتين فقط يجمعهما بيت تبدو عليه اثار السنين ويتماهى مع شخصيتي العمل، أدت الممثلة " اقبال نعيم " شخصية امرأة تعيش الأمل بعودة الغائب الذي خرج ولم يعد، كما أدت الممثلة " انعام البطاط " شخصية مغنية فقدت بريق صوتها بعد ان تقدمت في العمر ولكنها بقيت متشبثة بمجدها الآفل وبأمل استعادة ذلك المجد من خلال ترانيمها على " كاروك " فارغ، وكان لأداء الممثلتين اقبال والبطاط دورا كبيرا وظاهرا في شهرة المسرحية وانتشارها والذي جعل جمهورا كبيرا من المحافظات يأتي بحملات جماعية للاستمتاع بمشاهدتها .

لقد ظل المسرح العراقي يحتفظ لـ " اقبال نعيم " بواحد من أهم الأدوار الذي أدته ببراعة خلال مسيرتها الابداعية . 

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم